شباط ١٨٤٨–أيار ١٨٤٩
ظلت نابولي في السنة المنصرمة منعزلةً عن الحركة الوطنية، وكان كرياتي الذي تولى الوزارة بعد الارتجاع رجلًا ذا هدف ومطمح إلا أنه كان ضعيفَ الإرادة جدًّا؛ فلذلك ظل بوزيلي العضو النافذ في الوزارة، وأخذ كرياتي يدير دفة الدولة بين الكاماريلا «الجماعات الذين ساعدوا الملك على حركة الارتجاع» وبين البرلمان، همه الوحيد الاحتفاظ بمنصبه الذي رفعه من فقرٍ مدقع إلى ثروةٍ طائلة، وأصبح ألعوبة بيد الملك أيضًا.
ومع أن البرلمان قد حُلَّ قبل أن يجتمع، فقد صدرت الأوامر بانتخاب مجلسٍ جديد وظلت الصحافة حرة، لكن اليسوعيين عادوا إلى المسرح كما ظهرت الشرطة القديمة في الميدان ومنعت الاجتماعات العامة، وكانت البلاد قد بوغتت في ١٥ أيار، وكان أغلب الناس في اضطرابٍ شديد لا يستطيع معه العمل، وأنه حنق للحوادث التي جَرَتْ في نابولي ولاستدعاء «ببه» إلا أنه كان لا يزال يميل للاعتقاد بقسم الملك، وأن شارل ألبرت سوف ينتصر لا محالة، أما البلاط فلم يجرؤ على إقامة الدستور.
وكانت الإيالات الجنوبية مستقلةً عن نابولي بصورةٍ عملية، وكانت الثورة تتمخض فيها وفي نواحي جبال أبروزا، إلا أنَّ فُقْدان الأسلحة وقِلَّة الثقة المتقابلة حَالَا دون قيام الإيالات بعملٍ مشترك، وتُركت كالابريه وحدها ترفع راية العصيان، والتحق آلافٌ من الناس بجيش الثورة، وانضم إليها موظفون من جميع المناصب، ودلت قلة الجرائم وإسراع الناس إلى تأدية الضرائب على أن البلاد كانت مُجْمعة على الانقياد للحكومة الثائرة، وكانت تحتاج إلى قائد مثل غريبالدي يقضي على عدم الثقة والحسد اللذَين برزا للعيان وبسببها رفضت القوة المرسلة من صقلية البالغة ٦٠٠ شخصٍ الحركة مع الكالابريين.
وقد انتهز الملك الفرصة وساق ثمانية آلافٍ من الجُنْد إلى إيالة كالابريه، واقترفوا فيها من المظالم ما أفزع الأهلين وأخمد حركتهم، ولَمَّا حل الخريفُ ورغب القرويون في الذهاب إلى أهلهم ولأجل الحصاد؛ اجتاح قائد الجند تلك الإيالة المسكينة وشجع القرويين على نهب أموال الأحرار وساق الرؤساء الأسرى إلى برج جايته.
وأظهرت الانتخابات التي جرت تَمَسُّكَ الناخبين بالأحرار، ففاز الأعضاء القُدَماء في جميع الأنحاء، وتجلى في نابولي شعورُ البلد الحانق، وكان الامتعاض سائدًا بين الوطنيين حتى خلت المراسحُ والمقاهي وقُوطع الضباط مقاطعةً شديدة، وأخذت مؤامرةٌ جريئةٌ تُحاك، وأخذ البعض يحلمون بتوحيد الجنوب بالشمال بزعامة آل صافويه، وكانوا قد نادوا بشارل ألبرت ملكًا لإيطالية، ولكن البرلمان أخذ يُظهر ضعفه السابق، وبدأ الأعيان يؤازرون الحكومة بشدة وكان كثيرٌ من النواب يخشون الاقتراع ضدها، ورغبت الأكثرية في التفاهُم مع الملك ومؤازرة الحكومة؛ إذ قررت سوق الجنود إلى الحرب، وقد تجاهلت ثورة كالابريه وأغمضت عينها عن طمع الملك بالاستيلاء على صقلية من جديد، ولكن التفاهُم مُني بالفشل، وأخذ يوزيلي يُظهر عدمَ ارتياحه للحال بالتخلف عن حضور جلسات المجلس النيابي، أما الملك فصَمَّ آذانه عن طلبات المجلس، ومع ذلك فإن الحكومة لم تجرؤ على حل المجلس إلا أنها لم تكن تجري انتخابات للمقاعد الشاغرة.
ولَمَّا حلتْ مصيبة كوستوزه وجدت الحكومة في نفسها الجرأة الكافية للهجوم على صقلية وأجلت اجتماع البرلمان، ولأجل القضاء على كل مقاومة من جانب الطبقة الوسطى رتب رجالُ الشرطة مظاهرة في سانتا لوسيا ضد المجلس النيابي، ولما اصطدم العمال الحانقون بالدهاء شتتوا شملهم، وكان هذا الحادث قد جهز الملك بالحجة اللازمة ليقضي على الأحرار.
وحين أخذ انتصار النمسويين يبشر بنجاح الحركة الرجعية رفع رجال الكاماريلا القناع عن وجوههم، وكان بوزيلي مؤيدًا لهم، وأخفض عدد الحرس الوطني في العاصمة، حتى أصبح عنصرًا مهملًا، واضطُهد الأمناء والولاة من الأحرار وفُصل ذوو المناصب من مناصبهم، وطهر القضاء من العناصر الحرة حتى صار أداة بيد الشرطة، وتزايد تحكُّم الجيش حتى أصبحت حياةُ الأهلين تحت رحمة الضباط، وجلد بعض الناس وقُتل آخرون من قِبَل الجند، وبعد أن قضى فرديناند على الثورة اعتبر أول ملك أعاد النظام في أوروبا، وقد اتخذ برج جايتة مسكنًا للأمراء الذين اعتبرهم في عِداد المسئولين عن نجاح الأحرار في حركتهم الأخيرة.
ومع ذلك فإنه لم يُقْدم على وقف الحياة الدستورية خشية ثورة البلد الذي مهما كان مطيعًا فقد يعود ويُصبح خطرًا؛ ولذلك ظلت الحياة الدستورية قائمة ولكن بصورةٍ اسميَّة، وقد قطعت العلاقات السياسية مع تورينو وفلورنسة، ولما شرعت الحركات الحربية من جديد في الشمال أقدم الملك على العمل، فاستدعى الوزير النمسوي المفوض الذي كان غادر البلاد وشرع بالحركات من جديد في صقلية وأعلن حل البرلمان، ولما وصلت أخبار نوفَّاره انطلقت أيدي يوزيلي والكاماريلا، واعتُقل معظم النواب وهرب بعضهم وقُيدت الصحافة وأغلقت المدارس وعوضد اليسوعيون.
وبينما استُعبدت نابولي لأنها واجهت الأحداث بخورٍ ونقص في شجاعتها فإن صقلية استقبلت محنتها بوطنيةٍ شديدة وبطولةٍ عنيفة وشجاعة فائقة، فلم تُلْق السلاح إلا بعد أن أضاعت كل أمل، على أنها لم تخل من الأخطاء التي ارتكبتها الدويلات الأخرى، فأسلوب الحكم وعدم نسيان الحزازات الحزبية وخيانة البعض من الطبقة المتغلبة مما أدى إلى فشل القضية في الدويلات الأخرى.
وكانت الظواهر تدل على أن نابولي لن تستطيع أن تسترد صقلية، وكانت إنجلترة وفرنسة وروسية يتسابق كل واحدة منها لتجعلها تحت حمايتها، وكانت صقلية الدولة الإيطالية الوحيدة التي تعتز بماضٍ دستوري يمكنها أن تنتفع به، وقد اتفقت كلمة الجميع فيها من الأشراف وعظماء الإكليروس واليسوعيين إلى القضاة والتجار والقرويين على الاحتفاظ باستقلال الجزيرة.
وكان رجالُ الأحزاب في نابولي من الملكيين والمعتدلين والدموقراطيين لا يأبهون كثيرًا بموقف صقلية الغامض؛ لذلك كان من السهل على الحكومة التي كان أعضاؤها لا يعطفون على الحركة القومية أن تسوِّغ موقفها من صقلية ورفض مطاليبها، وكانت صقلية قد اشترطت للتفاهُم إقامة برلمان منفرد للنظر في شئون صقلية الخاصة ورفض دستور سنة ١٨١٢ رفضًا باتًّا، ولما رفضتْ نابولي تلك المطالب أعلن برلمان باليرمو سقوط آل بوربون عن عرش صقلية وانتخب «روجيير وستمُّو» رئيسًا مؤقتًا للدولة ريثما ينتخب ملك للجزيرة.
وكان هذا الرئيس من حيث ماضيه المجيدِ وحُبِّهِ للحرية وتضحيته في سبيلها حتى بآرائه الخاصة وصفته؛ بعيدًا عن كل مغمَز ومطعن، وفي هذا الرئيس تَمَثَّلَتْ وحدة البلاد، ولكن وراء هذا الإجماع على قضية الاستقلال لم يكن بُدٌّ من تنوع الآراء وتكوين فرق، فهناك الوزارة وأكثرية البرلمان المؤلَّفة من المحامين ورجال الأدب وبعض الأشراف؛ يقولون بملكية دستورية تستند إلى حرية واسعة لا تبلغ الدموقراقية التامة، ولم يكن رجالُ هذا الفريق يهتمون بالسياسة الإيطالية الاهتمامَ الكافي، وإنما كانوا يعتمدون على عطف إنكلترة وفرنسة وحمايتهما إياهم من عدوان آل بوربون.
وهناك في البرلمان أقليةٌ ولكنها تنزع إلى الجمهورية، وتعنَى كثيرًا بالقضية الإيطالية، وشَرَعت من كل قلبها في مساعدة أحرار نابولي وجيش الشمال، وترغب كل الرغبة في تأليفِ جيش قوي يكفل للجزيرة استقلالها بلا مساعدة إنجليزية أو إفرنسية، على أن الاهتمام بتجنيد الجيش كان ضئيلًا، وتكاد الشرطة تكون مفقودةً، فكان أمن المدينة تحت رحمة عصابات من المحكومين الذين أخرجتْهم قوات نابولي وموظفيها قبل رحيلهم من الجزيرة، فضلًا عن أن عصابة سكوادره المجرمة التي استخدمتها باليريمو عملًا بتقاليدها في أعمال الثورة، وكانت هذه تنتظر حصتها من الغنيمة، وكانت العصابات المنظمة تحيط بمدينة باليرمو ورتبت الاضطرابات في كتانية ومرسالة.
ورغم هذه الأحوال فإن الاختلافات قد تلاشت أمام قضية انتخابات الملك، وكان الموقف يتطلب حلًّا سريعًا لأن الارتباك الذي ينجم عن عدم وجود الملك يحول دون استتباب الأمن، أضفْ إلى ذلك أن إنجلترة وفرنسة لم تعترفا بالحكومة الجديدة قبل أن يُنتخب الملك، فلا بد إذن من أن تبتَّ صقلية قبل كل شيء في شئونها الخاصة؛ ليتسنى لها الانضمام إلى الاتحاد الإيطالي باعتبارها دولة مستقلة.
وكان الصقليون يُلحون بأن يكون لهم برلمان خاص؛ لأن نوابهم في مجلسٍ مشترك يؤلِّفون أقلية لا شأن لها، شأن النواب الأيرلنديين في مجلس العموم البريطاني، وكانوا لا يفتئون يجهرون بأن خصومتهم لنابولي لا تعني خصومتهم لإيطالية؛ لأنهم إنما يريدون أن يروا نابولي شقيقة لهم لا سيدة عليهم.
على أن أحرارَ القارة الأوروبية كانوا يعلمون بأن الوعي القومي لم يتغلغلْ في نُفُوس أهل الجزيرة إلا قليلًا، وأن الحمية التقليدية القومية التي تتجلى في المطالبة تطغى على كل عاطفة إيطالية عامة، ولقد كان هناك خطرٌ يهدد القضية الإيطالية في سعي صقلية لأنْ تكون دولة مستقلة بحماية إنكلترة.
فاختيار الملك إذن كان أحسن واسطة لمعالجة تلك الميول، ومن المحتمل أن تعترف الدول الإيطالية بدولة صقلية إثر انتخابه ما عدا دولة نابولي.
وكان في الميدان مرشحان خطيران، أولهما أمير جنوة، وثانيهما ابنٌ قاصر للدوق الكبير، وكان لئوبولد على استعدادٍ لاستلام التاج باسم ابنه، وكانت فرنسة وجميع الذين يخشون سيطرة بيمونته المتزايدة في جانب هذا الترشيح، وبينما كان البرلمان منهمكًا بمناقشاته وبحوثه الدستورية الطويلة؛ أخذ الشعب يتلهف لرؤية الملك المنتخب المنشود، وكانت شهرة أمير جنوة الحربية ورغبة الناس في أن يتسلم العرشَ رجلٌ عسكريٌّ ذو عزيمة؛ قد رجحت كفته وعجل في حل القضية بيانٌ رسمي أصدرته الحكومة البريطانية قالت فيه: إنها تعترف باستقلال الجزيرة حالما تتم الانتخابات.
وقد هدد الحرس الوطني البرلمان باستعمال القوة إذا طال تأخير القضية، مما اضطر المجلس النيابي إلى الاستعجال في وضع مواد الدستور اللازمة في الليل، ثم انتَخب المجلسان — بالإجماع — أمير جنوة ملكًا على صقلية وذلك في ١ تموز.
وبلغ فرح الناس وحماستهم حدًّا نسوا فيه أن يتبينوا فيما إذا كان الأمير يقبل العرش ونسوا خطر استيلاء نابولي على الجزيرة، وأخذت صقلية تتنفس نسيمَ الحرية والخلاص التام من أسرة بوربون البغيضة، إلا أنه سرعان ما تَكَدَّرَ الجو؛ لأن الحكومة لم تعد العدة للدفاع عن الجزيرة، وكانت صعوبة تنظيم الجيش من الصعوبات التي لا قِبَلَ لحكومة ضعيفة بتذليلها.
ثم إن أمير جنوة أجل جوابَه مما أدى بالوزارة إلى تقديم استقالتها في شهر آب، فألف الوزارة «توريَّارسة» أحد المحافظين الشرفاء، وكان زملاؤه أكثر دموقراطية من الوزراء السابقين، وكان من بين وزرائه «لافارينا وكردونه»، وهما مِن أَلْمَع رجال صقلية، ولكن لم تكد تتولى الوزارةُ شئون الدولة ثلاثة أسابيع حتى كان هجوم نابولي على الجزيرة.
وتفصيل ذلك أن فرديناند رأى الفرصةَ سانحةً بعد أن قضى على العصيان في كالابريه، ووردتْ أخبار انخذال الجيش البيمونتي ونجاح الحركة الرجعية فجهز حملة قوية في الخفاء وحين ترك الأسطول نابولي في ٣١ آب تجمعتْ قوةٌ تقدر بعشرة آلاف في سواحل كالابرية، ولم يكن إذ ذاك لدى صقلية إلا ستة آلاف جندي من المجندين الأحداث، ومن جمعية سكوادرة أو الحرس الوطني الذي يعوزه الضبط، وكانت قلعة مسينا لا تزال بيد حكومة نابولي.
واستطاع النابليون بمساعدة الأسطول الذي كان يسيطر على البحر إرسالَ المواد إلى القلعة، فأخذت المدافعُ تمطر المدينة بوابلٍ من القنابل، وبعد أن أنزل القائد جنوده إلى جنوب المدينة أمر بابتعاد السفن في الساحل؛ ليقطع أي أمل لجنوده بالعودة، وطلب إلى جنده أن يختاروا بين النصر أو الموت.
على أنه رغم وصول القوات من نابولي بلا انقطاعٍ وإسكات المدافع الصقلية وتشتيت رجال سكوادرة ولجوئهم إلى الجبال؛ فإن روح الدفاع الجريئة لم تهن حتى أخذ الرُّهبان يقاتلون بجانب المدنيين، والنساء والصبيان يلقون بأنفسهم في أَشَدِّ المعارك. وأخيرًا استطاع المهاجمون أن يستولوا على مدينة مسينا وانتقموا من أهلها أفظعَ انتقام؛ إذ أحرقوا الدور وسَطَوْا على النساء وقتلوهن في الكنائس ومَثَّلُوا بالصبيان وذبحوا الشيوخ في فرشهم ونهبوا المعابد.
ومع ذلك كله لم تَفُتَّ هذه الفظائعُ في عزم الصقليين، فأقسموا يمين المقاومة حتى النفس الأخير، ولم تتنفس الجزيرةُ الصعداء وتتخلص من الفظائع إلا بعد قبول شروط الهدنة التي وضعها الأميرالان الإفرنسي والإنجليزي، أما أهل مسينا فرَمَوا بوعود القائد الإصلاحية عرض الحائط مستهينين بمحاولة فرديناند للتفاهُم وقدموا ضرائبهم إلى حكومة باليرموا.
أما البرلمان فقد قطع عهدًا على نفسه بأنْ لا يتفاهم مع العدو أبدًا، وأقر قانون التجنيد، وسعى لاستخدام غاريبالدي والاستفادة منه، وحمل كردوفة المجلس على إقرار قانون لبيع الأملاك الوطنية والدينية، وهو من المشاريع الخطيرة التي لو تم تنفيذها لقلبتْ طريقة الملك في الجزيرة ظهرًا على عقب.
وكان الجيش وسكان العاصمة باليرمو — ولعل أكثر الناس خارجها — يعاضدون الوزارة ولكن القوى الرجعية أخذت تتشجع رويدًا رويدًا، وقد جلبت إصلاحات كردوفة المالية خصومة العناصر الرديئة؛ من موظفي الخزينة، ووحدت بين كبار الإكليروس وكبار الملاكين، ولما فشلت المفاوضات في باريس للحصول على قرض اضطر كردوفة إلى أن يفرض على الناس قرضًا إجباريًّا، الأمر الذي أغضب الرأسماليين، أما أمير جنوة فقد رفض التاج بعد أنْ طال انتظار الناس لجوابه، وأخذ الأعيانُ يعرقلون المراسيم الاشتراكية، أما المجلس النيابي فأضاع وقته بالمناقشات، وأوشك أن يتألف من الوسط حزب قوي ممن يحقدون على آل بوربون ولكنهم يخشون الحرب وما تتطلبه الحرب من تضحيات، أما الحرس القومي في العاصمة الذي كان بإمرة الأشراف والمؤلَّف من صغار التجار؛ فكان يتمتع بسلطةٍ قانونية مستقلة من السلطة الإجرائية وعن مراقبة الجيش مما اضطر كردوفة أولًا والوزراء الآخرين مِن بعده إلى الاستقالة.
وقد دل فوز الحرس الوطني على انهيار القضية الصقلية، فمع أن الوزارة الجديدة أعلنتْ عزمها على الدفاع عن استقلال الجزيرة؛ فإنها كانت مؤلفة خصيصًا من مرشحي العصبة الفائزة، وظل بالمرستون يجهز الصقليين بالسلاح خلسة بعد الهدنة، وكان على تفاهُم مع الحكومة الإفرنسية بأن يقوم السلم على أساس منح الجزيرة استقلالًا ذاتيًّا مطلقًا وتكون تابعة للتاج النابولي اسميًّا.
وأظهر الملك فرديناند استعدادَه لقيام برلمان مستقل وإدارة منفردة، إلا أنه لم يوافقْ على تأليف جيش خاص، وأصر على تجهيز بعض القلاع الصقلية بالحاميات النابولية، ولكن أهل صقلية أجمعوا على رفض سيادة آل بوربون حتى ولو كانت اسمية، مما جعل فرديناند يعزم على أنْ لا يبدي أي تساهل آخر وأن يتولى ضبط الجزيرة.
وبعد أنْ رفض التكاليف الإفرنسية الإنجليزية في منتصف كانون الثاني بصورة باتَّة؛ نشر إنذارًا بمطالبة نهائية، وفيه منح أهل صقلية دستور سنة ١٨١٢، وبرلمانًا وإدارة مستقلة وأن يعيِّنوا موظفين مواطنين، واحتفظ للعرش بحق حل البرلمان وسَوق الجيش من دون موافقة البرلمان.
وكان جواب الزعماء إصدارَ قانون بتجنيد عشرة آلاف جندي، واتحد الناس وتناسَوا شئونهم الخاصة ومشاكلَهم وهمومَهم وزالت الجرائمُ وأعيدتْ المواد المسروقة إلى أصحابها وأرجعت العصاباتُ الأغنياءَ الذين اعتقلتهم، وأخذت جماعات كثيرة من أهل باليرمو يهرعون للاشتراك في مهمة الدفاع، وأجمع الأشرافُ ونساؤُهُم والرهبانُ والمحامون والعمال والصناع على العمل، ولكن المؤسف أن لا يجدي هذا الإقدامُ وتلك الحماسة نفعًا؛ إذ لم يكن لدى الصقليين أكثرُ من سبعة آلاف جنديٍّ نظامي للدفاع حين انتهاء أجل الهدنة في ٢٩ آذار.
وعلى الرغم من غلطات القائد البولوني ميروسلافسكي الذي تولى قيادة القوات الوطنية في صقلية؛ اصطدم تقدُّم العدو بمقاومة عنيفة خلَّدت بطولة الدفاع عن كتانية، ولقي أهل نابولي صعوباتٍ جمة في حركاتهم في الأراضي الجبلية التي تصلح لحرب العصابات، ولو تمكن أهل صقلية من توحيد قوى المقاومة لاستطاعوا أن يُطيلوا أمد الحرب إلى أن تضطر أوروبا إلى التدخُّل، وقد خاب الأملُ في ذلك بسبب الاختلافات التي نجحت حول الحرس الوطني في العاصمة وفتور الحماسة.
وقد أَدَّى فشلُ حركات القائد البولوني، وورود أخبار انكسار الجيش البيمونتي في نوفَّاره، وخشية استطالة أمد الحرب وكثرة النفقات؛ إلى خوف الأشراف والطبقة الوسطى، فقرر البرلمانُ الموافقةَ على طلب توسُّط الأميرال الإفرنسي الذي وعد بتنفيذ أحكام إنذار الملك وسَرَّحَ البرلمانُ الجنود وأبعد أنصارَ الحرب في باليرمو من ساحة العمل، واضطر الزعماء إلى ترك الجزيرة ولكن الأسطول النابولي وصل إلى الميناء فدهش الناس؛ إذ إنهم كانوا يظنون بأن القضية تحسم من دون تدخل الأسطول والوقوع تحت رحمة آل بوربون، فهاجت الجماهير وأخذت تنادي بالانتقام من الخونة، وما كان من الحرس الوطني إلا أن اندفع مع التيار فاحتل المدينة وأخذ يدافع عنها ضد المهاجمين وأظهر بطولة خارقة أوقفت المهاجمين يومين، ولم يكن بالاستطاعة تمديد المقاومة أكثر من ذلك، فتسرب اليأس في القلوب وانقطع الرجاء في الفوز واضطر الشعب للخضوع واستسلم في ١١ أيار.