الجمهورية المركزية
كادت معركة نوفَّاره أن تفتح أبواب إيطالية الوسطى في وجه الجيش النمسوي، وقد ظل العلم المثلث الألوان — برغم ذلك — يرفرف فوق فلورنسة وروما، وأدت معارضة فرنسة إلى الحيلولة دون تقدُّم جيوش راديتسكي نحو تورينو، وكانت حاجزًا دون استيلاء الجيش المنتصر على الروماني وطوسكانه، وبذلك ظل ثلثُ إيطالية قادرًا على أن يدافع عن حريته.
وكان الرؤساء الثلاثة «مونتانلِّي، وجيرازي، ومازيني» في فلورنسة قد قبلوا الحكم الجمهوري إلا أنهم لم يعلنوا الجمهورية بصورةٍ رسمية، وكان مازيني الرئيس الثالث يميل إلى عرض القضية بأجمعها على المجلس التأسيسي، أما جيرازي فأخذ يميل إلى المعتدلين ويحتج بأن ما صدر عنه من بياناتٍ وأعمال تَنُمُّ عن نزعةٍ جمهورية؛ إنما اضطر إليها خلافًا لرغبته، وكان يحمل على الجمهوريين المقلدين الذين وصفهم بأنهم «يغرسون أشجار الحرية ولكنهم لا يعرفون حمل السلاح.»
وكتب إلى جيوبرتي يقول بأن الحكومة لن تُعلن الجمهورية إلا بعد أن يقترع عليها ممثلو الشعب، ولكنه في حديثه مع مازيني كان يتظاهر بأنه من أنصار الوحدة مع روما، وأنه لولا قلة الجند لَأعلن الجمهورية، وكان يظن أنه يستطيع بالمدارة تمشيةَ الأمور؛ إذ كان يعتقد عن حق بأن انسحابه يؤدي إلى الفوضى.
والواقعُ أن المعركة في سبيل الجمهورية لم تكن مضمونة الظفر؛ ذلك لأن الحزب الجمهوري كان قليلَ العدد وكان الجمهورُ في فلورنسة تحت تأثير دعاية اللاجئين اللمبارديين الذين يحاولون أن يجعلوا من الحركة صورةً لطيفة مصغرة منسوخة عن الثورة الإفرنسية، وأما في الأندية فعدد الجمهوريين الأقحاح كان قليلًا.
وقد ازداد الذين يصطادون في الماء العكر وأخذ الرجعيون ينشطون؛ أملًا أن الشر يتفاقم، وكانت الجماهير تسير وراء كل حركة تبدو ثم لا تلبث أن تنضم إلى الناجحة من الحركات، ففي مثل هذا الجو المضطرب كان يستحيل على الحكومة أن تعمل، ما لم تكن قويةً قادرةً على أن تستغل حماسة الناس وتقودهم نحو أهداف نافعة، ولكن الرؤساء الثلاثة لم يكسبوا احترامَ الناس ولا عطفهم.
والواقع أن موقف الحكومة كان محفوفًا بالصعوبات؛ فالمعتدلون لم يُبدوا أي مساعدة لاستتباب الأمن، وحاق بالفقراء إعسارٌ مدقع، وأخذت الجرائمُ تزداد وامتلأت السجونُ، ونشب اضطرابٌ في فلورنسه لم يلبث جيرازي أن استطاع بحزمه القضاءَ عليه والقبض على ناصية الأمور، وقد تمكنت الحكومةُ في شهر آذار من بسط نُفُوذها وحَمْل الناس على إطاعتها.
وكان قد تقرر في طوسكانه أن تجرى الانتخابات للمجلس التأسيسي الطوسكاني في ٥ آذار على أنْ ينتخب في الوقت نفسه الممثلون للمجلس التأسيسي الإيطالي في روما، وهنا اختلف الناس في أَيِّ المجلسين يقرر مصير حكومة طوسكانه القادمة، فالمعتدلون يَدَّعُون أن البت في المسألة عائدٌ للمجلس الطوسكاني، وأما الجمهوريون فكانوا يصرحون بأن الوحدة مع روما قد بُتَّ فيها، وأن المجلس الموحَّد هو الذي يحق له أن يبت في القضية.
ومع أن جيرازي في الظاهر قد قرر الاتحاد الدبلوماسي الجمركي فإنه اتفق ومازيني على أنْ يؤجل الانضمام الكلي قدر الإمكان، وكان سهلًا استمالةُ أهل طوسكانه إلى فكرة التأجيل؛ لأن في الانضمام تَفقد فلورنسه مكانتها كعاصمة وتضحي مدينة ليفورنا في سبيل مدينة جيفيتا فكيا.
أضف إلى ذلك أن طوسكانه كانت ترغب في الابتعاد عن مشاكل القضية البابوية، وقد أعانت هذه الأمور جيرازي على أن يُصدر قانونًا في غياب مونتانلِّي يترك فيه حق تقرير شكل الحكومة إلى المجلس الطوسكاني.
ونشطت الحركةُ الرجعية وأخذت تنذر بالقضاء على الجمهوريين والرؤساء الثلاثة، وكان القرويون الذين يدعوهم «كابوني» بشعب طوسكانه السيد، يخاصمون أية حكومة تريد الحرب، فكان من السهل على الأشراف ورجال الإكليروس أن يستغلوا شعور هؤلاء القرويين في الحملة على الحكومة التي نفت الدوق وراقبت رهبانهم وهددتهم بالضرائب وبإرسال أولادهم إلى الحرب في سبيل أمر بعيد المنال.
وهاجمت بعضُ عصابات القرويين المسلحة فلورنسة وبرانو، أما سكان المدن فكانوا على النقيض من القرويين ينظرون إلى الجماعات الموالية للأمير ولكن لا تطمئن نفوسهم للحكومة، أما الرُّهبان فأخذوا يمتنعون من تزكية الذين صوتوا للمجلس التأسيسي، أما الأذكياء من الناس فرغبوا في أن يظلوا بعيدين خشية ثورة مضادة.
وقد أجل الرؤساء اجتماع المجلس التأسيسي جهد المستطاع ويظن أن الذين اشتركوا في الانتخابات للمجلس المذكور كانوا أقل من خمس ذوي الحق في الانتخابات، وقد أهمل الانتخاب العام للمجلس التأسيسي الإيطالي في روما، ولم يسع المعتدلون والرجعيون انتخاب مرشحيهم، فنالت الحكومة أكثرية بنسبة اثنين ضد واحد.
وبعد افتتاح المجلس بيومين وردتْ أخبار نوفَّاره، فأعلن جيرازي بصراحة أنه ضد الجمهورية، فما كان مِن مونتانلِّي إلا أنْ أقنع المجلس بإعلان جيرازي دكتاتورًا رغبة منه في أن لا يضعف الحكومة في سبيل قضية لا رجاء فيها، وأصبح هم جيرازي الوحيد حينئذٍ إنقاذ طوسكانه من استيلاء الأجنبيِّ عليها وأخذ يفكر كآخر تدبير — رغم معارضة الشعب — في إعادة الدوق الكبير وحمل المجلس التأسيسي على تأجيل البَتِّ في الوحدة مع روما، وأجل اجتماعاته اثني عشر يومًا وناشد الأحزاب أن تترك الخلافات وأن تتحد في سبيل إنقاذ البلاد، وبذل جهودًا خارقة للقضاء على كل شغب.
ومع ذلك فإنه لم يُلَبِّ دعوته للتطوع إلا فلورنسة وليفورنة، ولاحظ جيرازي أن منصبه أخذ يتضعضع وأبى المعتدلون معاضدته واستعدوهم لجلب الدوق الكبير آملين أنه إذا عاد بواسطتهم سيهدِّئ من نقمة النمسة ويحل المجلس التأسيسي ويضمن لهم تقلُّد مهام الحكم.
وبينما كانوا يرسمون الخطط لذلك حدث شغب في فلورنسة؛ وذلك أن جيرازي كان طلب بعض الكتائب من ليفورنه، إما لتجهيزها وتدريبها — كما ادعى — وإما لتقوية موقفه، وكان سلوكُ أفرادها وأعمالُهُم فَظَّةً بحيث هيجت الفلورنسيين وهاجموا إحدى الكتائب في ١١ نيسان، فاستفاد المعتدلون من هذا الشغب واستغلوا الجماهير واستولى القرويون الموالون لهم على المدينة، فأعلن المجلس البلدي نفسه حكومة مؤقتة باسم الدوق الكبير واحتل قصر «بلازو-فيجيو» وطرد أعضاء المجلس، وكان بإمكان جيرازي أن يستمر على المقاومة في بيستونه وليفورنه إلا أنه يئس من الحالة والتجأ إلى كابوني.
ومما يدعو إلى افتخار إيطالية أن الزعماء في روما كانوا يتحلَّون بصلابةٍ أَشَدَّ منها عند غيرهم، وقد تألفت فيها لجنةٌ تنفيذية أو إجرائية تقلدت سلطة الجمهورية العليا، وكان على رأسها الحاكم أرمللني ومن وزرائها الحبر موزاريلِّي وهو من الأحرار، وقد علمت الحكومة أن أول ما تحتاج إليه البلاد هو الحرية؛ حرية التعليم وحرية التنظيم وحرية تنمية واردات الدولة.
ويتلخص منهج أرميلليني بقيام إدارة مالية نزيهة، وإصلاحات قضائية بلدية، وتأمين حرية العمل، والإشراف العلماني على التعليم، والعدل، والمشاريع الخيرية، ونقل أملاك الكنيسة إلى الأمة، وقد شرعت الحكومة بتنفيذ هذا المنهج بدرايةٍ وثبات.
وكان مازيني الذي ألهم هذه التعاليم نائبًا بسيطًا، فتم له ببلوغ هذا المنهج نصف المثل الأعلى الذي كان يحلم به وهو مثل روما المقدسة الخالدة، لكن المنهج لم يتناول تنفيذه جانب مشاريعه الاجتماعية، فأخذ ينتقد المجلس بإضاعة وقته بالمشاحنات الحزبية بينما النمسة واقفة بالمرصاد، ويقول: متى نالت إيطالية حريتها، حينئذٍ وقت وضع الدساتير، أما الآن فيجب قبل كل شيء محاربةُ النمسة ووقوف روما الجمهورية بجانب بيمونته الملكية ورغم رفض اليمين والوسط اقتراح مازيني بإرسال النواب للنواحي لاستنهاض الشعب ودعوته للدفاع، فإن البلاد قد استعدت للحرب بعض الاستعداد.
فلما شاعتْ أخبار نوفَّاره كانت القطعات في طريقها نحو الحدود، حينئذٍ توجهت جميعُ الأنظار نحو مازيني بصفته الزعيم الوحيد في تلك الأزمة، فانسحب موزاريلِّي وتألفت لجنةٌ ثلاثية من «مازيني، وسافي، وراميللي» وتولتْ شئون الحكم ومنحت سلطة غير محدودة لإدارة الحرب والدفاع عن الجمهورية، وقد أسرع مازيني لإرسال القطعات ولكنها قبل أن تصل إلى ضفاف نهر بو وردتْ أخبارُ الهدنة فقضي بذلك على آخر أمل في الاشتراك في الحرب في لمبارديه، وبعد أنْ ضاعت فرصة إنقاذ إيطالية الشمالية تفرغت اللجنة الثلاثية للإصلاحات الداخلية.
وكانت آخر الإصلاحات تتعلق بالمشكلة العويصة؛ أي مشكلة علاقة الكنيسة بالدولة، ولم تتخذ كلمة الإكليروس في معارضة الجمهورية، فالحبر موزاريلي مثلًا رفع القناع في المعارضة، وأما الحبر فانتورا فبعد أن حاول عبثًا في تأليف البين بين البابا وأهل روما؛ انحاز إلى أهل روما.
ولما تَأَكَّدَ الرهبانُ ورجال الدين في القرى من أن إصلاحات مازيني تزيد في رواتبهم؛ انحازوا إلى جانبه ما عدا بعض الرُّهبان في بعض المناطق الزراعية الذين أبوا مباركة نكاح الذين اشتركوا في الاقتراع مؤيدين، ومع أن الحكومة أصرت على أن يخضع الإكليروس للدولة فإنها حالت دون اضطهادهم وعاملتهم بالحُسنى حتى إنه ترك أسقف جيفيتا فيكيَّا يتآمر مع جابته واكتفى بنفي أحد إخوان البابا إلى خارج الحدود حين شوهد يحرِّض الناس على الخيانة، وكانت الجرائدُ البابوية تُقرأ بحرية وكان مثل مازيني في هذه السياسة «تشدد في المبادئ وتساهل مع الأشخاص».
وطبيعي أن يؤدي هذا التساهُلُ إلى ضعفٍ فاضحٍ في الإدارة، وكان أعداء الجمهورية يقبضون على ناصية الشئون العامة، وكان راميلليني «صفرًا» وسافي وديعًا وفيلسوفًا، أما مازيني فتَعُوزه الكفاية في الشئون المالية والإدارية، فلم يكن بمقدور هذه السلطة الإجرائية العاجزة أن تُطَهِّرَ البلادَ من الجراثيم.
وراحتْ أحقادُ عهد جرجوار القديمة تتحين الفرصة لتتفجر، وظل أشد الموظفين فسادًا مسترسلين في فسادهم، واستعد المتطرفون للاستيلاء على الحكم بعد أن غاظهم ضعف الحكومة، وأخذ البعضُ من متطوعة غاريبالدي يشاغبون، ومع ذلك فقد استطاعت الحكومة أن تقبض على ناصية الحكم بمساعدة الحرس المدني.
بَيْدَ أن الغموض الناشئ من طول المفاوضات السرية وتوهُّم الناس بأن هناك مؤامرة تحاك في المدينة وبتحريض بعض الرُّهبان لم ينفع احتياطات الحكومة في توطيد النظام، فانتشرت الفوضى في روما مدة من الزمن أُعدم في أثنائها ثمانيةُ رهبان لإطلاقهم النار على الجنود وثلاثة قرويين بتهمة التجسس وخرب بعض الأهلين حدائق البابا احتجاجًا على لين مازيني.
أما في إيالتي الروماني والمارك فحدثتْ وقائعُ مؤسفة جدًّا؛ إذ شجع ضعف الحكومة المجرمين فيها على الفتك بالناس، فأخذت عصاباتٌ صغيرة تغتال الموظفين وتفرض الغرامات على الأجانب، أما في أنكونه فقد بلغ الإرهاب غايته؛ إذ اغتيل ثمانيةٌ وعشرون رجلًا من جماعة السنانفيديست، ومع ذلك كله فقد كانت الجمهوريةُ تلقى تعضيدًا يسهل عليها أمر الاستمرار في الحكم، ولا يفوتُنا أن نعلم أن الجمهوريين من ذوي المبدأ كانوا قلائلَ، وفضلًا عن ذلك فإن عددًا قليلًا من هؤلاء كان يجهل مَثَل مازيني الأعلى، أما الأكثريةُ فكانت لا تُبالي بمبدأ، ولكنها سئمت من التبدُّلات السياسية واغتبطتْ بأنها تخلصتْ من حكومة الرهبان، ولم تكن راضية عن ضعف المعتدلين وترجرُجهم وتريد التملُّص من حكم الإكليروس مهما كلفها الأمر، فكان ذلك سر انحيازها إلى الجمهورية؛ باعتبارها الحكومة الوحيدة التي تؤمن هذه الغاية.
وبعد أنْ تمت الانتخاباتُ البلدية في جوٍّ صاخبٍ انحازتْ المجالسُ البلدية باستثناء اثنين منها إلى جانب الجمهورية، ولكن الرُّهبان ظلوا يحرِّضون الناس على الاستياء وظل الجيش قلقًا، وظلت الخيانة تنسف الإدارة، وأخذ البعض من المعتدلين يتآمرون بنشاط.
أما كتلة القرويين فرحبت بالحكومة التي أنقذتْهم من ظلم السنانفيديست، أما الطبقة الصناعيةُ وصغار الملاكين الذين أخرجوا أكثر النواب من بين صفوفهم؛ فقد أظهروا صداقتهم للجمهورية، ولا تنس أن أكثر الحرس الوطني وصغار التجار كانوا يحبون الجمهورية لذاتها.
وحينما كسبت الجمهوريةُ عطف أهل روما على الصورة الآنفة الذكر، أخذت الدول الأوروبية تستعدُّ للقضاء عليها، وقد عزم البابا على العودة إلى عاصمته بصفته متبوعًا مطلق التصرف يفوق في ذلك جميع أسلافه، وكان أنتونلي يعتمد على الرجعيين في روما وعلى عملائه المنبثِّين في بعض المناطق، ووُزِّعت مناشيرُ تطالب بالقضاء على الأحرار، ولكن الحرس الوطني استطاع أن يقمع حركات العصيان التي حدثتْ في بعض الأنحاء، ولكن اضطرابًا أشد خطورة نشب في أطراف «أسكولي» حيث قام أحدُ الرُّهبان يحرض القرويين على حربٍ مقدسة ويدعوهم إلى النهب والحرق، وكان مونتانلِّي يعتمد خصيصًا على أنصار البابا في البلاد الأجنبية وترمي سياستُهُ إلى وضع البابوية تحت حماية الدول الملكية وقد تحاشى جانب فرنسة إلا أن فرنسة لا يمكن تحاشيها وكانت قد اقترحت في ١٨ شباط احتلال ممتلكات الكنيسة من قبل النمسة وإسبانية ونابولي وفرنسة، فوافقت الدول الملكية الثلاث على هذا الاقتراح فورًا، وقد تأهبت إسبانية قبل ذلك لإرسال قوة، وأخذت القطعات النابولية تسرح وتمرح بالقرب من الحدود الجنوبية وتشجع العصاة في أسكولي، أما القائد النمسوي فقد احتل فراره وأخذ يستعد للتقدُّم نحو «بولونيه».
وظلت فرنسة تؤيد بيمونته في احتجاجها على كل تدخُّل في شئون إيطالية إلا أن الاتجاه الرجعيَّ المحافِظ في فرنسة قيد يد الحكومة، وكان «فاللو» يمثل الكاثوليك المفرطين في الوزارة.
وبينما كان الحزب الجبلي يرسل تحياته إلى الجمهورية الجديدة كان الرأيُ الفعَّال في فرنسة يسند فاللو، ومع أن الرأي العام الإفرنسي كان يقول ببقاء السلطة الزمنية من حقوق البابا فإنه في الوقت نفسه كان خصمًا للنمسة، وقد عجلت أنباء نوفَّاره في نشاطه، وكان لويس نابليون يريد إعلان الحرب فورًا مستندًا إلى الحزب الجبلي وحزب الوسط، وكان يرمي من وراء ذلك إلى بُلُوغ أغراضه الشخصية والحصول على تأييد الكاثوليكيين، وقد استغل الوزراءُ حماسة الشعب وقرروا احتلال جيفيتا فيكيَّا وإعادة البابا إلى عاصمة ملكه رغم أهلها ضاربين ببياناتهم السابقة عرض الحائط، وسعوا في الوقت نفسه إلى أخذ تصريح من البابا يؤيد فيه الدستور.
وقد وصلت القوة الموفَدة لتنفيذ القرار إلى جيفيتا فيكيَّا في ٢٤ نيسان بقيادة أودينو، فأصدرت اللجنة الثلاثية الأوامر بمقاومة حركة النزول مهما كلف الأمر، بَيْدَ أن المدينة لم تكن في حالةٍ صالحة للمقاومة، ومع أن أودينو حاول الحصول على موافقة المجلس البلدي بمعسول الوعود إلا أنه بمجرد ما أنزل قواته إلى الساحل رفع القناع عن نياته.
ورغم التعليمات الصادرة إليه بأنْ لا يتقدم نحو روما ما لم يكن واثقًا من ترحيب أهلها ومساعدتهم إياه، ولكنه اعتمادًا على مزاعم أنصار البابا؛ اعتقد أنه لن يلاقي أي مقاومة فعَزَمَ على الزحف على روما، وقد ارتبكت اللجنةُ الثلاثيةُ والمجلس من هذا الحادث، وكان مازيني وشارل بونابارت لا يزالان يعتمدان على إخلاص الجمهورية الإفرنسية، وكان النواب مترددين في تقرير التفاهُم، ولكن حين جاء مندوب أودينو يقول بأن سيده إنما ينوي إعادة البابا إلى عرشه زال كل تردد، واعتزم المجلس المقاومة مهما كلف الأمر وهاج الرأي العام، وطالب بقطع المفاوضات، وغدا لا يحتمل رؤية الجنود الإفرنسيين يجتازون أسوار روما حتى إذا اعترفت فرنسة بالجمهورية، وأصبحت الحرب لا مناص منها وظن أودينو أن الطليان لن يقاتلوا فباشر هجومه في ٣٠ نيسان بغية الاستيلاء على المدينة بالقوة، وكانت قوة كل من الخصمين نحو عشرة آلاف، فحارب الإفرنسيون بشجاعةٍ إلا أنهم استصغروا شأن عددهم فلقوا منه خصمًا لا يقل عنهم شجاعة، فضلًا عن أنه يحارب مؤمنًا بقضيته فانكسرت الفرقتان الإفرنسيتان بعد أن خسرتا ألف رجل وَوَلَّتا الأدبار مسرعتين خشية انقطاع خط الانسحاب عليهما.
وطلب غاريبالدي حينئذٍ من اللجنة الثلاثية — بإلحاحٍ — موافقتَها على مطاردة الخصم، إلا أنها كانتْ ما تزال تتوقع التفاهُمَ وتخشى عرقلةَ مساعي الحزب الجبلي الذي يعمل لمصلحتها في باريس، وبذلك لم تنجح لا القوةُ ولا الخديعةُ، واقتنعت الحكومة الإفرنسية بأنها خانت المبادئ الجمهورية ولجأت إلى الغدر الذي أَسْخَطَ عليها السياسيين.
ومع أن «جول فافر» أسقط الحكومة الإفرنسية في المجلس التأسيسي غير أن لويس نابليون كان يعلم أن الانتخابات المقبلة سوف تسفر عن أكثرية عظيمة محافظة تكون بجانبه، وقد جعل من نفسه في لباقة المدافع عن شرف الجيش وكتب إلى أودينو مزدريًا بتصويت المجلس وأرسل دي لسبس لمفاوضته حكومة روما.
وفي ٣٠ أيار اتفق مع اللجنة الثلاثية على تفاهُم، وعد فيه دي لسبس بالإقلاع عن نية الاحتلال، إلا أنه يرفضُ الاعترافَ بالحكومة الجمهورية، وأوشك أن يتم لولا أن مناورات الحكومة الإفرنسية الخفية جعلت نشوب الحرب ثانية أمرًا لا محيد عنه، ولما تَمَّت الانتخابات وجاءت الأكثريةُ محافظة في جانب لويس نابليون أصبحت الحكومة في موقفٍ تستطيع معه أن ترفع القناع عن نياته.
بَيْدَ أن القضية أصبحت وقتئذٍ تهم الدول الكاثوليكية كلها، وأخذت كل واحدة منها تسعى لتسبق غيرها في الزحف على روما، فالإسبان كانوا على أهبة إنزال خمسة آلاف جندي في «فيومجينو»، أما جنود نابولي فقد احتلوا أطراف باليسترينا إلى أن هجم عليهم جنود روما وهزموهم إلى ما وراء الحدود، أما القائد النمسوي فقصف مدينة بولونيه واضطرها إلى التسليم بعد أن دافعت دفاع المستميت ثمانية أيام.
وبعد أن قاومت إنكونة شهرًا شرع النمسويون في حصارها، ولو أُطلقت أيدي أهل روما في حركاتهم لَاستطاعوا أن يوجهوا قواتٍ فائقة نحو القائد النمسوي ويطوقوه، وكانت فرنسة في تقييدها لحركات جيش روما خيرَ حليفة للنمسة، ولما وردت مدافعُ الحصار إلى جيش أودينو تجلت مقاصدُ الحكومة الإفرنسية على حقيقتها، فبعد أن أقام أودينو العراقيل في سبيل نجاح المفاوضات استولى على مواطن الدفاع عن شمال المدينة، وحينما تَلَقَّى دي لسبس من باريس أمرًا بالعودة، استلم أودينو أمرًا باحتلال روما بالقوة.
وبإعلان الحرب انتهى عهدُ المفاوضات الغامضة الطويل، وكانت الحكومة منذ أيام قد فقدتْ سُلطتها على المدينة وعاد غاريبالدي من فللتري حانقًا؛ لأن اللجنة لم توافق على استثمار النصر وتأذن له بالتقدُّم نحو نابولي، وطلب أن يعين دكتاتورًا لأنه كان دائم الاحتقار لحكومة روما ويعتبر مازيني مهذارًا.
وبينما كان أودينو يملك ٣٠–٤٠ ألف جندي ومدفعية حصار قوية لم يكن لَدَى أهل رُوما إلا ثلاثة عشر ألف جندي ناقص العدة، أكثرهم من دولة روما ومن جملتهم ثلاثةُ آلافٍ من الحرس الوطني والمواطنين المسلحين، وقد باشر أودينو الحركات بالفَور حسب عادته.
وكان قد وعد بأنْ لا يشرع في الهجوم إلا صباح اليوم الرابع من حزيران ولكنه في الليلة الثانية من الشهر، وفي نهار الثالث باغت نقطتين من ستارات الرومانيين، واشتد القتال في الحدائق والكروم، ورغم كثرة الجُند الإفرنسي الفائقة استرد الرومانيون مباني المصائف عدة مرات، بَيْدَ أن البطولة وحدها لا تسد النقص الناجم عن قلة العدد وأخطاء غاريبالدي.
وبعد قتالٍ دام ثلاثة عشرة ساعة أُخليت المواضع، وإذا كان الرومانيون قد خسروا بذلك الأرض خارج أسوار المدينة ما عدا معمل فاسجيللو، فإنهم أنقذوا المدينة من المباغَتة وألجئوا الإفرنسيين إلى محاصرة المدينة حصارًا منتظمًا معرضين إياهم إلى مرض الملاريا الذي قد يضطرُّهم إلى رفع الحصار إذا طال أمده، فالقصف الذي لا رحمة فيه ولا هوادة كما كان يتوقعه الكرادلةُ كان مظنونًا أن يلجئ المدينة إلى التسليم السريع وأن المدينة إذا لم تنجَد من الخارج فإن استلامها يتوقف على الوقتِ فقط، إلا أنه على الرغم من تناقُص الذخائر فإن أحدًا من أهلها لم يطلب الاستسلام وصبر السكان على القصف من دون أي تذم. وكان فنتورا قد حذر الرُّهبان قائلًا: «إذا لم تسر الكنيسة مع الشعب فالشعب يسير من دونها لا بعيدًا عنها فحسب بل سيناوئها.»
ولم تكن قلة الرجاء في المقاومة لِتُخَفِّفَ من حماسة الناس وحميتهم، وقد تقدمت ستةُ آلاف امرأة للخدمة في المستشفيات وتجلت البطولة الإيطالية في الدفاع عن عاصمة إيطالية، فهذا غاريبالدي ورفقاؤه الذين حاربوا بجانبه في أمريكة يجاهدون وهذا «مانورا» الفتى الميلاني مع القناصين الماهرين من أهل لمبارديه، وهؤلاء الأشراف يقاتلون إلى جنب أبطال الأيام الخمسة ومتطوعة الحرب في التيرول، أما ماميلي الشاعر وداندولو وبيساكانة وبيكسيو وميديجي وكثير من الفتيان الأبطال، فمنهم من مات في سبيل روما ومنهم من عاش ليصبح من قادة المعركة في المستقبل ومنظميها، وكثيرون من هؤلاء لم يكونوا من الجمهوريين، وكان البعض منهم من الأشراف، إلا أن حب الوطن وسحر روما ساقاهم للقتال في المعركة الأخيرة في سبيل إيطالية، وكانت الحكومة جديرة بالمدافعين عنها وقد حافظت على الأمن بصورةٍ تامة طول مدة الحصار وأدارت الشئون المالية بدرايةٍ ونزاهة، ورغم قلة الغذاء فالمجاعة لم تنتب المدينة، وأظهر مازيني نشاطًا كبيرًا وآراء صائبة، واستطاع أن يَبُثَّ في الملتفِّين حوله حماسته وآماله، وكانت الحكومة تأمل أن توفق الحزب الجبلي في باريس في حمل الحكومة على الأخذ بسياسة المظاهرة الإيطالية وأن إنجلترة تتدخل، بَيْدَ أن بالمرستون كان تحت رحمة الكويد بنيسيت وكانت الثورة التي شبت في باريس في ١٣ حزيران آخر جهد قام به الحزب الجبلي.
وبعد مرور ثمانية أيام على محاصرة روما استولى المهاجمون على المعاقل وانسحب المدافعون إلى جدار أوريليانوس بعد أن تكبدوا خسائرَ فادحة، ولم يترك مديجي معمل فاسيللو إلا بعد أن خسر ثلاثمائة رجل من رجاله، أما مانورا فقاوم قواتٍ تفوقُهُ أضعافًا مضاعفة، ولما لم يبق لدى المدافعين سلاحٌ وحارب الأبطال الفتيان بسكاكينهم إلى أن خر رئيسهم صريعًا، وأراد مازيني أن يقاوم أيضًا إلا أن غاريبالدي صرح في المجلس التأسيسي بأنه لا رجاء في القتال، وقرر النوابُ إنهاءَ حربٍ لا فائدة منها، ودخل الإفرنسيون المدينة وكان الأهلون حين مرور الجنود بالطرقات يسخرون منهم ويهتفون هتافاتٍ عدائيةً لهم.
وغادر مازيني روما مترقبًا الفرصة لاستئناف القتال، أما غاريبالدي فطلب إلى الذين رفضوا التسليم أن يلحقوا به على أن يعلموا بأنه ينتظرهم بالجوع والعطش والسهر، فسار وراءه ثلاثة آلاف يطاردهم الإفرنسيون والإسبان والنمسويون ثلاثة أسابيع، وسامهم القرويون خسفًا، وأخذ عددهم يقلُّ بِمَن يهرب منهم يوميًّا.
ثم وصلوا إلى سان مارينو؛ حيث تفاهم غاريبالدي مع السلطات على أن لا يصيب رجالَه سوءٌ، ثم سافر مع مئتين من أصحابه الأوفياء وزوجه «أنيتا» إلى «سسينه» وأبحروا منها إلى البندقية بَيْدَ أن السفن النمسوية ضبطت بعض قواربهم واضطر البعض الآخر يلجأ إلى الساحل وماتت «أنيتا» في غابة كوماجيو فلاقى غاريبالدي تشردًا منقطع النظير في شبه الجزيرة التي كانت مراقبةً من كل جهة، وقد خُصص مبلغٌ عظيم لمن يقبض عليه.