البندقية في عهد إدارة مانين
وبعد أن خضعت صقلية وطوسكانه وروما؛ لم يخفق علم الحرية الإيطالي إذا استثنينا بيمونته إلا فوق مدينة واحدة، وهي البندقية، ظلتْ هذه المدينة تزدري بشوكة الإمبراطورية النمسوية من دُون أن تنال أية مساعدة منذ شهر آب في السنة المنصرمة، ولم يطل عهد الحكومة الشبه بيمونته بعد صدور قرار الانضمام في شهر تموز أكثر من شهر واحد، ولما وردت أخبار هدنة سلسكو لم يكن قد مضى على وصول المندوبين البيمونتيين أكثر من خمسة أيام، وكانت هذه الهدنة قد أنهت حكم بيمونته القصير المدى.
وقد أدى الهياج العام الذي حدث بعد هذه الأخبار إلى انسحاب المندوبين، فأصبح مانين دكتاتورًا بالفعل، فسارع إلى إلغاء قرار الانضمام بعد أن خانتْ بيمونته البندقية بعقدها الهدنة، وأعلن بأن حكومته وقتية، وأن المجلس التأسيسي الإيطالي سوف يبت في مصير المدينة في المستقبل، وكانت حكومته جمهورية فعلًا، وكان أول ما يشغل البال في ذلك الحين إيقافُ النمسويين عند حدهم وحين رفضت البندقية بإباء التخليَ عن حريتها أجابت النمسة بتطويق المدينة.
وكانت الهدنة قد منعت البيمونتيين من إسداء المعونة لها وإن ظل أسطولهم رأسيًّا خارج نطاق الحصار، وكان مانين يتوقع لبلده خيرًا من إنجلترة وفرنسة، بَيْدَ أن بالمرستون أعلن بصراحة أن إنجلترة لا تشترك في حربٍ ما، وأنه سيبذل جهده سياسيًّا لإقناع النمسة بالتنازُل عن مطالبها بشأن المدينة.
أما موقفُ فرنسة فكان لا يختلف عن موقفها السابق المزري، فبينما كان ساستها يصرحون من جهة بأنهم لم يتخلوا عن البندقية؛ كانوا من جهةٍ أخرى يفاوضون النمسة على سِلْمٍ لا يُبقِي للمدينة سوى حكمها الذاتي، وظل مانين يعتمد على مظاهرة فرنسة رافضًا كل حل يربط البندقية بإمبراطورية النمسة، ولَمَّا أكد له لويس نابليون في شهر شباط أن لفرنسة من المشاكل الداخلية ما يحول دون دخولها في حربٍ ما، اقتنع مانين بأن البندقية يجب أن تعتمد على نفسها، وأنه لا ينقذها إلا نصرٌ إيطاليٌّ أو هنغاريٌّ عدوٌّ للنمسا.
ومع أن نِطاق الحصار أخذ يشتد طول الشتاء؛ فإن البندقيين ظلوا لا يُثبِّط أي إخفاق عزائمَهم أو يوهن جلدهم، واستولى النمسويون على القسم البريِّ بأجمعه ما عدا رأس جسر «مالفيرا» وعلى الرغم من وجود الأسطول الإفرنسي والبيمونتي، فإن الحصار قد ضيق الخناق على المدينة، فانقطعتْ صلتُها بالخارج نحو ستة أشهر، وكانتْ دار الصناعة ما تزال تحتوي مقدارًا كبيرًا من العَتَاد الاحتياطي، وكان القائد ببه ينفخ في جنده حماسةً لا تُقهر، وقد اختار للعمل هيئةَ أركان حرب بارعة، ومع أنه خسر جنوده النابوليين الذين رجعوا إلى بلادهم بعد الهدنة؛ فقد ظل تحت إمرته نحو عشرين ألفًا، من أربعة عشر ألفًا من أهل البندقية، والباقي من أهل روما وشمالي إيطالية.
وقد تجلت شجاعة الحكومة والشعب في أجلى مظاهرها، وكانت مهمة مانين ورفقائه في اللجنة الثلاثية تأمين إعاشة مائة وثلاثين ألفًا من النفوس، وذلك يقتضي يدًا حازمة ولطيفة في آنٍ واحد، وقد دَلَّت الحوادثُ على أن البندقيين كانوا جديرين برئيسهم، وكانوا يرون القتال جهادًا مقدسًا؛ فلذلك يسارعون إلى تلبية الداعي بتقديم ما لديهم، فقدم الأغنياء دراهمهم عن طيب خاطر.
ولما طلبت الحكومة آنيتهم لتصنع منها النقود لَبَّوا الطلب بحماسة، وأخذت المراسح تتبرع بوارداتها لشراءِ سفينةٍ تجارية وأخذ الطلاب يقتصدون من غذائهم، وكنت تقرأ على جدار المدينة «البندقية تطلب الدراهم من الكنائس والحلي من النساء والبرنز من النواقيس والنحاس من المطابخ والحديد من قنابل العدو، كل هذا ولا الخرواتيين من أهل خرواتية.»
وكانتْ حادثة نوفَّاره قد أضاعت آخر رجاء في المساعدة من الخارج، ومع ذلك لم يخطر ببال أحد الاستسلامُ؛ إذ قرر المجلس — على إثر ورود أخبار نوفَّاره — المقاومة مهما كلف الأمر، ومنح مانين سلطة غير محدودة، وكان النمسويون يستعدون للهجوم وأخذت أعمال الخنادق تقترب يومًا فيومًا من حِصْن مالفيرا، وبعد أن قاوم الحصن هجومًا عنيفًا في أواخر أيار ثلاثة أيام، أصبح ركامًا من الحجارة وانسحبت حاميتُهُ أمام عدو يفوقها عشرة أضعاف، ولم يستولِ اليأسُ مع ذلك على المدينة، فأقر المجلس المقاومة مهما كلف الأمر.
وشاهد أهل البندقية في حزيران قنابل العدو تسقط على الجانب الغربي من المدينة، وبعد ستة أسابيع حَسَّنَ النمسويون رميهم وأخذت نارهم تصيب ثلثي المدينة فأخلي أكثر الحصون، وانتشر في المدينة مرض التيفوس والهيضة وقضى على أربعة آلاف من الناس، ولم يتذمر الشعب من جراء ذلك وظل يأمل خيرًا رغم أن بيمونته وفرنسة وهنغارية وروما تخلت عنه.
وقد قام أصحاب الزوارق بضروبٍ من البطولة مدهشة؛ وذلك باختراقهم خطوط العدو للحصول على بعض الذخيرة أو بعض الأخبار، وتسابق الصبيان لاقتناص قنابل العدو المهيأة للانفجار لتسليمها إلى دار الصناعة وأخذ الناس يقولون: «القنابل ولا الخرواتيين.»
ولم يحدث أي شغب حتى في أشد أيام الضيق الأخيرة، ولما أدرك مانين أن كل رجاء قد ضاع أصبح يميل إلى قبول ما عُرض من الحكم الذاتي، ولكن بما أن شروط النمسويين كانت غامضة فإن المجلس قد رفضها بما يقرب من الإجماع، ولكن الذخائر لم تكن تكفي أكثر من نهاية شهر آب، وأخذ مانين يخشى بطش النمسويين فيما إذا استولوا على المدينة من دون قيدٍ ولا شرط، وكان شعور الشعب ضد الاستسلام شديدًا إلى درجةٍ هددت سلطة مانين على المدينة.
وأخذ توماسُّو يحيك الدسائس على رأس جماعةٍ متطرفة تظن بأنَّ الذخائر لا تزال محفوظة في محلاتٍ خفية وتطالب بالاندفاع بقوةٍ كبيرة، بَيْدَ أن ببه عاضد مانين بكل عزمٍ حتى خوله المجلس أخيرًا بأكثرية ضئيلة الصلاحيةَ اللازمة للمفاوَضة، وفي ٢٢ آب استسلمت المدينة بعد أن كبدت النمسويين خسائرَ كبيرة تنوف على ثمانية آلاف قتيلٍ ومَيِّتٍ بمرض.
ومع أن الخرواتي المنبوذ قد داس حرمة المدينة فإنها قد خلدت ذكرها بأعمال البطولة واستحقت التمجيد، أما مانين فقد ذهب بعد كل تلك المآثر إلى المنفى لا يملك شيئًا وعاش فيه عيشة المفكر العظيم بعد أن مثل في المدينة دور الرجل العامل.
وباستسلام البندقية ضاع كل شيء، وابتليت البلادُ بحركةٍ رجعية عنيفة ظالمة هَمُّها الانتقامُ والاضطهادُ، وفي خلال سنة واحدة خابت الآمال العظيمة التي كادت أن تتحقق، وأخذ الناس يتساءلون عن الأسباب التي أدتْ إلى هذه النتيجة المحزنة، وقد أيقنوا أن السبب الأول هو تفوُّقُ قوة العدو مع أن هناك أسبابًا أخطر من ذلك أدت إلى هذا الفشل اندمجت في طبيعة الحركة، فكانت حركة سنوات ١٨٤٦–١٨٤٩ ترمي إلى الاستقلال فقط من دون المطالبة بالوحدة وحتى إنها لم تكن تسعى إلى الاتحاد كل السعي، وكان عدد أنصار الوحدة قليلًا جدًّا.
أما جمهورية مازيني الموحدة فسرعان ما أصبحت حبرًا على ورق، وأما القلائل من الرجال الذين ارتئوا وحدة ملكية بزعامة شارل ألبرت فأظهروا عجزهم عن استكثار الأنصار، ولم يفكر الإلبرتون الأقحاح في ضم نابولي إلى بيمونته وفكروا قليلًا في ضم الوسط، ولم يتجاوز تفكير رجال الحكم في بيمونته وادي بو وإيالة الروماني، وأعرضوا عن صقلية بينما كانت مستعدة للانضمام إلى بيمونته.
ومع كل ذلك فإنَّ الخوفَ من توسُّع بيمونته وَلَّدَ شعورًا عميقًا من الشكِّ ورَدِّ الفعل كثيرًا ما استغله الدموقراطيون وأنصار الملوك الآخرين، وقد تآمر مونتانلِّي ضد ضم لمبارديه إلى بيمونته، أما في لمبارديه نفسها فقد بذل الدموقراطيون والجمهوريون جهدهم للحيلولة دون الانضمام ووضع رجال الدولة الأحرار في نابولي الخطط لتوسيع ممتلكات فرديناند.
ومما زاد في الطين بلة تلك الاختلافات بين المعتدلين والدموقراطيين، أَضِفْ إلى ذلك نُدرة الزعماء الأكفاء الذين لو تيسر وجودُهُم لذَلَّلُوا كثيرًا من هذه الصعوبات، ولا غرو فإن بلادًا حديثة العهد بحريتها لا تستطيع أن تخلق رجال دولة شعبيين.
ولما كان الرأيُ العامُّ لا يتحمل أن يرى وزراء الاستبداد في الحكم؛ فلم يكن مناصٌ إذن من أنْ يتوجه رجالُ الأدب الذين قادوا الحركة الوطنية، فكان الوزراء الأولون في سَنَتَي ١٨٤٨-١٨٤٩ بلا استثناء من الرجال الذين اشتهروا بأقلامهم ولم يكونوا مزودين بثقافةٍ سياسية كافية، أضفْ إلى ذلك كله أن الموظفين كانوا ضد الثورة، أما الإدارة في طوسكانه وروما ونابولي فكانتْ خصيمة لكل حدثٍ جديد، وطبيعي أن تسير الثورة التي يتخلى عنها الموظفون وتعاكسها الإدارة في طريقٍ وَعِر.