جمعية الكاربوناري
كانت جمعية الكاربوناري تشبه في قواعدها ومراسمها تشكيلات الماسونية في إيطالية إلى حدٍّ ما، إلا أنها كانت ذاتَ أهداف سياسية معينة، وكان أعضاء الماسونية كثيرين وذوي نفوذ في إيطالية الجنوبية، وتأسستْ جمعية الكاربوناري من الجمهوريين الذين التجئوا إلى منطقة جبال البروزه وكلبريه؛ لينجوا بأنفسهم، وليكونوا بمأمنٍ من يوسف بونابرت «أخي نابليون».
وقد انضم إليهم رجالٌ آخرون، وكان الدافع الوحيد الذي دفعهم إلى ذلك كرههم للحكم الإفرنسي، ولكن يصعب القول بأنهم كانوا جمهوريين أو ملكيين، وقد شجعهم فرديناند ملك نابولي واتخذهم حلفاء له ضد الإفرنسيين، وسعى مورات في السنوات الأخيرة لاستمالتهم إلى جانبه فلم يُفلح وعجلت معارضتهم إياه بسقوطه.
ولما عاد فرديناند إلى نابولي كان أول عمل قام به أن اضطهد الذين ساعدوه على العودة إلى عرشه، فتولى وزيره «كانوزا» رعاية الكلديراري — الجمعية المخاصمة للأحرار — وقد بلغ اضطهادها إياهم درجة حملت النمسة رغبة منها في الاحتفاظ بحكومة متساهلة على الإيعاز إلى فرديناند بأن يحل تلك الجمعية، وانتشر الكاربوناري في جميع أنحاء إيطالية الجنوبية، ومما ساعد على إيجاد أنصار لها من مختلف الأحزاب تعاليمها الدموقراطية الاشتراكية ونَزْعَتُها المسيحية، وقد اتخذ أعضاء الكاربوناري لهم مثلًا أعلى، وكان زعماؤهم ينشدون بعث الهيئة الاجتماعية بعثًا جديدًا، وبث مذاهب الاشتراكية جامعين بين التصوف المسيحي وبين فلسفة القرن الثامن عشر، فادعَوا بأن المسيح كان أول ضحية من ضحايا الطغاة، وكانت شارة الصليب تتوج مجالس الكاربوناري، وكانوا خاضعين للأوامر الدينية وللبابا.
ولاح لهم في وقتٍ ما أنْ يُقيموا كنيسةً كاثوليكية مجددة يتولون هم قيادتها، وكانت تعاليم منهجهم تتطلب منهم التخلُّقَ بالأخلاق الشديدة الصلبة، حتى إذا صدر من عضو ما أعمالٌ تخالف الأخلاق أو تخل بالشرف عُوقب عقابًا صارمًا، وعليه، فإنه لا يجوز لأي شخصٍ أن ينتمي إلى الجمعية إذا كان سيئ السمعة، وكان من الصعب معرفة اتجاههم السياسي، على أنه لا شك في إخلاصهم للحرية وكرههم الشديد للاستبداد، ويلوح من شرح آراء زعمائهم أنهم كانوا يرمون إلى الجمع بين الإمبراطورية الرومانية، وشبه الاشتراكية الدموقراطية التي بَشَّرَ بها جان جاك روسو، فتراهم يحلمون تارة باتحاد إيطالي برئاسة البابا ويتوقون تارة أُخرى إلى الوحدة الإيطالية، على أن تكون روما عاصمة لها.
وسَرَت الثورة في خلال ثمان وأربعين ساعة إلى «كوتبينا ناتاو بازيليكاتا»، والتحقتْ عدة كتائب مع ببه إلى صفوف الثائرين، وكان ببه على وشك أن يقوم بالهجوم لو لم يسارع الملك إلى منح الدستور، ولما كانت جمعيةُ الكاربوناري لا تثق بالملك؛ فقد طلبت إليه أن يمنحَ البلاد الدستور الإسباني نفسه، ذلك الدستور الذي ينص على تأليف مجلس واحد يراقب أعمال الحكومة ويحاسبها على الصغيرة والكبيرة، ففعل الملك مضطرًّا وقد رحب الشعب بهذا الدستور وهلل لابن الملك «فرنسوا» الذي اندمج في الحركة وتَبَنَّاهَا بعد أن نُودي به «وصيًّا»، وقد أقسم أن يدافع عن الدستور بدمه، وصرح الملك بأنه سعيد؛ إذ استطاع أن يمنح ذلك في حياته، وأقسم بالإنجيل يمين الولاء للدستور، وأقصى الوزراء القدماء عن العمل وعين بديلًا عنهم وزراء من عهد مورات كانوا من الأحرار إلى حدٍّ ما، ولكن هؤلاء الوزراء لم يكونوا ممن ألفوا شعور الشعب فلم يثقوا بالكاربوناريين المتشبعين بالأفكار الدموقراطية أكثر منهم، وكان «ببه» الوزير الوحيد من بينهم يمثل الحزب الذي قام بالثورة.
وظل الكاربوناريون يؤلفون حكومة داخل حكومة، ويسيطرون على قوة المليشيا، وعلى الهيئات المحلية، فلا تستطيع المحاكم أن تتخذ الإجراءات ضدهم، مما حدا بببه نفسه إلى التفكير في إلغاء تشكيلاتهم بالقوة.
أما في صقلية فقد ازداد الموقف الحرج تأزمًا بسبب الثورة واشتدَّ سخط الصقليين لضياع استقلالهم ولخيانة الملك وخضوعه المشين للنمسة، وكان لذهاب الحامية الإنجليزية تأثيرٌ مباشر في هبوط العملة النقدية.
وعلى الرغم من هبوط الأسعار فإن القرويين لم يظفروا بتخفيض في الضرائب، واشتدت الفاقة الناشبة من سوء الحالة الاقتصادية، وبلغ من شدة سخط الناس على سيطرة نابولي أنْ تناسى الناس اختلافاتهم، واختفت الفروق العميقة التي كانت تبعد الطبقة المتوسطة عن الدهماء في القسم الأعظم من الجزيرة، وكان الاستقلالُ عند الأشراف يعني عودة عهد الإقطاع، والحصانة تجاه القوانين، واستغلال الأرض بإرهاق الفلاحين، بينما كان الدهماء في المدن يفهمون من كلمة الاستقلال النهب؛ ولذلك فإنه لم يكن بين الناس سوى أفرادٌ قلائلُ من أحرار سنة ١٨١٢ يرون أن عودة الحكم النيابي هي السبيل إلى الرقي والإصلاح.
وشاع خبر الثورة في «باليرمو» عاصمة صقلية في يوم عيدها الديني، فتقبل الجمهور منح الدستور الإسباني بحماسة، حتى ظن البعض أن النابوليين والصقليين سوف ينسون أحقادهم ويؤلفون جبهة متحدة للكفاح ضد الاستبداد، غير أن الأشراف كانوا يرون في الدستور الإسباني ضياعًا لنفوذهم، فضلًا عن أن البعض من الأحرار قد انضم إليهم، مطالبًا بالانفصال عن نابولي أو منح الحكم الذاتي، وهكذا فإن أمل المتفائلين بالتفاهُم بين نابولي وصقلية قد خاب بإعلان الاستقلال والعودة إلى دستور سنة ١٨١٢، وثار الدهماء وهدموا دار القائد وضربوا دوائر الجباية، وأصبحوا أداة بيد الأشراف.
وأقنع هؤلاء نائب الملك بالموافقة على تسليح الدهماء، وأوشك الجنود أن يتضامنوا معهم إلا أن القادة خشوا العاقبة فحالوا دون ذلك، وقد نشبت بين الجنود والدهماء معركةً أسفرت عن خسارة الجند، وفُتحت على إثر ذلك أبواب السجون، وانضم المجرمون إلى العامة، وشرعوا ينهبون المدينة ويقتلون الناس على غير هدى، حتى اضطر الأشراف إلى الاتفاق مع رؤساء النقابات الصناعية ليحولوا دون النهب، إلا أن مساعيهم ذهبت أدراج الرياح، ولم يستطيعوا أن يعيدوا الهدوء إلا بعد أن جندوا من المجرمين والعاطلين سرايا، فأصبحت ناصية الحكم بيد عصبة من الأشراف والفوضويين. وخشي الأحرار من جهةٍ: أن يصبح استقلال صقلية ألعوبة بيد الدول الأجنبية، وأن يظل المجلس النيابي تحت سيطرة الأشراف، ورأوا من جهةٍ أخرى: أن الانضمام إلى نابولي من شأنه أن يجعل نواب صقلية في مجلس نابولي أقلية.
من أجل ذلك حبذوا أن تقوم حكومة من الأحرار بالإصلاحات التي سبق أن رفضها الملك، بينما ظلت مسينا أكبر مدينة في شرقي الجزيرة موالية لنابولي، وارتأى الموظفون والطبقة الوسطى في وسط الجزيرة وفي غربها رأي الأحرار في عاصمتها، وأدى هذا التبايُن في الآراء إلى أن تصبح الجزيرة ساحة قتال دام بين أنصار الدستور الإسباني وبين الدهماء الذين راحوا يدافعون بحرارةٍ عن دستور سنة ١٨١٢ بسبب كرههم الشديد للأشراف وميلهم نحو أهل باليرمو.
أدتْ هذه الحوادثُ إلى هياج وسخط في نابولي، ولاح للأحرار أن الحركة الرجعية في صقلية قد شَجَّعَها الأشرافُ؛ ولذلك طالبوا باتخاذ التدابيرِ اللازمة لقمع الثورة ولكن الحكومة ترددت في الأمر، وأراد الملك أن يصطاد في الماء العكر فوعد الصقليين بدستور ١٨١٢، وشجع هو ووصيه الأشرافَ على المطالبة بالانفصال، ثم منح الوصي بموافقة الوزراء أهلَ الجزيرة حق تأسيس مجلس نيابي على شريطة أن يقبله أهل الجزيرة بالإجماع، وفي الوقت نفسه أوفد أخو الوزير «ببه» على رأس سبعة آلاف جندي إلى الجزيرة لإخضاع الانفصاليين ولمساعدة الحكومة على التخلص من وعدها.
ولقيت القوة الموفَدة مقاومة شديدة، حتى تحرج موقفها لو لم يسأم القابضون على زمام الثورة من كلا الفريقين الفوضى والدمار اللذين أصابا الجزيرة، فطلب أحدُ الأشراف من الشعب الخضوع، وقبل طلبات القائد بتعديل على أن تبقى الجزيرة تابعة للتاج، وأن تقبل الدستور الإسباني، وبهذا خضعت الجزيرة ولكن عين مترنيخ الداهية النمسوي لم تنم، فرأى في ثورة نابولي هدمًا للبناء الذي شيده وخروجًا على السياسة التي وضعها بعد مؤتمر فينا؛ ولذلك عقد النية على أن يخنق الدستور الجديد قبل أن يشب، وبلغت الحماسة في النابويليين من جراء انتصارهم درجة لم يروا معها الخطر الذي كان يتهددهم، فدفعوا الضرائب قبل آجالها وانخرط المتحمسون منهم في سلك المليشيا.
واجتمع المجلس في ١ تشرين الأول فوعد الملك للمرة الثانية بأن يحترم الدستور وكانت أكثرية المجلس من المعتدلين الذين انتُخبوا من الطبقة الوُسطى ومن ذوي المهن الحرة، وكانت رءُوس هؤلاء مملوءة بالأفكار الإصلاحية، إلا أنهم كانوا محرومين من التجارب ويرجحون الخطب على العمل، ولم يفكر أحدٌ منهم في تهيئة البلاد لصد الغزو الخارجي.
أما الكاربوناريون فيلوح أنهم اعتزموا إما التهديد وإما أن يقوموا هم مقام البرلمان، فاستيقظ الحزب الرجعي من ذهوله وتحفز للعمل، وقد اعتاد الناس أن لا يثقوا بكلام الملك، وكانت هناك عدة أسباب تدل على أن الملك يتآمر، وأن الوزارة أصبحت أُلعوبة في يده، وكانت باكورة أعمال المجلس أنْ رفض التصديقَ على معاهدة القائد ببه التي تنظم أمور صقلية، والتي تنص على أن يقدم الصقليون عشرة آلاف رجل للدفاع المشترك، وعلى الرغم من احتجاج القائد على هذا الرفض، فإن الوزارة قد ارتاحت إليه؛ لأنه ساعدها على أن تتملص من وعدها فعينت قائدًا آخر وُفِّقَ في أن يقبض على ناصية الجزيرة بالتدابير الصارمة.
وكان من أثر ذلك أن اغتاظ الصقليون وتأهبوا لانتهاز الفُرَص وأخذ الكاربوناريون في الجزيرة يتحفزون للثورة ويستعدون لها، مما اضطر نابولي إلى إبقاء قوة حامية تتألف من سبعة آلاف من خيرة جنودها في الجزيرة.
وراح المجلس يهاجم الوزارة حتى اضطرت إلى أن تلقي بنفسها في أحضان الملك، وكان الملك يعلم أن النمسة لا ترضى أبدًا بالثورة وبالنُّظُم الديمقراطية؛ فلذلك حدث حين استدعاء ملوك الحلف المقدس إلى «تروباو» لحضور الاجتماع المؤجل في لايباخ أنْ طلب من المجلس الموافقة على ذهابه وهدده بالحل إن هو لم يوافق، فلم يبق أمام المجلس تجاه هذا التهديد إلا أنْ يختار أحد الأمرين: فإما أن يطلب مساعدة فرنسية وتهدئة الحلفاء بموافقتهم على تأسيس مجلس الأعيان وتوسيع سلطة الملك، وإما أن يخلع الملك وينصب ابنه محله وبذلك يعلن الخصومة على النمسة.
فظل المجلس مترددًا بين الأمرين، ومع أن الوزير ببه صوت للأمر الثاني فإن الكاربوناريين لم يكونوا يريدون أن يغيروا شيئًا في أحكام الدستور، أما الملك فإنه بعد وُصُوله إلى تروباو رفع القناع عن وجهه، وأخبر المجلس أن الحلفاء قد قرروا إلغاء الدستور، وأنه نزل عند رغبتهم وأيد ذلك، واستطاع مترينخ أن يحصل على موافقة الدول على إرسال قوة نمسوية لتأييد الحكم المطلق، ولما اطلع المجلس على ذلك اعتزم المقاومة واستعد للدفاع بكل قوته، وكان لدى الحكومة حينئذٍ أربعون ألفًا من الجند النظاميين ومثل ذلك من قوة المليشيا.
وكان النابوليون يجهلون أن بيمونته كانت على وشك أن تثور، وأن فكرة الثورة قد اختمرت في إيالات الروماني والمارك، وبذلك كانت جميع الظواهر تدل على أن الكَفَّة الراجحة بجانب النابوليين، لا سيما إذا أحسنوا المقاومة، وكان الشعب يريد الحرب لكن الأمور لم تَسِرْ وفق المرغوب فيه؛ إذ كان الوصي «ابن الملك» يلعب على الحبلين، وقد شجع وهن الحكومة الحزب الرجعي على العمل، وكان الجيش لا يثق بقادته ولم ترسم في البدء خطة للدفاع.
أما النمسويون فاجتازوا نهر «بو» في نهاية كانون الثاني، وتقدموا رويدًا رويدًا نحو الجنوب وكانت قوة نابولي تتفاوت بين ٤٠٠٠٠–٥٠٠٠٠ من النظاميين والمليشيا، فانقسم الجيش إلى قسمين القسم الأول بقيادة «كرسكوسا» والثاني بقيادة «ببه» وكانت الخطة المثلى أن يظل القسمان في حالة الدفاع.
ولَمَّا علم «ببه» بأن «كرسكوسا» أخذ يفاوض العدو بالاتفاق مع وزير الحربية؛ ترك خطة الدفاع وهجم على الجيش النمسوي، وبعد معركة استمرت سبع ساعات اضطر إلى الانسحاب، فتحطمتْ معنوياتُ الجنود، فأعلن الملك بأنه سيقتل كل من يقاوم ويصادر أملاكه، فانتشر الذعر بين الصفوف، وتشتت قوات الجيش، ومالت قوات الحرس إلى جانب الملك، فاضطر المجلس إلى أنْ يترك الميدان ويلتجئ إلى رحمة الملك، وهكذا دخل النمسويون نابولي في ٢٣ مارت بدون خسائر.
نشبتْ الثورة في بيمونته بعد اندحار جيش نابولي بثلاثة أيام، وكانت جميع قوات المحافظين قد تألبت دون مساعي «بروسبرو بالبو» في الإصلاح، وأمسى الجيش بيد الرجال الذين حاربوا النمسة في معركة «أوسترليج» فظلوا يعتبرونها عدوة، وأصبحوا يرون أنه على بيمونته أن تختار أحد الأمرين: إما الاحتلال النمسوي، وإما عرش إيطالية.
وانضم الكاربوناريون إلى المستائين، وكان الملك فيكتور عمانوئيل يحقد على الحزب النمسوي، الأمر الذي كان يزيد النار استعارًا، أضفْ إلى ذلك أن سفيره في روسية «دي مستر» كان يدبر الدسائس في بطرسبرج في سبيل تأسيس مملكة في شمال إيطالية بحماية روسية.
لم يخطئ أعضاء جمعية الكاربوناري كثيرًا حينما فكروا في أنْ يترأس الملك فيكتور عمانوئيل الحركة ويجمع حول رايته القوميين في جميع أنحاء إيطالية، وكان المتآمرون يميلون إلى إنجاز الإصلاحات قبل القيام بالحركة؛ ولذلك فإن أكثرهم قرروا المطالبة بالدستور الإسباني، ولكي يظفروا بعطف الملك على الحركة فكروا في اشتراك ولي العهد الأمير شارل ألبرت في مسعاهم.
وقد نشأ هذا الأميرُ الفتى البالغ من العمر اثنتين وعشرين سنة في باريس، وانخرط في الجيش الفرنسي، ونال فيه مرتبة كونت الإمبراطورية، وكان رجلًا شجاعًا شغوفًا بالسلاح متكبرًا، ولكن تنقصه الحماسة، وكان الأمير الوحيد الحائز عطف الأحرار، وقد تظاهر بميله إلى الإصلاحات وحبه للاستقلال وتشجيعه للأحرار، واتصل برجال الكاربوناري رغم نُفرة البلاط من الآراء الحرة والأفكار الحديثة، وقد ولَّدت فيه ثورة نابولي الرغبةَ في قيادة الوطنيين، وطرد النمسويين من إيطالية، وتوسيع حدود بيمونته.
وكانت خطة المتآمرين تتلخص فيما يلي: أولًا: الحصول على الدستور الإسباني مهما كلف الأمر، ثانيًا: سوق الجيش إلى الحدود حالًا، ثالثًا: ضم قواتهم إلى قوات الثوار في ميلانو وبرسيه، رابعًا: دَحْر الحاميات النمسوية فيهما، خامسًا: قطع طريق الانسحاب على النمسويين في نابولي.
وكانوا واثقين أن جيش بيمونته ظافرٌ لا محالة، وأن اللمبارديين سيعقدون مجلسًا تمثيليًّا؛ لتقرير الانضمام إلى بيمونته، ولما وقعت حادثة الاصطدام صدفة بين التلاميذ والجيش في تورينو اشتد التوتر، وفي شهر آذار سنة ١٨٢١ شاع خبرُ الاطلاع على مؤامرة الأحرار مما اضطرهم إلى الشروع في العمل، ولما كانوا يرغبون في أنْ يُساهم الأمير شارل ألبرت في الثورة فقد اجتمع به زعماء المؤامرة، والظاهر أنه وعدهم بالاشتراك في العمل على شريطة ألا يتجه العمل نحو مخاصمة الملك، ولكن سر المؤامرة لم يلبث يومًا واحدًا بعد الاجتماع حتى أفشاه الأمير، فأراد المتآمرون في تورينو أن يرجئوا الشروع في العمل، بَيْدَ أن حامية «ألكسندرية» التي كانت تجهل خيانة الأمير سارعتْ إلى الثورة، وطالبت بالدستور الإسباني، ونادت بفيكتور عمانوئيل ملكًا على إيطالية.
وسار التلاميذُ في العاصمة في مظاهرات يطالبون فيها بالدستور، ورفض ضباط الحامية مقاومة المتمردين والمتظاهرين، مما يحمل على الظن أن الحكومة نفسها كانت من أنصار الحركة، واتضح في الجلسة التي ترأسها الملك أن الملكة وحدها كانت تُعارض في منح امتياز للشعب، أما الملك فعلى الرغم من وعده في مؤتمر «لايباخ» بألا يتخلى عن سلطته المطلقة فإنه حين أنذرت الحامية العسكرية بإطلاق النار على المدينة إذا لم يمنح الدستور أراد تجنُّب الحرب الأهلية، وأعلن تنزله عن العرش ولكن هذه الحركة من جانبه اعتُبرت ضربة موجهة للثائرين الذين كانوا قد أظهروا ولاءهم له، كما أنهم أعلنوا للملأ حينئذٍ «أن الملك سيلبي نداء قلبه الإيطالي»، وكان الملك قبل أن ينزل عن عرشه قد نصب الأمير شارل ألبرت وصيًّا إلى أن يصل أخوه «شارل فليكس» الملك الجديد الذي كان خارج إيطالية.
استقالت الوزارة وأصبح الأمير الفتى من دون مُعِين، ولم يكن ممن يستطيعون تحمُّل تبعة الحوادث الجسام، وقد كان مخلصًا للأسرة المالكة من جهة ومرتبطًا بالمتآمرين من جهةٍ أخرى، وكان أمامه — قبل كل شيء — واجب خطيرٌ هو إنقاذ العاصمة من الفوضى، وإنقاذ البلاد من الاحتلال الأجنبي، وكان يدرك أن جيش بيمونته لا يستطيع مقاتلة الجيش النمسوي.
وعليه فقد تردد بادئ الأمر في منح الدستور، فأخذت الحامية تتهدده، وأشار عليه الأشرافُ بالقبول، فأذعن ومنح الدستور الإسباني مكرهًا، ويظهر أن مجرى الحوادث بعد ذلك قد حمسه إلى درجةٍ راح معها يتحدث عن الاتحاد مع نابولي، وعن الشرف القومي، ولم يتردد في إظهار عطفه على الوفد اللمباردي الذي طلب منه أن يتقدم بالجيش نحو لمباردية، ولما بلَّغه الملكُ الجديد في إصرار وشدة أنه لا يعترف بأي امتياز منحه للشعب وأمره بعد ذلك بالمجيء إلى «نوفآره» هرب خلسةً مع بعض رجال الحامية.
وكان أهل جنوة أيضًا قد تحمسوا للثورة، بَيْدَ أن فرار الأمير شارل ألبرت جعل «كنفالونبيري» وزير لمبارديه يتردد في العمل، ولم يشأ اللمبارديون أن يقدموا على الحركة قبل أن يجتاز جيش بيمونته الحدود إلى بلادهم، وبقيت العاصمة ساكنة، وأخذ الأشراف يوجسون شرًّا من الدستور الإسباني، ولم تكن الوزارة الجديدة قادرة على بث الحماسة في النفوس، وحاول «سانتاروزا» ولعله الوزير المتحمس الوحيد من بين الوزراء أن يشجع الثورة بالهجوم وأخذ يقول: «انسوا الحزازات واركضوا نحو تسينا (النهر الذي يفصل الحدود بين لمباردية وبيمونته)؛ فلمبارديه تنتظركم ولسوف تتحرك فرنسة.» ولم يُجْدِ هذا القول نفعًا؛ لأن الجنود فترت حماستهم، وأخذت القِطع العسكرية تنحاز إلى الجانب الملكي، فأرادت الوزارة أن تنقذ الموقف بطلب وساطة روسية لتحُول دون احتلال النمسة للبلاد.
بَيْدَ أن الملك شارل فليكس من جهة، وحزب الأحرار في ألكسندرية من جهةٍ أخرى؛ لم يميلا إلى أي تفاهُم، وكان من أمر ذلك أن اجتاز النمسويون نهر تسينا، وتقدمتْ قوات الدستور نحو توفاره، ولم يخطر ببال هذه القوات أن القطعات الموالية للملك ستنضم إلى صفوف النمسويين لمقاتلتها، وهكذا تغلب الجيش النمسوي بالاشتراك مع قوات بيمونته الموالية على قوات الدستور بالقرب من نوفَّاره، ثم احتل النمسويون ألكسندرية وجنوة، وبهذا فشلت الثورة في الجنوب وفي الشمال.
وإذا كان النفور من آل بوريون ملوك نابولي، والاستياء من الظلم والفاقة من أسباب الثورة والعوامل الدافعة إليها في الجنوب؛ فإن نشوبها في الشمال يرجع إلى نزوع الأحرار لضم لمبارديه إلى بيمونته والقضاء على الحكم النمسوي، وترجع أسباب فشل الثورة في الجنوب إلى خيانة الملك والوصي وعزم الحلف الأوروبي على قمع كل حركة تقوم ضد الحكم المطلق، غير أن رؤساء الثورة أنفسهم لم يكونوا ذوي تجارب كافية.
ومع أن الكاربوناريين كانوا مخلصين في عملهم إلا أنهم سلموا القيادة إلى رجال لم يكونوا مؤمنين بنجاح الحركة، وقد سيطروا على الحكومة لَمَّا شكوا في إخلاصها، وكانت الحزازات الشخصية تعمل عملها بينهم في الخفاء، ونخص بالذكر تلك الخصومة الشديدة بين ببه وكرسكوسا، وذلك الاختلاف بين جمعية الكاربوناري وحزب مورات، وإذا دلت الظواهر على أنهم يعملون لهدفٍ واحد فإن الوقائع أظهرت أنهم يتحركون مختلفين.
أما في الشمال فالأسرة المالكة التي يجب أن ترأس الحركة وهي أسرة قومية لم تكن قويةَ الإيمانِ بالفكرة، ومع أن الأمير شارل ألبرت كان يعتنق فكرة الوحدة إلا أنه كان فاقد الحماسة، مترددًا بين الإخلاص للأسرة المالكة وبين العمل المجرد للفكرة، وكان الأشرافُ الحديثو النشأة يهدفون إلى تأسيس مجلس الأعيان، كما أن أشراف لمبارديه كانوا يطمحون إلى أن ينالوا بواسطة بيمونته الامتيازات القديمة التي رفضت النمسة أن تمنحها إياهم.
وأما الجيش الذي علمتْه حروب نابليون أن يتخذ نفسه حكمًا في سياسة الأمة فإنه لم يكن ليعير أي اهتمام بالشعب، وأما رؤساء الثورة في الشمال فمع أنهم يؤمنون بالوحدة إلا أنهم كانوا رجال قول لا رجال عمل، وكانوا متحمسين للحركة والاستقلال، إلا أنه كان ينقصهم إصابة الرأي والنظر البعيد، فهاموا في أودية الخيال وجهلوا شعور البلاد، وأهملوا إعداد شعور الأمة إعدادًا يكفل النجاح.
أما الزعماء في ألكسندرية فاختاروا لقب «جونتا» للاتحاد الإيطالي، واتجه هدفُهُم السياسي نحو مملكة إيطالية في الشمال، وقد أظهرت الثورتان ضعف الشعور بالوحدة والتضامن الصحيح في العمل، ومع أن بعض رجال الثورة مثل سانتاروزا كان يتوقع جمع القوى الوطنية في الشمال والجنوب، وكان «منزوني» يرتل النشيد الآتي: «أُمة واحدة جسمًا وقولًا وقانونًا وقلبًا.» فإن المتآمرين في بيمونته لم يخبروا نابولي بأهدافهم وخططهم، وأجلوا حركتهم إلى أن قُمعت الثورة في الجنوب.
وكان لكل من بيمونته ولمبارديه والروماني ونابولي وصقلية سياسةٌ خاصة لم يكن بعضها غريبًا عن البعض الآخر فحسب، بل إنها كانت ذات أهداف متباينة، وقد يصطدم بعضها بالبعض الآخر، فرجال بيمونته ولمبارديه كانوا يتناقشون فيما بينهم حول أي من المدينتين — تورينو وميلانو — يجب أن تكون العاصمة، ورجال صقلية كانوا يكرهون أهل نابولي كل الكُرْه، حتى إنهم فرحوا بانتصار النمسويين، وكان أهل نابولي يفضلون التخلي عن الغاية القومية على أن يمنح الحكم الذاتي إلى صقلية، فضلًا عن أنهم رفضوا دعوة وطنيِّي المارك لإشعال نار الثورة في ممتلكات البابا.
فمن الواضح إذن أن حركة الكاربوناري كانت تسير في طريق خاطئ، ولم يكن للثورة في وادي بو إلا صدًى ضئيل، وقد لاحتْ بوادر المؤامرة في الروماني حتى إن الشاعر الإنجليزي «بايرن» كان قد خَزَّنَ السلاح في بيته لتجهيز الثوار به، إلا أن الثورة فشلت في الشمال والجنوب، وأصبحت البلاد ترزح تحت نير الظافر.
فسيق كنفالونيري مع كثيرٍ من رفقائه إلى معتقل «سبيلبرج» في موارفيه؛ حيث أخذ الإمبراطور فرانسو جوزيف يلعب بضحاياه لعب القط بالطيور الصريعة، وأطلق مترنيخ العنان لدوق مودينه للانتقام من رعيته، وطلب إلى فرديناند ملك نابولي أن يتظاهر بالحرية بمنح مجالس الإيالات بعض السلطات، ومنح صقلية إدارة مستقلة خاضعة لنائب الملك.
إلا أن الملك لم يُلَبِّ الطلب، وأخذ ينتقم من الأحرار في قساوة ووحشية، فأقصى من الإدارة والجيش والمؤسسات الدينية جميعَ العناصر الموالية للأحرار، فشهدتْ نابولي أفظع المظالم، وعلى الرغم من أن النمسويين سعوا لإنقاذ الضباط الثائرين إلا أن الملك أبعد ثلاثين منهم إلى جزيرة جعلها سجنًا، فكانوا ينامون فيها على الأرض ويكابدون أسوأ معاملة حتى ماتوا فيها.
ولم يكتفِ الملك بذلك، بل استدعى اليسوعيين إلى مملكته ليساعدوه على إتمام العمل الوحشي الذي بدأ به، فأُحرقت الكتب التي تحتوي الآراء الحرة ومُنع استعمالها، وفُرضت مكوسٌ باهظة على الكتب الواردة من الخارج، وكان الوزير «مديجي» يعترف بأن من واجبه أن يترك الشعب في جهلٍ مطبق، وأخذت الحكومة تطارد الكاربوناريين، ففَرَّ الأحرارُ إلى الجبال بأسلحتهم مؤلِّفين العصابات.
أما في بيمونته فسار الملك الجديد شارل فيلكس على أثر زميله ملك نابولي في حركة الارتجاع، إلا أن تقاليد بيمونته الموروثة حالتْ بينه وبين الاندفاع في الطغيان الذي انغمس فيه فرديناند، ولم يكن هذا الملك الجديد ظالمًا بطبعه ولكنه كان يعتبر الثورة من أفظع الأعمال التي يجب أن يسحقها، وكان يحكم حكمًا استبداديًّا بكل معنى الكلمة، فارتاب في جميع الناس حتى في وزرائه، وشعر بالمقت الشديد لأعمال المجددين.
وكان لا يتردد في القول: «الملك هو الشخص الوحيد الذي منحه الإله القدرة على اختيار أحسن الوسائط لاستخدامها في سبيل سعادة رعيته، وإن أول واجب للتابع المخلص ألا يتشكى أبدًا.» إلا أنه لم يكن متصفًا بالخلال التي تؤهله لأنْ يكون ملكًا عظيمًا، وكان الوحيد من آل صافويه الذي لم ينشأ من سلك الجندية، فكَرِهَ أشغال الحكومة ومراسم البلاط، ولم يكن لديه أصدقاء إلا القليل.
وهكذا أصبحت بيمونته الحرة ترزح تحت نير الاستبداد، وقد أهينت كرامتها القومية ببقاء اثني عشر ألفًا من الجند النمسويين فيها محتلين إياها، وانتشر الأحرار المبعدون تحت كل كوكب في فرنسة وإسبانية وإنجلترة ومصر وأمريكية الجنوبية، وأصبح سانتاروزا يدرس اللغة في نونتنجام، إلى أن مات بطلًا فيها، ومع ذلك كله فقد بوشر تنفيذ بعض الإصلاحات من لوائح بالبو الإصلاحية الخاصة بالأمور العدلية، ووجه اهتمام إلى الأمور الزراعية، وشجَّع المرسح ونشطت الآداب.
ثم انفصل شارل فيلكس من أصدقائه النمسويين وأهل روما، فاحتج على النمسة لاحتلالها ألكسندرية، ومع أنه كان يشجعها على البقاء في نابولي إلا أنه رفض دعوتها إياه إلى التعاوُن المشترك ضد الأحرار، وبهذا لم يُضِع الفرصة للظهور بمظهر الملك المستقل بآرائه.