بيمونته بعد نوفَّاره – الارتجاع
لقد كانت نوفَّاره كارثة عظيمة نزلت ببيمونته وهي على فداحتها ما كانت لتجيز لبيمونته أن تستسلم وأن تترك المملكة تحت رحمة الغالب، فالجيش رغم ما أصابه من الذعر وفتور الهمة كان لا يزال سليمًا، وكانت فرنسة على أهبة التدخُّل، ولو اجتازت قواتها الحدود لاضطر راديتسكي إلى الانسحاب مسرعًا ليحتمي بالقلاع الأربع، وكانت بيمونته قادرة على إطالة أمد المقاومة وراء ألكسندرية وتورينو، ورغم الغضب والذعر والارتياب من الخيانة فإن الهتاف كان لا يزال يُدوِّي عاليًا بتأييد المقاومة واستنكار الخضوع؛ إذ كيف يصح لبيمونته أن تستسلم والعَلَم المثلَّث الألوان ما يزال يخفق فوق روما والبندقية وبولونيه وبرسية.
ولما اطلعت تورينو على خبر الانكسار أصدر المجلسُ النيابيُّ قرارًا يدعو فيه إلى التجنيد العام، واستغل الدموقراطيون اسم شارل ألبرت ودَعَوُا الشعب إلى الاستمرار على المعركة التي بدأ بها الملك الوطني، ولكن ذلك كله لم يَحُل دون عقد الهدنة، ولما علم الناس شروطها التي تتضمن احتلال ألكسندرية مؤقتًا وسحب الأسطول الرأسي في البندقية أنكر الحزب القائل بالحرب الهدنة، وعَدَّها المجلس النيابي عملًا منافيًا للدستور.
أما في جنوة فقد أدى الارتياب من الخيانة إلى الثورة، فباغت أهل جنوة الحصون المحيطة بالمدينة واستطاعوا أن يستولوا عليها بحجة الدفاع عنها ضد الهجوم النمسوي الموهوم، فاعتزمت الوزارة الجديدة التي تولت الحكم في عهد الملك الفتي فيكتور عمانوئيل الثاني أن تضرب أهل جنوة العُصَاة وساقتْ عليهم الجند بقيادة لامارمورا، وبعد قتالٍ استمر يومين خضعت المدينة.
ولا ريب في أن هذا العمل بادرة مخزية، تشين بسمعة حكومة بيمونته الجديدة لقد كان بين رجال بيمونته مَنْ كان يفكر في إمكان المقاومة، وأنها قد تنتهي بالفوز ولا سيما أن خسائر الجيش كانت قليلة فضلًا عن أن الفرقة اللمباردية كانت لا تزال سليمة وقوات مارمورا لم تشترك في القتال إلا في جنوة، وقد يدفع عزم المستميت إلى النصر، ولو أصرت فرنسة على سياسة الحياد ولكنْ لقاء هذا يقول رأيٌ آخرُ بأن استئناف الحرب قد تودي البلاد إلى احتلال تورينو وإلى اشتداد الكارثة، ولم تكن بيمونته مستعدة لمواجهة كل هذه الاحتمالات، فالمؤامرات الرجعية تُحاك بين الجنود والقرويين والجيشُ أصبح لا يميل إلى استئناف القتال.
وكانت الحربُ بنظر المعتدلين والرجعيين عبارة عن غلطة فاحشة ارتكبها الدموقراطيون، ولم يكن المعتدلون والرجعيون يشعرون بِأَيِّ عطفٍ نحو الجمهوريين الذين كانوا يُجاهدون في روما والبندقية في سبيل شرف إيطالية.
على أن هذا لا يمنع القول بأن المعتدلين كانوا كالدموقراطيين؛ عازمين على أنْ لا يقبلوا أي شرط يمس بكرامة الأمة، وكانوا يؤمنون — كمنافسيهم — برسالة بيمونته ويحملون لحلفائهم اللمبارديين الشعورَ الحماسيَّ نفسه، وكانت أكثريةُ البيمونتيين عازمةً على القتال إلى آخِرِ نفس بدلًا من الخضوع لشروطٍ مخزيةٍ تَمَسُّ بمستقبل بيمونته، وكان الملك الفتي يمثل — بشخصه — عزيمةَ الأمة الباسلة، وكان يحقد على النمسة قائلًا: «أعطوني أربعين ألفًا من الجُند؛ أفسخ الهدنة غدًا.» ولكنه اعتزم قبول السلم إذا كان شريفًا.
وفوجئ الناس في ٢٦ آذار بتبديل وزاري، وخَلَفَ رتازي الذي نبذه المعتدلون لوناي وهو من المحافظين من أهل صافو وكان معروفًا بمعارضته للدموقراطيين، فحل لوناي المجلس وصدرت الأوامر بإجراء انتخابات جديدة، وفي أوائل أيار خلف لوناي دازجيلو وكان شعاره: «لا حرب ولا عار»، وأنه إذا خير بين الأمرين فإنه يرجح الحرب ولا يريد أن يضحي باللاجئين مهما كلف الأمر، واستمر على سياسة سلفه المعارضة ضد الأندية، وكادت المفاوضات التي جرت بعد الهدنة تنقطع بسبب الشروط الثقيلة التي فرضها النمسويون ورفض بيمونته إياها، وكانت النمسة عازمة على عقد الصلح على أية صورة بشرط أن ترضي حكومة فيكتور عمانوئيل الثاني بتعديل الدستور والاتفاق معها فتَسْلَم بذلك من دَفْع غرامة حربية وتضم إيالة بارمه إلى بيمونته، إلا أن الملك ووزراءه لم يلبوا الطلب.
ولما طالبت النمسة بغرامةٍ حربية تبلغ ٢٣٠ مليونًا من الليرات وحل اللجنة اللمباردية كان جواب «لوناي» لها أنه لا يفاوض ما لم يعلن الإمبراطور العفو عن رعاياه الطليان ويتخلى عن دعواه بالسيادة على دوقية لمبارديه، ولما رفض النمسويون هذه المطالب واحتلوا ألكسندرية قطعت الحكومة المفاوضات وطلبت توسُّط فرنسة وإنجلترة.
ولم يكن حينئذٍ تفاهم أوروبي على التدخُّل بين الغالب والمغلوب، وأراد لويس نابليون أن يعلن الحرب بعد حادثة نوفَّاره على أن يحتل إيالة صافويه ومدينة جنوة مكافأة له على صنيعه، ولكن حكومة بيمونته لم ترغب في دخول القطعات الإفرنسية في أرض بيمونته إلا في آخر لحظة.
ومع ذلك فإن دول الغرب قامتْ بمساعٍ جدية في فينا، وكانت النمسة منهمكة في مشاكلها المالية وبالثورة الناشبة في هنغارية والبندقية، بحيث عجزت عن احتمال هذا الضغط، فأخلت ألكسندرية واستأنفت المفاوضات، وظل الفريقان عند رأيهما لأن دازجيلو كان لا يريد سلمًا لا تكون فيه ضمانةٌ لحياة اللمبارديين.
وكان النمسويون يتوقعون قيام حركة رجعية في بيمونته، وفي شهر آب قررتْ وزارة فينا بضغط فرنسة منح عفو شبه عام وتخفيض الغرامة إلى ٧٥ مليونًا بشرط أن يتخلى الملك عن بيازنسه، ثم عرضت المعاهدة على المجلس المنتخب حديثًا، وقد دَلَّت الانتخابات على أن البلاد لم ترحب بوزارة لوناي، وكان أكثرُ النواب من الدموقراطيين رغم أَنَّ نواب العاصمة كانوا من المعتدلين والرجعيين.
وعليه فإن المجلس قد ورث الحرب عن النُوَّاب القدماء وبانتخاب «بارينو» لرئاسة المجلس أظهر النواب نياتهم، وكان الجميع يدرك بأن المعاهدة لا مناص منها ولا رغبة له في رفضها، ومع ذلك فإن النواب عَدُّوا بعض موادها مخزية؛ لأنها وإن كانت تصون أرض بيمونته إلا أنها تحول دون المطالبة بالتوسُّع، وحاول عبثًا بالبو إقناع المجلس المجلس بقبول المعاهدة باحتجاجٍ صامت، وكان العفو قد استثنى ما يقارب مائة شخص من اللمبارديين والبندقيين وكان المجلس يخشى مطالبة النمسة بتسليمهم إياها، وكان المجلس قد أقر اقتراحًا بمنح الجنسية لجميع الطليان المولودين في حدود الدولة البيمونتية، ومع أن الوزراء كانوا قد اشتركوا في التصويت لهذا الاقتراح إلا أنهم أوقفوه في مجلس الأعيان ووافق المجلس في شهر تشرين الثاني على قرارٍ بأكثرية ضعيفة يقضي بتأجيل تصديق المعاهدة حتى يضمن مصيرَ اللاجئين.
فأدى فشل الوزراء إلى أزمة أخذتْ تتهدد الموقف، ولو كان الحزبان المعتدل والدموقراطي على وفاقٍ لَأصبح من السهل التفاهُمُ بينهما على حل قضية اللاجئين، إلا أن الاختلاف بينهما كان خطرًا يتناول المعنى والشكل، ورغم أن رئيس الوزراء رفض توقيف الدستور عملًا بتوصية بنيلي وريفيل؛ فإنه أصدر إرادة ملكية بحل المجلس وإجراء انتخابات جديدة، وليس في هذا الأمر ما يمس الدستور، إلا أن ما ورد في الإرادة من تعابير تهاجم الأكثرية وتهدد باستعمال الشدة إذا لم ينتخب مجلسٌ ملائم ينافي روح الدستور، فلم يبق أمام أحرار إيطالية إلا الاحتفاظ بالدستور.
حقًّا إن السنوات العشر التي مرت بتاريخ بيمونته هي تاريخ إيطالية وإن الموقف الحازم الذي وقفتْه بيمونته في مفاوضات السلم بشأن الجنسية الإيطالية وثباتها في القضية الدستورية؛ جَعَلَا الأمة الإيطالية تنظر إليها نظرة إكبار، وتعتبرها الدولة المجاهدة الباسلة.
ومما قاله «كافور» في مفتتح خطابه في أثناء المذاكرة حول قوانين «سيكاردي»: «على بيمونته أن تجمع حولها جميع قوى إيطالية الحية وأن تقود أمتنا نحو الغايات السامية التي خُلقت لأجلها.»
وكانت تورينو قبل هذا وطنًا لأبطال الثورة الذين أُقصوا عن بلادهم، وقد زاد عددُهُم في المدن الكبيرة حتى قيل إنهم بلغوا نحو خمس نفوسها، وقد جلبوا لبيمونته حياة وحريةً جديرتين وجهزوها بعددٍ مِنْ أقدر المفكرين المشبعين بالروح الإيطالية، أمثال المؤرخين فاريني ولافارينا وسكيالوجيا والاقتصادي ممياني وتوماسيو وغيرهم من علماء وَرَاء الطبيعة، وفريق مِنْ أَنْبَل أشراف اللمبارديين والدموقراطيين أمثال كوردوفا وكريسبي من صقلية وكورانتي من ميلانو.
وانخرط في الجيش ضُبَّاطٌ من مودينه ولمبارديه ومعلمين من جامعة نابولي وكان المجلس النيابي نفسه يحتوي على رجال سياسة من جميع أنحاء إيطالية، وكان البعض منهم في الوزارة نفسها.
الارتجاع
طغتْ موجةٌ من الارتجاع على جميع إيطالية، وكانت شديدة الوطأة في روما ونابولي، وخفيفة في الأقطار الأُخرى، وأعطى الإفرنسيون روما إلى البابا الذي كان يعتقد بأن مستقبل الكنيسة يتوقف على استمرار تَمَتُّعِهِ بالسلطة الزمنية، وكانت صدمة تلك الثورة القومية قد أفزعتْه فما دخل روما حتى تخلى عن ميوله السابقة للحرية؛ ليحيي عهد جرجوار بكل فظاعته.
وكان المتعصبون من رجال الدين الذين اجتذبوا البابا إلى جانبهم؛ حريصين على الانتقام، ومتلهِّفين للقضاء على كل ما تم في السنوات الأخيرة الثلاث.
لقد احتج مائتان وستون مجلسًا من مجالس النواحي — بما فيها جميع المدن المهمة بين روما ووادي بو — على استعادة السلطة الزمنية، وأيقن وكلاء البابا في الروماني أن إعادة الحكومة في الولايات لن تتم إلا بمساعدة الحامية النمسوية، فحالما كان النمسويون ينسحبون من مدينةٍ يُسارع أهلها إلى ركز شعار الجمهورية.
وكان الإفرنسيون قد اطَّلَعوا تمامًا على هذه الحالة الروحية، فأخذوا على عاتقهم حماية المؤسسات الحرة، وكان أكثرُ الأعضاء اعتدالًا في وزارة روما وقتئذٍ يريد ذلك، وكان أودينو القائد الإفرنسي، قد اتخذ أَشَدَّ التدابير لمنع الجمهوريين من رفع رءُوسهم واشترك المعتدلون في الحكومة ومنحت جوازات السفر بلا عائق، فحصل عليها آلافٌ من الناس؛ بغية الخلوص من نقمة البابا، الأمر الذي أغضب الكرادلة الذين رافقوا البابا في جايته.
وأخذ البابا يتذمر من تسامُح الإفرنسيين ولينهم وأصبح بلاط جايته يتشوق للتخلُّص من أصدقائه، ليلقي بنفسه في أحضان النمسة العطوف، ولما كان الإفرنسيون يريدون أنْ يجعلوا من البابا أداة مساومة ضد النمسا؛ فقد سارعوا لجلبه إلى روما تحت إشراف جيشهم، وأعلن أودينو إعادةَ سُلْطَة البابا إليه في ١٤ تموز، وفي نهاية الشهر خَوَّلَ أودينو سلطاته إلى الكرادلة الثلاثة الذين أطلق عليهم اللجنة الثلاثية الحمراء.
وقد كان بين مظالمها الشديدة وبين اعتدال سلطة مازيني فرقًا عظيمًا، وظهرت للميدان شرطةُ البابا ومجلس التفتيش وأُخلي سبيل مجرمين السانفيديست وحَلَّت الرشوة في المالية محل الإدارة الجمهورية الصالحة النزيهة، وكان مونتانلِّي قد عرض على ممثلي الدول الكاثوليكية في جايته مشروعًا وَعَدَ إياها فيه برعايته الحكومات المحلية ومساعدة العلمانيين على الاشتراك في الوظائف بمقياسٍ واسع، والقيام بإصلاح الإدارة والقضاء، وتأسيس مجلس دولة منتخب ولجنة استشارية خاصة بالشئون المالية، فلما طلب منه الممثل الإفرنسي أن يمنح اللجنة المالية سلطة تنفيذية بدلًا من سلطة استشارية وحَثَّه على عقد مجلس تمثيلي؛ أجابه مونتانلِّي فورًا أن الحكم البرلماني لا يتفق مع حرية البابا الروحية.
وكان لويس نابليون قد أظهر مقته بكتابٍ أرسله إلى زعيم «كولونيل» في جيش الاحتلال الإفرنسي بتاريخ ١٨ آب هاجم فيه الكرادلة قائلًا: «إن الجمهورية الإفرنسية لم ترسل إلى روما جيشًا للقضاء على الحرية الإيطالية وإنما أرسلته لأجل تنظيم هذه الحرية وإنقاذها من الغلو.»
وفي الكتاب يقول بضرورة صدور عفو عام، وإقامة إدارة مدنية، والأخذ بقانون نابليون المدني، مشيرًا بمرارةٍ إلى الجحود الذي أنسى البابا الوفاءَ بتعهُّداته نحو فرنسة، وقد كتب لويس نابليون هذا المكتوب على مسئوليته ولم توافق الوزارةُ على إرساله إلا لاعتقادها بأنه لا ينشر.
ولما شاع خبر المكتوب اتخذه مونتانلِّي وسيلةً ليعلن استقلاله وشكوكه في نيات فرنسة، وانسحب البابا إلى قصر ملك نابولي في بورتيجي وأعلن للملأ أنه لن يعود إلى روما ما لم تتجاهل فرنسة هذا المكتوب وتتركه طليقًا في الإصلاحات التي يراها ضرورية، وقال إن أقصى ما يتسامح به إرادة يَعِدُ بها بعفوٍ غامض وإقامة مجلس دولة وتأليف لجنة مالية ومجالس إدارية في الولايات وسلطة واسعة لمجالس النواحي وإصلاحات في القضاء.
وكانت الاستثناءات التي وردت في العفو تتضمن إما إنزال بعض العقوبات أو نفي جميع أعضاء المجلس التأسيسي وجميع أعضاء الحكومات المؤقتة ومعظم رجال الجيش من ضباط الحرس الذين غض عنهم في سنة ١٨٤٦ وكل من كان له ضلع في الثورة، وقد اضطر آلافٌ من المواطنين المخلصين أنْ يقبلوا النفي والبؤس؛ خيفة الاضطهاد.
وقد أظهرت السنواتُ التي تلت تفاهةَ قيمة الوعود بالإصلاح، ولقد عاد البابا في ١٢ نيسان إلى روما محفوفًا بالجنود الأجانب دون أن يلاقي أي حفاوة من شعبه وأخذ البابا يفخر بأن بلاطه مجردٌ من النفوذ الداخلي والخارجي، وأنه يعاضد النظريات اللاهوتية الملائمة في إيطالية وفرنسة وإنجلترة وتشجيعها، ويعهد للرهبان بالإشراف على التعليم ويضع عقائدَ جديدة ويقمع أية نزعة حرة.
وإذا كانت البابوية قد أضاعتْ مركزها في إيطالية؛ فإنها أصبحتْ قويةً في الخارج، وقد غدت الكنيسةُ تحت رحمة اليسوعيين بكل معنى الكلمة، ومع أن المعارضةَ الوطنية والحرة لم يُقضَ عليها القضاء الكلي إلا أنها أصيبت بالعجز تدريجيًّا أمام الاقتراع الكاثوليكي العام في الأمم اللاتينية الذي كان يفضل الاستبداد الروحي على الحرية، ويضع الكنيسة فوق الوطن.
أما في نابولي فبعد أنْ تحرر فرديناند من كل نفوذٍ أجنبي انطلق نحو استبدادٍ لا مثيل له، ومِنْ ظريف ما يُذكر أنه حمل المعلمين على أن يقولوا لتلاميذهم: «بأنَّ الأمير في حِلٍّ من الحنث في يمين الولاء للدستور، إذا كان ذلك اليمين منافيًا لمصلحة الدولة العامة وأنه لا معنى لأي وعدٍ يقطعه الأمير ويحدد فيه سيادته وسلطانه.» وقد هنأه قيصر روسية بصفته منقذَ النظام الاجتماعي، وبعد أن لاقتْ منه صقلية عقابًا صارمًا هَوَتْ على قدميه مضرجة بدمائها.
وقد أسرع فرديناند فمحا آثار الرقيِّ الحر الذي تم في السنة المنصرمة، فوضع التعليم في مخالب الإكليروس، وألزم التلاميذ في كل جامعة بأن ينتموا إلى هيئةٍ روحية وسمح لليسوعيين بالعودة، وأصبح الوزراء عبارة عن مستشاري الملك لا أكثر، وكاد الوزراء الجديدون رغم هذا أن يثقوا حينًا من الزمن بوُعُود فرديناند بأن يرعى الدستور ولكنه تَعَهَّد للنمسة بأن لا يفي بوعوده.
ولكي يسوغ ما بَيَّتَه للدستور؛ أرسل صنائعه للولايات للحصول على استدعاءات يلتمس فيها مُوقِّعوها إلغاء الدستور، وقد حمل الكثيرون على التوقيعات قسرًا، ومع أن رئيس أساقفة نابولي رفض التأثير في رجاله رفضًا باتًّا ورغم أن المجلس البلدي في العاصمة امتنع عن التواقيع؛ فالمؤامرة نجحتْ وأصبح في اليد عددٌ من الاستدعاءات يسوغ تعطيل الحياة الدستورية.
ولم تقنع جماعة الكاماريلا بكل ما تم، وسارتْ في نابولي مظاهرةٌ معارضة، لعل الشرطة هي التي دَبَّرَتْها، وانفجرت قنبلةٌ بين الجماهير المتظاهرين، وانتهز أذنابُ البلاط هذه الفرصة لتنظيم حركة الإرهاب فقبض على اثنين وثمانين من وجوه الأحرار بتهمة انتمائهم إلى جمعية وحدة إيطالية الثورية، وكانت المحاكمة التي استمرت ثمانية أيام أشهر عبارة عن مهزلة قضائية زُورت فيها الكتب، واختُلقت التهم، وأَجبرت الشرطةُ الناس على الشهادات المزورة، ولجأت إلى كل أساليب الضغط والإرهاب لإجبار المتهمين على الاعتراف.
وأُلقي المتهمون في السجون مع المجرمين العاديين، ثم حكمت المحكمة على ثلاثة وعشرين منهم بالأشغال الشاقة المؤبدة أو الطويلة الأمد، وكان بينهم بويرتو وسبتمبريني، وأدهشتْ هذه المحاكمةُ الرأي العام حتى إنها جلبتْ شفقة أهل سانتالوقا للمضطهَدين وأخذ الفقراءُ يبيعون الخبز لشراء الشموع، ويشعلونها في الكنائس للحصول على عناية القديسين.
وقد احتج السفراء على مهازل تلك المحكمة وعلى سياسة البطش الظالمة، فكان جوابُ فرديناند أنه أرسل المحكوم عليهم مكبلين بالحديد إلى سجون وينسيده وأيشجيه، وكان المستر جلادستون وقتئذٍ في نابولي فاتصل بالمحكوم عليهم خفية، واطلع على فظاعة ما يجري، وقد شرح ما شاهده من فظاعة بكتابٍ أرسله إلى الكونت واميردن في نيسان سنة ١٨٥١، ونشر الكتاب في لندن فأحدث هزة اشمئزاز في جميع أنحاء أوروبا.
وظل الملك يزدري بالرأي العام العالمي؛ إذ قبض على ستة وأربعين عاملًا لمقاومتهم المظاهرةَ التي قام بها الجمع الموالي للملك قبل ثلاث سنوات وحكم على أكثر من نصفهم بالأشغال الشاقة لثماني عشر سنة، ثم تلا ذلك حبس ثلاثمائة شخص ومن بينهم عشرون نائبًا.
ومما يلفت النظر أن شهادة شخص كان قد حكم عليه خمس مرات بالاحتيال، كانت كافية لإدانة خمسة وعشرين متهمًا، وقد بلغ عدد المحكوم عليهم خلال سنوات الرجعية الأربع ما يربو على الاثني عشر ألفًا، ولم تنكر الحكومة أن عدد المسجونين السياسيين يبلغ أربعةَ آلاف، ويظن أن أربعين ألفًا من الناس قد وقفوا أمام المحاكم.
أما حركة الارتجاع في طوسكانه فلم تكن شديدة الوطأة شأنها في روما ونابولي بعد عودة البابا وفرديناند إليهما؛ ذلك لأن الحركة التي عاكست الثورة كانت شعبية من جهة؛ إذ انحاز إليها القرويون بحماسةٍ وإخلاص، ثم لأن الأحرار المعتدلين من جهةٍ أُخرى كانوا يرون في عودة الدوق خلاصًا من الدموقراطية الشديدة ومن الاحتلال النمسوي.
وكان أحرار طوسكانه كما وصفهم ريكاسولي: «صبيانًا ليس لهم عقل سليم ولا خُلُق ولا دراية؛ إذ تركوا الثورة تتلاشى من الضعف واهتموا كثيرًا بأنفسهم وبأموالهم.»
ثم بُوغت الأعيان الذين ألفوا الهيئة الحكومية بنشوب ثورة في ليفورته وأدركوا أنَّ خطر هذه الثورة قد تؤدي إلى الاحتلال النمسوي، فالتمسوا من فرنسة وإنجلترة أن ترسلا أسطولهما لتهديد الحركة، ولولا معارضة الدوق لقبلت فرنسة الدعوة ثم ولى الوجهاء وجوههم شطر بيمونته، ولكن حكومة تورينو أجابت بأنها لا توافق ما لم تشتركْ حكومة نابولي في الأمر وما لم يوافق الدوق الكبير نفسه على ذلك، وكان هذا سبق فارتبط بالنمسة واشترك في وضع الخطة لاستيلاء راديتسكي على البلاد.
وكان حين قابله المندوبون من هيئة الحكومة في جايته وَعَدَهم بإعادة الدستور وأكد لهم بأنه لا يُساعد على حركة استيلاء من جانب النمسويين، بَيْدَ أن رسوله «سريستوري» الذي أوفده ممثلًا عنه إلى فلورنسة كان يعلم بتواطؤ سيده مع النمسويين على الاحتلال، وقد اجتاز لواءٌ من قوات القائد النمسوي أسبر الحدودَ واحتل لوكا وتقدم نحو ليفورنه فقاومت المدينة الجمهورية مقاومة المستميت، ولما أعلن سريستوري أن النمسويين إنما أتوا من دون رضاء الأمير غَضِبَ أسبر بسبب هذه الكذبة، وأعلن بأنه لم يتحرك إلا بناء على رجاء الأمير نفسه، وراح النمسويون يتهددون الأمير بالخلع إذا لم يسلك مسلكًا مرضيًا فلم ير بدًّا من الخضوع لهم ودخل أسبر فلورنسة في ٢٥ أيار، وفي اليوم ذاته تألفتْ وزارةٌ جديدةٌ ومارست أعمالها وكانت مؤلفة من المعتدلين الذين كان يظن أنهم راغبون في إنقاذ الدستور.
وبينما كانوا يخافون أن تَترك الحامية النمسوية المدينة؛ كانوا من جهةٍ أخرى يسعون إلى تخفيض قوتها إلى الحد الأدنى القرويين المضطهدين إلى العصابات التي كانت تنافس الحكومة في أعمال العنف والإرهاب وخربوا إحدى المدن وقبضوا على المتفرجين في إحدى صالات المراسح وأفرغوا ما في جيوبهم.
أما دوقيتا وادي بووهما مودينه وبارمه فظلتا كالسابق تابعتين للنمسة، وقد عاد فرنسوا الخامس إلى عرش مودينه وشارل لويس إلى عرش بارمه بمساعدة الجند النسموي وأخذا يحكمان دوقيتهما بحماية هذا الجند، ولم يكن فرنسوا مستبدًّا مثل أبيه ولم يكن بطبيعته كثير الميل للظلم، ومع أن الأحكام التي صدرت ضد الأحرار كانت كثيرة وقاسية ومع أنه انتقم بلا رحمة من القرويين؛ فإنه لم يعاقب المتهمين السياسيين عقوباتٍ شديدة إذا قورنت بالفظاعة النمسوية في لمبارديه والروماني؛ فلذلك كانت الرجعية خفيفةَ الوطأة في مودينه.
وعلى نقيض ذلك جاوز الاضطهاد في بارمه جميع الحدود، وبعد أن أعلن شارل لويس عدم مشروعية جميع الأعمال التي قامت بها الحكومة المؤقتة تنزَّل عن الملك لابنه شارل الثالث، واعتبر الأمير الجديد رعيته ألعوبة لشهواته وظلمه، فألغى الدستور الموعود وظلت الإدارة العرفية مستمرة وأُغلقت الجامعات وفُرضت الغرامات الباهظة على أعضاء الحكومة المؤقتة، وأُرغم الموظفون والأساتذة والتجار والقضاةُ على حلق لحاهم وشواربهم، ولم يُسمح للأطباء والمحامين بمزاولة مهنتهم ما لم يبرزوا شهادة تؤيد حسن سلوكهم السياسي.
ولأجْل معاقَبة القرويين الذين اشتركوا بالثورة بأجمعهم مُنعوا من تسريح أي خادم ما لم يوافق عليه الموظف، بَيْدَ أنه أبرز ما يميز استبداده الجنوني إحياؤه عهد السوط، تصاغرت أمامه المظالم التي ارتكبها ضباط راديتسكي، فجلد ثلاثمائة شخص على الملأ خلال الخمسة الأشهُر الأولى من حكمه، جلد بعضهم لأنهم أنشدوا نشيدًا وآخرون لأنهم حاولوا أن يسكروا ضابطًا نمسويًّا، وبعضهم لأنهم انتقدوا قرارات الدوق، أو لأنهم حازوا نشرةً حرة أو اقتنَوا جريدة من تورينو، وضرب الأمير بيده بعض المارة لأنهم لم يحيوه.
يزعم «فليكس فون شوار فتسبرج» رئيس الحكومة النمسوية أن الطليان لا يستحقُّون المؤسسات التمثيلية التي قد تقودُهم إلى الاصطدام بالنمسة، ذلك الاصطدام الذي كان رجالُ الدولة في العهد الرجعيِّ يسمونه الفوضى، وكانوا يصرحون بأن الحرية البلدية والإدارية التي تتمثل في اقتراعٍ ضيق هي وحدها تلائمُ تقاليد إيطالية وتسد حاجتها، وأن دموقراطية تظل مقيدة بسلاسل الشرطة والتعليم الديني هي التي تكفل وجود حكومة أبوية تُعين على وفاء الشعب الأدبي والمادي.
وكان شبح الاشتراكية والتشاؤم الأحمر يُثير الفزعَ في رجال الدولة في بلدٍ تجهل الاشتراكية والريبييه، وكانت هوة سحيقة تقذف بين الأحرار والكاثوليك، فالنزعة الحرة في نظر الكاثوليك تعني ضياع الدين، ثم إن كل ضربة تصيب البابوية ينعكس صداها في الكنيسة وفي كل ما يهم الكنيسة، ويرى الكاثوليك أن الناس إذا تَخَلَّوْا عن السير وراء الكنيسة تفسد أخلاقهم وكانوا يخشون التفكير الحر ويعتقدون أنَّ سلطة الأب المطلقة هي وحدها التي تحفظ الشبيبة من عدوى الحركات الشائنة المشئومة.
وقد يكون التعليم ضارًّا إذا لم يشرف رجال الدين على التعليم الديني وإذا لم يجبر التلاميذ على التمسُّك بفكرة دينية واحدة، فالنكاحُ المدني مثلًا يسهل الطلاق والطلاق يدنِّس الطقوس، فالدولة يجب عليها أن تراعي الفضيلة وفوق ذلك كله يجب أن تبقى البابوية في مقامها الرفيع مَصْدَرًا لكل سلطة، وبينما كان الكاثوليك في إيطالية يفكِّرون بما ذكرناه؛ كان الكاثوليك في العالم يعتبرون البابوية هي مؤسسة كاثوليكية أكثر مما هي إيطالية.
وكان رجالُ الدولة في العهد الرجعيِّ يقولون أيضًا بهذه النظريات، فالعلاقاتُ الخارجيةُ للاتحاد الكاثوليكي الملكي يجب أن تُصبح حلفًا جديدًا، وكانت مودينه وبارمه قد جددتا الاتفاقية الخارجية مع النمسة التي فرضتْها عليها بالقوة، وكان فليكس فون شفارتسنبرج يرغب في أن يوسع هذه الاتفاقية بحيث يحولها إلى حلفٍ سياسيٍّ يجمع كل الدول الرجعية في إيطالية، فتدخل النمسة فيه باعتبارها مالكة إيالات إيطالية ويستهدف منع الحلف القيام بعملٍ مشترك لمكافحة الأحرار والصحافة وتأسيس جيش اتحادي وأن يتعهد المتعاقدون بأن يؤسسوا حرسًا وطنيًّا وأن لا يمنحوا حق الاجتماع وأن لا يقوموا بإصلاحاتٍ ما لم توافق عليها جميعُ الدول الداخلة في الحلف، وكان «بلداسيروني» رئيس وزراء طوسكانه في طليعة الرجعيين بالفكرة.
وأظهرت بارمه وروما استعدادهما للسير وراء بلداسيروني، بَيْدَ أن فرنسوا دوق مودينه لم يرحب بهذا المشروع. أما ملك نابولي فرفض الانضمام إليه رفضًا باتًّا، وكان رفضه هذا ضربةً قاضية على المشروع، وبما أن الاتفاق كان موجودًا بالفعل بين النمسة والدوقيات؛ فإن الباب ظل مفتوحًا لمن يريد أن يَلِجَه، أما المواد الوحيدة التي روعيت في المشروع — باستثناء الاتحاد التجاري — فهي الاتفاقُ البريدي بمنح النمسة حق فتح مخابرات الوطنيين واتفاقية ربط السكك الحديدية بين طوسكانه ولمبارديه والروماني.
أما النظرياتُ التي أيدها الاتفاق فكانت ذات نتائج إيجابية من الناحية الدينية، وكانت الكنيسة الكاثوليكية ضرورةً لازمة لرجال الدولة الذين أدركوا ما في سلطة البابا من قوةٍ يمتد سلطانها في كل أنحاء البلاد بواسطة الرهبان، ولكي تنال النمسة وطوسكانه حماية هذه السلطة فإنهما استعدا للتخلي عن الاستقلال الإكليروكسي وكانت طوسكانه أول من تنزلت عن هذا الحق، فوقع بلداسيروني في ٢٥ نيسان ١٨٥١ اتفاقية تمنح روما جميع ما كانت تطلبه وبذلك ظفر الأساقفة بحرية المخابرة مع المقام البابوي ومنحت لهم سلطة الرقابة على جميع المؤلفات الدينية.
وسلكت النمسة الخطة نفسها وكانت الحكومة سنة ١٨٥٠ قد منحت الأساقفة حرية المخابرة مع روما، ووعدت بأن تقدم السلطات المدنية مساعدتها للإكليروس في المحافظة على الضبط الديني في بعض الحالات، وأضحت الاتفاقية التي عقدت في سنة ١٨٥٥ عهد خضوع تام للكنيسة؛ إذ جعلت الحكومةُ التعليم الكاثوليكي تحت إشراف الأساقفة في جميع المدارس الأولية والثانوية ومنحتْهم حق الرقابة على المؤلفات اللاهوتية وحق القضاء في جميع الشئون الخاصة بالنكاح، واستمرت الكنيسة في سيرها الظافر حتى تناول سلطانها أخيرًا مودينه، وبهذا يكون مشروعُ الحلف الرجعي العظيم قد أصاب بعض الفوز.