بعد فيلافرنكة
أثارت أخبار فيلافرنكة استياءً عامًّا في إيطالية، فكأن الحرب قد نشبت للاشيء، وكأنما ذهبت جميع الأموال التي أُنفقت والنفوس التي أُزهقت والجنود التي بُذلت سُدًى، ولم تكسب بيمونته من كل هذا الغرم إلا لمبارديه فقط، أما فنيسيه وطوسكانه والروماني فلم تكد تتنفس الصعداء بضعة أسابيع حتى رأت جميع آمالها تنهار؛ إذ خانها حليفها وتآمرت أوروبا كلها ما عدا إنجلترة ضدها، وأخذ الطليان يجهرون بسخطهم على الإمبراطور الذي وهن عزمه في الساعة الحاسمة، وقد استقبلتْه ميلانو وتورينو حين عودته بإعراضٍ وصمت بليغين وهما اللتان استقبلتاه منذ أسابيعٍ بحماسةٍ فائقة، وعلقت صور أورسيني في أوجه الدكاكين، وقد شاع أن الملك أخبر الإمبراطور بأنه لن يوقع على المعاهدة.
أما كافور فقدم استقالته، وقال لكوسوت ذات مرة: «لقد أهانني الإمبراطور أمام ملكي … لن يتم الصلح … وإذا اقتضى الأمر فسأصافح ديللا مرجريتا بيد ومازيني باليد الأخرى وسأغدو ثوريًّا متآمرًا.» ولما أفاق الطليان من ذهولهم وجدوا في نفوسهم من القوة ما يستطيعون بها المقاومة، فكاد الشعب بأجمعه يتآمر لإحباط مشاريع الملوك العظام والعمل في سبيل سلامته وحريته واستقلاله.
وهنا يجدر بنا أن نسجل ما حدث في أقطار إيطالية في هذه الفترة ونبدأ بطوسكانه فنقول: لقد كان الدوق الكبير قبل الحرب مصرًّا على التمسُّك بسياسة الحياد، فرفض تلبية طلب النمسة بإرسال كتيبة إليها، وقد طلب إليه مندوب كافور بون كومباني الدخول في الحلف وأرادت حكومتا فرنسة وبيمونته إغراءه على قبول هذا الطلب بالإعراب عن استعدادهما لحماية عرشه، وكان بعض الأشراف في طوسكانه لا يزالون يقولون بوجود حكم ذاتي في طوسكانه، ويرغبون في إنقاذ آل لورين ويرون أن تحقيق ذلك يكون بتحالف الدوق مع بيمونته.
ثم إن الدومقراطيين أنفسهم كانوا على استعدادٍ للتساهُل فيما إذا وافق الدوق الكبير على شروط كافور، بَيْدَ أن لئوبولد بقي متصلبًا في رأيه ولم يكترث لنصائح الأشراف المخلصين ولم يلتفت إلى إرشادات وزرائه ولم يُقِمْ وزنًا لنفور جيشه منه، وقد جعل رفضُهُ الحلفَ الثورةَ أمرًا لا مناص منه، فاتفق الحزبان القوميان ضده وقرر تأليف حكومة تكون حليفة لبيمونته.
وبلغ من تضامن الأحزاب في هذا الشأن أن أنصار مازيني بأن يتولى الأشراف الأحرار قيادة الحركة، وقد اضطرهم عنادُ الدوق الكبير إلى أن يبدءوا بالعمل توًّا، وأخذ الشعب والجيش يهددان بالثورة وصمم الأشراف — بتحريضٍ من كافور — على القيام بمظاهرة تُجبر الدوق الكبير على اختيار أحد الحالتين: «الحلف مع بيمونته أو التنزُّل عن العرش مؤقتًا.»
وفي صباح ٢٧ نيسان تأكد الدوق الكبير من خيانة الجنود بمطالباتهم إياه السماح لهم برفع العلم المثلَّث الألوان، ولما حاول ابنُهُ تحريض المدفعية الموجودة في القصر على التأهُّب لقصف المدينة أجابه الضباط بالرفض الباتِّ، فما كان من الدوق الكبير إلا أن أنكر موقفه السابق، وعرض على المتظاهرين منح الدستور وعقد الحلف مع بيمونته، ولكن المتظاهرين رفضوا الموافقة على هذا المنح وطلبوا إليه التنازُل عن العرش فاضطر في مساء ذلك اليوم إلى الهرب من فلورنسة.
وحذت مدن طوسكانه الأخرى حذو فلورنسة فأرسلت ٢١٧ ناحية من ٢٤٦ ناحية موافقتَها العاجلةَ على ما تم، وتأسست على إثر ذلك حكومةٌ وقتية نادت بكافور عمانوئيل دكتاتورًا عسكريًّا طول مدة الحرب، وقد خشي كافور أن يُمانع نابليون في ذلك؛ لأنه كان ينوي أن ينصب أميرًا إفرنسيًّا على عرش مملكة إيطالية الوسطى إذا استطاع أن يقوم بذلك من دون أن يجلب سخط أوروبا.
ولكي يحول الإمبراطور دون أي حركة جمهورية أرسل فيلقه الخامس إلى طوسكانه تحت إمرة الأمير نابليون؛ ليمهد سبيلَ ارتقائه العرشَ، ولكن كافور توفَّق إلى إقناع الإمبراطور بالتخلي عن نيته بشأن عرش طوسكانه، ولكن الإمبراطور لم يكن جادًّا في هذا التخلي، وإنما أدرك أن مشروعه يُثير شكوكَ أوروبا نحوه.
أما الأمير نابليون فقد جس نبض فلورنسة بعد وصوله إليها واقتنع بأنه ليس ثمة أمل له في النجاح، وقد تأثر بالاستقبال الحافل الذي استُقبل به وغدا المدافع الغيور عن فكرة إلحاق طوسكانه ببيمونته، وبذلك دلت الأمور على أن البلاد سائرةٌ نحو الوحدة، وقد عين بون كومباني مندوب كافور مندوبًا ساميًا عن بيمونته في طوسكانه، وكانت وزارتُهُ تتألف خصيصًا من الأشراف؛ أي أنصار الحكم الذاتي ربما كانوا يتوقعون عودة آل لورين، إلا أن وطنيتهم جعلتهم لا يتخلون عن كومباني، وأصبح ريكاسولي الذي تولى وزارة الداخلية فيها المهيمن على الوزارة، وقد امتلأت نفسه غبطة بمشاهدة الرأي العام يشتد ميله نحو الانضمام إلى بيمونته والخروج بطوسكانه من عزلتها المخيفة.
وأرسل الطوسكانيون بعد أول انتصار في باليسترة بيانًا يعلنون فيه فيكتور عمانوئيل ملكًا على إيطالية، ووقع «ريكاسولي» وزميله «سالفا جنولي» عليه رغم غضب المتحزبين لفكرة الحكم الذاتي، بَيْدَ أنه حينما أخذ كافور يشجع الدعاية الانضمامية بشدة خشية أن يعود الإمبراطور إلى مشاريعه القديمة؛ احتجَّ ريكاسولي على هذه الدعاية التي ترمي إلى القضاء على الامتيازات الطوسكانية المحلية؛ لأن ريكاسولي لم يكن يستهدف الاندماج الكلي ببيمونته حتى تصبح إيالة محرومة من تشريعها الاجتماعي الأكثر رقيًّا منه في الدول الأخرى ومن تقدمها في الناحيتين الثقافية والفنية، بل كان يرغب في أن تُصبح طوسكانه عضوًا متساويًا للأعضاء الذين تتألف منهم مملكة إيطالية العظيمة.
وأخذ أمثال كابوني الذين ظلوا مترددين طويلًا بين شعورهم القومي وتعلُّقهم بالعرف والاستقلال الطوسكاني؛ يجهرون برغبتهم في الوحدة مع بيمونته بشروطٍ وعلى ألا يكون هناك اندماجٌ تام، أما أنصار الحكم الذاتي الأقحاح فكانوا يريدون أن يَحُولُوا دون تأسيس دولة نابليونية مهما كلفهم الأمر، فكان الانضمام إلى بيمونته وحده يَقِيهم شر ملكية الأمير نابليون وجمهورية مازيني معًا، فأبرقت الوزارة بهذا النبأ وعلى أثر إعلان ميلانو الانضمام بأسبوعٍ واحد قررت الوزارة — بالإجماع — سيادة فيكتور عمانوئيل على البلاد، وارتأى كافور أن سبيل إقناع الإمبراطور بالرضاء عن انضمام طوسكانه لبيمونته إنما يكون بالبرهنة على أن الطوسكانيين يريدون الانضمام إلى بيمونته بالإجماع، وقد تَجَلَّى ذلك الإجماعُ بورود طلبات الانضمام المختومة من ٢٢٥ ناحية من مجموع ٢٤٦ وهذه النسبة تمثل أحد عشر من اثني عشر من نفوس الأهلين.
وبينما كانت الحركةُ القومية في طوسكانه تَعُمُّ وتتقوى أسبوعيًّا؛ كانت الأمور في دول البابا تسير في صعوبةٍ وعُسْر، وقد حذت جميع مدن الروماني حذو مدينة بولونيه، وفي أسبوع واحد امتدت الثورة إلى جميع أنحاء المارك إلى أنكونه وفي أوميريه إلى «بيروزه».
وبعد أن أصدر البابا قرارَ تحريمٍ بحق القائمين بالحركة استعدَّ للقضاء عليها بالقوة، فهاجم الجنود السويسريون مدينة بيروزه في ٢٠ حزيران، ومع أن أحسن رجال المدينة كانوا قد ذهبوا للقتال في لمبارديه، ولم يكن بِيَدِ المدافعين عنها سوى بضع مئات من البنادق القديمة؛ فإن الذين دافعوا عنها استماتوا في دفاعهم.
وأمرت حكومة البابا قائد السويسريين بأن يستعمل أقصى الشدة؛ لتصبح عبرة لغيرها، فأباح القائد لجنوده نهب المدينة وانتُهكت حرمات الكنائس وأُحرقت الدور ودُكت دكًّا وقتل النساء والشيوخ، وقد كان البابا يقدس هؤلاء القُساة على فظائعهم وأعد وسامًا لتخليد هذا العمل الشنيع، وأدى سقوط بيروزه إلى خضوع أوميريه والمارك فأعادت حكومة البابا نفوذها إلى حدود الروماني، ولم تستطع القوات السويسرية التقدُّم أكثر من ذلك لأن بعض الجنود البيمونتية كانوا في بولونيه، وأخذ المتطوعون يحتشدون لدفع أي عدوان.
وكان أول عمل قامت به الجمعية «لاجونتا» الوقتية في الروماني إعلانها قبول دكتاتورية فيكتور عمانوئيل من دون قيد، ولم يكن في الروماني من أنصار الحكم الذاتي سوى أفراد قلائل، وعلى إثر ذلك نصبت حكومة تورينو دازجيلو مندوبًا ساميًا عن الملك، بَيْدَ أن الإمبراطور نابليون عاد فقابل هذا العمل بالرفض مع أنه صرح إلى أحد أعضاء جمعية جونتا بأنه لن يوافق على إعادة سلطة البابا إلى بولونيه، إلا أنه كان من جهةٍ أخرى يخشى معارضة الحزب الإكليريكي في فرنسة، وكان عازمًا على سحب جنوده من روما حَالَمَا يتم طرد النمسويين من شبه الجزيرة، وكان نابليون — دون ريب — لا يزال يحتفظ بأملٍ ضعيف في حل القضية بإقناع البابا على التخلي — في طيبة خاطر — عن بعض أجزاء دويلاته، وأن ينضم إلى مملكة إيطالية الوسطى. وكان الأحرار الإفرنسيون يتمزقون غضبًا لمظالم بيروزه.
ويظهر أن الإمبراطور كان قد أفهم كافور قبل فيلافرنكة بأنه يساعده على أخذ الروماني، ولعله اشترط عليه بأنْ يمارس البابا حقَّ سيادته عليها، وبعد مرور بضعة أيام على هذا الحديث وصل دازجيلو إلى بولونيه متزوِّدًا بصلاحياتٍ جُعلت محدودة؛ وذلك عملًا برغبات الإمبراطور، بَيْدَ أنه ضرب بالتعليمات التي أُصدرت إليه عرض الحائط وقبض على زمام الحكومة بالفعل، وكان كافور قد تخلى في ذلك الوقت عن خطته بشأن أوميريه، فأخذ يشجع أهل المارك على الثورة بهمة.
يتضح لنا مما مضى أن الرغبة في الوحدة قبل فيلافرنكة قد اشتدت في جميع أنحاء إيطالية، وكان اكتشافُ المؤامرة التي دُبِّرَتْ في قصر الدوق الكبير ووجود ابنه في الجيش النمسوي في معركة صولفرينو قد أزالا اعتبارَ آل لورين في نظر أشد المخلصين لهم، كما أن حادثة بيروزه حملتْ أهل الروماني على التسلح لمقاومة متطوعة البابا مهما كلفهم الأمر.
وأخذت الرغبة في تأسيس مملكة قوية تحتوي جميع أقسام إيطالية الشمالية والوسطى؛ تَقْوَى وتشتد باستمرار في نفوس الجماعات القومية على اختلاف نزعاتها، على أن بعض الناس كانوا لا يزالون يميلون إلى الحكم الذاتي وأمثال كابوني وريد ولفي قد وافقوا على الانضمام مكرَهين؛ لأنهم لم يجدوا حلًّا آخر غير الانضمام، وجاءتْ حادثة فيلافرنكة فعدلت الآراء؛ إذ ظهر أن الاتحاد أمرٌ يصعب إنجازُهُ ما دام النمسويين في فنيسيه وما دام جيش البابا يهدد مقاطعة لاكاثوليكة في الروماني ودوقة مودينه يتحين الفرصة لاجتياز نهر بو بجنوده، فالاتحاد في حالة وجود هذه العوامل سيظل حبرًا على ورق أو ساحة نزاع بين المبادئ سيجرُّ إلى الحرب عاجلًا أو آجلًا.
وأصبحت فكرة الوحدة عقيدةً ولما حاول رتازي الذي تولى رئاسة الوزارة بعد كافور أن ينفذ شروط المعاهدة، وجد نفسه أمام اجتماع شعبيٍّ عامٍّ وتآمر شامل للقضاء على هذه المعاهدات والحيلولة دون تنفيذ شروطها، ووجد الطليان في الوسط زعيمين من الطراز الذي يحتاجون إليه رجلين عنيدين صلبين، حازمين لا يخافان المسئولية ولا تؤثر فيهما المخاطرُ والدسائسُ ولا التملقُ ولا الوعيدُ.
أما الأول فهو لافارينا، وقد برهن كافور عن نظرٍ ثاقب بعيد بإرسال زميله وصديقه لافارينا إلى مودينه لما ثارت بعد معركة ماجنتا، وكان لافارينا طبيبًا من أهل رافينة، وقد اشترك في عدة مؤامرات، وبعد أن ظل في المنفى مدة قصيرة عاد بعد العفو الذي أعلنه البابا بيوس، ولعب دورًا خطيرًا بين الأحرار المعتدلين في إيالته، والتجأ سنة ١٨٤٩ إلى بيمونته ولعله غدا أولَ نصير لكافور في مجلس الأمة، وكان لافارينا رجلًا شعبيًّا شُجاعًا نزيهًا متحليًا بإرادةٍ قوية وعزيمةٍ ماضية، وقد جعلتْه معاهدة فيلافرنكة لا يعبأ بأوامر فرنسة وبتهديدات النمسويين.
أما الثاني فكان ريكاسولي زعيم طوسكانه وهو أجملُ وجوه تاريخ إيطالية الحديثة، كان بتينو ريكاسولي من الأشراف الأحرار الذين أسسوا جمعية جورج فيس، وتزعموا حركة الدستور في طوسكانه سنة ١٨٤٧-١٨٤٨ إلى أن تسلم زمامَ الحكم للدموقراطيون، وأصبح منذ سنة ١٨٥٦ شديد التحزُّب للوحدة مؤمنًا بأن إيطالية سوف تنال حريتها بيدها، وكان يكره الاعتماد على سياسة الأجنبيِّ والاستعانة به، ومع أنه لم يرتح للحلف الإفرنسي إلا أنه اعتزم أن يجعل طوسكانه مثلًا في الضبط والتضحية في سبيل الوحدة إلا أنه لم يكن يرغب قط في أن تصبح إيطالية الجديدة بيمونته مكبرة، ولم يوافق على أن تتخلى طوسكانه عن حضارتها القديمة ومؤسساتها الإنسانية.
وكان ريكاسولي يَمُتُّ إلى أسرةٍ عريقة في زعامتها أوتوقراطيًّا بكل معنى الكلمة، وجريئًا قوي الاعتداد بنفسه، وكان ملاكًا خشن الطباع نشيطًا، يعامل مزارعيه بقسوٍة شديدة في سبيل تمدينهم وإغنائهم، وكان يأنف من الانحناء أمام الملك أو الشعب.
أما من حيث العقيدة السياسية فكان دموقراطيًّا صادقًا يكره البلاطات كره الجمهوريين لها، ويحتقر الإكليروس احتقارًا، ويدعو إلى أن تخضع الكنيسة للدولة، ويمقت البلاط البابوي أشد المقت.
وحالما بت في معاهدة فرنكة أبرقتْ حكومة تورينو إلى مندوبها في بولونيه وفلورنسة ومودينه وبارمه طالبة إليهم أن يتركوا مناصبهم وأن يعودوا، غير أن كافور قد عقد النية على أن لا يتخلى عن مناصبه — كان يتولى إذ ذاك عدة وزارات — قبل أن يبذل آخر جهد لإنقاذ مشروعه فأبرق لفارينا «السلاح والمال.» وأوعز إلى دازجيلو بأن يستمر على عمله من دون أن يهتم بمعاهدة فيلافرنكة، وأوصى ريكاسولي بأن يبقى في منصبه وأن يدعو إلى عقد مجلس تمثيلي، وحثهم الملك على أن يكونوا أهل مضاء وعزيمة، وكان المندوبون من الرجال الذين خُلقوا لاقتحام العقبات وتذليل المصاعب، فانسحب بون كومباني وترك منصبه لريكاسولي رجل الساعة، أما دازجيلو فرفض العودة قبل أن يُقيم حكومة مستقرة وقبل أن يجهز قوة من المتطوعين لحماية الحدود ضد الجنود السويسريين في أوميريه.
أما لافارينا فقد ذهب إلى مودينه بلا جنودٍ ولا مال تاركًا مهمته التمثيلية ليصبح في اليوم التالي دكتاتورًا على مودينه أولًا وعلى بارمه ثانيًا، وقد قال: «سأموت قبل أن أطرد.» وأبرق إلى ريكاسولي يقول: «أنا صاحب الشعب، بالاتحاد في العمل ننال الظفر وإذا اقتضت الأمور الجرأة فأنا لها.» ولو تخلى المندوبون عن مناصبهم لانقطع الرجاء في إيطالية الوسطى، وكان الشعب يسير وراءهم كالبناء المرصوص حتى إن لافارينا قال: «إن إيطالية لم توقع على معاهدة فيلافرنكة.» ولم يحدث أي اختلافٍ في الرأي بين الأحرار والمحافظين في موضوع المعاهدة واستنكارها، فبينما كان ولفي الديمقراطي وصاحب المصرف في فلورنسة يجهز حرسًا قوميًّا راح ريد ولفي الذي ظل إلى تلك الساعة مترددًا يطالب باستئناف القتال، وهكذا، لم يكن في إيطالية إلا شعبٌ مقدامٌ يقوده رجالٌ لا ترهبهم المخاطرُ قد صمموا على أن لا يتركوا الميدان.
وكانت وزارة تورينو إذ ذاك فاقدة الشجاعة تعوزها العقيدة والجرأة، قد ارتضت أن تتخلى عن الأهداف التي جاهد الشعب لبلوغها، وحدت الدويلاتُ الأربعُ صفوفها حالًا للدفاع عن نفسها، ولا سيما لأن جنود البابا كانوا على أُهبة اجتياز الروماني من حينٍ لآخر، وكان محتملًا أن يعاونهم مددٌ من نابولي وإسبانية كما أن دوق مودينه قد يستطيع التقدُّم من فنيسيه ثم يجتاز نهر بو ويهدد فلورنسة، وكان ثمانية آلاف من المتطوعين في لاكاثوليكة على حدود أوميريه.
وقد استبقى لافارينا بالاتفاق مع ريكاسولي القوات الطوسكانية التي عادت من ميدان القتال لتقوم بحراسة خط بو، وبإيعازٍ من دازجيلو دعا إلى إقامة حلف عسكري بين الدويلات الأربع، وتجنيد جيش لا تقل قوته عن خمسة وعشرين ألفًا، وقد تم التحالُف بين مودينه وطوسكانه والروماني ثم انضم إلى هذا الحلف أخيرًا بارمه، وأوفدت حكومة تورينو — بعد ترددٍ طويل — الجنرال «فانتي» أقدر قادة بيمونته لتنظيم جيش الحلف وجعلتْ غاريبالدي معاونًا له، وبذلك أصبحت إيطالية الوسطى في مأمنٍ من الاستيلاء عليها، ورأى نابليون استحالة عودة الأمور إلى حالتها السابقة من دون استخدام السلاح، كما أدرك أن طوسكانه نفسها لا ترغب في عودة الدوق الكبير إليها.
وقد رفض الإمبراطور في أول الأمر كل تدخل أجنبي في شئون إيطالية، وفرح جدًّا بالحصول على حجة تساعدُهُ على التخلُّص من الوعد الذي أعطاه للنمسة، وارتأى عقد مؤتمر من الدول المعظمة فيحتمي وراء حكمه ويتخلص من عهوده المتناقضة، واستند إلى احتجاج رسل الشديد، وأعلن أنه لا يوافق على تدخل النمسة في شئون طوسكانه والروماني.
وترك في لمبارديه خمسين ألفًا من جنوده وأيقن أن التهديد يكفي لإيقاف النمسة عند حدها. وبعد أن اطمأنت حكومات الوسط إلى نيات الإمبراطور شعرت بأن الثبات والشجاعة وحدهما الكفيلان ببلوغ آمالهما، وما دام الإمبراطور يرفض أن يحميها وما دامت بمعزلٍ عن تدخُّل النمسة؛ فإنها أصبحتْ قابضة على مصيرها بيدها، وقررت قبل ذلك دعوة المجالس التمثيلية في كل من الدويلات، وجرى انتخابٌ عام لهذه المجالس، فاز الأحرار فيها في جميع الأنحاء وقد قررت هذه المجالس — بالإجماع — سقوط الحكومات القديمة وإلحاق الدويلات الجديدة بمملكة فيكتور عمانوئيل. وأمام هذا الإجماع الرائع تلاشت النعرات الحزبية، وأظهرت إيطالية الوسطى من التسانُد ما جلب إعجابَ أوروبا.
فلم يبق الآن أن نرقب ما تتخذه حكومة بيمونته من إجراءاتٍ وتدابير، وكان معلومًا أن وزارة رتازي لم تؤلف إلا لمدةٍ مؤقتة ريثما يعود كافور للحكم، وكانت مهمة هذه الوزارة احترام أحكام معاهدة فيلافرنكة والأخذ بتعليمات الإمبراطور إلى حدٍّ ما، ومهما كانت الفكرة البيمونتية الضيقة الحدود فإن رئيسها رتازي لم يكن يخلو من بعض إيمان بالوحدة، فلم يكن في مقدور هذه الوزارة أن تتخلى تمامًا عن القوميين.
وكان الملك لا يزال على اتصالٍ ودي بغاريبالدي مما دل على أنه يرغب في استخدامه عند الملمات، ويظهر أن مخاوفه بشأن ممتلكات البابا قد زالت حين لمس شدة الشعور الساخط الذي وَلَّدَتْه معاهدة فيلافرنكة، أما وزراؤه فكانوا لا يعبئون بلعنات البابا وإنما كانوا لا يجرءون على إغضاب الإمبراطور، ويدركون صعوبةَ التخلُّص من هذا الحليف الإفرنسي الذي غَلَّ إرادتهم والذي سيطالب في حالة انضمام إيطالية الوسطى إلى بيمونته بصافويه تعويضًا له، يتهدد بيمونته ويجعلها وجهًا لوجه أمام النمسة إذا ما غضب الإمبراطور وسحب جنوده وجماعته وفسح المجال لتدخل النمسة، ومع أن رتازي كان راضيًا بالتخلي عن صافويه إذا استطاع إنقاذ نيس، إلا أن زملاؤه لم يجرءوا على الاضطلاع بهذا العبء ومواجهة ما سيولده من التذمر العام إذ هم ضحوا بمهد الأسرة المالكة وبوطن غاريبالدي، وقد رفضوا في أول الأمر الموافقة على مبدأ الاتحاد آملين أن يظفروا بموافقة الدول الأوروبية في المؤتمر المَنْوي عقده على قرار الدويلات بشأن الانضمام إلى بيمونته، وقبل أن تصل وُفُود الدويلات الأربع إلى تورينو رأى الوزراء أن يجسوا نبض نابليون.
وكانت سياسية الإمبراطور تقضي بمعارَضة بيمونته في ضم الروماني وطوسكانه إليها لا خوفًا من استياء الكاثوليك الإفرنسيين فحسب، وإنما كانت سياسة فرنسة التقليدية تعارض تأسيس مملكة إيطالية قوية كي لا تنضم يومًا ما إلى حلفٍ ضد فرنسة، وكان الإمبراطور في الوقت ذاته يأمل في إقناع البابا بيوس بمنح الحكم الذاتي إلى الروماني على أن يحتفظ البابا بسيادته عليها وبذلك يُرضي القوميين.
ثم إنه كان يُعارض — كل المعارضة — في إلحاق طوسكانه ببيمونته؛ لعلمه بأن اتساع مملكة فيكتور عمانوئيل إلى ما وراء جبال الأبنين سيؤدي عاجلًا أو آجلًا إلى وحدةٍ إيطالية، وبذلك تتعقد القضية الرومانية وتزداد خطورة، على أن سير الأمور كان يتوقف إلى حدٍّبعيد على موقف إنجلترة وعلى تصرُّف وتدبير الطليان أنفسهم.
وقد تمسك الإمبراطور الآن بمشروعه الاتحادي لدفع احتمال الوحدة والانضمام، ولما وردت إليه رسالة تورينو تستفتيه رأيه في الانضمام؛ عارض المشروع فورًا، فلما جاء وفد طوسكانه في ٣ أيلول إلى بيمونته قررت الحكومة عدم الموافقة على الانضمام، وطلبت إلى الملك أن يتهرب في جوابه، غير أن الملك في محادثةٍ خصوصية مع الوفود شجعهم على المضي في طريقهم كأنما الوحدة أمرٌ لا ريب فيه.