أنصار الوحدة
أدركت الجماعات القومية بأن العمل لَمَّا يتم، وأن ضم إيطالية الوسطى لم يكن سوى الخطوة الأولى، وأنه ما لم تنضم إيطالية الجنوبية وفنيسيه وما بقي من ممتلكات البابا إلى المملكة الجديدة فلن تهدأ الأحوال، وإذا هدأتْ فلمُدَّةٍ قصيرة فقط، ولم تختلف هذه الجماعاتُ فيما بينها إلا على الوقت الذي ينبغي أن يتخذ فيه التدبير الأول وعلى كيفية هذا التدبير، فمازيني كان مقتنعًا بأنه لا يمكن أن ينتظر من كافور بأن يبدأ بالسعي؛ فلذلك استمر على العمل الذي توقف حينما استدعى غاريبالدي إلى الروماني، وكانت خطته لا تتخلف عن سابقها وهي إعدادُ العدة لإيقاد الثورة في صقلية وأومبريه في آنٍ واحد وتوجيه قوى الثورة نحو نابولي، وإذا ما بدأت الثورة فإن الرأي العام كفيلٌ بإجبار حكومة بيمونته على مَدِّ يد المعونة إليها.
وكان كريسبي أحد زملائه الأشداء قد أسعر ثورة في صقلية في كانون الأول وأمال إلى جانبه فاريني ولعله أقنع رتازي بتقديم مساعدة الحكومة للحركة، وكان مازيني وكريسبي يسعيان لكسب غاريبالدي حتى يصبح قائدًا لحركتها، أما العقلاء من الحزب المتطرف مثل مدويجي وبرتاني فكانوا يخشون أن تنتهي الحركة بالفشل كما انتهت مشاريعُ مازيني المشئومة؛ ولذلك اشترطوا بأن يتسلم غاريبالدي زمام الثورة وكانوا يرغبون من صميم قلوبهم بأن يتم التفاهُم بين كافور وغاريبالدي.
أما كافور فقد اشتدت عزيمته للظفر بالوحدة وهو الذي قال بعد معاهدة فيلافرنكة: «إنهم منعوني من تكوين إيطالية بالسياسة بادئًا من الشمال، فسأخلقها بالثورة بادئًا من الجنوب.» وكان أحيانًا يرى بأن على الجنوب أن ينتظر وأنه يحسن بأن تبدأ الحركة أولًا بالهجوم على فنيسيه، ومهما يكن الرأي فإنه عزم بكل قوته على تنفيذ منهج الوحدة بأجمعه عاجلًا أو آجلًا، وقد كتب دازجيلو يقول: «لقد أصبحت الوحدة منارنا.» وكان الملك جزوعًا أيضًا ولم يكن أي اختلاف بين كافور ومازيني وريكاسولي وغاريبالدي والملك فيما يتعلق بضرورة السير إلى الأمام، وإنما كانوا يختلفون في الهدف الأول: أيكون فنيسيه وممتلكات البابا أم الجنوب.
وكانت فنيسيه توشك أن تفقد رجاءها بعد معاهدة فيلافرنكة وأخذ أهلها يفرون بالآلاف مجتازين الحدود؛ للانخراط في سلك الجيش الإيطالي، أو لتدبير المؤامرات في مودينه أو ميلانو، ولَمَّا فازت القضية القومية في إيطالية الوسطى تنفست الإيالة الصعداء وامتدت شبكةٌ من الجمعيات السرية في جميع أنحائها، وقد شجع اضطهاد الحكومة النمسوية والضرائب الباهظة على الثورة، فأخذ كافور يقرع آذانَ العالم الأوروبي بالحديث عن الآلام التي تُكابدها فنيسيه.
وكانت الحركة قومية لا بابوية بطبيعة الحال، ومن شأنها أن تؤدي عاجلًا أو آجلًا إلى انهيار السلطة الزمنية للبابا، وقد شرع كافور حملته بالقيام بالإصلاحات في جميع الإيالات المحررة، فاشترع فيها نظامَ النكاح المدني وألغى فيها الأديرة، ولعل الإصلاحات سارتْ فيها شوطًا بعيدًا لم تبلُغْه بيمونته، فطُرد اليسوعيون من جميع الأنحاء وأصبحت أملاكهم ملكًا للأمة، وألغيت الاتفاقية الدينية في لمبارديه وتمتع الناس بحرية العبادة.
أما في بودينه وبارمه فنفدت قوانين سكاردي وأباح جيرباني في الروماني التعبُّد ومنع الإكليروس من مراقبة التعليم والأمور الخيرية، أما في طوسكانه فألغى ريكاسولي وصالفا جنولي الاتفاقية الدينية وأعاد قوانينَ لئويولد، ولبى رهبان لمبارديه الذين يفوقون جميعَ زملائهم في إيطالية بالوطنية أوامرَ حكومة بيمونته وتحرر رهبانُ طوسكانه من نير الاتفاقية التي فَرضت عليهم الخضوع للأساقفة، أما الإكليروس الفقير فتلقى التشريع الذي يزيد في وارداته الضئيلة بسرورٍ وارتياح.
أما روما فلم تلق فيها الدعوةُ إلى المصالحة والسلم آذانًا صاغية، وإذا كان بعض الرُّهبان الأحرار يرضون عن المبادئ الواردة في رسالة «البابا والمؤتمر»، ويوافقون على أن تتقلَّص ممتلكات الحكومة؛ فإن أكثر أنصار البابا كانوا يعتبرون حقوق البابا مقدسة لا يجوز مَسُّهَا، وأَنَّ التخلي عن الروماني معناه الاعتراف بالتخلي عن الإيالات الأُخرى أيضًا، وكان البابا منذ مدة طويلة قد حَرَمَ جميع الذين اشتركوا بالثورة، وحَكَمَ بكفر دازجيلو؛ لأنه قال لأهل بولونيه: «خلق الله الإنسان حرًّا في آرائه الدينية والسياسية.»
وقد صب أنصار البابا كُلَّ سخطهم على بيمونته وكانوا يعتبرون بيمونته مرادفة للثورة فهُمَا شيءٌ واحد، وفي شهر تشرين الأول سلمت الحكومة البابوية الممثل البيمونتي في روما جواز سفره، ثم رفض البابا بعد ذلك كل سعي في التفاهُم وكان أنتونللي يعتمد قبل كل شيء على الجيش، ولكنه كان لا يستطيع أن يركن أبدًا إلى الجنود من الأهليين؛ لأنهم كانوا يجندون من سقط المتاع. وعليه، فقد وجه نداء إلى أوروبا الكاثوليكية يستمد منها فيه الجُنْدَ والمال للدفاع عن العرش البابوي ضد الحملات الإلحادية، ومع أن الكاثوليك لم يجودوا بما لهم فقد تدفَّق المتطوعون من النمسة وسويسرة وبلجيكة وفرنسة وأيرلندة أفواجًا للدفاع عن مصلحة الكنيسة ضد الإلحاد الثوري الذي يهدد أوروبا!
إن عملهم هذا لا يمكن تصويبه لأنهم قد أتوا لصيانة الفساد الذي لم يتحملوه هم في بلادهم، وجاءوا يقاومون الشعب المضطهد جد الاضطهاد، والذي يُجاهد للحصول على حريته، وكان بينهم فتيانٌ مثقفون من الشجعان الأتقياء الذين ينتمون إلى أَشْهَر الأُسَر، وقد تركوا قصورهم الهادئة من بريطانية وبلجيكة وهرعوا للدفاع عن قضية لا يليق بهم أبدًا أن يُضحُّوا بأنفسهم لأجلها.
ولقد أصبح لدى أنتونللي في نهاية آذار خمسة عشر ألفًا من المتطوعين ما عدا خمسة آلاف هم قوام الجيش البابوي المنظَّم، وإذا أضفنا إليهم الحاميةَ الإفرنسية في روما، ونظرنا بعين الاعتبار إلى وُجُود جيش نابولي في الخط الثاني؛ أدركنا تحشيدَ قوة كافية في أومبريه والمارك للدفاع عنهما، وقد توقع أن يسترد بهذه القوات الروماني أيضًا، واختار أنتونللي القائد الإفرنسي الجنرال «لاموسيير» قائدًا للقوات وكان هذا القائد قد ترك فرنسة على إثر الانقلاب الحكومي فيها، وأصبح الآن البطلَ المكافحَ عن البابوية.
وصَمَّمَ القوميون على أن لا يتركوا أومبريه والمارك رغم خصومة العالم الكاثوليكي ونقمته وهم لم ينسوا حادثة بيروزه الفظيعة، أما الحكومة البيمونتية فقابلتْ أعمال أنتونللي بإنزال الضربة على الأساقفة المعارضين، وتهدد قسم كبير من البيمونتيين بعدم حضور القداس.
وأما الأحرار الكاثوليك المتدينون الذين كانوا يدركون الخطر؛ فكانوا يرون أن الدواء في انهيار السلطة الزمنية، فلا توجد — في نظرهم — أَيَّةُ مُغَالَطة تستطيع أن تُخفي بطلان الأسباب التي يستند إليها في إثبات مشروعية استقلال البابا بينما يقوم عرشه على حراب فرنسة، وبينما هو نفسه يستند إلى النمسة لحمايته الخاصة ضد رعيته.
وأخذ الناس يشعرون بأن البابا لا يُريدُ الإصلاحَ ولا يستطيع أن يعمل به، ولن يرضى بقيام المؤسسات التمثيلية ولا بحرية الصحافة ولا بالمدارس العلمانية ولا بالمساواة بين الإكليروس والمدنيين أمام القانون، وأدرك القوميون في إيطالية بأنه ما دامت روما تغدو عشًّا للدسائس للأمراء المخلوعين؛ فإن أنتونللي لا بد من أن يسعى لِجَرِّ الإكليروس إلى مؤامرةٍ واسعة النطاق ضد حرية إيطالية واستقلالها، وبذلك تكون السلطة الزمنية خطرًا دائمًا على المملكة الجديدة، فما لم يسرح البابا متطوعة، وما لم تصبح روما عاصمة إيطالية فإن خطر الحرب الأهلية التي يُثيرها التعصب الديني متوقَّعٌ في كل لحظة.
ولم يكن هدفُ القوميين في ذلك الحين يتعدى الاستيلاءَ على أومبريه والمارك، ولم يفكر أحدٌ بالاصطدام بالحامية الإفرنسية المرابطة في روما إلا بعض المتطرفين، وكانت أكثريةُ الرعية البابوية تنتظر التخلُّص من حكومة البابا بفارغ الصبر، ولم يكن القوميون في الخارج أقلَّ تلهُّفًا على إنقاذ مواطنيهم وقد سخط المعتدلون من أمثال كانوثي ودازجيلو سخطًا عظيمًا من هذا النوع الجديد من التدخُّل في الشئون الإيطالية مِن قِبَلِ جماهير الأَفَّاقين من متعصبة الكاثوليك، وقد قال ريكاسولي: «إننا إذا هُوجمنا سنعرف كيف ندافع عن أنفسنا، ونغدو بعد ذلك مهاجمين.»
واتصل باللجان الوطنية في أومبريه اتصالًا وثيقًا حاثًّا إياها على التأهُّب للثورة؛ طالما توعز الحكومة بإسعار نارها.
وفي ٧ شباط كتب فكتور عمانوئيل إلى البابا كتابًا طلب إليه فيه أن يمنحه سلطة الحكم ليس على الروماني فحسب، بل على الإيالتين الأخريين نيابة عنه، مؤكدًا له في الوقت نفسه إخلاصَه للكنيسة، بَيْدَ أن هذا النداء لم يَلْقَ أذنًا صاغية لدى البابا، ومع أن الملك بعد الاقتراح كتب مرة للبابا عارضًا عليه — لمصلحة السلم — الاعترافَ بسيادة البابا الاسمية على الروماني مِن دون أن يذكر الإيالتين الأخريين؛ فإن أنتونللي رفض كل مفاوضة رفضًا باتًّا، وكان كافور وحده — من دون الجميع — يتوقع بعضَ الخير من هذه المفاوضات.
وقبل أن يصل رفضُ أنتونللي البات كان قد سعى لحمل نابليون على الاستعجال في سحب جنوده، والآن بعد أن امتنع البابا عن القيام بأي إصلاحات؛ فإن الإمبراطور لم يرض أن تُصبح روما عشًّا للدسائس؛ فلذلك اتخذ تدابيرَ شديدةً ضد الصحافة الكاثوليكية الإفرنسية، وتهدد البابا بسحب جنوده إذا هو لم يقبل نصائحه.
واقترح في شهر نيسان بتبديل جنوده بجنود نابليون، ولما رفض الملك نابولي هذا الاقتراح؛ خشية أن يؤدي إلى حرب بيمونتي ونابولي؛ عاد الإمبراطور فاقترح تأليفَ جيش أهلي يكفي للدفاع، وأغرى البابا بقبول الفكرة بقوله بوجوب دَفْع الدول الكاثوليكية نفقات هذا الجيش للبابوية، وحينئذٍ ينسحب الإفرنسيون.
وما أسرع ما يقبل أنتونللي الذي كان يكره الحماية الإفرنسية هذا التكليف بشوقٍ ورغبة، وقد وافقت النمسة ونابولي وإسبانية على الاقتراح، وكان البابا والقائد لامارسيلير يرغبان في الاحتفاظ بالإفرنسيين في روما وترك الكتائب الأهلية والمتطوعين طليقِي اليد في الحركة ضد الروماني، ولكن ممثل الإمبراطور في روما تَوَفَّقَ إلى عقد اتفاقيةٍ تضمن انسحابَ الإفرنسيين في ١ تموز، ثم حدثتْ حوادثُ حالتْ دون تنفيذ هذه الاتفاقية.
ذلك أن غاريبالدي نزل إلى مرسالة وزبيانكي في اليوم السابق لليوم الذي وَقَّعَ فيه على المعاهدة وتَأَهَّبَ لاجتياز حدودِ الأراضي البابوية، وحدثتْ في صقلية مأساة فاجعة أنست الناس في هذه الساعة القضيةَ الرومانية، وتفصيل ذلك فيما يلي:
كان استبداد حكومة نابولي في صقلية والكراهية المستحوِذة على العموم ضد آل بوربون وثورات الصقليين التقليدية؛ عواملَ فَعَّالة في توجيه نظر القوميين منذ سنوات مديدة نحو رسم خطة تستهدف إسعار لهيب الثورة في الجنوب، ولم يعتبر فرديناند من حوادث الزمن، وأخذ الخللُ يزدادُ في الإدارة كلما شملت الآلامُ صحةَ الملك، وقد انتابه في آخر عمره مرض عضال ومات على إثره في ٢٢ إيار ١٨٥٩ فخلفه ابنُهُ فرنسوا الثاني، فكان هذا الملك الفتى يجهل شئون الدولة كُلَّ الجهل؛ ولذلك استمر على سياسة أبيه الخارجية متمسكًا بمعظم أسسها.
وتولى فيلانجيري رئاسة الوزارة ولو كان هذا طليق اليد لمنح الدستور، بَيْدَ أن قوى الكنيسة والجيش تألبت عليه لإحباط مشاريعه في بداية سنة ١٨٦٠ فقَدَّمَ استقالتَه وطالبت الحكومتان الإفرنسية والإنجليزية بالإصلاحات، ثم إن بروسية وروسية أيضًا نصحتا الملك بالاعتدال خشية أن يوقد الاستبدادُ نارَ الثورة، فقامت الحكومة ببعض الإصلاحات الطفيفة، وشمل العفوُ العامُّ المسجونين السياسيين، بَيْدَ أن الشرطة استمرتْ على قساوتها وسوء معاملاتها.
وأرادت فئةٌ صغيرةٌ من اللاجئين إنقاذَ آل بوربون وحملها على حفظ مكانتها، كما أراد أشراف فلورنسة إنقاذَ الدُّوق الكبير، فطلب هؤلاء إلى الملك تطبيقَ سياسة تقدُّمية حرة، وقد خُيل لبعض أفراد قلائلَ منهم صيف سنة ١٨٥٩ بأنَّ الوحدة بين الشمال والجنوب ستدخُلُ في دورٍ سياسي عملي، ولإبعاد موراث عن العرش.
كانوا يُريدون عن طيبة خاطر تمهيدَ السبيل لفرنسوا، وكان كافور رغبة في حشد ما يمكن حشده من القُوَّات الإيطالية وإنزالها إلى الميدان؛ قد اقترح — قبل موت فرديناند وطالب بعد موته بإلحاح — عَقْدَ حلف هجومي ودفاعي عن مشاريعه ضد آل بوربون، ولكن فرنسوا كان لا يعبأ بالاستقلال الإيطالي، وقد أقصت عنه طائفة الحاشية في البلاط نفوذ فيلانجيري، حتى إنه سعى في الخريف إلى عَقْد حلفٍ ضد بيمونته، ولولا معارضة نابليون الثالث لأرسل القوات لاسترداد الروماني لحساب البابا.
أما مشروع اللاجئين والحالة هذه فلم يُظاهره إلا فئة قليلة في نابولي، ولم يكن في تلك المدينة إلا أشخاصٌ قلائلُ يثقون بعض الثقة في الأسرة الممقوتة؛ فلذلك عارض أنصار موراث القوميون السياسةَ التي تستهدف تقويةَ نُفُوذ آل بوربون، وأصبح الجنوب بعد معاهدة فيلافرنكة من جديد في الصف الأول من طلاب الوحدة؛ إذ بذل أنصارُ الوحدة جهدهم في تقوية الفكرة القومية المترجرجة وتثبيتها وجَعْلها مرتبطةً بهم بعد أنْ فقدوا نفوذَهم في حادثة فيلافرنكة.
وقد كان إجماعُ أحزاب الشمال على مَلَكية بيمونته ووضع طوسكانه وإميليه ونفوذ غاريبالدي؛ من العوامل الفَعَّالة التي حملت القوميين في الجنوب على الانضمام إلى صفوف أنصار الوحدة، وكان «فابريزي، وكادرويو» قد دَبَّرَا مؤامرة في صقلية وحث لافارينا المنتمين إلى الجمعية القومية في صقلية إلى الثورة بعد فيلافرنكة، ودخل كريسبي الذي كان لا يزال جمهوريَّ المبدأ متنكرًا وأخذ ينظم الجمعيات السرية لإشعال الثورة في تشرين الأول، بَيْدَ أن لافارينا غير خطته بعد ذلك وطلب إلى رجاله التريُّث ريثما تنضم إيطالية الوسطى.
وعلى الرغم من وعد غاريبالدي لكريسبي بأنه سينجده؛ فإن حركة العصيان قد فشلت ولم يحدث إلا تَمَرُّدٌ جزئيٌّ بالقرب من باليرمو لكن كريسبي لم يقنط، ورغم فشله في الحصول على مساعدة رتازي؛ فإنه استعدَّ لحركةٍ جديدة في شهر نيسان المقبل، وقد شَجَّعَهُ كافور ورفقاؤُهُ قليلًا، وكان مازيني مختفيًا في جنوة فاشترك في المؤامرة وطلب إلى غاريبالدي أن يترأَّس الثوار، إلا أن غاريبالدي لم يثق كثيرًا في نجاح ثورة شعبية؛ لذلك اكتفى بالوعد بإعطاء السلاح على أن يرفع الثوار الراية الملكية.
وكان مازيني قد اختار «روزا ليوبيلو» الشريف الصقلي قائدًا في حالة رفض غاريبالدي، فسافر بيلو بعد بضعة أيام مع رفيقٍ واحدٍ وقليلٍ من المال ويحمل في قلبه الأمل السامي في تحرير صقلية، ولما نزل إلى الجزيرة بالقُرْب من سينا كانت الثورة قد نشبتْ، ودَقَّ ناقوس دير «ديللا جانسية» في بالرمو في صباح ٤ نيسان الدقاتِ التي تؤذن بنشوب الثورة.
ولما كانت الحكومةُ بالمرصاد فقد هاجم جنودُها الديرَ ونهبوه واكتفت باليرمو بمظاهراتٍ تافهة، أما الأطراف فلَبَّتْ الدعوى وثارتْ، وكان يصعب على الثوار أن يُقاوموا مدة طويلة؛ لذلك انقلب الجنودُ مِن متطوِّعة الألمان والسويسريين عليهم وانتقموا منهم شر انتقام، فغضب أكثريةُ لجنة جنوه على مازيني؛ لأنه لا يريد أن يتبع أي سياسة سوى سياسته، وعزمت على تسيير الأمور بنفسها وإجبار غاريبالدي على الوفاء بوعده، فوافق غاريبالدي — على كُرْهٍ منه — وطلب إلى الملك أن يضع تحت تصرفه لواء من الجيش الملكي؛ لأنه اقتنع بأنه لا يستطيع أن يقوم بعملٍ مؤثر إلا بمعاونة كافور.
وكانت أفعالُ كافور وأطواره في هذه الأزمنة متناقضة، ولكن سياسته في نهاية آذار أخذتْ تتجلى، ولا سيما بعد أن بَلَغَه خبرُ الاقتراح القائل باحتلال الروماني من قِبَلِ الجنود النابوليين، وخشي أن تؤدي هذه الحركةُ إلى الاستيلاء على الروماني فعلًا، فاعتزم حالًا بأن يعتبرها عملًا عدائيًّا.
وقد كانت سياسة كافور منذ أربع سنوات ترمي إلى منع أي حركة تسبب انشقاق القوميين واستغلال كل حركة من حركات الثورة، ولا بد مِن أنه علم بأن الثورة ستقع في صقلية؛ فلذلك قرر أن يُغمض عينه عما يقع فيها وأن يدبر الحركة ولكنْ بصورةٍ خفية؛ بحيث لا تتحمل الحكومة أية مسئولية، وأخذ يفتش عن قائدٍ يترأَّس الحركة ولَمَّا لم ينجح وعلم بنبأ مراجعة غاريبالدي الملك نسي الهجمات العنيفة التي وجهها إليه يومئذٍ وأدرك بأنه الرجلُ الوحيدُ الذي يستطيع أن يخرج من هذه الحركة ظافرًا، فأخبر لافارينا بأنه سوف يمنح غاريبالدي كل المساعدة وسوف يجهِّزُهُ بالبنادق المخزونة في مخازن الجمعية القومية، ووافق على أنْ يستعمل غاريبالدي البنادقَ التي اشتُريتْ في ميلانو بالمبالغ المجموعة بالاكتتاب.
وكان غاريبالدي حينئذٍ على الساحل قريبًا من جنوة، وكان يميل إلى الذهاب إلى نيسي سرًّا؛ للشروع في مقاومة يائسة ضد الإفرنسيين، ولكنه حين اتصلت الأخبار السيئة عن أحوال صقلية تردد في الأمر، وتلقى كافور خبرًا من مندوبه فيلا مارينا بأن الثورة تبشر في النجاح في صقلية، وكان يعلم بأن النمسة لن تتدخل، وقد طمأنه لافارينا من ناحية إخلاص غاريبالدي للعرش.
ولما جست جنوة نبضه في ٢٣ نيسان قَوِيَ أملُها — على ما يظهر — بأنه سوف يساعدها، وبينما كان كافور يتردد في الأمر كان غاريبالدي يضطرب من التردد ويلوح له بأن واجبه الذهاب إلى المحل الذي يُقاتل فيه الطليان مضطهديهم ولكن وضع كافور يفزعه، ولما وصلت البرقية التي زَوَّرَها كريسبي تحمل أخبارًا سارة عن صقلية؛ زال تردُّدُه وأعلن عزمه على الحركة حالما يتمكن.
أَمَّا كافور فكان في رأيٍ آخر؛ إذ أصبح يعتقد بأن إرسال قوة إلى الجزيرة إنما هو طيشٌ وجنون … فالأسئلة أخذت تتوالى من الحكومات الأجنبية تسأل عن هذه الاستعدادات التي تجري في جنوة، وكان كافور قد قال للسفير الإفرنسي بأن الحكومة صرفت النظر عن الحركة، وفي هذه الساعة وصل إليه نبأُ عزم غاريبالدي على السفر فأوشك أن يضيع رشده، وأسرع إلى بولونيه يطلب إلى الملك القبض على غاريبالدي، أما الملك فلم يُلَبِّ طلبه فأدرك كافور استحالةَ الوقوف دون الحركة؛ بسبب هياج الرأي العام فعزم على أن يهيئ كل ما يقتضي سوقه من القوات لإنجاح الحركة.
وذهب لافارينا إلى جنوة لتسليم بنادق الجمعية الوطنية ولكن لأسبابٍ مجهولة لم يستلم غاريبالدي إلا بعضها، وأُرسلت التعليمات إلى السلطات الجمركية في جنوة لتغمض عينها عن مرور الأسلحة، وكان «برسانو» الأميرال البيمونتي قد تلقى أمرًا بتوقيف القوة البحرية التي يقودُها غاريبالدي إذا رستْ في ميناء سارديني؛ لأنه كان يعلم بأن كافور إنما كان يرمي بذلك الأمر ذَرَّ الرماد في العيون؛ فلذلك رأى سفينتي غاريبالدي تمخران البحر من دون أن يقلقهما.