غاريبالدي في صقلية
في اليوم الخامس من أيار تركت الحملة الصغيرة جنوة فوق باخرتين وقد طلب الالتحاق بها كثيرون؛ إذ إن لجنة جنوة التي يرأسها برتاني وسُمعة غاريبالدي؛ قد جَذَبَتَا المتطوِّعين من جميع أنحاء إيطالية، ولقي غاريبالدي صعوبةً عظيمة في تقليل عددهم إلى ألف رجل ونيف؛ ليستطيع أن يأخذهم معه على الباخرتين، وكان معظم هؤلاء من إيطاليي الشمال، فكان بين ألفٍ وسبعين من ذوي القمصان الحمراء ثمانمائة وخمسون من أهل لمبارديه وإميلية وفنيسيه، وكانت هذه العصبة تتألف من خليطٍ من الوطنيين القوميين والمغامرين الذين تربطهم بغاريبالدي رابطةُ الإخلاص له والشجاعة الفائقة.
وكان شرف تهيئة هذه الحملة يعود إلى إقدام لجنة جنوة وليبرتاني وكريسبي ومازيني الذين استطاعوا بإيمانهم القوي أن يتغلبوا على تردد غاريبالدي، وأن يجبروا الملك وكافور على السير وراءهم، وكان إعداد الحملة يومئذٍ تدبيرًا محفوفًا بالمخاطر لا يقدم عليه إلا الشجعان المغامرون، وكان لآل بوربون في صقلية ثلاثةٌ وعشرون ألفًا من الجند ومائة ألف وغيرهم في القارة مع مدفعية قوية وقلاعٍ يكاد يتعذر اقتحامها.
ولعلنا لا نجد في أوروبا كلها رجلًا — ما عدا غاريبالدي — يستطيع بهذه النواة الصغيرة ومن دون مساعدة، وفي هذه الظروف أن يُقاتل وأن ينتصر على قواتٍ فائقةٍ ساحقةٍ، حقًّا لقد خلقت سفرة الألف إيطاليا خلقًا جديدًا، لقد توجهت السفينتان نحو الجنوب سالكتين طريق الساحل ترمقهما أنظارُ جميع الإيطاليين وتتجه نحوهما أفئدةُ الأمة في قلقٍ عظيم؛ ذلك لأن القوة لم تأخذْ معها ما يكفي من العتاد لسلاحها لأسبابٍ لعل باعثها الخيانة حتى لتكاد الحملة تصبح بلا سلاح.
وقد أمر غاريبالدي رجاله بالوقوف في الميناء الطوسكاني الصغير «بالامونه»؛ ليتلافى فيها النقص في العتاد أولًا إذا استحصل على ما يحتاج إليه من العتاد وثلاثة مدافع، وأراد بالوقوف ثانية أن يلبي رغبة مازيني ورفقائه في إرسال قوة إلى الممتلكات البابوية في الوقت الذي تذهب فيه الحملة إلى صقلية، وكان يتوقع بهذه الحركات أن يلفت أنظار عدوه إلى هذه الناحية ويُخفي الهدف الأصلي الذي استهدفه من رحلته.
وقد نزل إلى الميناء ستون رجلًا بقيادة الضابط «زمبيانكي» وكان يتوقع — بلا ريب — أن تصل إليه النجداتُ من طوسكانه وأن يتحرك كوزنسي ومديجي من جنوة بعده بقواتٍ كبيرة، ومع أن غاريبالدي كان يجهل — بلا شكٌ — خبرَ المفاوضات التي كانت تجرى لإخلاء الإفرنسيين ممتلكات البابا فإنه — لا بد — أدرك المكاره التي ولَّدها للحكومة بحركته هذه، وكان من جراء تصلُّب مازيني في مغامرته الجديدة ومساعدة غاريبالدي له أنْ تأجل إخلاء الحامية الإفرنسية للممتلكات البابوية، واضطرت إيطالية أن تنتظر عشر سنوات أخرى لإنقاذ روما.
وما كاد خبر إنزال القوة يصل إلى كافور حتى أرسل أوامرَ شديدةً إلى ريكاسولي يأمر فيها بأن يحول دون خرق حياد الأراضي البابوية، بَيْدَ أن الشعب كان متحمسًا للحركة فاجتاز زمبيانكي الحدود في ٢٠ أيار، ولكن قوات البابا هاجمتْه وأرجعتْه إلى أرض طوسكانه؛ حيث جرده ريكامبولي من السلاح وأوقف جماعته.
ووصل غاريبالدي إلى مارسالة في ١١ أيار، وقد استطاع أن يتملَّص من السفن الحربية النابولية عرض البحر، ولكنه ما لبث أن اقترب من الساحل حتى شاهدتْه طَرَّادَتان تَعَقَّبَتَاه على مقربةٍ منه حتى دخوله الميناء، ولو استطاعت الطرادتان أن تُحسنا صَبَّ نيرانهما وتوجيهها لَمَا استطاع نصف الحملة النزول إلى البر.
وبينما كان يتقدم غاريبالدي نحو باليرمو كان «لاماسا» يبذر بُذُور الثورة في الأنحاء الريفية وأخذ رجال «السكوادرة» الباقون من ثوار ديللا جانسية يصلون إليه زمرًا، وفي اليوم الخامس عشر من أيار قابل غاريبالدي في منتصف الطريق القوات النابولية التي احتلت قبل ذلك موضعًا منيعًا، وكان معه ثمانمائة رجل مِن أتباعه وألف وخمسمائة من عصابة السكوادرة الذين يعوزهم السلاح وينقصهم الضبط، بينما كانت قوة عدوه تبلغ ثلاثة آلاف وخمسمائة جندي كامل العدة جيد الضبط، ومع ذلك فقد تغلبت شجاعة الوطنيين على كثرة الجند النابولي.
وبعد قتالٍ عنيف استمر عدة أيام استولى غاريبالدي على موضع العدو الذي كان يُدافع عن باليرمو، إلا أن الموقف كان لا يزال حرجًا للغاية رغم تحرُّر وسط الجزيرة وإرسال نجدة مؤلفة من خمسة آلاف رجل إليه، لم يكونوا سوى عصابات ينقصها النظام وينتابها الذعر بسهولة، ولا يزال ينتظره في باليرمو عشرون ألفًا من الجيش النابولي النظامي.
وكان تَفَوُّق القوات الملكية من حيث العدد والسلاح والضبط حتى إنها لَتستطيع بقيادة أي قائد أن تسحق عصابةَ الأبطال الصغيرة هذه دون عناء، وأدرك غاريبالدي بأنَّ مخرجه الوحيد من هذا المأزق هو القيام بحركةٍ جريئة فَذَّةٍ تتغلب على القوات المتفوقة، ولَمَّا لم يجرؤ على مهاجمة المدينة قام بحركة التفاف ووصل بعد مسير يومين على قوس طويل في الجبال إلى ميسلميري الواقعة جنوب شرقي المدينة، بينما كان عدوه يسير في رتلين نحو الجنوب باتجاه خاطئ. وكانت خطة غاريبالدي تَرمي إلى مهاجمة المدينة ليلًا؛ يقينًا منه أنه إذا ما دخل المدينة فستصبح الدور معاقلَ له، وتسرع الجماهير لمساعدته.
ولَمَّا فشلت خطته في ضبط المدينة بغتة بسبب ذعر جماعة السكوادرة؛ شرع بالهجوم فورًا واستولى على ميناء ترميني في صباح ٢٧ أيار، وأخذت نواقيسُ الكنائس تدق داعية الناس إلى القتال، وأخذ الشعب يتحرك ويثور، واستطاع غاريبالدي بذلك أن يحتل المدينة خطوة بعد خطوة إلى أن أقصى جنودَ نابولي، الذين لجئوا إلى قلعة «كاستل مارة» وما جوارها وإلى بعض المباني المنفردة في أطراف القصر، وكانت مذبحة هائلة وصفها أحد الحاضرين بقوله: «لقد ضبط كل ما بقي تحت وابل مدرار من القنابل واستولى على كل قدم من الأرض في لظى اللهيب المتأجج وطقطقة الدور المتداعية وعويل المصابين، الذين ينشدون الإفلات من الأنقاض، وصيحات الضحايا الذين ذبحهم الجنود الضواري حين لاذوا بالفرار.»
وانقطع القصف صباح ٢٩ أيار لمساعدة الحامية على القيام بحركة خروج، بَيْدَ أن الهجوم الذي قام به الجُندُ توقف أمام المتاريس، ووهنت عزيمةُ قائد الحامية وفقد شجاعتَه، وبعد قتالٍ استمرَّ أربعة أيام طُلب قائدُ الحامية إلى قائد الأسطول البريطاني الراسي في الميناء المتوسط، وتلقى غاريبالدي طلب إيقاف القتال تمهيدًا للهدنة بلهفةٍ ووافق على مهلة أربعة وعشرين ساعة، ولما انقضت هذه المدة طلب قائد الجنود تمديدها للاتصال بنابولي، ولما علم الملك بأن سبيله الوحيد إنما هو التفاهُمُ مع إنجلترة وفرنسة أرسل أمرًا بإخلاء المدينة، وفي ٢٠ حزيران ركب آخر جندي السفينة مغادرًا الجزيرة، وقد انتشرت الثورة في الجزيرة كلها قبل ذلك التاريخ.
وبحركة غاريبالدي هذه تحررت الجزيرة من الحكومة ما عدا مسينة وسيراكوزة اللتين كانتا تخافان القصف من قبل الأُسطول النابولي، وقلعة ميلانو وأوجوستة.
إن هذه الحركة تُرينا كيف تغلب ألفُ رجل على أربعةٍ وعشرين ألفًا من الجنود في شهر واحد، واستولوا على جزيرة يبلغ عددُ نفوسها مليونين.
وانهار في الجزيرة ذلك الاستبدادُ الذي يكمن الشرُّ والفسادُ في طياته، وكان تأسيس حكومة تحل محل ذلك الاستبداد من أشق الصعوبات؛ ذلك لأن الصقليين رغم كونهم استقبلوا الثورة بكل جوارحهم وبترحيبٍ قلبيٍّ عظيم، حتى إن الإكليروس نفسه انضم إلى القضية العامة، وتجول الرُّهبانُ والخوارنة في الجزيرة يبشرون بالحرب المقدسة، لم يكونوا على استعدادٍ لتقديم تضحيات، وحسبهم أن جزيرتهم تحررتْ وأنهم تخلصوا من النابوليين البغيضين.
أما الوحدة الإيطالية فلا تهمهم كثيرًا، وقد وقف الأغنياءُ الأنانيون موقف المتفرج، تملأ نفوسهم الريبة من حاشية غاريبالدي، وفشل مشروعُ التجنيد الذي رسمه غاريبالدي أمام مقاومة الشعب السلبية، ولم يجتمع لديه سوى ألفٌ من المتطوعين.
وأخذ جماعة السكواردة يطالبون برواتبهم صاخبين، فاضطر غاريبالدي إلى تسريحهم وإعادة تنظيمهم، وكانت الحكومةُ المركزيةُ عاجزةً كل العجز، وكانت توجد عناصر خطيرة في باليرمو نفسها، وقد فُتحت أبواب السجون أيام القتال، وأخذ المجرمون يتجولون في الطرقات ويتهددون خصومَهم الشخصيين، ولم ينقذ صقليةَ من فوضى الجرائم التي تَعْقُبُ الثوراتِ إلا سمعةُ الدكتاتور المطلق التصرف وحدها.
حقًّا لقد عجز الدموقراطيون عن تأسيس حكومةٍ في الجزيرة، وكان كريسبي الذي أصبح الرئيس الحقيقيَّ في الحكومة لا يزال يجهل قيادة الناس، لقد كان عنيدًا نشيطًا ولكن لم يكن محبوبًا من الناس إلا قليلًا، وكان من الرجال الذين يستطيعون أن ينجزوا عملًا كثيرًا، وربما كان الشيءُ الكثيرُ أقربَ إلى الإساءة منه إلى الصلاح، وقد فشلت مساعيه في تأسيس حكومة من الهواة.
وعلى الرغم من أن الشعب أظهر كل احترام ومحبة نحو غاريبالدي فإنه لم يُقْدِم على تأدية الضرائب، وأصبح غاريبالدي دكتاتورًا بالاسم وألعوبة بيد الرجال الذين اعتمد عليهم، واكتفى بالتوقيع على الأوراق التي يضعها كريسبي أمامه، وأخذ كريسبي يغمر البلاد بقوانينَ جديدة زادت في الارتباك، فسَدَّت المحاكم أبوابها أو كادت بعد أن أُقصي القضاةُ من مناصبهم، وأحدثت أخبار الفوضى في الجزيرة قلقًا عظيمًا في نفس كافور.
وقد هبت العاصفةُ السياسية الأوروبية إلا أنها لم تكن مخيفة كما توقع كافور أن تكون؛ إذ اقتصر الأمر على إنذارٍ من روسيا تقول فيه إن موقعها الجغرافي وحده هو الذي حال دون تدخلها، أما إنجلترة فكانت كثيرة العطف على الحركة وأما فرنسة فقبلت اعتذار كافور بكون الحكومة لا تستطيع أن تحول دون حركة غاريبالدي من دون أن تعرض للخطر الشديد؛ فلذلك قرر كافور — بعد قليلٍ من التردد — تسهيلَ سفر النجدات الخصوصية.
وقد توقع أن يعبر غاريبالدي بعد بضعة أيام إلى كلبريه، فوافق في نهاية شهر حزيران على تجهيز النجدات المرسلة إلى غاريبالدي بالسلاح المخزون في دار صناعة الحكومة في جنوة، ومع ذلك فإن كافور ظل مترددًا بين إسداء المعونة إلى حدها الأقصى والسير إلى آخر الشوط، والتملُّص من تبعة الحركة بتضحية غاريبالدي إذا اقتضت مصلحة الحكومة ذلك، أما فيما يتعلق بالاعتداء على ممتلكات البابا فإنه كان يرغب في عدم التدخُّل؛ ولذلك أقنع مديجي وكوسن بالكف عن نياتهما بشأن أومبريه على الرغم من أوامر غاريبالدي لهما وسوقهما النجدات إلى صقلية.
وأدرك كافور أن الحركة الديموقراطية المعادية للملكية البيمونتية قد تُفرِّق صفوف القوميين وتؤدي إلى حربٍ أهلية، وقد ينحرف الناس في تيار الجمهورية، فعقد النية على توقيف تلك الحركة في بَدْئِها، وأوفد لافارينا إلى باليرمو لكي يقوي غاريبالدي ضد النفوذ الديموقراطي، ويتولى تنظيم شئون الحكومة ويعمل في الانضمام.
وكان كريسبي في باليرمو وبرتاني في جنوة يبذلان جهدهما ليحولا دون الانضمام المطلق، أما غاريبالدي فكان يعتقد بأن إيطالية تحتاج إلى دكتاتورٍ نزيه ولو إلى حين، ولاح له أن يؤجل أمر الانضمام ريثما يُكمل مهمته، وأخذ يقتنع بأن السياسة الخارجية قد تتدخل فيما إذا استلم فيكتور عمانوئيل حكومةَ الجزيرة وقد تمنعه من العبور إلى القارة لإكمال مهمته في توحيد إيطالية.
أما كافور فلم تكن نفسُهُ تتوق لضم الجزيرة فحسب بل بضم نابولي أيضًا حالما تسنح الفرصة، ومما يؤسَف له أن اختيار لافارينا للمهمة التي أُنيطت به لم يكن موفقًا؛ ذلك لأنه كان عدوًّا شخصيًّا لكريسبي وكان الحزب الديموقراطي يكرهه، وكان من السهل إقناع غاريبالدي الدكتاتور بأن الرجل الذي وقع على وثيقة التخلي عن نيس مسقط رأس غاريبالدي لا يمكن أن يكون صديقًا له.
وقد كان أول عمل قام به لافارينا أنْ هاجم حكومة كريسبي بشدة ونشب الجدال بينهما، وبذلك سيطرت الحزازات الشخصية، وعبثًا حاول غاريبالدي الاحتفاظَ بصاحبه واضطر أخيرًا إلى إقصاء كريسبي بعد أن رأى مناصرة الرأي العام لفارينا، بَيْدَ أن كريسبي ظل الرجلَ المسموع الكلمة لدى الدكتاتور؛ ولذلك امتنع غاريبالدي عن الموافقة على الانضمام مع أنه سبق فأراد الحركة نحو روما؛ ليستولي عليها ويجعلها عاصمة إيطالية الموحدة وأخيرًا أبعد لافارينا من الجزيرة.
فغضب كافور لهذا العمل غضبًا شديدًا وأنذر غاريبالدي في أواخر حزيران بمنع سفر النجدات فيما إذا ظل كريسبي الدموقراطي المفرط وكيلًا له، ولم يكد لافارينا يرجع إلى تورينو حتى منع المخازن من تقديم التجهيزات الحكومية إلى غاريبالدي، على أن كافور لم يكن شديد الرغبة في معاكسة غاريبالدي أملًا في الاستفادة منه، فأوفد «ديبرتيس» بعد أن استطلع رأي غاريبالدي فوافق عليه لأن ديبرتيس كان قد استقال محتجًّا على التخلي عن نيس، وقد نجح ديبرتيس بالقيام بإصلاحات عظيمة في الإدارة وخطا نحو الوحدة في إدخاله القوانين البيمونتية إلى الجزيرة خطوات واسعة، وأراد كافور أن يتعاون ديبرتيس مع كريسبي، ولما عاد هذا للعمل اشترط بأن لا يبحث في الإلحاق ما لم تتحرر نابولي.
وتقصير كافور هنا أنه لم يعمل بعزم، فلو أمر بإجراء الاقتراع العام في الجزيرة للانضمام أو ضده لوَفَّرَ على إيطالية كثيرًا من الجهود والمتاعب ولَتَقَبَّلت أكثرية الجزيرة هذا الطلب بارتياحٍ، بَيْدَ أن مثل هذه السياسة الجريئة كانت تتطلب رجلًا أكثر عزمًا من ديبرتيس.
وبث نجاح غاريبالدي الفرح في جميع أنحاء إيطالية، وأصبح مطمحَ أكثر الفتيان أن يُجاهدوا تحت رايته، وقد تَجَنَّدَ من بولونيا وحدها — كما قيل — سبعةُ آلاف وهرب جنود بيمونتيون من وحداتهم للالتحاق به، وسارع الطوسكانيون الذين كانوا يكرهون التجنيد من كل حدبٍ وصوب للالتحاق بقوات مديجي وكوستر، وأخذت الاكتتابات لشراء مليون بندقية تتدفق وأظهر برتامن في جنوة كفايةً عظيمة في تنظيم النجدات والإسراع في إرسالها. ووصل إلى صقلية قبل ٣٠ تموز أكثر من تسعة آلاف رجل.
وحدث أن اصطدم مديجي بقوات يوسكو قائد الجند النابولي بالقرب من ميلازو في ١٧ تموز، فأسرع غاريبالدي إلى إرسال جميع الرجال الذين استطاع أن يحشدهم، وهاجم موضع يوسكو الحصين في برزخ ميلانو، وحدثت في ٢٠ تموز معركةٌ عنيفةٌ، وكان جنود نابولي قد تحصنوا وراء الجدران والأسياج، ولكن رجال غاريبالدي استطاعوا — بعد قتالٍ شديد — أن يحتلوا المدينة فالتجأ يوسكو إلى القصر، ورغم أن غاريبالدي لم يكن يملك مدافع حصار فقد استولى على القصر بعد ثلاثة أيام ثم أخلى جنود نابولي سيراكوزه وأوجسته، ولم يبق في الجزيرة بيد آل بوربون سوى قطعة مسينة.
ولم يقتصر اجتياح الحماسة التي ولدها غاريبالدي على الفتيان الذين سارعوا للانضمام إليه فحسب، بل انجرف في التيار رجالٌ عُرفوا بالرصانة من أمثال دازجيلو ولانزا، وقد كتب كافور في رسالة له: «إن أكثر الرجال تعقُّلًا ورصانةً وأشد المعتدلين والمحافظين؛ أصبحوا من أنصار الوحدة.» وكان خوفهم تلاشى رويدًا رويدًا كلما اتضح لهم أن بلادهم سوف تُصبح مملكةً متحدةً كبيرة.
وقد طلب ريكاسولي إلى كافور بأنْ يَكُفَّ عن سياسته المترددة، وأنْ يُفسح للملك المجال ليتزعم الحركة بشجاعةٍ، بَيْدَ أن المصاعب كانت تُرى أكثر مما تصورها ريكاسولي، وكانت خطة كافور في السياسة الخارجية أنْ لا يقطع الحبل ما استطاع إلى ذلك سبيلًا، وكان يحسب لخطر هجوم النمسويين حسابًا عظيمًا ويخشى ألا تستطيع إيطالية وحدها الوقوف بوجهه، من أجل ذلك كانت فكرة الاحتفاظ بعطف الإمبراطور عاملًا أساسيًّا في سياسته الخارجية.
وأوشك فرانسوا ملك نابولي بعد موقعة باليرمو أن يقطع أمله في التغلُّب على قوات غاريبالدي فالتمس من نابليون بأنْ يُنقذ عرشه المترجرج بالتوسط بينه وبين الثوار، ولكن الإمبراطور رفض التوسُّط ما لم تنل الجزيرةُ استقلالَها التام، وأن يحكمها أحد أمراء آل بوربون، وأن يمنح الدستور النابولي ويتحالف مع بيمونته.
وكان الشرط الأخير الذي أصر عليه الإمبراطور أقسى الشروط على فرانسوا؛ لأنه هو الذي أقام الدنيا وأقعدها لتضرب بيمونته في الروماني، وبذل جهودًا جبارة ليتجنب ذلك الشرط الذي يَحمله على الخضوع لخصمه البغيض، وقد يزجُّه في حربٍ مع النمسة، وحيث إن وزراءه فقدوا كل شجاعتهم فقد أشاروا عليه بعد قليلٍ من التردُّد بالموافقة على طلبات الإمبراطور، وقد وافق عليها طالبًا تبديل الاستقلال التام في الجزيرة بالحكم الذاتي.
وضغط الإمبراطور على كافور لقبول الشروط، وسعى لإقناع الحكومة الإنجليزية بإقرار هذه التسوية مقترِحًا عليها عقد هدنة، وإرسال الأسطول إلى مضيق مسينة لمنع قوات كافور من عبوره، ولما كان الرأي العام في بيمونته يعارض في شدة فكرة محالفة نابولي فإن كافور قرر إحباط المفاوضات، إلا أنه لم يشأْ أن يرفض جهرًا وصايا الإمبراطور.
وفي اليوم الذي أبدى ميله بقبول فكرة الحلف مع نابولي كان يود لو أن غاريبالدي اجتاز المضيق؛ لذلك وضع شروطًا كان يعلم أن فرنسوا لن يقبلها، ولما طلب الإمبراطور إلى الملك أن يبذل نفوذه لمنع غاريبالدي من الحركة وافق كافور على أن يكتب الملك للدكتاتور كتابًا في هذا المعنى على أنْ لا يقوم فرنسوا بأي عملٍ لاسترداد صقلية، وقد أصر على هذا الشرط لأنه كان يعلم بأن إنجلترة تعطف عليه.
أما فرنسوا فسرعان ما تخلى عن بطولته لحماية ممتلكات البابا وعرض على بيمونته تجزئة تلك الممتلكات بينه وبين بيمونته، فلم يسع كافور بعد ذلك أن يؤجِّل إرسال الكتاب، وحمل الملك على الكتابة إلى غاريبالدي في ٢٢ تموز يدعوه إلى التخلِّي عن نياته بشأن نابولي إذا أراد فرنسوا أن يترك صقلية حرة، وكتب الكتاب في أسلوب يحمل غاريبالدي على رفض الطلب حتمًا، كما أن كافور أفهم غاريبالدي بأنه يتلقى رفض طلب الملك بالترحيب.
وقد رفض رسل مقترحات الإمبراطور؛ لارتيابه من نياته بشأن ساردينيه، وأيقن نابليون بأن انهيار آل بوربون أصبح أمرًا لا بد منه، وأرسل الأمير نابولي كتابًا سريًّا إلى غاريبالدي يذكر له فيه أن الإمبراطور يوصيه بأن يتحدى السياسة بالأمر الواقع وهكذا نجح كافور في سياسته، فغاريبالدي سيرفض حتمًا تلبية أوامر الملك، ولن يقوم الفرنسيون بأي عملٍ ليحولوا دون عبور المضيق، ولما كان كافور لا يزال يشك في إخلاص غاريبالدي للملكية ويخشى أنه إذا ما نجح في مشروعه أن يخضع لإيحاءات الدموقراطيين المتطرفين، وأن يمتنع من سماع وصايا الحكومة البيمونتية وحينئذٍ تسوء الأمورُ في الجنوب كما ساءت في صقلية، وقد تؤدي إلى انشقاق بين الشمال والجنوب وربما ينتهي إلى قيام الملكية في الشمال والجمهورية في الجنوب، فقد فكر في اجتناب ذلك كله لو استطاع أن يسبق غاريبالدي في العمل بحمل أهل نابولي على الثورة، وإعلان رضائهم بالانضمام قبل أن يصل الدكتاتور إليهم، وإذا ما ثار النابليون من أنفسهم فإن كافور يستطيع ساعتئذٍ أن يسوغ تدخُّله أمام الدول ولا حاجة إذن لمفاوضة آل بوربون.
وكان قوي الأمل بأن تلبى الدعوة، وما أسرع ما نهض الحزب البيمونتي من خموده وأظهر نشاطه وقوته، ولما أعلن فرنسوا الدستور في ٢٥ حزيران ملبيًّا دعوة الإمبراطور قابل الناس هذه المنحة بالاستخفاف، وكانوا يعلمون بأنه هذه هي المرة الخامسة يمنح فيها آل بوربون الدستور، وأخذت «لجنة النظام» التي تألفت في نهاية ١٨٥٩ لتأمين الضبط بين الجماعات القومية المختلفة تتراسل مع لافارينا وبرتاني، وكان كافور يعتمد كثيرًا على المتآمرين الموجودين في مركز الحكومة نفسها، وكان بعض الموظفين يخونون الدولة سرًّا لمصلحة الجمعية القومية، حتى إن «نوزيانته» أحد القُوَّاد الذين يثق بهم فرنسوا كل الثقة وعد كافور بأن يحرض القطعات على مخالفة أوامر آل بوربون، ثم إن عم الملك دوق سيراكوزة اشترك مع نوزيانته هذا في المؤامرة، وكان «ليبوريو رومانو» وزير الداخلية من أخطر المتآمرين؛ إذ كان المسيطر الحقيقي على المدينة بعد أن نظم حرسًا قوميًّا فيها واتصل بجمعية كامورا، وكانت هذه الجمعية بعد أن خدمت الاستبداد لمصالحٍ خاصة عادت فباعت نفسها لمعاضدة الثوار، واستطاع رومانو هذا بحركةٍ جريئة أن يبدل الشرطة برجال الكارا مورا.
وما إن فشلت المفاوضات بشأن الحلف حتى أوعز كافور في ٣ تموز إلى ممثل بيمونته في نابولي «فيلا مارينا» بالاتصال مع المتآمرين، وفي اليوم ذاته أمر الأميرال برسانو بالسفر إلى نابولي بقسمٍ من أسطوله وإنزال شحنة من البنادق خلسة بالاتفاق مع رومانو، وبينما كانت لجنة النظام تهيئ ثورة شعبية برعاية رومانو كان نوزيانته يحوك الدسائس في الجيش بنشاط، ولكن المتآمرين أخبروا في ٢٣ آب كافور بأن مساعيهم في كسب الجيش قد حبطت وأن العصيان في العاصمة أمرٌ مشكوكٌ فيه، ولكن الإيالات أخذتْ تتململ وأرسلت بعض البنادق البيمونتية إلى باسيلكانة، وأعلنت «كورليتو» الثورة في ١٦ آب، وفي اليوم الثالث نصبت بوتنزه قاعدة الإيالة حكومةً مؤقتة باسم فيكتور عمانوئيل وغاريبالدي، وما إن أبحر غاريبالدي المضيق حتى امتدت الثورة إلى «آبولي» في الشرق و«ساليرنه» في الغرب، وقبل أن يجتاز كلبريه أضاع آل بوربون ملكهم واجتمع عشرة آلاف متطوع تحت السلاح.
ولكن نابولي ظلت هادئة واشتد الشقاق في لجنة النظام بين المعتدلين والديموقراطيين حتى أدى إلى فقدان التعاون النزيه، الأمر الذي شل جهود اللجنة، وبينما كان أصحاب كافور يريدون طرد فرنسوا توًّا والاستيلاء على الحكم باسم فيكتور عمانوئيل كان العنصر الديموقراطي المتطرف قد انشق وألف لجنة عمل بتحريض مازيني، واستهدفت توقيف الحركة إلى حين وصول غاريبالدي، لينال غاريبالدي وحده شرف طرد آل بوربون، ولتصبح الحكومة في قبضة يدهم.
وقد رسم منهجًا للعمل يقضي بإيفاد حملةٍ كبيرة لفتح أومبريه والمارك؛ ابتغاء اكتساب جيش الملك الصيت الحسن، ولسحق قوات القائد الإفرنسي لامورسيبر والقضاء على أنصار آل بوربون، وتقضي الخطة بإيفاد الملك إلى نابولي على رأس قوة كبيرة إذا اقتضى الأمر لإبقاء غاريبالدي في الصف الثاني.
وكانت هناك أسبابٌ أُخرى تستدعي اتخاذ هذه الخطة، فلا يزال لدى آل بوربون جيشٌ قوي يبلغ مائة ألف جندي، يضاف إلى هذا أن لاموسيبر قد يعير قسمًا من جنوده لتقوية الجيش البوربوني، فيضطر غاريبالدي إلى خوض غمار قتال عنيف قبل أن يصل إلى نابولي، وعمت إيالات البابا النقمة من سوء تصرُّف المتطوعين ولا سيما الأيرلنديين المغرورين الفاقدي النظام، وكان المتطوعون القوميون في الروماني وطوسكانه متحفِّزين لاجتياز الحدود، وقد سعى مازيني طول الصيف في نشاطٍ عظيم للقيام بحركة زحف نحو أومبريه وكان لديه ستمائة رجل في جنوة وألف رجل في الروماني، ومثل ذلك في «سيجنه» بقيادة الجمهوري «نيكوتيره»، وقد وعد ريكاسولي بتجهيز رجال مازيني بالبنادق إذا لم يعارض كافور ذلك، وقد رَحَّبَ غاريبالدي بهذا المشروع من كل قلبه، موقنًا بأن جيوش الثورة ستزحف نحو روما.
ولما اطلع كافور على ذلك كانت الإنذاراتُ الصاخبةُ الأجنبية قد أفزعتْه، بَيْدَ أنه كان يُريد أن يظل مصانعًا لرجال غاريبالدي من جهة وأن يستخدم متطوعي طوسكانه لتنفيذ خطته الخاصة من جهة أخرى، وقد اتصل بالملك ورجاه أن يوافق على تحريك الحملة ووعده بأن يضمن على مسئوليته عدم الهجوم على أي موقع فيه قواتٌ إفرنسية، ولكن لافارينا أجابه باسم الحكومة بأنها لا توافق على حركة المتطوعين من جنوة للنزول في سواحل البابا أو طوسكانه بأي صورٍة كانت، ولكن هذه القوة تستطيع أن تسافر بمفرزات متفرقة صغيرة على أن تجتمع في خليج «أرانكي» بالقرب من ساردينية على أن تمر أولًا من صقلية، فوافق برتاني على هذه الشروط ولم يبت فيما يتعلق بالمتطوعين في سيجنة، ثم سافر على رأس قوته معتزمًا العهد إذا تمكن من ذلك واثقًا بقدرته على إقناع غاريبالدي بأن يتولى قيادة المتطوعين وتوجيههم نحو «الأهداف المطلوبة».
وقد ذهب مازيني إلى فلورنسة مِن دون أن يكون له علم بذلك العهد، وقرر بالاتفاق مع نيكوتيره اجتياز الحدود والهجوم على بيروزه، ولما اطلع كافور على هذه الأخبار خشي عاقبة هذه الاختلاطات واتخذ التدابير الصارمة ضدها، فأصدر فارينا بلاغًا شديد اللهجة منددًا بكل مَن يتدخل في شئون الحكومة، كما أنه لم يساعد المتطوعين على الحركة، وأوعز إلى كافور وريكاسولي بأن يسرح رجال نيكوتيره فورًا، بَيْدَ أن ريكاسولي احتج على هذه الشدة المفاجئة، ثم تفاهم وكافور على أن يجرد المتطوعين من السلاح بهدوء ثم تتولى الحكومة تسفيرهم إلى صقلية.
وقد قوت هذه الحادثة — من دون شك — اقتناعَ كافور بضرورة الإسراع في الحركة، ولكنه كان يقدر أهمية عواقب هذه الحركة والعقبات التي تقف في وجهه، فهو إذا شرع في تنفيذ برنامجه من دون موافقة الإمبراطور فإن ذلك سيؤدي إلى بقاء الإفرنسين في روما مدة غير معينة، وقد يصبح الجيش الإيطالي وجهًا لوجه أمام القوات الإفرنسية، بينما تترقب النمسة الفرصة لجمع الأسلاب.
ثم إنه إذا استطاع أن يكسب موافقةَ الإمبراطور فسيواجه خطرًا آخر أشد؛ إذ بينما تقاتل أحسن القوات الإيطالية في الوسط قد تنتهز النمسة الفرصة للهجوم، وإذا انضم الإفرنسيون ولامورسيبر بقواتهم إليها وسحقوا غاريبالدي فسيبقى الجيش الإيطالي بين قواتٍ عظيمة في الجنوب والجيش النمسوي في الشمال.
وكانت الخطوة الأولى التي خطاها كافور لاتقاء شر النمسة وفرنسة بالحصول على موافقة الإمبراطور، فأوفد إليه في شامبره فاريني وجيالديني لِجَسِّ نبضه ومعرفة آرائه بشأن أومبريه، وقد قالا له في ٢٨ آب بأن الثورة على وشك الانفجار وأن نجاح غاريبالدي ينذر بزَجِّ إيطالية كلها في جحيم الثورة، وأن الخطر لا يمكن اجتنابه إلا إذا سبق فيكتور عمانوئيل غاريبالدي وزايده بالثمن باحتلاله إيطالية الوسطى، ووعدا الإمبراطور بأنه إذا وافق على حركة الاستيلاء فإن حكومة بيمونته تعتبر روما بلدًا مصونًا.
ولعلهما تَعَهَّدَا بأن لا يتوغل الجيش البيمونتي في أرض البابا ما لم تنشب ثورة فيها، وكان نابليون على استعدادٍ لأنْ ينصت إليهما، ولا سيما لأن تعنُّت البابا كاد أن يُفقد الإمبراطور رُشْدَه، وكان يعلم بأن جيش لامورسيبر أصبح عشًّا للمؤامرات، وتوقع أن يؤدي تقدم البيمونتيين إلى فزع البابا واضطراره إلى الهروب، وبذلك يزول السبب في بقاء الجنود الإفرنسيين.
أن ستكون إيطالية بعناية الله قبل انقضاء ثلاثة أشهر.