إلحاق الجنوب
استلم غاريبالدي كتاب الملك، فأجاب عليه بأن الوعد الذي قطعه لأهل نابولي يَحُول دون تلبية أوامره، وقد عسكر رجالُهُ بعد ظفر «ميلازُّو» على ضفاف مضيق مسينه، وكانت طَرَّادات نابولي تراقب البحر، ولكن مفرزة بقوة مائتي شخص استطاعت في ٨ آب اجتياز المضيق إلا أنها اضطرت إلى الانسحاب إلى «أسبرومونته».
وبعد بضعة أيام قدم برتاني وفهم منه غاريبالدي أن الحملة التي أعدت لبريطانيا الوسطى تعسكر في خليج «أرانجي»، وعلم غاريبالدي — في الوقت نفسه — أن الحكومة جردت نيكوتيره من السلاح، واعتزمت إرسال قوات للمارك، ولما ضاق ذرعًا بالبقاء عاطلًا ذهب إلى ساردينه لتسخير القوة المعسكرة فيها في حركة ضد نابولي، ولكن علم حين وصل إلى الخليج أن قسمًا من القوة قد سافرت، فعاد أدراجه إلى باليرمو مصممًا على اجتياز المضيق.
وفي ٢٠ آب أنزل أربعة آلاف رجل قرب «ميلتو» في منتهى المضيق الجنوبي واحتل «ريجيو» عنوة، وكانت ترابط في كلبريه قوة مؤلفة من ٣٠٠٠٠ من جنود نابولي، إلا أنه كان يتوقع أن يتغلب عليهم بحركاته الجريئة السريعة كما فعل في صقلية، وبالفعل لقد فاز بأكثر مما كان يتوقع، وفي سان جيوفاني سلم تسعة آلاف من جند نابولي أنفسَهم طائعين بعد أن اغتالوا قائدهم «بريغانتي»، وهكذا قبض غاريبالدي على ضفتي المضيق، واجتازته قواته الباقية من دون مشقة وانضم إليه الثوار في القرى الواقعة على أطراف إسبرومونته.
ولما تقدم سالكًا طريق الساحل التحق به آلاف من أهل كلبريه، وكان لا يزال لدى الحكومة النابولية في الإيالات عشرون ألفًا يستطيعون المقاومة بثبات، متحصنين بالموانع الطبيعية المنيعة التي تعترض الطريق، بَيْدَ أن الذعر انتشر بينهم بسرعة واختل ضبطهم بالدعاية الحرة ودسائس نوزيانته حتى أخذ الجنود والضباط يطالبون تسريحهم والعودة إلى بيوتهم.
وفي «كوزنزه» ألقت قوات كالداريلي سلاحها فور مطالبتها بذلك ويبلغ عددها سبعة آلاف، وفر القائد «فياله» ناجيًا بنفسه؛ خشية أن يصيبه ما أصاب بريغانتي، وكان يسيطر على مضيق «مونته لئونه» وتبلغ قوته اثني عشر ألفًا، ولما رأى أن العصابات الكلبريه قد أحاطت به سلم نفسه بلا مقاومة، وثارت إيالة باسيلكانة قبل خمسة عشر يومًا من ذلك، وبهذا تحرر نصفُ المملكة من دون أن يطلق رجال غاريبالدي رصاصة منذ استيلائهم على ريجيو.
وأخذ غاريبالدي يتقدم في البلاد على رأس طليعته، ويكاد يكون بلا حرس بين حماسة الجماهير وهتافاتهم، وارتبك بلاط آل بوربون ارتباكًا عظيمًا، وولد مجردُ اجتياز غاريبالدي للمضيق الرعبَ في نفس فرنسوا حتى عرض على غاريبالدي في ٢٧ آب بأنْ يعيره خمسة آلاف جندي لمقاتلة النمسويين أو لامورسيبر فيما إذا كف عن القتال.
وأخذ رومانو يتآمر جهارًا، واجتمع أخيرًا بغاريبالدي ودعاه إلى نابولي، ولما ورد نبأُ عصيان الجنود في القرب من ساليرنه، وعزم الأسطول على التخلِّي عن الخدمة؛ ترك فرنسوا نابولي في ٦ أيلول، وفي صباح اليوم التالي وصل غاريبالدي مع بعض رجاله إلى نابولي بقطار السكة الحديدية، رغم أن القوات الملكية لا تزال تحتل مواضعَ قوية مِن شأنها أن تجعل غاريبالدي والمدينة كلها تحت رحمتها، إلا أنه استقلَّ القطار وأتى إلى المدينة دون أن يكترث للخطر المحدق به، أما الجنود فانسحبوا دون أن يقلقوا راحة الضيوف القادمين.
ويوم دخل غاريبالدي نابولي أرسل كافور إنذارًا إلى أنتونللي وطلب فيه أن يسرح المتطوعين الكاثوليك الأجانب؛ لأن وجودهم يهين كرامة الطليان ويهدد سلامة أهل أومبرية، وبعد مرور يومين أنذر فانتي قائد القوات المحتشدة على الحدود لامورسيبر بأنه إذا أقدم على أي عملٍ يمس الحركة القومية أو يعرقل سيرها فإن ذلك سيؤدي إلى احتلال الأملاك البابوية.
وقد وردت الرسالتان إلى روما في اليوم ذاته فاعتزم الكرادلة القتال، ولم تكن قوات لامورسيبر المختلطة تبلغ العشرين ألفًا أكثرها من المتطوعين الذين يعوزُهُم النظام، وكانت القطعات النظامية مستاءة، فقد اعتزم لامورسيبر أن يقمع كل معارضة بأقصى الشدة.
اجتاز المتطوعون القوميون الحدودَ في اليوم المقرر، وكانوا يتقدمون الجيش البيمونتي المتفوق الذي شرع بالحركة في ١٠ أيلول؛ أي قبل أن يصل جوابُ أنتونللي وكانت قوتُهُ تبلغ ٣٥٠٠٠ بقيادة فانتي، وقد انقسم إلى قسمين: القسم الأول بقيادة «ديللا روكا» وتقدم في أومبريه نحو بيروزه، والقسم الآخر بقيادة جيالديني توغل في المارك نحو الكاثوليكا، وهدفه إنكونة. وكان لامورسيبر قد وزع قواته في أومبريه والمارك متخذًا إنكونه قاعدة لحركاته.
وقد نشبت في ١٨ أيلول معركةٌ فوق روابي «كاستل فيد اردو» استطاع فيها جيالديني أن يسحق بقواته البالغة ثلاثة عشر ألفًا خمسةَ آلاف من الجنود الباقية لدى لامورسيبر الذي هرب مع بعض جماعته إلى إنكونه تاركًا الجنود المبعثرين بلا قائد، على أن إنكونه دافعت عن نفسها ببسالة ضد مدافع جيالديني وأسطول برسانو واستسلمت في ٢٤ أيلول.
وكانت أرتال ديللا روكا قد اقتربتْ من روما حتى وصلت إلى موقعٍ يبعد نحو مسيرة ثلاث ساعات، وعلى الرغم من وجود الحامية الإفرنسية في روما فإن المدينة كانت تنتظر دُخُول البيمونيين بفارغ الصبر، وقد أعد كلُّ بيت العلمَ المثلث الألوان ليحيِّي به الملك فيكتور عمانوئيل، وكان البابا ينوي الهروبَ لولا المشقة العظيمة التي لقيها «جرامون» في ردعه.
وبانخذال لامورسيبر نستطيع أن نقول: إن الوحدة الإيطالية قد تمت وهي تكاد تتم، فما عدا فنيسيه وطرانتينا في الشمال وروما وممتلكات البابا في الساحل؛ حيث لا تزال القطعات الإفرنسية تحتلها بين «كابوليه وجايته»، فقد تحررت جميع إيطالية بَيْدَ أن الخطر أخذ الآن يهدد إيطالية بانشقاق القوميين، فغاريبالدي يسيء الظنَّ بكافور وأخذ هذا الظن يتزايد بتأثير الحاشية التي تُحيط به، ولا سيما بعد أن بلغه خبرٌ مكذوبٌ يقول بأن كافور قد تَخَلَّى عن ساردينه لفرنسة لقاء حرية الحركة في إيطالية، وقد صمم على أن لا يضع سيفه في غمده إلا بعد أن يُحرر روما، واعتزم على أن يبقى دكتاتورًا في صقلية ونابولي ما دامت المهمة التي أخذها على عاتقه لم تُنجز.
وكان كافور أيضًا — بدوره — يرتاب في غاريبالدي ويدرك مقدار الخطر الذي يهدد البلاد من بعض خططه الطائشة ضد روما، وأخذ يخشى أن تعم الفوضى في نابولي كما عمت في صقلية، وقد حاول كافور حتى بعد فشل رجاله في نابولي أن يسبق غاريبالدي بتعيين برسانو أو فيللا مارينا أو كونت سبراكوزة دكتاتورًا على نابولي قبل وصول غاريبالدي إليها، ولما قيل له بأن هذا العمل يؤدي إلى حربٍ أهلية تحدى غاريبالدي بأن عمل على تأسيس حكومة مؤقتة، ومع أن اللجان الثورية أقامت حكومة مؤقتة في نابولي بعد فرار فرنسوا إلا أنه تم الاتفاق على أن تُعلن الحكومة المؤقتة غاريبالدي دكتاتورًا باسم فكتور عمانوئيل.
ولما وصل غاريبالدي إلى نابولي أقصى أعضاء الحكومة المؤقتة عن العمل ووضع الأسطول النابولي تحت إمرة الأميرال برسانو وسلم دار الصناعة إلى قوة بيمونتية وأعلن بأن جميع أعمال الحكومة تحت اسم الملك، وبعد بضعة أيام أصدر إرادةً تقضي بأن يكون الدستور البيمونتي مرعيًّا وأن تكون القوانين البيمونتية في القضاء والجيش نافذة، وألغى المصالح القنصلية الخاصة بمملكة نابولي كما ألغى جميع الحواجز الجمركية الموجودة بين المملكة وباقي أقسام إيطالية، ولكن الرجال المحيطين به استطاعوا أن يوغروا صدره ضد كافور بحيث أصبحتْ نابولي عشًّا لأعداء كافور، وسارع مازيني بالمجيء إلى نابولي وأصبح برتاني سكرتيرًا للدكتاتور ورسم منهجًا واسعًا معقولًا للإصلاحات الاجتماعية، وكان يتضمن إدخالَ طريقة تدريس منتجة مؤثرة، وتحويل أرض الكنيسة وأملاك الأشراف إلى خزينة الدولة، وتوسيع شبكة السكك الحديدية والخطوط البرقية، وتأسيس صناديق للتوفير وتنظيم الأعمال الخيرية وإصلاح مؤسساتها، وتعميم الخدمة الصحية، وهدم مواخير الرجس في نابولي.
ومما يؤسَف له أن يُصبح برتاني مرجعًا للحزب الذي يَحُول دون وجود حكومة مستقرة، وظل غاريبالدي مصممًا على الذهاب إلى روما وتأخير إعلان ضم نابولي ريثما يتوج فيكتور عمانوئيل في الكابيتول، وعبثًا حاول برسانو أن يردعه عن ذلك وعبثًا أبان له السفير البريطاني «أليوت» عواقب تلك الخطة وأخطارها، ولم يعبأ بكل ذلك بل إنه كان موقنًا بأن الأربعين ألف جندي الذين كانوا لا يزالون مخلِصين لآل بوربون سوف يؤسسون نواة الجيش الإيطالي في نابولي.
واعتقد بأن الإفرنسيين لن يقاتلوا في سبيل السلطة الزمنية وأن هنغارية تنتظر الإشارة لتثور وتصبح فنيسيه لقمة سائغة للقوات المتحدة المؤلفة من جنود جميع أنحاء إيطالية، ولما رأى دبريتسي في صقلية لا يزال يسعى لضم الجزيرة أقصاه عن العمل وعين بدلًا عنه «موردينو» وهو من المعارضين لفكرة الانضمام.
وقد نشب الجدلُ ذاته بمقياسٍ أوسعَ في نابولي على أن شبه الجزيرة كلها كانتْ متشوقةً للانضمام كصقلية، ومع ذلك فقد نجمتْ أمورٌ لم تكن تدعوا إلى الارتياح فالشرطةُ من رجال الكامورا لم تتمسكْ بِحُسْن السلوك مدة طويلة، ثم إن عناصر الاضطراب والجنود غير المنظمين والمجرمين الذين أُطلق سراحهم أخذوا يعيثون بالأمن ويبثون الفوضى كما أن الحركةَ الرجعيةَ أخذت ترفع رأسها.
ومما زاد في فساد الإدارة أن برتاني ملأها بالأَفَّاقين كما فعل كريسبي في صقلية، وضاعتْ ثمانون ألف بندقية كانت قد أُرسلت لتجهيز الحرس القومي، ووقعت بأيدٍ خطرة، وحين تَوَلَّى كريسبي وزارةَ الخارجية نشب النزاع في الحكومة بينه وبين أنصار كافور.
على أن الانتصار الباهر الذي أحرزه جنودُ غاريبالدي حَسَّنَ هذا الموقف المخزي، وكان فرنسوا ومعه مِن أربعين إلى خمسين ألف جندي يرابط وراء نهر فولتورنه، يستند إلى قلعة كابوته بمثابة رأس جسر في الضفة اليسرى من النهر، والخطر يأتي من تقدُّم هذا الجيش المتفوق بالعدد وتغلُّبه على المتطوعين واسترداد نابولي.
فلكي يحمي غاريبالدي المدينة من هذا الخطر المتوقَّع نشر قواته البالغ عددها أربعةً وعشرين ألفًا، منها عشرةُ آلاف من كلبريه على خطٍّ طولُهُ اثنان وثلاثون كيلو مترًا، وفي ١ تشرين الأول هجمت قوات آل بوربون على طول هذا الخطِّ، وكان لديها خيالةٌ ومدفعيةٌ كافيةٌ وكانت قوتها تفُوق قوة المتطوعين ضعفين، فلم يتمكن «ميلينز» في سانتا ماريا ومديجي في سانت أنجليو من الاحتفاظ بموضعهما إلا بشق الأنفس.
وقد احتفظ غاريبالدي باحتياطه إلى الساعة الأخيرة ثم قذف به في المعركة حين خارتْ قوات الجند النابولي من التعب، فاستطاع غاريبالدي أن يهزمهم وأنْ يستولي على مواضعهم وأن يُطاردهم حتى جدران قلعة كابونه، وكان بيكسيو مع خمسة آلاف من رجاله يشتت شمل ثمانية آلاف صمدوا له في «مدالوني»، ثم إن «برونزيتي» تغلب بثلاثمائة رجل على أربعة آلاف من الجنود في «كاستل مورونه»، وبلغت خسائرُ غاريبالدي في هذه المعركة ١٨٠٠ نفس، ويصح القول بأن معركة فولتورنه هذه من ألمع انتصارات إيطالية الحديثة؛ إذ أظهر فيها المتطوعون من المتانة والحمية ما لا تقل عما أظهره جنود بيمونته النظاميون، وكان معظم قطعان آل بوربون من المرتزقة السويسريين والنمسويين الذين قاتلوا قتالًا مجيدًا، وقد أبرز الرؤساء والرجال مقدرةً وشَجَاعَةً في الدفاع عن المواضع الضعيفة أمام تفوُّق عددهم في العَدَد والعُدد.
وظل غاريبالدي رغم هذا النصر الباهر عاجزًا عن إنهاء الحرب في الجنوب، وبينما كان الهرج والمرج سائدًا في نابولي أقدم غاريبالدي على المطالبة بإبعاد كافور من رأس الحكومة، وأجاب على طلبات كافور في ١٥ أيلول بأنه لن يكون صديقًا للرجل الذي أهان كرامةَ الأمة وباع إيالة إيطالية، ثم كتب للملك يطلب إليه إبعادَ كافور وفاريني عن الحُكم عارضًا عليه استعدادَه لضم صقلية ونابولي توًّا.
تعذر على كافور أن يتخذ التدبير الذي يقهر به الدكتاتور، وقد لحظ أن عزم غاريبالدي قد اشتد على التقدُّم نحو روما، وأوجس خيفة من أن يعلن الدكتاتور الجمهورية، فدعا البرلمان إلى الاجتماع في ٢ تشرين الأول ليطلب إليه الصلاحية المطلقة لضم الجنوب إلى المملكة الجديدة، حتى إذا ما وافق البرلمان على طلبه هذا يتولى الملك قيادة الجيش في إنكونه حالما يتم حصارها ويتقدم نحو نابولي فإذا خضع غاريبالدي فنعم العمل، وإلا فإن أقل ما تعمله الحكومة إرسالها قوة إلى باليرمو لضم صقلية، صرح كافور قائلًا: «إذا كان غاريبالدي يريد القتال فليفعلْ ذلك، وإني أشعر بأن لدي من القوة ما يكفي لمقابلته.»
وحاول أن يكسب صداقة غاريبالدي مرة أخرى بأن أوفد برسانو وكتب إليه قائلًا: «سنذهب يومًا ما إلى روما لا محالة ومن الطيش التفكير بها؛ إذ علينا الآن أن ننجز أمر فنيسيه معًا وألا نضيع وقتنا في الأحلام.»
وفي ٤ تشرين الأول خول المجلس النيابي الوزارة بما يُقارب الإجماعَ صلاحية جمع إيالات الوسط والجنوب على أن تُعلن بالاقتراع العام رضاها عن ذلك، وبعد يومين من اتخاذ ذلك القرار وصل الملك إلى إنكونة، ووصل في الوقت ذاته باللافيجينو يحمل رفض غاريبالدي، وكان باللافيجينو هذا من الوطنيين المتصلبين وكان يكره كافور، إلا أنه كان يدرك ما في سياسة غاريبالدي من طيشٍ فاعتزم أن يبذل جهده في مظاهرة أنصار الانضمام، وكان كريسبي قد خلف برتاني في سكرتيرية الدكتاتور فسعى إلى قهر أنصار الانضمام بالقوة، وأوشك أن يقع الاصطدام بين الجيشين القوميين، وشاع أن برتاني أرسل برقيةً إلى قائد الحرس القومي على الحدود في «أبروزه» يبيح له إطلاق النار على قوات الملك، ولكن الخبر كان مكذوبًا مما حمل غاريبالدي على أن يرسل برقية يطلب بها استقبال البيمونتيين إخوانًا، ثم كتب إلى الملك يحثه على إرسال القوات، ورأى باللافيجينيو ضرورة الإسراع في العمل والبَتِّ في الأمور قبل أن يقوم الدكتاتور بعملٍ مشئوم يزجُّ البلاد في حربٍ أهلية فحرض الوزارة على تقرير إجراء الاقتراع العام، وقد قررت الوزارةُ ذلك ظنًّا منها أن غاريبالدي قد وافق عليه.
وكان غاريبالدي يريد مجيء الملك إلا انه كان دائمًا متمسكًا برأيه في ضرورة الزحف على روما، وكان يعلم بأن الإلحاق يقضي على خططه، وترأس كريسبي المعارضة واقترح الدعوة إلى عقد مجلسٍ تمثيلي بدلًا من إجراء الاقتراع العام ولكن قد يعارض المجلس فكرة الإلحاق، وفي هذه الحالة لا يمكن اجتنابَ الحرب الأهلية، ولكن غاريبالدي رغم هذا المحذور أَيَّدَ رأي كريسبي فما كان من باللافيجينيو إلا أنْ هَدَّدَ بالاستقالة من الوزارة، ومِن حُسن الحظ أن الشعب أدرك خطورة الموقف فقام أهل نابولي بمظاهرة صاخبة طالبين الانضمام، ورأى غاريبالدي نفسه بأنَّ الشعب كُلَّه ضده فمال فورًا إلى رأي باللافيجينيو ووافق على إجراء الاقتراع العام، وناشد البلاد بأن تنسى وجود الأحزاب السياسية وتتناسى أحقادها الحزبية.
وجرى الاقتراع العام في ٢١ تشرين الأول وأُعلنت نتائجه بعد خمسة عشر يومًا، واقترع لفكرة الانضمام في شبه الجزيرة ١٣١٠٠٠٠ ضد ١٠٠٠٠ صوتٍ، واقترع في صقلية ٤٣٢٠٠٠ صوتٍ ضد ٦٠٠ صوتٍ، وفي مدينة نابولي ذاتها اقترع ١٠٦٠٠٠ للانضمام ضد ٣١ صوتًا فقط، ثم جرى الاستفتاء بالاقتراع بعد بضعة أيام في المارك وأمبرية وكان عددُ القائلين بالانضمام في الأولى ١٣٣٠٠٠ ضد ١٢٠٠ وفي الثانية ٩٧٠٠٠ ضد ٣٨٠ واقترعت إيالة «فيتريه» للانضمام على الرغم من أن الجنود الإفرنسيين كانوا يحتلونها.
وعلى إثر ذلك أخذ كافور يدعو الملك للعجلة في المسير؛ لأنه أصبح يخشى هجومًا يباغت به النمسويون لمبارديه ولم يكن يستطيع إرسال الجيش لمقاتلة العدو، ومع أن بولونيه وبيازنسه كانتا محصنتين وأن لمبارديه وبيمونته تنفران للجهاد بكلتيهما إلا أن آخر القوات الإفرنسية كان قد ذهب من لمبارديه في حزيران، وأصبحت القوات الإيطالية الضعيفة معرضة لخطرٍ شديد، وكان من المحتمل جدًّا أنْ تنتهز النمسة هذه الفرصة السانحة للهجوم، وكانت النمسة تريد الحرب من دون ريب.
صحيح أنها رفضت التدخُّل لمصلحة البابا على الرغم من دعوة أنتونللي لها غير أن استيلاء الجند البيمونتي على أومبريه وَلَّدَ في المحافل السياسية سخطًا عظيمًا على بيمونته، فاستدعت روسية سفيرها واحتجت بروسية بلهجةٍ شديدة، حتى الإمبراطور نابليون نفسه تهدد بالمعارضة مع أنه شجع كافور خفية على المضي في عمله واستدعى سفيره من تورينو، وظلت إنجلترة وحدها موالية إلا أنه لم ينتظر منها بأنْ تخوض غمار حرب في سبيل إيطالية، وعليه فقط ظهرت إيطالية وحيدة منعزلة تمامًا، وأحس كافور بدُنُوِّ الخطر شيئًا فشيئًا؛ إذ تَوَقَّعَ توجيهَ الإنذار من النمسة، وساوره القلقُ الشديدُ حتى إنه في نهائية تشرين الأول طلب إلى الملك وفانتي العودة توًّا، ثم حدث بعد ثلاثة أيام ما طمأنه أن إيطالية أصبحت في سلام.
وكان الإمبراطور نابليون الثالث هو الذي أنقذها في هذه المرة أيضًا؛ إذ استمال قيصر روسية إلى جانبه وهدد النمسة، ولعل الوزارة الإنجليزية بذلتْ هي أيضًا نفوذَها في برلين فكف فرنسوا جوزيف عن مشروعه الحربي، وحين كان الجو متلبدًا تقدم الملكُ نحو الجنوب مع فانتي رئيس أركان حربه وفاريني حاكم نابولي المقبل واجتاز نهر «ترونتو»، ثم دخل أرض نابولي في ١٥ تشرين الأول فاستقبله الشعب في كل مكان استقبالًا عظيمًا واعتبره البطل المنقذ، حتى إن رجال الإكليروس وعلى رأسهم الأساقفة هرعوا لاستقباله بالمراسيم الدينية.
وبينما كان غاريبالدي يقمع حركة بعض القرويين الموالين لآل بوربون الذين ثاروا ضد رجاله وفتكوا بالأحرار؛ كان الملك يجتاز — على مهلٍ — منطقة «أبروزه» سالكًا ضفة نهر فولتورنه اليسرى ليستطيع الإحاطة بجيش آل بوربون، ولما رأى فرنسوا نفسه بين نارين ترك اثني عشر ألفًا من جنده في كابونه وانسحب بالباقي وراء نهر جاريجليانو.
وما علم غاريبالدي باقتراب الملك حتى ذهب لمقابلته، وقد اقتنع بأن التغلُّب على مقاومة آل بوربون لا يمكن أن تتم إلا بمجيء جيش الملك، وأدرك صعوبة الحركة نحو روما في تلك الآونة وقَرَّرَ تأجيلَها حتى الربيع، وبهذا قد يكون قد شعر بأن سياسته قد فشلت، ولعل لنصائح أصدقائه من ذوي البصيرة تأثيرًا في ذلك.
وتمت المقابلة المشهورة بين الملك والدكتاتور في ٢٦ تشرين الأول ولكن بعض أفراد الجيش البيمونتي أخذوا يهزأون بجنود غاريبالدي وقلة ضبطهم وسوء لباسهم، وراح جنود غاريبالدي يظنون بأن البيمونتيين إنما أتوا ليغتصبوا منهم انتصاراتهم، وكان الكثيرون منهم من الجمهوريين والدموقراطيين الذين حَزَّ في نفوسهم أن يروا إيطالية الجنوبية تترك لحكومة كافور، بَيْدَ أن الجميع كانوا يتحسسون حسًّا قوميًّا صادقًا.
وحال وجود العدو على جاريجليانو دون انفجار الغضب ثم حُوصرتْ مدينةُ كابونه وسرعان ما سقطت، ثم تقدمت على إثر ذلك قوات بيمونته الرئيسية لمهاجمة جند آل بوربون في مواضعهم الحصينة على نهر جاريجليانو، وقد استطاعت أن تجتاز النهر وأن تضطر العدوَّ إلى الانسحاب إلى قلعة «جاتيه».
وفي ٥ كانون الأول بدأ الحصار واجتاز الملك نابولي على المركبة وبجانبه غاريبالدي، وكانت الجماهير تستقبلهما تحت المطر استقبالًا عظيمًا ولعل التصفيق لغاريبالدي كان أشد حرارة، ثم حنق غاريبالدي لأسبابٍ منها تعيين فاريني صديق كافور الأمين حاكمًا على نابولي، ومنها أنه يوم دخول الملك نابولي طلب أوسمة للقيادة ورتبًا لجميع ضباطه في الجيش البيمونتي بعد أن عرض نتائج الاقتراع العام وتخلى عن عنوانه الدكتاتور، فلم يجبه الملك إلى طلبه فورًا وأجاب بما لم يرض غاريبالدي فانصرف، ثم حاول الملك بعد ذلك أنْ يلاطفه إلا أن غاريبالدي رفض هدايا الملك، وطلب إليه حمايته للمتطوعين ومنحه عنوان نائب صقلية مدة سنة، فوافق الملك على أن يبقى المتطوعون في مناصبهم الحالية إلا أنه رفض كل امتياز يتعلق بالنيابة، فأَبْحَرَ غاريبالدي مع بضع مئات من رجاله إلى كابربره وفي جيبه قليلٌ من الدراهم، وفي حقيبته قليلٌ من الفاصولية، وذهب إلى مزرعته.
وفي خطابه الذي ودع به المتطوعين ناشد الناس الولاء للملك ودعاهم إلى التمسك بالانسجام والوحدة، وراح ينتظر حلول الربيع؛ حيث يهرع مليون نفس إلى تقلُّد السلاح لفتح روما وفنيسيه وضمهما إلى الوطن، وكان فرنسوا قد تحصن في قلعة جايتة مع عشرين ألفًا من الجند ولم يجد له في محنته صديقًا سوى نابليون الذي عارض في حصار القلعة من البحر، وظل أسطوله يراقب الجانب البحري؛ ليحول دون الحصار من قِبَل الأسطول البيمونتي، إلا أنه أذعن أخيرًا لإلحاح الحكومة الإنجليزية وسحب أسطوله.
وقد كابَدَت المدينةُ أضرارَ القصف، وتفشَّى فيها مرض التيفوئيد، وأخيرًا أدرك فرنسوا أنه خسر المعركة فاستسلم في ١٣ شباط ١٨٦١، ثم استسلمت قلعة مسينة بعد ذلك لشهرٍ واحد، وبسقوط قلعة «سيفيتلكلا ديل ترونتو» في البروزه في ٢١ آذار انتهى عهد آل بوربون.