اسبرومونتة
ومن النقاط الأساسية في سياسة ريكاسولي أن سيكون المسير نحو فنيسيه من روما، وكان يود لو أمكن أن تقنع الدول النمسة بالاستيلاء على البوسنة والهرسك بدلًا من فنيسيه، وكان يعلم أن إيطالية لم تكن مستعدةً لقتال النمسة بلا مساعدة؛ فلذلك يقتضى تأخير القتال إلى وقتٍ آخر وعلى إيطالية أَلَّا تُفكر في الحرب قبل أن تتحسن الشئون المالية وتنظيم الجيش وتقمع الشقاوة، وتصبح قضية روما في طريق الحل، كما أن تأجيل قضية فنيسيه قد يفيد من كسب معونة إنجلترة الأدبية الذي يُمَكِّن إيطالية من استغلال هذه المعونة تجاه النفوذ الإفرنسي، وربما يستطاع الحصول على موافقة بروسية على قيام الكيان الجديد.
وكان بالمرستون قد أوصى بسياسة التريُّث بَيْدَ أنه كانت هناك دواعٍ قويةٌ تدعو إلى حربٍ عاجلة؛ إذ إنه قد تملكت فيكتور عمانوئيل منذ مدةٍ طويلة — لأسباب وطنية بلا شك — فكرةٌ ترمي إلى أن يلعب هو الدور الأول في السياسة الإيطالية مستقلًّا عن وزرائه، وكان كافور إلى حدٍّ ما قد قبض على عنانه غير أنه أصبح في زمن ريكاسولي قلقًا، وأخذ يعمل في الخفاء على إثارة الحرب ضد النمسة، فشجع الهنغاريين اللاجئين وفاوض الإمبراطور سرًّا؛ للحصول على معونة فرنسة، ولم يحاول إخفاءَ مقاصده عن وزيره الأول.
ولما رأى أن ريكاسولي معتزمًا مقاومة هذه الفكرة نشط في حياكة الدسائس ضد وزيره مستغلًّا حنق رتازي لصعود ريكاسولي منصب الحكم، وكان رتازي يميل إلى سياسةٍ حذرة ويتحاشى من منهجٍ متطرف، وكان يرى أن سكونًا جديدًا وسياسة اقتصادية أمران حيويان لتنظيم المالية وتأمين النظام في الإدارة.
أصبح الإمبراطور العضو الثالث في عصبة المؤامرة؛ إذ كان هذا أيضًا كريكاسولي يحبذ حسم القضية الإيطالية في الشرق بإعطاء النمسة الإياليتين البلقاليتين مقابل تخلِّيها عن فنيسيه، وكانت الشئون المالية في فرنسة قد جعلتْه يتجنب الحرب في تلك الساعة، كما أن علاقاته مع بروسية كانت توحي إليه بأن يراعي جانب النمسة.
وكان يرى من جهةٍ أخرى أن حربًا في فنيسيه قد تصرف أنظار إيطالية عن روما، ومهما يكن الأمر فإن الإمبراطور كان يحبذ ويشجع أي مؤامرة ضد ريكاسولي، ولعله كان يعتقد بأنَّ النفوذ الإنجليزي في تورينو يَفُوقُ نفوذَه ما دام ريكاسولي رئيسًا للوزارة، فشجع «بنديتي» سفيره الجديد على الدسائس لإسقاط ريكاسولي كما أن رتازي ذهب إلى باريس بتحريضٍ من الإمبراطور في شهر تشرين الأول، ولعله أُلقي في روع رتازي أنه سوف تتقدم إيطالية حالًا نحو روما وفنيسيه، كما وعده نفوذه للحصول على موافقة روسية وبروسية والوصول إلى نوعٍ من التفاهُم مع روما.
وبعد عودة رتازي ضاعفت عصبة المؤامرة نشاطها وبذل رتازي جهده لإسقاط ريكاسولي في البرلمان ليهيئ للملك فرصة يشكر له إياها، وكان يعلم أن مركز ريكاسولي من المتانة بحيث يتعذر عليه وحده إسقاطه، وقد استغل فيما مضى نفوذه غاريبالدي ثم تنحى هذا عنه، ولكنه أراد الآن أن يعيد الكرة.
وكان غاريبالدي يقضي حياة العزلة في كاربيره، وكان يميل هو أيضًا إلى مهاجمة روما قبل فنيسيه، أما مازيني فكان يدرك استحالة الهجوم على روما ما دام الإفرنسيون فيها، وحيث إن هنغارية وبوهيمية على أهبة الثورة فإن الفرصة سانحة للاستيلاء على فنيسيه، وكان الدموقراطيون قد جُنَّ جنونهم لسياسةٍ معاكسة وأقلقهم الانشقاق الذي وقع بين شبه الجمهوريين الذين أخذوا يطالبون بالسير بموجب منهجٍ متطرف على أن يعملوا مستقلين عن الحركة، وبين الملكيين المخلصين الذين يوشكون أن يقطعوا صلاتهم بالبرلمان، وقد بذلت مساعٍ لاندماج هاتين الفئتين في مؤتمر انعقد في جنوة في ١٥ كانون الأول انبثقت منه «جمعية التحرير»، وقد قبل غاريبالدي رئاسة الجمعية وتخلى في الظاهر عن نياته بشأن روما ووافق على أن تتجه الحركة نحو الهجوم على فنيسيه.
وأثار انعقاد المؤتمر واحتمالُ انعقاده مرة ثانية في آذار المعتدلين، فطالبوا بإلغائه، ولا سيما لأنه كان خصمًا للبرلمان إلى حدٍّ ما، ولكن ريكاسولي يعلم بأن إلغاء المؤتمر يحمل الناس على العمل في الخفاء والتآمر في السر وفي هذا ما فيه من حذرٍ بالغ، كما أنه كان يدرك قيمة المؤتمر ووطنيته، فرفض أن يتدخل في اجتماعات الدموقراطيين ما دامت تتعارض مع القانون، واعتقد أن الخطة التي وضعها منجبيتي والمعتدلون لسَحْق المتطرفين غيرُ عملية ولا هي شريفة، فنفي مازيني وإهمال غاريبالدي في صومعته لم يمنع عَلَم التحريكات من أنْ يرفرف دائمًا، ولم يكن لريكاسولي رجاءٌ في كسب جانب مازيني؛ إذ كان يعلم بأنه لا تلين له قناةٌ فليس أمامه من طريقٍ عمليٍّ سوى أن يتفاهم مع غاريبالدي.
وكان ميلُ غاريبالدي الطبيعي يتوجه نحو الملك وكان خطر غاريبالدي في حاشيته التي تُحيط به في كاربيره وتؤثر فيه، ولما علم ريكاسولي من وكلائه أن رتازي يُحيك الدسائسَ في كاربيره أصبحت ضرورةُ التفاهُم مع غاريبالدي أمرًا لا بد منه.
أما رتازي فأقنع غاريبالدي بأنه إذا تسلم الحكومة فسيهاجم فنيسيه فورًا ويساعده على سوق حملة إلى أي مكان في روما الشرقية يستطيع منه أن يهاجم النمسة من الخلف، وكان ريكاسولي يعلم بأنه إذا أُثيرت آمال غاريبالدي فإنه لا يطيق صبرًا على الحركة، فإذا امتنعت الحكومة من الحركة فسيلقي بنفسه غزوة طائشة نحو فنيسيه أود الماسية، قد تسعر النار في أوروبا وتجر إيطالية إلى حربٍ شعواء لم تكن قد استعدت إليها مطلقًا، فأصبح العلاجُ الوحيدُ اكتسابَ ثقته للاستفادة منه في مقاصد الحكومة القادمة، وإقناعه بالتريُّث ريثما تُعطَى له الإشارةُ وإشغاله الآن بشئون جمعية الرمي التي تألفتْ لتدريب الشباب على إطلاق النار، ولكن هذه المحاولة لم تستطعْ أن تتغلب على نفوذ رتازي الذي أوقع غاريبالدي في شَرَك عُصْبة الدسِّ، ولم يبقَ أمامها سوى زعزعة مركز ريكاسولي في المجلس النيابي.
وما إن اجتمع البرلمان في تشرين الثاني حتى تَجَلَّت العراقيلُ التي أخذتْ تعترض سُبُلَ الوزارة وكانت الوزارةُ غيرَ قوية سواءٌ أكان ذلك في الوزارة نفسها أم في الحزب، وأخذ اختلافُ الرأي يفرق بين أنصارها … فأعضاءُ اليمين آلمهم وأثار حنقهم تساهلُ ريكاسولي أمام تحريكات تجرى في طوسكانه وإميليه جهارًا، وأسخطهم تزايدُ عطفه على اللجان الدموقراطية.
ولما مال القسم البيمونتي المعاضد للوزارة إلى جانب رتازي راح هذا يحرض العناصر المعارضة جهارًا، ويضاف إلى هذا أسبابٌ أخرى كانتْ تدعو إلى مهاجمة الوزارة، نذكر منها السياسة المركزية الجديدة والفوضى والتذبذب الإداري والخلل في الجنوب واستدعاء جيالديني والمفاوضات التي كانت تدور حول روما، وقد هبت العاصفةُ المناسبة قضية التساهُل الذي أبدته الحكومة تجاه لجان التجهيز، وكان المجلسُ قد اجتنب الاقتراع ضد الوزارة غير أن المذاكرات دَلَّتْ بوضوحٍ على أنه ليس لدى ريكاسولي الأكثرية، فانتهز الملك الفرصة للتخلص منه.
وكان ريكاسولي في كانون الأول قد باغت الملك في قوله إنه لا يستطيع البقاء تجاه دسائس البلاط والأزقة، كما أنه رفض حينئذٍ أن يقدم استقالته ما دام البرلمان معه إلا إذا أتاه أمرٌ قطعيٌّ من العرش، وقد أدرك اليوم؛ أي في نهاية شباط، أنه أضاع تأييد المجلس النيابي فاستقال في آذار، وسارع الملك إلى قبول استقالته واستدعى رتازي ليحل محله، وبذلك دخلت المملكة في مأزقٍ خطير، ووجه الخطورة أن رتازي والملك بعثا الروح الثورية التي سعى كافور وريكاسولي كثيرًا لتهدئتها، وكانت هذه الروح تضع إيطاليا تحت رحمة غاريبالدي المشهورة، وكان رتازي يظن أنه يستطيع دائمًا — بلباقته المعهودة — أن يوقف التيار بهدوءٍ حين الحاجة.
وقد خرج غاريبالدي إلى جنوة حين استقال ريكاسولي وحَالَمَا بلغه تعيينُ رتازي أسرع إلى تورينو، ورجع منها بحماسةٍ شديدة بفضل الوعود التي قطعها له فيكتور عمانوئيل ورئيس الوزارة الجديدة، ويظن أن رتازي السياسي الحذر قد قصر حديثه على مشروعٍ غامض لا يتعدى تجهيز الحرس القومي، إلا أن مخيلة غاريبالدي جعلتْه يفهم من تلميحات رتازي معنى الحرب العاجلة للاستيلاء على فنيسيه وعلى روما أيضًا.
ومع ذلك لا يجوز الشك مطلقًا من أن رتازي لم يشجع غاريبالدي ولم يعده بالرجال والمال؛ فلذلك راح غاريبالدي يفكر في تجهيز حملة دون أن يَبُتَّ في تعيين جهتها … فكانت الوجهة تارة دالماسيه لمساعدة الهنغاريين وتارة بلاد اليونان لنصب فيكتور وصيًّا عليها، إلا أن أهم أهدافه كان نهك قوات النمسة بتحريض الإيالات الشرقية على العصيان، ولا سيما لأن الوقت كان مساعدًا؛ إذ كانت رومانية والجبل الأسود ودالماسيه تتململ في هياجٍ عظيم، وكان الكفاح الدستوري في هنغارية على وشك أن ينقلب إلى ثورة، وسيطر غاريبالدي على الحكومة في ذلك الحين، فعَيَّنَ رئيسًا لجمعيات الرمي وسلمت لابنه كتيبةٌ من جنود الكارابنيري جهزت بحجة ضرب الأشقياء، وألحق المتطوعون بالجيش النظامي وأوفد غاريبالدي إلى لمبارديه على نفقة الحكومة بمهمةٍ رسمية لتنظيم جمعيات الرمي فاستُقبل فيها كما يستقبل الملوك، وكانت الجماهير في كل مكان تقصد إليه تطالب بروما وفنيسيه فلم يبخل بكيل الوعود.
وبذلك نال رتازي بغيته في استغلال شهرة غاريبالدي لمصلحته، واستطاع بذلك أن يكسب رضاء البرلمان عنه وانضمام الدموقراطيين إلى جانبه، ولعل رتازي نوى أن يضع غاريبالدي أمام الإمبراطور وأن يؤكد له بأن ضغط الشعب وخطر نشوب الثورة يُحتِّمان — لمصلحة الحكومتين — تحقيقَ الآمال القومية في الحصول على روما، وكانت الحفاوة الباهرة التي قُوبل بها غاريبالدي في لمبارديه قد كسفت نجم الملك، فاضطرت الحكومة لكي تُحَوِّلَ الأنظار إلى الملك أن تُقرر سفره إلى نابولي؛ حيث حياة الأسطول الإفرنسي الراسي فيها، وأقبل الأمير نابليون للسلام عليه فاستقبل الملك بحفاوةٍ بالغة.
أما غاريبالدي فذهب إلى ناحية التيرول لتنظيم حمله، ومع أن الحكومة حاولت جهدها أن تتجاهل عزمه هذا، ولكنه لم يحاول وأصدقاؤه إخفاء الأمر، وقد شجعته الحفاوة التي قُوبل بها في لمبارديه على الحركة بجرأة واندفاع، واعتقد أنه إذا استولى على فنيسيه أو التيرول فلن ترى البلاد والحكومة بدًّا من السير وراءه، ومع أن رتازي أراد — حسبما يظهر — أن يصده عن هذه المغامرة الجديدة فإن هناك احتمالًا بأنه كان يلقى تأييدًا من دبريتيس عضو الوزارة، حتى إنه حصل على وعدٍ جديد بإمداده بالسلاح والمال، ولكن سرعان ما كشَّرت الحكومة له عن أنيابها بغتة، وكانت حجتها الرسمية في ذلك أن الشرطة اكتشفت — لأول مرةٍ — دلائلَ على وجود حركة تستهدف الاستيلاءَ على التيرول، ولعل رتازي أدرك أخيرًا أن غاريبالدي أصبح خارجًا عن قبضة يده، ولا بد من اتخاذ تدابيرَ صارمة لإيقافه عند حده، ومهما كان السبب فإن الحكومة قد لجأتْ في ١٥ أيار إلى سياسة الحزم، فأوقفتْ مائة متطوع وأرسلتْهم إلى بريسيه، وهناك حاول الغاريبالديون اقتحامَ السجن، فوقع اصطدام بينهم وبين الجند، وأثار هذا الحادث غضبَ الدموقراطيين، وقامت مظاهراتٌ في ميلانو وجنوة ونابولي وباليرمو تهدد الحكومة، ونَعَتَ غاريبالدي الجنودَ بالقتلة، وطلب إلى الحكومة إخلاء سبيل رجاله، ثم لم يلبث أن هدأ وكف عن إعداد الحملة، واجتمع برتازي وبدبريتس وانسحب إلى الريف وأصدر أوامره بتوقيف حركة تجنيد المتطوعين، وبعد مقابلةٍ خفية مع الملك ورئيس الوزراء رجع إلى كاربيره.
وحدث بعد ذلك أن فوجئت إيطالية بغتة بخبر نزول غاريبالدي إلى باليرمو، ولا شك أنه نوى أن يجعل صقلية قاعدة لقوته كما جعلها سنة ١٨٦٠، ولَربما كان لا يزال يتردَّد في تعيين وجهة تلك القوة، ويغلب على الظن أنه كان ينوي الذهابَ إلى بلاد اليونان، وأنه يترقب مساعدة الملك الموعودة؛ ليستخدمها في الهجوم على روما.
وقد قُوبل في باليرمو بحماسةٍ فائقة وكان الغاريبالديون فيها أقوياء، وحدثت في إحدى نواحيها ثورةٌ جمهوريةٌ لم تُقمع إلا بسفكِ كثيرٍ من الدماء، مما دل على أن العناصر الفوضوية التي تؤيد فكرةَ الحكم الذاتي المنفصل في الجزيرة كانتْ لا تزال قوية، وبعد مرور بضعة أيام هاجم غاريبالدي الإمبراطور حين خاطب أهل باليرمو قائلًا: «على نابليون أن يترك روما وإلا نعيد مأساة أفعى صقلية.» أما باللافجينو والي باليرمو فلم يحتج على خطابه.
وفي مارسله صرخ أحد المستمعين قائلًا: «روما أو الموت.» ثم أقدم على دعوة الشعب للقَسَم على المذبح في الكتدرائية، وبذلك أعلنها حربًا مقدسة شبيهة بالحروب الصليبية، وأثار مشروع غاريبالدي الجديد في البلاد هياجًا شديدًا، وخيل للبلاد أن زحف سنة ١٨٦٠ سيعاد للاستيلاء على روما كما استولى غاريبالدي على نابولي قبلًا، وقررت فيتربه العصيان، وبينما كان بعض القوميين في روما يبرقون لرتازي طالبين تعليماته اتصل البعضُ الآخر بغاريبالدي وتأهب للحركة، وكان جميعُ الناس قانعين بأن الحكومة تؤازرُهُ، وبهذا دخلت الحكومةُ في مأزقٍ لا مخرج لها منه، ولعل رتازي كان يتوقع أن يستخدم غاريبالدي وحركته لحمل الإمبراطور على الإذعان، وعليه فإنه بدلًا من أن يعترض على مشروع الثورة في روما اكتفى بأن نصح الرومانيين باجتناب الاصطدام بالإفرنسيين فقط، وترك باللافجينو من دون تعليمات سوى أمرٍ غامض يقضي بإحباط عمل المتطوعين، وقد رؤي ذات مرة يشرب نخب غاريبالدي راجيًا أن يتوج فيكتور عمانوئيل في أقرب وقت في الكابيتول.
وهرب أفرادٌ مختلِفو الرُّتَب من الجيش؛ للالتحاق بجيش غاريبالدي من دون أنْ يلاقوا أي عائق، إلا أن الوزراء فزعوا هذه المرة أيضًا كما فزعوا في شهر أيار، ويغلب على الظن أن موقف نابليون هو الذي أقلق الحكومة فعزلت باللافيجينو، وسعت لمنع وصول المتطوعين إلى الجزيرة وصدر بيانٌ ملكي في ٣ آب يصف الحملة بأنها عصيانٌ ومدعاةٌ للحرب الأهلية.
والواقع أن الحرب الأهلية كانت — على ما يظهر — قريبةَ الوقوع، وعلى إثر ذلك تراجع أصدقاء غاريبالدي الخُلَّص وأفزعتهم خطورةُ الحال حتى إن أحدًا من قواده القدماء لم يرغب في السير معه، وبذل تابريزي ومديجي والنواب الدموقراطيون جهدهم لردعه عن السير في هذه الحركة الطائشة، بَيْدَ أن غاريبالدي رفض التريُّث معتمدًا على مؤازرة الملك ومطمئنًا إلى أن الإفرنسيين لن يقاوموه، وشجعه إقبال المتطوعين والهروب من الجيش النظامي على المضيِّ في منهجه، وترددت السلطاتُ ذاتها حينئذٍ في مقاومته، ولعل رتازي كان لا يزال يتوقع أن يُعيده إلى رشده، ولَمَّا أصر على موقفه قطعت الحكومة صِلاتِها به في ١٧ آب، وأعلنت بأنه أصبح عاصيًا وأرسلت القائد جيالديتي إلى صقلية لإعلان الإدارة العرفية فيها.
ووصل غاريبالدي في اليوم التالي إلى كتانيه وكاد الاصطدام يقع بينه وبين الجند لو لم يرغب الفريقان في اجتناب حرب أهلية، ولم يكن لدى غاريبالدي سوى ٤٠٠٠ رجل أكثرهم من الفتيان المتشردين، ولو قامت السفن التي كانت تحاصر الميناء بواجبها لكان من الصعب أن يجتاز غاريبالدي المضيق إلا أنها أغمضت عينها وساعدتْه على أن يستولي على باخرتي نقل، فحرق خط الحصار مع ٢٠٠٠ من رجاله ليلًا في ٢٤ آب ونزل في ساحل كلبريه ولكنه لم يُلاقِ من الأهلين إلا قليلًا من العطف، وكانت قطعات قوية تحتل ريجيو فاضطر إلى الانسحاب برجاله الذين أخذوا يتضورون جوعًا وانطلق بهم إلى روابي «أسبرومونته» الجرداء، وتلقت قطعة تزيد على الثلاثة آلاف جندي أمرًا بمهاجمته فورًا وإجباره على الاستسلام، وكان اضطراره إلى مسيره الشاقِّ لجمع المتخلفين والحصول على الغذاء فرصةً سانحة للقطعة المطارِدة التي أحدقتْ به، فلم يُبدِ غاريبالدي أية مقاومة، وحاول مَنْع جنوده من إطلاق النار على الجند الطلياني إلا أنه نشب قتالٌ استمر عشر دقائق وجُرح فيه ما يُقارب العشرين من كل فريق، وسلم غاريبالدي نفسه بعد أن جُرِحَ برصاصةٍ إيطالية في عقب رجله، وعلى كل حال فإن حادثة أسبرومونته قد أفادت البابا ودفعت قضيته إلى الأمام بصورةٍ أزعجت الأحرار.
وكانت الحكومة قد أظهرت ما يكفي من القوة لإحباط عمل الحزب الثوري، فأدرك إذ ذاك رجالٌ — أمثال فانتي — كانوا إلى ذلك الحين يُفَضِّلون تأجيلَ الزحف على روما إلى حين؛ بأن سياسة أصبحت وقتئذٍ محفوفةً بالصعوبات، بَيْدَ أن فانتي وجميع الموظفين كانوا يعلمون بأن محاولة الذهاب إلى روما من دون رضاء الإمبراطور هي مجرد طيش، ولو اقتنع نابليون بأن لديه القوة الكافية لَكان ترك فيكتور عمانوئيل يتوج في الكابيتول عملًا بمشروع نيابة الملكية القديم، وفي هذه الظروف ذاتها كتب كتابًا مفتوحًا يقترح فيه استدعاء الحامية الإفرنسية، بشرط أن تعترف إيطالية بسلطة البابا في الأراضي التي كانت لا تزال في حوزة البابا، على أن تؤلف تلك الأراضي نوعًا من الاتحاد مع الملكية.
بَيْدَ أن البابا ظل متصلبًا شأنه سابقًا آبيًا التفاهُم، وأيده مجمع كبيرٌ من الأساقفة يكاد يكون أغلبهم غير طليان، وكان اجتمع لتقديس أحد الشهداء اليابان ورفض أَيَّ تساهُل وأعلن تمسكه بالسلطة الزمنية، وكان الإمبراطور — على ما يظهر — متمسكًا بقراره بسحب قطعاته، لولا أن الكاثوليك الإفرنسيين استطاعوا بنفوذهم أن يحملوه على التراجُع الوقتي فرفض وزير خارجيته ضمنًا إخلاء روما.
وأدى هذا الفشلُ الذي مُنِيَ به رتازي في الحصول على تساهُل الإمبراطور أو تأييده إلى زلزلة موقف الوزارة من جديد، ولم يستطعْ رئيس الوزراء رغم لباقته أن يضمن له أكثريةً مستقرة، وكانت الشكوكُ دائمًا تخالج حزب اليمين ولم يمنحه هذا الحزب الثقة إلا بسبب نفرته الشديدة من الغاريبالديين، وأخذ «بيروزي» الذي كان يترأس الفرع اللابيمونتي يهاجمه؛ لأنه سعى لتوسيع بيمونته بدلًا من تكوين إيطالية، أما الغاريبالديون فراحُوا يُقيمون الدنيا ويُقعدونها احتجاجًا على ما جرى في أسبرومونته.
ولما اجتمع البرلمانُ في شهر تشرين الثاني هَبَّتْ الزوبعةُ من جميع الأطراف وصَدَّقَ كثيرون من الناس الشائعةَ التي زعمتْ بأن الحكومة شجعتْ غاريبالدي ثم تخلتْ عنه، وكان من السهل أن يُدرك المرءُ سخط نصف إيطالية وحقدها لما علمت بأن غاريبالدي سقط جريحًا برصاصة إيطالية، وأخذ الخطر يهدد المملكة وينذر بحربٍ أهلية في صقلية؛ إذ طارد جيالديني المتطوعين في صقلية وقتل سبعةً من الجنود الهاربين الذين التحقوا بهم، وبدلًا من أن تعفو الحكومةُ عن غاريبالدي حالًا عاملتْه معاملةً فيها قسوةٌ غير لائقة، ولم تجرؤ على سوق غاريبالدي أمام المحاكم؛ خشية أن يفشي أسرارها ويُسوِّد وجهها، ولم يصدر العفوُ عنه إلا في شهر تشرين الأول، فلما اجتمع البرلمان اتحد جناحا اليسار واليمين، وهاجما الوزارة معًا حتى اضطر رتازي إلى تقديمِ استقالته في ١ كانون الأول ١٨٦٢.