ميثاق إيلول
وكان هناك مشاكلُ جمةٌ تُثقل كاهلَ المملكة الفتية وصعوبات تعترض سبيلها، وقد كشفت وقائعُ أسبرومونته عن الجروح المميتة التي ولَّدَتْها البابوية وفرنسة في قلب روما، وأي حل قاس فرض على المملكة؟ فإما المخاطرة باصطدامٍ مخيف مع فرنسة وإما ترك النار تحت الرماد لتؤججها الرياح وتَقْلبها إلى ثورة، ولو كان كافور حيًّا لاستطاع أن يتغلب على تلك الصعوبات، وكانت لا تزال أمام إيطالية صعوباتٌ أخرى: صعوبة تخفيض قوة الجيش ما دامت فنيسيه خاضعة لحكم الأجانب؛ لأن الأزمة المالية التي نشأت من زيادة قوة الجيش وأخذت تشتد باستمرار كانت تهدد بالإفلاس، يضاف إلى ذلك خلل الإدارة في الجنوب والمنافسة بين بيمونته والأقطار الجديدة والفساد الذي دب في الحكومات القديمة.
وساءت السياسة الداخلية كثيرًا حتى أصبح بوسع المرء أن يتساءل: أليس من الأجدر أن تترك إيطالية روما وفنيسيه مدة من الزمن وأن تتفرغ للإصلاحات الداخلية الاجتماعية؟ بَيْدَ أن هذا السؤال هو منطق نظري لأن العاطفة هي التي تتغلب دائمًا على المنطق حين يشتد الهياج، فسياسةٌ ترمي إلى جعل فكرة التوسُّع القومي في المرتبة الثانية من الاهتمام مستحيلةُ التطبيق، وقد سعى «باسوليني» بعد سقوط رتازي وتلاه سان مارتينو؛ لتأليف وزارة إدارية بدون تمييز بين الأحزاب، ففشل مسعاهما، وكان كلما مَرَّ حينٌ أو انقضى شهرٌ يتجلى عِظَمُ الخسارة التي منيت بها إيطالية بفقدها كافور، وكان ريكاسولي ورتازي يدركان — على الأقل — بعض ما تحتاج إليه البلاد ويفهمان ما تتطلبه الكرامةُ القومية، ولكن الحكومة بعدهما غدتْ بأيدي أُناس لا جرأة لهم ولا كفاية فيهم.
وكان الرئيسُ الأسمى في الوزارة الجديدة فاريني، إلا أن المرض ألجأه في شهر آذار إلى اعتزال الخدمة، فأصبح الرئيسان الفعليان في الوزارة منجيني وزميله ومنافسه بيروزي، وكان بيروزي قد اشتهر بالعبارة التي ابتدعها وهي: لا يمكن أن تحكم إيطالية من تورينو، وأصبحت إدارة وزارة الداخلية في إدارته وإدارة «سبافينته» مركزًا لشرطة سرية سارتْ على أساليبَ ترجع إلى دور الاستبداد القديم، ولا يجوز أن تصدر عن حكومةٍ حرة كقمع الصحافة أو فسادها بالخفاء واستخدام الرجال السريين من فاسدي الأخلاق، وكانت سياستهم قتل الوقت وكانت سياسة قتل الوقت في إيطالية تعني المصيبة.
وسارت مالية الدولة من سيئ إلى أسوأَ، وأديرت صقلية ونابولي من قِبَل السلطات العسكرية، ولعل أشد ما اتُّهِمَتْ به وزارة منجيني تشجيعها فكرة مهاجمة زعماء بيمونته، وكان بعض البيمونتيين الذين اشتركوا في الوزارة قد شغلوا المراكز الثانوية، فانجرفت الوزارة إلى جانب عصبة الدسائس حتى شاع أنها أفسدت الصحافة بإقناعها بالدفاع عن موضوع نقل العاصمة إلى فلورنسة، وأصبح من السهل أن تتشرب السياسة بالتحزُّب، وكان عددٌ كبير من النواب قد تعلم في المنفى أو في حياة قضاها في المعارضة عادةً جعلتْهم يصلحون للحياة النيابية وراحوا يُفضِّلُون التنفيذَ على القيام بواجبات التشريع، أما الأكثريةُ الكافورية القديمة فقد تَجَزَّأَتْ وانقسم المجلسُ النيابيُّ إلى جماعاتٍ صغيرة تستند إلى مصالِحَ شخصية أو محلية أكثر من استنادها إلى المبادئ، مما جعل الحكومة لا تستطيع أن تعتمد على أكثرية مستقرة.
أما فضيحة السكك الحديدية في الجنوب، فقد أظهرتْ للعيان الروحَ الحزبية التي كانت تسيطر على المجلس النيابي، وتفصيل الأمر أنه كانت مِن أهمِّ واجبات المملكة الجديدة تشجيع إنشاء السكك الحديدية ولا سيما في الجنوب، ومما قاله ريكاسولي في هذا الشأن «إن السكك الحديدية تعمل للقضاء على الشقاوة أكثر مما تعمله عشرة ألوية من الجند.»
وكان المجلسُ النيابي قد منح امتيازًا بتمديد السكك الحديدية من الجنود إلى «باستوجي» أحد أصحاب المصارف من ليفورنه وزير المالية في وزارة كافور، وانتشرت في ربع سنة ١٨٦٤ شائعاتٌ عن سوء استعمالٍ في المشروع وبتحريض اليسار تألفت لجنةٌ للتحقيق عن الفضيحة، ومع أن تقرير اللجنة اتهم باستوجي ونائبًا آخرَ فإنه لم يتعرض للآخرين، وفي الحقيقة ظل رؤساءُ الوزارات نزيهين؛ إذ لم يتطرق الفساد إليهم، وكان جميع رجال الدولة في الثورة من الذين لا ثروةَ لهم وقد ماتوا فقراء، ومع ذلك ظلت الشائعات تتهم اللجنة بأنها لم تقم بواجبها بل تأثرتْ بالروح الحزبية، وكان بدهيًّا أن يشجع عجزُ الحكومة والبرلمان الحزبَ الثوري.
وظلت سياسة مازيني تستهدف فنيسيه قبل روما، وكان مازيني لا يعتبر المعركة لإنقاذ فنيسيه مجرَّدَ خطوة نحو إكمال كمال الوحدة الإيطالية فحسب، بل إنها جزءٌ من سياسة أوروبية ترمي إلى تجزئة الإمبراطورية النمسوية إلى أجزاءٍ حسب القوميات التي تتألف منها، وكان يدعو إلى نجدة الثوار البولونيين بتحرير السلافيين من غاليسية، ويأمل في حمل الحكومة على خوض غمار الحرب للاستيلاء على فنيسيه، ولكنه كان يدرك تعذُّر طرد النمسويين من القلاع الأربع من دون الجيش، كما أنه كان مقتنعًا بأن الحكومة لن تكون هي البادئة بالحركة.
فكانت خطته ترمي إلى تدبير عصيان من ترانتو إلى فريول وإدخال المتطوعين في إيطالية الحرة لمساعدة الثوار، والتآمر على إثارة الرأي العام بحيث يتعذر مقاومته ويكون من القوة بحيث يجر الحكومة إلى الحرب، ومن الغريب أن الملك مد يده إلى مازيني ليعمل وإياه.
وكان الملك دائمَ التذمُّر من القيود الدستورية ويسلك سياسة خفية غير رسمية، وقد أزعجه تريُّث الوزراء وأراد الاستعجالَ في الاستيلاء على فنيسيه وإنزال الضربة القاضية على النمسة، وقد شرع في أيار من سنة ١٨٦٣ يتقرَّب من مازيني بواسطة وكيل خفي، أما مازيني فبعد أن يئس من نجاح التدابير في فنيسيه رحب باتجاه الملك ووعده بالمساعدة مشترطًا بأنْ لا تتطلب معاضدة فرنسة، وبعد مساوماتٍ سياسية مملة يظهر أن الحليفين؛ أي الملك ومازيني اتفقا على أن يدبر مازيني عصيانًا ليصبح وسيلة لتدخُّل الحكومة، فيجهِّز الملك السلاح للعصاة وكان يعلم بأنه لا يستطيع التغلُّب على النمسة بمفرده، ولا سيما بعد أن أخذت قضية شلزفيج وهولشتاين بين بروسية تسير نحو التفاهُم، كما أن أغلبية الوزارة أبدت عزمها على قمع كل حركة غير نظامية، فألح مازيني على الملك بأن يُقصي وزراءه، وأن يُعيد ريكاسولي إلى منصة الحكم والرجوع إلى رأي البلاد، وكان يعتقد بأن أكثريتها تحبذ الحرب، بَيْدَ أن الملك تَرَدَّدَ في قبول هذا الطلب فحنق مازيني عليه وكان ينعي عليه تردده منذ حينٍ بعيد وقطع المفاوضات معه.
ولعل فيكتور عمانوئيل كان منذ بضعة أشهُر يعلق آماله على غاريبالدي طامعًا في إيفاده إلى غاليسية إذا نشبت الثورة فيها بمساعدة الطليان كي يدير شئونها، لكنه لم يوافق على هذا المشروع سوى بيزوزي وحده، أما غاريبالدي فمنذ عام وهو يتشوق لمثل هذا المشروع، يقصد من ورائه إزعاج النمسة وقهرها أكثر من مساعدته للبولونيين.
وقد تناسى الملكُ الخصومةَ الموجودةَ بين الهنغاريين والسلافيين، واتصل باللاجئين الهنغاريين، واتفق غاريبالدي ومازيني على أن يدبِّرا معًا ثورةً في فنيسيه وكان غاريبالدي حينئذٍ في إنجلترة، ولما تَلَقَّى اقتراحَ فكيتور عمانوئيل قَبِلَه وذهب إلى إيشية عقيب رجوعه؛ ليبحر نحو رومانية على سفينة حربية هَيَّأَها الملك له، وقد احتفظ بهذا السر جيدًا إلى ذلك الحين، بَيْدَ أن الشائعات أخذتْ تدورُ حول الحملة.
وسعى أصدقاءُ غاريبالدي الخُلَّص لإثنائه عنها؛ اعتقادًا منهم بأن الغاية منها هي إبعادُهُ عن إيطالية، وقد يُرادُ بها أن يلقى حتفه، أو لمنعه مِن إدارة العصيان في فنيسيه، فأصدر برتياني وبعض نواب اليسار احتجاجًا أذاعوا فيه على الملأ خبر هذا المشروع واعتبروه دسيسة ملكية حيكت لغاية ملكية، ففزع الملك من هذا البيان الذي أفشى سر تواطئه أمام الحكومات الأجنبية ووزرائه أنفسهم، ووردت في الحين ذلك أخبار سيئة من رومانية؛ حيث تحزب الأمير «كوزا» الروماني ضد الملك بعد أن اشترك في المؤتمر وعاد غاريبالدي إلى كاربيره مغتاظًا.
وبينما كان الملك والمتآمرون معه يدبرون المؤامرات لتجزئة الإمبراطورية النمسوية وإعادة تأسيس أوروبا الشرقية بحربٍ ثورية، كان وزراؤه يسعون للحصول على فنيسيه عن طريق السياسة وكانوا يدركون بأن إيطالية ليستْ في موقفٍ تستطيعُ به أنْ تحارب النمسة منفردة، وخُيِّلَ إليهم أن الموقف السياسي في أوروبا يساعدهم على انتهاز الفرصة للحصول على فنيسيه بالطريقة التي ارتئوها؛ ذلك أن الحكومة الروسية حَرَّضَت البولونيين على الثورة؛ فثاروا في كانون الثاني سنة ١٨٦٣.
ومع أن بيسمارك أظهر عطفه على الأساليب المستعمَلة من قِبَل الحكومة الروسية فإن روسية بعملها هذا أثارتْ شكوكَ الرأي الأوروبي العام النزيه ضدها؛ لأن إنجلترة وفرنسة كانتا تَشْعُرَان بعطفٍ شديد نحو البولونيين، فلاح للناس أن الحرب محتملةُ الوقوع وأن الدول الغربية توشك أنْ تخوض غمارها ضد روسية وبروسية، وسيؤدي هذا إلى انضمام النمسة إلى أحد الفريقين، ويصعُبُ على إيطالية في هذه الحالة أن تحتفظ بالحياد، ومن هناك انبعث الأملُ في الحصول على فنيسيه مهما كان الفريق الذي ستنحاز إليه النمسة، فإذا انحازت إلى جانب روسية فالحصول على فنيسيه سيكون ميسورًا بتحالُف إيطالية مع فرنسة، أما إذا انحازت إلى جانب الدول الغربية فيمكنُ إقناعها من قِبَل هذه الدول ببيع الإيالة أو بتبديلها بممتلكاتٍ في الشرق لمصلحة الحلف.
وكان في إيطالية توجد معارضةٌ قويةٌ متزايدةٌ لفكرة التحالُف مع فرنسة، إلا أن الشرفَ والمنفعة بالأقل توصيان بمعاضدة الجانب الذي يستهدف الحرية ويُدافع عنها، فأوفد آريسة إلى باريس؛ ليقترح مشروعَ حلفٍ بين الدول الثلاث، ووجد أن هذا الإمبراطور يرغب في إيجادِ طريقة حل بين إنجلترة والنمسة، وكان يفضل في حالة إمالة النمسة وحدها إلى جانبه أن يبدأ بالحرب حالًا؛ فلذلك كان لا يُريد أن يقطع الحبل مع النمسة، الأمر الذي جعله يعود إلى مشروعه القديم الذي يرمي إلى إعطاء البوسنة والهرسك إلى النمسة؛ لقاء تخليها عن فنيسيه.
وكان اللورد رسل أَشَدَّ رغبة بهذه المعادلة من نابليون، فوافق على أنْ تأخذ النمسة رومانية أو بولونيه لقاء تخليها عن فنيسيه، واستعد بالمرستون لعقد الحلف مع النمسة والإقدام على خَوْض غمار الحرب، ثم اضطر للكف عن ذلك أمام ميول وزرائه السلمية، وحاول الإمبراطورُ أن يدعوَ إلى مؤتمر يُعقد في باريس في ١ تشرين الثاني، بَيْدَ أن جميع الحكومات — ما عدا إيطالية — أجابت بالرفض الباتِّ، وكان موتُ ملك الدانمارك في ذلك الوقت قد جعل قضية شلزفيج هولشتاين من القضايا اليومية.
وبما أن إنجلترة اغتاظتْ من المعاملة التي سلكتْها بروسية والنمسة، فلقد رغبت في محالفة فرنسة؛ لتساعدها في مساعيها للمحافظة على الدانمارك، ولاح أَنَّ الحلف لم يكن حينئذٍ صعبَ المنال؛ لأن تحريكات الأحرار في فرنسة دفعت الإمبراطور إلى البحث على مشاريع يتمكن بها من تحويل الأنظار عن الشئون الداخلية، وذلك بالأخذ بسياسة خارجية متطرفة، وبما أن الاتفاق بين الدولتين الجرمانيتين كان يجعل التقدُّم نحو نهر الرين صعبًا؛ ارتأى الإمبراطورُ أنْ يستعمل السيف لإجبار النمسة، ويظهر أنه توقع مساعدةَ إنجلترة في هذا الشأن. أما منجيني فبعد أن فقد كُلَّ أملٍ في الحصول على فنيسيه بواسطة الإمبراطور التفت إلى روما، وكانت السياسةُ الأُولى في الوزارة إهمالَ قضية روما.
لقد اشتدت خصومة أوروبا الكاثوليكية بعد حادثة أسبرومونته وجرتْ محاولةٌ ضعيفةٌ مِن جديدٍ للتفاهُم على أساس مقترحات الكنيسة الحرة، ولما فشلت هذه المحاولة حدث بعضُ التطوُّر في الحزب المعتدل رغم حادثة أسبرومونته، وكاد يرحب بالتخلِّي عن الإيطالية بروما، ويقول بتأجيل المطالبة إلى أجلٍ غير مسمى أو بفكرة التعويض، وذلك بإعطاء ضماناتٍ وقتية للممتلكات التي كانت لا تزال بيد البابا لقاء وحدة تجارية بينها وبين إيطالية، ووعد أهل روما بمنح حكومة صالحة إلى حين حدوث تطوُّر في شعور الكاثوليك ينتهي بانهيار السلطة الزمنية من نفسها.
وكان الرأي العام يرى أن نجاح مثل هذه السياسة مستحيلٌ؛ لأن السلطة الزمنية ستظل — إلى حين الاستيلاء على روما — تشجع الاضطرابات وحركات الارتجاع في الداخل وتسبب في الخارج اختلافاتٍ جديدة مع فرنسة دائمًا.
وكان الإمبراطور يرغب — كالسابق — في التخلُّص من روما، وبسبب احتمال وقوع الحرب على ضفاف الرين كان لا يجرؤ على إغضاب إيطالية، وقد أظهر نجاحُ الأحرار في الانتخابات في فرنسة ضرورةَ القيام بعملٍ للتفاهُم معهم، فلما تولى «روهر» الوزارة الإفرنسية في نهاية سنة ١٨٦٣ اشترط أن يُخْلِيَ الإفرنسيون روما بلا تأخير، ولكن نابليون كان يخشى — كالسابق — أن يقطع الحبل مع الإكليريكيين الذين كانوا — رغم عدم رضائهم — لا يزالون يسندون الحكومة كما أن أكثرية الوزارة كانتْ الإكليريكية، أضفْ إلى هذا أن الإمبراطورة كانت خصمة مغرضة لإيطالية.
ولو أن الإمبراطور كان قويَّ الإرادة واستند إلى الأحرار وحذر من الإكليريكيين؛ لَقَوَّى مركزَه في الداخل ولحسَّن سمعته المكسوفة في أوروبا بمحالفة إيطالية، ولكنه كان يزداد تردُّدًا كلما اختلت صحتُهُ وتقدم في السن، ولم يجرؤ على أن يقف بجانب الحرية موقفًا صريحًا، ثم خضع لنفوذ الإكليريكيين، فدفعوه إلى الهاوية التي انتهت في معركة سدان.
إنه لم يخضع لهم بالكلية — بادئ بدء — كل الخضوع، فالتجأ حسب عادته إلى طريقة التفاهُم، واقترح سحب قطاعاته بشرط أن تضمن إيطالية ممتلكات البابا الحالية، وأن تكف — إلى حين — عن حقوقها بشأن روما، ولم يكن هذا الحل مِنْ حيث المبدأ يختلف عن آخر مشروعٍ من مشاريع كافور؛ ففي صيف سنة ١٨٦٤ بدأ الميثاق يأخذ شكلَه النهائي، واحتوت نصوصه التي نُشرت في أيلول أنْ تضمن إيطالية الممتلكات البابوية ضد أي اعتداء من الخارج، وأن يتعهد الإفرنسيون مقابل ذلك بسحب قطعاتهم خلال سنتين، فالميثاق لا يختلف عن أُسُس كافور.
بَيْدَ أن نجاح المفاوضات يتوقف — قبل كل شيء — على تعريف ماهية الضمانة، أهي حقيقيةٌ أم ظاهريةٌ، وهل لا تحنث إيطالية بالمعاهدة؟ وباقتراح نحس من بيبولي تَقَرَّرَ وضعُ ملحق — ربما كانت النيةُ أن يبقى سرًّا — يجبر الحكومة الإيطالية على نقل العاصمة من تورينو إلى مدينةٍ أُخرى كنابولي أوفلورنسة؛ فإن نقل العاصمة من تورينو يقدم دليلًا لدى أوروبا الكاثوليكية على أن إيطالية قد اختارت عاصمتها وتخلَّتْ عن حقوقها في روما.
وقد تفاهمت الحكومتان على أن القصد من الميثاق هو ذَرُّ الرماد في عيون الكاثوليك، وكانت النقطةُ الحيويةُ في الميثاق هي الإحجامَ عن الكلام، وأهمل فيه عمدًا احتمالُ نشوب ثورة في روما. وأخيرًا تم الاتفاقُ على أنه إذا جعل الرومانيون استمرار حكومة البابا مستحيلًا، وإذا ظهرت حالاتٌ استثنائية بكل من فرنسة وإيطالية في حل من المعاهدة وحرة في تصرفها، ورضي الفريقان بإضافة العبارة الآتية: «إن الميثاق يضع السيادة البابوية في مصاف جميع السيادات الأخرى.» ومعنى ذلك أن بقاء السيادة يصبح منوطًا برضاء الرعية عنها أو بعجزهم عن الثورة عليها، وهنا تجلت حقيقة قول كافور المأثور بأن الطليان سوف يذهبون إلى روما بالوسائط الأدبية، وإذا كانت مزاعم الطليان بأن أهل روما يرغبون في الاندماج في المملكة صحيحة إلى حدٍّبعيد؛ فإن انشقاق الأحرار في روما وحق احتفاظ البابا بالجيش بموجب نصوص الميثاق كانا يَحُولان دون نشوب ثور فجائية من قِبَل الرومانيين، أو ثورة غير مهيأة ومؤيدة من الخارج، وإذا نشبت ثورة بغير هذا الشكل فمصيرها الفشل.
وقد فسر أحد المتقدمين الطليان «الوسائط الأدبية» بالاستيلاء على روما بالدعاية، مع أن روح الميثاق يحرِّم الدعاية كما يحرم استعمال القوة، فالقوة — والقوة وحدها — هي التي تعطي روما لإيطالية، وبينما كان الوزراء الإفرنسيون يزعمون بأن الميثاق قد جعل إيطالية هي المدافعة عن السلطة الزمنية كان رجال الدولة الإيطالية يحتجون بأن روما ظلت مطمحَ أنظار الطليان، وأن نقل العاصمة من تورينو إلى محلٍّ آخر ليس سوى مرحلة في المسير نحو الكابيتون.
وقد أثار حنق مازيني القول بأنه «إذا ترك الإفرنسيون روما فسننتهز الفرصة للإخلاف بوعدنا.» وإذا كان الميثاق مشروعًا ينبغي للمجلس النيابي أن يلغي قراره السابق الذي حيا فيه روما باعتبارها عاصمة المملكة.
لقد كان تبديل العاصمة خطأ تجلت فداحته في الأشهُر التي تلت، ويدل على خضوع شائن لأوامر فرنسة أو على حسد معيب لبيمونته، فإذا كانت روما ستصبح العاصمة فيما بعد فإن تبديل قاعدة الحكومة من تورينو إلى محلٍّ آخر غير روما لا يؤدي إلا إلى انفعالات وارتباكات لا جدوى فيها، وقد قال منجيني منذ سنتين: «لا تستطيع أمة أن تنقل عاصمتها مرتين.» بَيْدَ أن زعماء عصبة الدسائس انتهزوا الفرصة التي سنحت لهم للقضاء على تفوق تورينو، على أنه من الحق أن نقول إن المعاهدة باستثناء الملحق كانت تتفق إلى حدٍّ ما مع الكرامة القومية.
وقد خففت من شدة الجفاء بين فرنسة وإيطالية، ولعلها استطاعت أن تخيف البابا حتى اضطرتْه إلى كبت خصومته قليلًا، ولكنها وضعتْ إيطالية في موقفٍ كله زور سيحملها على حماية عدوها، ولم تكن أغلبيةُ الأمة تريد أن تتساهل بالتخلي عن حقوقها في روما اسمية كانت أو فعلية، فزمجر ريكاسولي قائلًا: «لقد جلب الإمبراطور الارتباك لهذا الوطن.» وكانت الحجة الوحيدة التي تسوغ عقد الميثاق أنه خير سياسة ممكنة في الظروف الراهنة؛ لأن سياسة الاستيلاء على روما بالقوة تؤدي إلى الاشتباك بحربٍ مع فرنسة.
ولقد وقع على الميثاق في ١٥ أيلول وكان الوزراء يجهلون العاصفة القادمة، ولكنهم كانوا يدركون بأن وراء الأكمة ما وراءها، وكانوا يحاولون اتقاءها بقبول بعض البيمونتيين في الوزارة، بَيْدَ أن لامارمورا ولاتزه وسللا رفضوا الدخول في وزارة زال اعتبارها وأصبحت على وشك السقوط، وفي ١٨ أيلول اطلع الملأ على نص المعاهدة والملحق، فأصبح الدموقراطيون عليها حانقين وتجلى في تورينو شعورٌ من السخط، ومع أن أهلها تركوا منذ مدة طويلة فكرة التمسُّك بأن تكون مدينتهم عاصمةَ الدولة، وكان لديهم من الوطنية ما يكفي بأن يضحوا بمدينتهم في سبيل روما، ولكنهم كانوا يدركون أن نقل العاصمة إلى فلورنسة أو نابولي في وقتٍ جاهدت فيه بيمونته وسفكت دماءها وبذلت مالها لإنقاذ إيطالية يعني — وفي ذلك بعض الحق — نكرانًا للجميل وإهانة للبلد المجاهد.
وقد أجمعت الطبقات كلها على استنكار هذا التخلي والاحتجاج عليه بشدة، وأخذ المتظاهرون يهتفون «روما أو تورينو»، وفي ٢١ أيلول هوجم الجمهور المتظاهر من قبل الجنود الكاربانيري فوقع منهم خمسون قتيلًا وجريحًا من الرجال والنساء، وراجتْ شائعةٌ بأن بيمونته تركت لفرنسة بموجب مادة خفية في الميثاق ولكن الوزارة المذعورة لم تبذل أَيَّ جهد لتهدئة الخواطر، مع أنه لو أُنيطت في مثل ذلك الوقت الحرج دورية الطرقات بالحرس القومي لَحِيلَ دون سفك دماء أخرى.
وقد أسخط الشعب حشد الجنود دون مسوغ واستفزهم الأمرُ، حتى وقع مساء ٢٢ أيلول اصطدام أكثر خطورة بين الجنود والشعب، وخَرَّ فيه خمسةٌ وعشرون قتيلًا وجرح مائة ونيف في طرقات مدينة تورينو التي عُرفت بإخلاصها ورزانتها.