فتح فنيسيه
أصبحت قضية فنيسيه بعد أن قطعتْ روما المفاوضات من القضايا اليومية، ولو منح النمسويون الحكم الذاتي عملًا بأحكام فيلافرنكة لَكان في ذلك احتمالُ إذعان فنيسيه لهم ولو على مضض، أما الذي وقع فعلًا فهو أن النمسويين بذلوا جهدهم للقضاء على الحيوية الإيطالية بإملاء الإدارة بالموظفين الألمان وبنشر القوانين باللغة الألمانية، وقد قُوبلت تصرفاتُ النمسة من قِبَل أهل فنيسيه باشمئزاز وسخط تجليا بالمقاومة السلبية؛ إذ إنهم رفضوا الاشتراك في انتخابات النواب للمجلس النيابي الإمبراطوري، وأعلنوا إخلاصهم وولاءهم لفيكتور عمانوئيل غير هيابين.
وقد تألفتْ في جميع المدن لجانٌ ثوريةٌ، وظلت عصابة صغيرة مواظبة على الثورة في الجبال في صيف سنة ١٨٦٤، وفي خريفها انتهت الثورة بالفشل المحتوم، ولكن مازيني انتهز فرصةَ الشغب الذي حدث في بيمونته ودعا إلى مساعدة أهل فنيسيه، وأصبحت الاتصالات بين مازيني وبين بعض أعضاء الحزب الدائم في أوائل سنة ١٨٦٥ نشطة جدًّا.
وقد أخذ رُسُلُه يُثيرون الرأي العام، وانكبوا على جمع المتطوعين لنجدة الثائرين من أهل فنيسيه وكان منتظرًا أن تشب الثورةُ في نيسان، بَيْدَ أن مازيني اعتبر بالوقائع الماضية، واجتنب زَجَّ نفسه في ثورة مبتسرة، ولَمَّا أدرك أن المواد غير كافية لإيقاد الثورة واستمرارها؛ أَجَّلَها إلى ربيع سنة ١٨٦٦.
ولم تقتصر الرغبةُ في حسم قضية فنيسيه بالقوة على مازيني ورفقائه المتآمرين من الحزب الدائم فحسب، بل إنه كان حتى بين الذين اهتموا كثيرًا بروما رجال كلانزا؛ يرتئون بأن طريق روما إنما يمر بفيرونه، وكان كثيرٌ من الوطنيين القلقين على مصير بلادهم يشعرون بأن الحرب تقوِّي الأُمَّة وتحول دون التفسخ الذي أخذ يُصيب البلاد، وكانوا ينتظرون — بفارغ الصبر — الساعةَ التي يُطرد فيها النمسويون من إيطالية فتنصرف البلاد إلى الاقتصاد الممكن في النفقات وتستطيع تنظيم أمورها.
ويظهر أن لانزا كف عن سياسة وضع العثرات أمام استعدادات مازيني وأَوْلَى اللجان الفنيسية بعض رعايته، على أن خروجه من الوزارة أنهى علاقة الحكومة بالثورة، وكان رجال الدولة الإيطالية مُجْمِعِين على أن الثورة أمرٌ ثانويٌّ وأن المهم هو الحصولُ على حليفٍ في الخارج يكون عدوًّا للنمسة، وكان الكثيرون من رجال الدولة يُدركون ما لَدَى النمسة من قوةٍ وبأس، ويعلمون أن تنظيماتها العسكريةَ تفوق تنظيمات الجيش الإيطالي الفَتِيِّ، وكانوا يخشون أنْ تتحطم إيطالية مرة أُخرى أمام القلاع الأربع.
وكان الرجاء في إمكان زَجِّ الإمبراطور في حربٍ جديدة ضعيفًا، وأضعف منه رغبة الناس فيه، وقد لَحَظَ رجالُ الدولة الإيطالية أن الحوادث تسوقُهُم إلى حليفٍ آخرَ، ربما كان أقلَّ قوة من حليفهم الأول ولكنه أقل منه مطالبة، وكانت بروسية مضطرة — عاجلًا أو آجلًا — إلى أنْ تُشهر الحرب على النمسة؛ في سبيل الهيمنة على ألمانية، وكان تعيين الأمير ويلهلم وصيًّا زمن أخيه الملك فردريك ويلهلم الرابع في سنة ١٨٥٨ فاتحةَ سياسة جديدة جريئة، وقد أخذ رجال الدولة الألمانية يرون — منذ سنة ١٨٥٦ — أن بيمونته حليفة طبيعية، وقد أكد «شلايخ» في السنة ذاتها لمارامورا بأن بروسية لن تقوم بأي عمل يحول دون حسم قضية فنيسيه، وبعد انقضاء عشرين شهرًا على هذا التصريح تقلد بيسمارك رئاسةَ الوزارة في بروسية، ولم تكد تقترب سنة ١٨٦٢ من نهايتها حتى جس نبض وزارة منجيني بالنسبة لموقف إيطالية في حالة مهاجمة بروسية للنمسة، وكان كافور قد قال للسفير البروسي سنة ١٨٥٩: «ستشكر بروسية ذات يوم لبيمونته ذلك المثل الذي أعطته إياها.»
وقد أتقن بيسمارك هذا الدرس، وكانت سياستُهُ تقوم على اقتناعه بأن بروسية والنمسة لا تستطيعان البقاء معًا في الاتحاد الألماني ولكنه كان وحيدًا في رأيه؛ فالملك والبلاد كانت تُعارض في نشوب أية حرب ضد شعبٍ جرمانيٍّ آخر.
ويضاف إلى هذا أن بلاط برلين كان غير مُوَالٍ لإيطالية، وأن النظرية القائلةَ بأن القلاع الأربع لازمةٌ لأمن ألمانية، وأنه يجب أن تحتفظ ألمانية بها ما دام الإفرنسيون يحتفظون بروما؛ لا تزال قوية. وقد صرح بيسمارك — في أثناء أزمة شلزويج وهولشتاين — للسفير الإيطالي بأنه لم يستخدم النمسة إلا للوصول إلى أهدافه، وأن إيطالية هي الصديقة الطبيعية لبروسية.
وكانت وزارة الخارجية الإيطالية تضعُ فكرة محالفة بروسية نُصْب أعيُنها، وكان باسولين قد قال لبيسمارك سنة ١٨٦٢ إن إيطالية تنضم دائمًا لجانب أعداء النمسة، وقد وجه لامارمورا نظره منذ قبض على زمام الحكم نحو برلين مع علمه بأن اتفاقًا رسميًّا بين إيطالية وبرلين لا يزال بعيدًا، ثم إنه كان يتوقع بأن تُذعن النمسة فرضي ببيع فنيسيه أو باستبدال إيالة البوسنة تعويضًا لذلك خشية اتفاق إيطالية مع أعدائها.
وربما كان يقدم على الاتفاق معها ومع فرنسة إذا قضى الاتفاق على التخلي عن فنيسيه، أما بيسمارك فانتهز فرصة المفاوضات لعقد معاهدة تجارية مع إيطالية، وسعى لأنْ يأخذ من لامارمورا وعدًا بأن يُساعده في حالة خلاف مع فينا، حتى إنه ارتاب في وقتٍ من الأوقات من وُجُود ائتلاف بين فرنسة والنمسة، وكان لامارمورا يدرك بأن إيطالية لن تكون بالنسبة لبيسمارك سوى بيدق في لعبة الشطرنج.
وبحلول سنة ١٨٦٦ انهارتْ جميع الشكوك؛ لأن النمسة رفضت بيع فنيسيه، ولما علم لامارمورا أن بيسمارك زار الإمبراطور في بياريج زالتْ مخاوفه من إغضاب فرنسة بمحالفته بروسية واطمأن بذلك من ناحية فرنسة، وقد نجح في عقد الاتفاقية التجارية في آذار وأوفد في بداية شهر آذار الجنرال «جوفونه» إلى برلين يطلب من بيسمارك مخولًا سلطات مطلقة في المفاوضات لقيام حلف هجومي ودفاعي فيما إذا كانت بروسية جادة في رغبتها، وكان لامارمورا قلقًا من نيات الإمبراطورا ولم يطمئن إلى جانبه إلا في نهاية هذا الشهر حين علم أن نابليون يعطف على إيطالية إذا هي قامت بالهجوم.
وكان بيسمارك بلا شك راغبًا كل الرغبة في محالفة إيطالية غير أن الميول السلمية في برلين كانت لا تزال قوية جدًّا، ومع ذلك فقد ظفر في نهاية آذار بموافقة الملك على عقد معاهدة سرية تقضي على الحليفين بشن الحرب على النمسة، وكانت الحجة التي تسوغ شَنَّ الحرب على النمسة رفضها إصلاح دستور الاتحاد الجرمني، وقد تعهد الفريقان باستخدام جميع قواتهما وبأن لا يوقعا على أي سلمٍ أو هدنة إلا بموافقتهما المشتركة وعلى أن تأخذ إيطالية فنيسيه، وتأخذ بروسية أرضًا تساوي فنيسيه سعة ونفوسًا، وإذا لم تعلن بروسية الحرب قبل انقضاء ثلاثة أشهُر ينتهي حكم المعاهدة، وقد حاول لامارمورا عبثًا إدخال ترانيتا أيضًا ضمن المكافأة المرجوة لإيطالية، ثم وقع على المعاهدة في ٨ نيسان.
وأصبح هدفُ رجال الدولة واحدًا وهو جعل الحرب أمرًا لا بد منه، وكانت الأمور لا تزال تجري على عكس ما يرغبان، واستخدمت إنجلترة نفوذها كله في سبيل إحلال التفاهُم محل الحرب، ولَمَّا تعذر على بيسمارك مقاومة هذه التيارات المستمرة وافق في منتصف نيسان على تسريح الجيش إذا وافقت النمسة على أن تقتدي به حالًا فتسرح هي جيشها.
وحدث أن وقعتْ حادثةٌ أنقذت الموقف، وتفصيل الخبر أن ملحقًا إنجليزيًّا قدم تقريرًا غير صحيح جعل حكومة فينا تعتقد بأن الطليان يحشدون قطعاتهم على نهر بو، فسارعت إلى جعل جيشها في فنيسيه في حالة النفير بدلًا من بقائه على ملاكه السلمي، وبذلك أعطت الحجة التي كانت تنتظرها إيطالية لإعلان النفير ولمساعدة بيسمارك على قطع المفاوضات بَيْدَ أن لامارمورا فوجئ بصعوبة جديدة؛ ذلك أن بيسمارك أخبر حكومة فلورنسة بأن بروسية لا تساعدها إذا هاجمت إيطالية فنيسيه قبل أن يُعلن الحليفان الحرب على النمسة، ولعل بيسمارك فعل ذلك نزولًا عند رغبة البلاط واستنادًا إلى تأويل المعاهدة غير طبيعي.
وخشي لامارمورا — وهو محق في ذلك — من أنْ تقنع النمسة بروسية بأنْ تبقى ساكنةً لقاء تعويض وتزج هي جميع قواتها في إيطالية، وأخيرًا أدركتْ حكومة النمسة حراجةَ الموقف وانتابها الذُّعرُ فعرضت على إيطالية التنزل عن فنيسيه مقابل وعد بسيط تقطعه إيطالية على نفسها؛ يقضي بوقوفها على الحياد، الأمر الذي يساعد النمسة على زَجِّ جميع قواتها في بروسية وحصولها على تعويض في سيلزية، وبهذا لاح لإيطالية أنها ستصيب بسهمٍ واحد أكثر مما ترجو.
ولعل زملاء لامارمورا كانوا فَرِحِين بهذا العرض المغري، ولكن لامارمورا يَعتبر الشرفَ القوميَّ أثمن من أي أرض، وأبى أن يعير هذا العرض أذنًا صاغية، ولكنه سرعان ما نال ثمرة موفقة لأن بروسية فزعت للشائعات التي دارتْ حول العروض النمسوية وسارعتْ إلى قطع الوعود الإيطالية بالمساعدة.
وما كاد لامارمورا يأمن جانبَ بروسية حتى تَهَدَّدَهُ خطرٌ آخرُ، ذلك أن نابليون قد تلقى — بارتياحٍ — بوادرَ الخصومة بين الدولتين الجرمانيتين الكبيرتين، آملًا أن ينتهز فرصة هذه الخصومة فيبلغ الهدفين الذين تَوَخَّاهما منذ بضع سنوات في سياسته الخارجية، وهما: توسيع الحدود الإفرنسية حتى ضفاف نهر الرين والوفاء بالوعود التي كان قطعها للطليان بفسح المجال لإيطالية بأن تصل إلى ضفاف الأدرياتيك بأخذها إيالة فنيسيه.
ومما لا شك فيه أن خيرَ سياسةٍ كان ينبغي له أنْ يسلكها هي محالفةُ النمسة وتأمين حياد إيطالية على الأقل بإصراره على تَخَلِّي النمسة عن فنيسيه والقضاء على نُمُوِّ بروسيه الهائل، وكان الرأي العام الإفرنسي قد وقف موقفَ المعارض للحرب، وأصبح يعتقد — كما يعتقد أكثرُ النقاد الحربيين — بأن النمسة سوف تنهزم أمام إيطالية إلا أنها تتغلب حتمًا على بروسية، فتكون النتيجة الطبيعية لذلك أن تكسب إيطالية فنيسيه وأن تكسب النمسة سيلزية، وأن تنال فرنسة لقاء حيادها حق توسيع حدودها إلى الرين بموافقة بروسية.
وكان الإفرنسيون يكرهون بروسية كثيرًا حتى إن إعلان الحرب عليها قد يقابَل بارتياحٍ شعبيٍّ عام، ثم إن مجرد وُجُود جيش مُرابط على الرين من شأنه أن يشل حركة البروسيين، بَيْدَ أن الحكومةَ النمسوية اعتبرت التخلي عن فنيسيه حينئذٍ موضوع شرف، ولجأ الإمبراطور إلى الطريقة التي كان يلجأ إليها في جميع الحالات، وذلك بالرجوع إلى فكرة عقد مؤتمر.
وتتلخَّص المقترحاتُ التي ينوي عرضها على المؤتمر فيما يلي: أعضاء فنيسيه لإيطالية وإعطاء جزء من سيلزية للنمسة، أما بروسية فتحصل على شلزويج وهولشتاين وبعض الدويلات الألمانية الصغرى وتؤلف بالانتينة وإيالات الرين محمية إفرنسية، وقد ماتت فكرة عقد المؤتمر فورًا؛ لأن بروسية وإيطالية رَفَضَتَا تسريحَ الجيش مقدمًا، أما النمسة فرفضت أي مشروع يتضمن التخليَ عن فنيسيه رفضًا باتًّا.
وبفشل عقد المؤتمر أصبحت الحربَ قاب قوسين أو أدنى، ومع أن الملك ويلهلم أخذ يتجه نحو سياسة الحرب رويدًا رويدًا، فإن النفوذ السلمي كان لا يزال في بروسية قويًّا؛ ولذلك لقي بيسمارك صعوبةً في خَلْق ذريعةٍ يتذرع بها، فطلب إلى إيطالية أن تسبق النمسة بالعمل فتهاجمها ولكن لامارمورا ظل حَذِرًا كما في السابق، وخاف من أن تتراجع بروسية في الساعة الأخيرة فتتحمل إيطالية وحدها أعباء الحرب، إلا أن تحريض الدول الألمانية الصغرى كان على وشك أن يُقنع النمسة بأنْ تكون هي المعتدية.
وفي ١٤ حزيران قرر مجلس الاتحاد الجرمني مساعدةَ النمسة ضد بروسية، وبعد مرور يومين على هذا الحادث توغل البروسيون في سكسونية وهانوفر، فأعلنتْ إيطالية الحرب على النمسة في ٢٠ حزيران.
وقد قُوبِلَ إعلانُ الحرب في كل البلاد الإيطالية بمزيد الارتياح والامتنان، وكانت الحماسةُ لإنقاذ فنيسيه واستئناف السير في طريق الوحدة كبيرة جدًّا، وقد أيقظ الشعور بأن الحرب قريبةُ الوقوعِ في البلاد روحَ سنة ١٨٦٠، فتلاشت جميعُ الأحزاب وتخلى لامارمورا عن منصبه مُؤْثرًا الذهابَ إلى ميدان القتال، فخلفه ريكاسولي في الرئاسة وتَوَفَّقَ في تأليف وزارة صامتة للاتفاق بين الجماعات.
وقد حولت الحكومة جميعَ السلطات لفرض الضرائب بإرادة ملكية، وبناء على اقتراح كريسبي صدر قانونٌ شديدٌ بحق المشبوهين؛ لقمع المؤامرات في الداخل، وناشد مازيني الجمهوريين أن يعاضدوا الحكومة بقوة، واستدعى غاريبالدي من كاربيره ليتولى قيادةَ المتطوعين، وكان لامارمورا قد هَيَّأَ العدد اللازمة لأربعة عشر ألف متطوع، وقد تقدم في أسبوع واحدٍ أكثرُ من ثلاثين ألف رجل للتطوُّع، ولو تمكنت الحكومة من تسليحهم لَتضاعف العددُ.
لم يرحب الشعب الإيطالي كثيرًا بمحالفة بروسية، وكان البعض يَميلون إلى الاعتقاد بأن صداقةَ بروسية للنمسة أكثرُ من صداقتها لإيطالية، ثم إن الإيطاليين يكرهون بيسمارك لاحتقاره للحكومات البرلمانية، ويحنقون على الأُمَّة التي استسلمتْ، وكان لامارمورا وحده يعتمد بعض الاعتماد على الجيش البروسي.
لقد خاضت إيطالية غمار الحرب وهي واثقة من النصر، وكان جيشها يفوق جميع القوات التي تستطيع أن تحشدها النمسة لقتاله، فإيطالية تتمكن أن تحشد ٢٢٠٠٠٠ ألفًا ما عدا المتطوعين وجنود الاحتياط؛ للقاء مائة ألف جندي يؤلفون الجيش النمسوي في فنيسيه والتيرول باستثناء الحاميات، وكان الناسُ في إيطالية لا يعلمون شيئًا عن سُوء الإدارة في الجيش الإيطالي، وربما كانوا يجهلون الفساد الذي أَخَلَّ بتنظيم الجيش وحسد القادة وعدم كفايتهم التي شَلَّتْ قيادته وقد مات فانتي وكان لامارمورا وجيالديني يمثلان — إلى حدٍّ ما — مدرستين مختلفتَين خصمتين.
وقد تولى الملك قيادة الجيش على ضفاف مينجيو، وجعل الجنرال لامارمورا رئيس أركان حربه، وتولى الجنرال جيالديني قيادة جيش بو، وبينما سلك لامارمورا الخطة السوقية الأكثر حذرًا بتقدُّمه وجميع القوات من الغرب نحو القلاع الأربع وإجبار النمسويين على خوض المعركة في ميدان القتال السابق بين نهرَي مينجيو وإديجة، اختار جيالديني الخطة السوقية الجريئة بالتقدُّم من ضفاف نهر بو السفلي وإجبار النمسويين على خوض المعركة في «بادويه»، وقد ترك قوةً كافية لمهاجمة القلاع الأربع من الشرق في حالة انتصاره في هذه المعركة، ثم التقدُّم بالجيش الأصلي نحو الدانوب لتحريض الهنغاريين على الثورة، وكان سفير بروسية في فلورنسة يؤيد هذه الخطة كل التأييد، وربما حرضه بسمارك عليها لأنه كان معدًّا لحركة عصيان في هنغارية منذ مدة طويلة.
وكان ريكاسولي الذي أخذ يتصل بالمتآمرين الهنغاريين والسلاف موافقًا على تلك الخطة، كما أن الملك رحب بها كل الترحيب بَيْدَ أن القادة عارضوا الخطة السوقية الجريئة ولا سيما لأن مارمورا كان لا يعتمد على الحركات غير المنظمة، وقد رفض طلب الزعيم الهنغاري كوشوت إثارة العصيان في هنغارية وإرسال المتطوعين إلى التيرول لستر جناح الجيش الإيطالي الأيسر، وقد أصاب — بلا شك — في ارتيابه في الوعود الهنغارية؛ لأن كوشوت قد فقد مركزه كما أن الزعيم الهنغاري ديك لم يشأ أن يقطع الحبل مع النمسة، وكانت خطة لامارمورا إسقاط القِلاع الأربع أولًا ثم التقدُّم نحو التيرول، وتلك هي الخطة المثلى، ولكن القيادة المزدوجة ويا للأسف! أفسدت الخطة واختطت خطةً ثالثة جمعتْ بين الخطتين السابقتين، وهي ترمي إلى مهاجمة القلاع الأربع من الجانبين.
وبدأ القتال في صباح ٢٣ حزيران، وكانت خطة الحركات تستهدف اجتياز لامارمورا بجميع قواته نهرَ منيجيو وجذب النمسويين إلى الغرب؛ ليسهل على جيالديني مرورُ نهر بو من «فراره»، إلا أن لامارمورا تقدم قبل أن يتأهب جيالديني للحركة، وبدأت الحركة في الصباح الباكر ليوم ٢٤ حزيران، وهي لو نجحت لَمَكَّنَتْ الطليان من الظفر بالموقع المنيع القوي، بَيْدَ أن النمسويين كانوا عصر اليوم المنصرم قد تركوا فيرونه وتقدموا ليلًا واحتلُّوا الروابي قبل الطليان، وكان عددهم تسعين ألفًا مما استطاع بذلك القائد النمسوي الماهر الأرشيدوق ألبرت أن يسبق الطليان، وبينما كان الجيش الإيطالي يتقدم مُهملًا أمر الاستطلاع كان الجيش النمسوي يتحرك في سبعة أرتال تسير على سبع طرق، ثم يباغت القوات الإيطالية ويتغلب على فرقها المتفوقة الواحدة تلو الأخرى ويكسب معركة «كوستوزه»، ويضطر الطليان إلى التقهقر إلى ما وراء نهر منيجيو وقد نهكهم التعب وأثرت فيهم قلةُ الأرزاق.
ولم تكن معركةُ كوستوزه كارثة قاصمة من الوجهة السوق الجيشية، إلا أن وقعها كان سيئًا وتأثيرها في معنويات الجيش كان عظيمًا، فاستولى الذعرُ على القادة وأبرق لامارمورا إلى جيالديني ولغاريبالدي بالنبأ على صورة تُثَبِّط العزائم، وانسحب في ٢٦ حزيران إلى ما وراء نهر «أوجليو» بعد أن أزعجتْه خيالةُ العدو، أما غاريبالدي فأمر بالانسحاب لحماية بروسية، وقد أحسن لامارمورا صنعًا بعد كوستوزه بتولية مهمة القيادة العامة إلى جيالديني؛ ليتلافى ما نجم عن خطأ القيادة المزدوَجة، ووعد الملك ريكاسولي بألا يتدخل في سير الحركات، وتعذر القيام بهجومٍ مصطنع في ٢٩ حزيران على «بورجوفورته» بينما يجتاز جيالديني بو الأسفل، وحينما تتصل قوات لامارمورا بقوات جيالديني يتولى هذا القيادة العامة، وبذلك تَعُودُ إلى الجيش ثقتُهُ بنفسه، ولا سيما لأن تفوقه بالعدد كان يبشر بالنصر.
وبينما كان الطليان يهمون باستثناء الهجوم وإذ بنابليون يبرق لهم بغتته بأن النمسة عرضتْ عليهم تسليمَ فنيسيه إليه ليتولى هو إعادتها إلى إيطالية ويقترح عقد هدنة على هذا الأساس، ولقد ارتبك نابليون لبناء معركة «صادوفة» التي وقعت في ٣ تموز بين البروسيين والنمسويين، وقد أعقب برقيته بعد ثلاثة أيام بتهديدٍ ينذر فيه إيطالية بإعادة فنيسيه إلى النمسة والاتفاق معها إذا هي رفضت الهدنة، وأصبحت إيطالية تجاه أزمة خطيرة ووقعت بين نارين: فالإصرار على الحرب ورفض الهدنة مخاطرةٌ تؤدي بقطع الصلات بفرنسة، وهذه قد تَجُرُّ إلى أخطارٍ عظيمة، أما قبول الهدنة والجيش لا يزال سالمًا وملوثًا بهزيمة كوستوزه فمعناه القضاء على السمعة العسكرية للأمة الفتية، وقبول فنيسيه صدقة من أجنبي لم يكن سوى إهانة تصيب عِزَّةَ نفس الملك والوزراء والشعب في الصميم.
وكان الشرفُ والمصلحةُ يقضيان بأنْ لا تَعقد إيطالية أَيَّةَ هُدْنَة مِن دون رضاء بروسية، وعليه فقد أجابوا الإمبراطور بأنهم لن يعقدوا أية هدنة إلا بموافقة بروسية، وأنهم حتى إذا تمت هذه الموافقة فلم يوافقوا على المقترحات قبل أن تسرع النمسة بالتخلِّي عن قلاع فنيسيه وتعلن فرنسة تأييدها لمطالبهم في ترانتينة، وكان ينبغي لإيطالية أن تسرع إلى الاستفادة من هذه الفترة فترجع سمعتها في ميدان القتال بفتح فنيسيه بحد السيف والحصول على ترنتينة وإيسترية، فتصبح بذلك ذاتَ حق اكتسبتْه بجهادها في أثناء المفاوضات المقابلة.
وأثار الفتورُ أو الكسلُ الذي تلا معركةَ كوستوزه بعضَ المخاوف في برلين؛ إذ خشيت من أن يؤدي تخلِّي الإمبراطور إلى بُطء الحركات، كما خشيت أن تغري إيطالية بخيانة حليفتها، فَأَصَرَّ ريكاسولي — بكل قوته — على السير إلى الأمام … مضى الوقت وحَلَّ منتصف شهر تموز ولم يَتَسَنَّ للقادة الموافقةُ على الخُطَّة التي لا تختلف كثيرًا عن خطة جيالديني الأصلية، واعتزموا ترك قسم من الجيش لمراقبة القلاع الأربع ومعاونة المتطوعين في ترنتينة، بينما يتقدم جيالديني بالقسم الأكبر من القوات نحو فنيسيه وإرسال مفرزة لضبط إيسترية، وكان قسم كبير من القوات قد استدعيت بين ٩ و١٣ تموز من القلاع الأربع للدفاع عن فينا، وفي ١٤ و١٥ تموز احتل جيالديني بادوية فنيسيه بينما كان مديجي يتقدم في وادي سوجالة ليتحصل بغاريبالدي، وفي تموز تركت قوات لامارمورا مواضعَها على أوجيلو وسارعتْ للاتصال بجيش جيالديني، وهكذا سار جيالديني نحو الشرق في جيشٍ يبلغ ١٥٠٠٠٠ كان في ٢٥ تموز على أُهْبَة اجتياز الحدود والمرور من «كارينولبة».
وكانت متطوعة غاريبالدي البالغة ٣٨٠٠٠ متطوع تتقدم رويدًا رويدًا في التيرول وتحارب النمسويين والتيروليين، ومع أنها حاربت ببسالةٍ إلا أنها لم تكن صالحة للحرب في الأراضي الجبلية وقد روعي في اختيار ضباطها اعتبارات سياسية أكثر منها عسكرية حتى قيل عنهم: «إن رجالًا تدربوا في السجون أو في البرلمان أصبحوا الآن قادة الألوية.» وأزال الفوز اليسير الذي ناله المتطوعون بعض العار الذي لصق بإيطالية في كوستوزه، ولكن إيطالية مُنيت بهزيمةٍ بحرية سببت ذلة جديدة؛ إذ ظل الأسطول الإيطالي عاطلًا في أنكونه، ممتنعًا عن قتال الأُسطول النمسوي الضعيف إلى أن تلقى أوامرَ قطعية أجبرت الأميرال برسانو على أن يخرج إلى البحر وأن يهاجم جزيرة ليسة الدلماسية ومرفأها البحري المهم، وكان الأسطول قد نال قسمًا من هدفه؛ إذ ظهر الأسطول النمسوي في ٢٠ تموز، وكان عدد قطعه قليلًا ونشبت معركة خسر فيها الطليان دارعتين من عشر دارعات وأسفرت المعركة عن انكسارهم، وهكذا خسروا المعركة البحرية كما خسروا المعركة البرية في كوستوزه.
ورأت إيطالية أن النصر يكاد يفلت من يدها حينما اتصل بها نبأ توقيع بيسمارك على مقدمات الصلح في نيكولسبرج في ٢٦ تموز؛ إذ خان بيسمارك حليفه مرة أُخرى وتَفَاوض في شروط السلم من دُون أن يكترث لحليفه، ولم يبق لدى بروسية ما يدعو إلى الاستمرار على الحرب وكان بيسمارك لا يزال يخشى نيات نابليون، ولكي يضمن رضاءه عرض عليه أن يتحالفا حلفًا هجوميًّا يعطيه لقاءه بلجيكة، ولكن الإمبراطور لم يكن قط يرغب في بلجيكة وكان يرجو الحصول على لوكسمبرج أو بالاتينة وعزم على أن يحول دون ضم بروسية وألمانية الجنوبية إلى الدول الجرمانية الخاضعة لبروسية، إلا أنه كان يرتئي الوصول إلى غايته بالطرق السلمية، فعقد النية على إجبار إيطالية على الإذعان وكان يعلم بأنها لا تستطيع أن تُحالفه وألح عليها بقبول الهدنة حالًا، وتخلى عن الوعد الذي وعده بانتقال فيرونه ومانتويه حالًا إلى إيطالية ورفض أن يتعهد بأي شيءٍ بشأن التيرول.
وقد وافق ريكاسولي على قبول الهدنة على أساس أخذ ما يمكن امتلاكه وينص على انتقال فنيسيه إلى حوزة إيطالية من دون شروطٍ مهينة فيجري الاقتراع العام، وبحسب الاقتراع تكون إيطالية قد أخذت الإيالة الجديدة برغبة الشعب لا هبة من فرنسه، وافق الإمبراطور على الشروط اسميًّا إلا أنه اجتنب حالًا وعده بالدفاع عن أساس أخذ ما يمكن امتلاكه، أما بيسمارك فرفض أن يجعل المدعيات بالتيرول ذريعةً لاستئناف الحرب، وكانت النمسة تعلم بأنها تستطيع أن ترفض إعطاء التيرول من دون أن ترى في ذلك بأسًا، فأنذرت إيطالية باستمرارها على الحرب فيما إذا لم يتخل الطليان عن التيرول.
وكان ريكاسولي بين أمرين فإما أن يُجازف كثيرًا بدلًا مِنْ أَنْ يتخلى عن ترنتينة وإما أن يطأطئ الرأس أمام رغبة الإمبراطور، وكان يقول: «إن شرف إيطالية أثمنُ من فنيسيه.» بَيْدَ أنه لما اطلع على أخبار الموقف الحرج في الجيش أخذ يتراجع شيئًا فشيئًا، وانتهى به الأمر إلى استسلامٍ يرثى له، وقد انتهزت النمسة فرصة الهدنة التي عقدتها مع بروسية وحشدت قواها، وقد بلغت ٢٥٠٠٠٠ بين إيزونزو وتريستة و٦٠٠٠٠ في التيرول الشمالي، وأصبحت بهذا إيطالية بين أمرين: إما السلم المهين وإما حرب تكاد تنتهي بالفشل.
وكانت الهدنة قد تمددتْ خمسة عشرة يومًا ظل الطليان متعنتين في أثنائها، ولكن حدث في اللحظة الأخيرة أن أبدى ريكاسولي موافقتَه، وقد سبق أن عزم لامارمورا أن يأخذ على مسئوليته الخاصة التوقيعَ على الهدنة فكل ما تم الحصول عليه بعد ذلك كله هو الحصول على فنيسيه بشروطٍ مشرِّفة، ويظهر أن الإمبراطور لمجرد الصلف رغب — جهده — في تذليل إيطالية فحاول تحريض فنيسيه على طلب حماية فرنسة، وبسبب الاختلاف أجل التوقيع على شروط الصلح إلى تشرين الأول، وبذلك أضيفت أسبابٌ جديدة إلى عوامل الجفاء بين إيطالية وفرنسة.