البلاد والمجلس النيابي
وبانضمام فنيسيه إلى المملكة الإيطالية أصبحتْ إيطالية في مصافِّ الدول العظمى، وإذا كانت من حيث المساحة السطحية الدولة الثامنة بين دول أوروبا فقد كانت من حيث النفوس الدولة الخامسة بينهم، فقد بلغ سكانها باستثناء السبعمائة ألف نسمة الخاضعين للبابا نحو خمسة وعشرين مليونًا، وكانت كثافة النفوس فيها رغم جبال الإبنين والماريمة تقدر ﺑ ٢٢١ نسمة لكل ميلٍ مربع، وبذلك كادتْ تعادل النفوس في الجزر البريطانية وتفوق كثافة النفوس في فرنسة وألمانية.
على أنه كان علاج فقر البلاد لا يزال ممكنًا وميسورًا فتجارة البلاد إنما أرهقتْها الحمايةُ الحكوميةُ والجمارك الداخلية، وفقدان السكك الحديدية والقوانين التجارية الصالحة، ثم إن مليوني هكتار من الأراضي الخصبة كان يُمكن استغلالها بتجفيف المستنقعات فيها، ثم إن الزراعة في صقلية كانت لا تزال تستعمل وسائط القرون الوسطى، ومع ذلك فإنه مما لا يجوز إنكاره أن الحكومة القومية بذلتْ جهودًا كبيرة في هذا المضمار منذ سنة ١٨٥٩، فألغيت الجمارك المحلية وشملت الرسوم الجمركية البيمونتية وهي أكثر حرية من جميع الرسوم في شبه الجزيرة، ومع أنها قضت على بعض الصنائع الصغيرة المحمية فإنها نشطت التجارة بصورةٍ عامة عظيمة، وامتدت السكك الحديدية في البلاد بسرعة وتضاعف طول السكك الحديدية التي كانت في حالة الإنشاء بين سنتي ١٨٦٠ و١٨٦١، كما ضوعفت الخطوط البرقية من سنة ١٨٦١ إلى سنة ١٨٦٧، وصرفت على الموانئ والري وتجفيف الأرض غير المزروعة مبالغ طائلة فأنفقت المدن الثمان الكبيرة منذ سنة ١٨٦٠ نحو ١٥٠ مليونًا من الليرات على الأشغال العامة وتقدم التعليم الفني، وكانت نتائج هذه الأعمال عظيمة واشتد النشاط التجاري حتى صعد رأس مال الشركات المساهمة من ١٣٥١٠٠٠٠٠٠ ليرة سنة ١٨٦٠ إلى ٢٥٧٦٠٠٠٠٠٠ سنة ١٨٦٤ وكان أكثر هذه الزيادة يخص السكك الحديدية.
وأما الحياة الصناعية فكانت لا تزال ضعيفةً وكان ريكاسولي يشكو خضوعَ البلاد لفرنسة تجاريًّا؛ إذ كانت تضطر لشراء السفن الحربية والمكائن والعُمل النقدية والكسوات الرسمية من الإفرنسيين، وليس في البلاد معامل ذات شأن سوى بعض مغازل الحرير وكانت معظم صادرات البلاد من المواد الابتدائية (الخام) أو المواد التي لا تحتاج إلى صناعة تامة كغزل الحرير وزيت الزيتون والفاكهة والحنطة والكبريت غير المصفى، على أن إيطالية كانت بلدًا زراعيًّا قبل كل شيء، وكان خمسة ملايين ونصف مليون من الأهليين يسكنون المدن التي لا يتجاوز عد نفوس الواحدة منها ٦٠٠٠ نسمة، وكانت نابولي المدينة الوحيدة التي يتجاوز عدد نفوسها ٢٥٠٠٠٠ نسمة، وكان عدد المدن التي يتجاوز سكانها ١٠٠٠٠٠ نسمة تسعًا فقط، وكان عدد الذين يزاولون الزراعة وقتئذٍ ضعفي عدد الذين يزاولون الصناعة والتجارة، وكان جهل البلاد متناسبًا مع فقرها، فقد قال المؤرخ فللاري بعد الحرب: إن القلاع الأربع الحقيقية التي وقفت في سبيلنا هي السبعة عشر مليونًا من أبنائنا الأميين والخمسة ملايين من الهاوين، وكان الأميون سنة ١٨٦١ أكثر من ثلاثة أرباع السكان، وبلغتْ نسبة الأميين في نابولي وصقلية أكثر من تسعين في المائة من سكانها.
وفي بيمونته ولمبارديه قدر عدد الذين لم يكونوا يحسنون القراءة والكتابة بثلث الرجال ونصف النساء، وقد شنت المملكة الجديدة حربًا شعواء على الجهل والفساد، وكان القانون الذي أصدره رتازي سنة ١٨٥٩ قد نظم شئون التعليم في البلاد وفرض على الأقضية أن تمد موازنة التعليم الابتدائي بالمال، وجعل الدولة والمجالس المحلية معًا مسئولة عن التعليم الثانوي والعالي كما أنه جعل التعليم في المدارس الابتدائية إجباريًّا، وكانت الحكومات السابقة تنفق على التعليم ٨٠٠٠٠٠٠ ليرة سنويًّا، ولكن الدولة والمجالس المحلية أنفقت معًا سنة ١٨٦٨ خمسة أضعاف ذلك المبلغ، وبينما كانت مدينة تورينو تنفق ٥٠٠٠٠ ليرا على مدارسها أنفقت سنة ١٨٥٩ ٢٨٠٠٠٠ ثم تصاعدت هذه النفقات إلى ٧٠٠٠٠٠ بعد عشر سنوات، أما نابولي فكانت تنفق ٥٠٠٠٠ ليرا سنة ١٨٦١، ولكنها أنفقت بعد عشر سنوات؛ أي سنة ١٨٧١ ٨٢٠٠٠٠.
ولما كان الفقر والجهل يحملان معهما ثمرتهما الطبيعية وهي الإجرام، فقد ظلت جمعية الكامورا في نابولي وجمعية المافيا في صقلية وعصابات السفاكين في الروماني ممعنة في الإجرام، ما دل على تَعَذُّر القضاء على هذه التقاليد الإجرامية المتأصلة في بعض المناطق دفعة واحدة، وكانت نسبة قضايا القتل التي تُعرض على المحاكم للقضايا الأخرى أربع عشرة من المائة، وكان حق الانتخاب البيمونتي كما جاء في قانون الانتخابات البيمونتية الصادر سنة ١٨٤٨ يشمل جميع السكان الذين يدفعون ٤٠ ليرا من الضريبة المباشرة ما عدا الأميين، كما أنه كان يشمل التُّجَّار والصناع الذين يمتلكون أملاكًا ذات قيمة معينة، وكان واحدٌ من كل أربعة وأربعين من السكان يتمتع بحق الانتخاب.
أما في المناطق التي كان التعليمُ فيها مُنحطًّا كالمارك وأومبريه فنسبة الذين يحق لهم الانتخاب انحطت إلى واحد من خمسة وسبعين رجلًا، وبلغ مجموع الناخبين الذين يشتركون فِعلًا في الانتخابات أقل من ذلك كثيرًا، وقد جعلت تقاليدُ الإدارة والفقر والجهل ونفوذ الإكليروس أمر تربية الشعب تربية سياسية بطيئًا شاقًّا، وكانت عقلية الشعب غالبًا ما يلائمها الحكمُ المستبد أكثر مما يلائمها الحكم الدستوري، وأما واجبات المواطن كالانخراط بالمجلس القومي والخدمة في هيئة المحلفين والاقتراع نفسه فكانت تعتبر تكليفًا أكثر منها أن تكون امتيازًا، حتى كان أكثر ثلثي الناخبين يتخلفون عن الاشتراك في الانتخابات بصورةٍ عامة، وكان المجلس النيابي ينتخب بأقل من ١٥٠٠٠٠ مقترع، وكان معظم الناخبين المقترعين من الموظفين أو الذين يستوحون الحكومة، وكان الوزراء لا يترددون في استخدام نفوذهم والتأثير في المقترعين حتى إن ريكاسولي ذاته اعتبر سنة ١٨٦٧ أن أول واجب من واجبات رئيس البلدية السعي في توجيه الانتخابات، وكان لانزا وهو من المعتصبين المتشددين يعتبر أن تخلي الحكومة عن استخدام نفوذها في الانتخاب ضربٌ من الحماقة بشرط أن لا تسيء استعمال هذا النفوذ، أما الناخبون فأظهروا أنهم لا يدركون الحاجات القومية إلا قليلًا، وكان خُلُوُّ الأحزاب من مناهجَ معينة يجعل من السهل النجاح أو الفشل في الانتخابات لاعتباراتٍ محلية تافهة أو لمجرد رغبة الناخبين بالتغيير.
فكان طبيعيًّا أنْ لا تعلو سوية البرلمان على سوية الناخبين، وقد جعل النقص في تنظيم الأحزاب انتخاب المرشحين في قبضة زُمَر صغيرة محلية، ولما كان النواب — مع الأسف — لا يتقاضون أية مخصصات فقد كان إقناع البعض بترشيح نفسه أمرًا صعبًا، فأصبحتْ أغلبية النواب إما من الأغنياء الذين لا يعطفون على الجمهور، وإما من الفقراء الذين يتصيدون فرص الانتفاع من المناصب لقلة وارداتهم، وقد قال أحد الصحفيين الأحرار: «إن رجال السياسة من أسوأ عناصر المجتمع الإيطالي، وكان المجلس يغتبط بإسقاط جميع الوزارات المتعاقبة من دون أن يعبأ بالضرر الذي تسببه تبدلات الوزارة المستمرة، وكانت الأزمات الوزارية تهم المجلس أكثر مما يهمه التشريع الإنشائي، وكاد أن يكون الضبط الحزبي مفقودًا، وكانت المصالحُ الشخصية والأطماع الذاتية والتفاخر التافه تقلل من نفوذ البرلمان وتحول دون سد جروح البلاد.
ولقد أصاب منجيني أكثر من سللا حين أجهر برغبته في أن يرى حزبين يتأسسان في المجلس كما هو جارٍ في مجلس العموم الإنجليزي، إلا أن تنفيذ هذه الرغبة ربما كان متعذرًا وكان الخط الفاصل الحقيقيُّ بين الجماعات هو الذي يفصل بين القوميين والإكليريكيين ولم يمثل الإكليريكيون في المجلس، وكانت الحواجز الفكرية بين الجماعات في حزب الأحرار ضعيفة مترجرجة، وكان نواب كل من الدويلات القديمة يعملون معًا إلى حدٍّ بعيد ليس في القضايا العامة أيضًا، وكانوا يؤلفون جماعات حسب أقاليمهم فمنهم طوسكانيون ومنهم نابوليون ومنهم لمبارديون، وكان الحزب الدائم برئاسة سان مارتنيو يجمع بين رجال ذوي آراء سياسية مختلفة، هدفُهُم المشترك الوحيد الدفاع عن بيمونتيه ضد هجمات حزب الكونسورتارية «عصبة الدس» والانتقام الشديد من كل حكومة تساعد خصومهم، وبعد سنة ١٨٦٤ أصبح حزبُ اليمين القح ينتمي للكونسورتارية وكان يتألف من الدستوريين الذين كانوا غير إكليريكين إلى حدٍّ ما وفي الوقت نفسه محافظين في سياستهم الاجتماعية، وكانت أهداف ريكاسولي الاجتماعية البعيدة المرمى وتطلعه بلهفةٍ نحو روما كثيرًا ما تجعله في ناحية اليسار، وكانت نفسه تَتُوق دائمًا إلى إدماج الرجال النزيهين في مركز اليمين واليسار والعمل بمقتضى سياسة حرة تقدمية مستقرة.
ومع أن مركز اليسار كان ينحدر أصلًا من سميه في البرلمان البيمونتين فقد أضاع مقامه الأسمى، وكان يتألف من أنصار رتازي، وقد بدأ سنة ١٨٦٧ يدرك ضعفه وأخذ يميل نحو اليسار المعتدل كثيرًا ولم تبقَ لدى اليسار سياسةٌ مشتركةٌ أكثر من الحزب الدائم، وكان بؤرة المعارضة التي يَلتجئ إليها خصومُ الوزراء على اختلاف ألوانهم، وكانت سياسة هذا الحزب إجمالًا سياسة راديكالية، وكان يتشوق للذهاب إلى روما ولديه منهجٌ غير محكم بالإصلاحات الاجتماعية، وقد انقسم تدريجيًّا إلى فرعين بينهما بعضُ الاختلاف، أما كريسبي فقطع صلته بمازيني مُتخذًا الشعار الآتي: «الملكية تجمعنا والجمهورية تفرقنا»، فالتف حوله بعض زعماء حزب العمال وكانوا يرغبون في تأليف اتحاد مع جماعة رتازي والحزب الدائم لإقصاء رجال اليمين عن الحكم.
ثم تأتي بعد هؤلاء جماعة صغيرة من المناضلين انطوتْ تحت راية برتاني، وألفت أقصى اليسار، وسلكت سياسة أكثر نزاهة ووضوحًا من سياسة غيرها، وناوأت سياسة كريسبي ورتازي.
ومع كل ما ذكرنا فقد كانت للمجلس حسناتُهُ، فكان أغلب النواب ذوي نيات حسنة شابها فُتورُهُم الصبياني وقلة اختبارهم، وحينما كان الموقف يتحرج ويتأزم كان المجلس يظهر كثيرًا من إنكار الذات وكانت استقامته لا غُبار عليها، ولم يلعب الدساسون ورجال المال فيه الدور الذي لعبوه في فرنسة في الإمبراطورية الثانية قط، ولم يترك أحدًا من رجال الدولة الحكم وهو أغنى مما كان قبل تَسَلُّمه الحكم بل مات بعضهم معدمًا، وكان ينبغي للبرلمان أن يقوم بانقلابٍ سياسي اجتماعي، وكان يتحتم عليه أن يُوحِّدَ القوانين وأن يعيد تنسيق الإدارة وأن يُصلح الحكومة المحلية وينشئ جيشًا وأسطولًا قويًّا ويجهز البلاد بالسكك الحديدية والمدارس، وأن يحسم معضلات الكنيسة والدولة وأن يقوم بالإصلاحات الاجتماعية وأن يحل مشاكل الجنوب الخاصة. وكانت المعضلةُ المالية تتقدم جميعَ المعضلات الاجتماعية، وكانت المملكةُ الفتية تُجادل عن نفسها للتخلُّص من الورطة التي وقعتْ فيها التي كادت أن توصلها إلى هاوية الإفلاس.
وقد حالت القروضُ الثقيلة دون التقدُّم المنشود وقد ناء الشعب تحت وطأتها وكان سهلًا على الأعداء في الداخل والخارج أن يطعنوا بها، وكانت الضرورة القاهرة تقضي بأنْ تظل نفقات الجيش والأسطول باهظة إلى حين الاستيلاء على فنيسيه، وقد أصر الاقتصاديون حتى سنة ١٨٦٥ على تخفيض هذه النفقات ولكنهم لم يستطيعوا أن يخفضوها إلى أقل من ٣٠٠ مليون ليرة، وكانت البلاد تتطلب مشاريعَ عامة لإنماء منابعها الاقتصادية كالموانئ وتجفيف المستنقعات وإنشاء الطرق، وكانت الحاجةُ إلى السكك الحديدية أكثر منها إلى شيءٍ آخر، وقد استنفذت الأشغال العامة والسكك الحديدية معًا أكثر من مائة مليون ليرة سنويًّا بين سنتي ١٨٦١ و١٨٦٧، وتأثرتْ مصالحُ البريد والبرق بعجزٍ ماليٍّ كبير ولم تبدأ بتسديد نفقاتها إلا في سنة ١٨٦٥، وقد بلغتْ فوائدُ القرض سنة ١٨٦١ ١٤٣ مليونًا واتضح أن نفقات الدولة ستبلغ ٩٠٠ مليون ليرة سنويًّا.
وقد سعى عقيب سنة ١٨٦٢ وزراء المالية جميعهم سعيًا حثيثًا لتخفيض النفقات وكانت مهمتهم شاقة؛ لأن إدارة مالية الدولة كانت مختلة، وعلى الرغم من كل الصعوبات فقد تم تخفيض النفقات بنجاحٍ باهر، وإذا قورنت موازنة ١٨٦٧ بموازنة ١٨٦١ يُشاهد المرءُ اقتصادًا في نفقات الإدارة بلغ عشرين مليونًا وتخفيضًا كبيرًا في موازنة النفقات الحربية والبحرية، فبينما بلغت ٣٩٠ مليونًا سنة ١٨٦٢ نراها بلغت سنة ١٨٦٧ ١٩١ مليونًا وبلغ مجموعُ الاقتصاد في النفقات ٢٥١ مليونًا من سنة ١٨٦١ إلى سنة ١٨٦٧ أعني: أكثر من الثلث، بَيْدَ أن جميع المساعي للاقتصاد أصبحتْ عقيمة؛ بسبب تضخُّم الديون العامة تضخُّمًا هائلًا، فبلغ مجموع هذه القروض سنة ١٨٦١ مليارين وربع مليار وقد انتقل نصف هذا المبلغ من دولة بيمونته، وكان يصيب كل شخص ١٠٦ ليرات بينما كان — في الوقت نفسه — يصيب كل شخص من فرنسة ٢٥٢ ليرا، وفي النمسة ١٦١ ليرًا، ومع ذلك فإن جميع الموازنات كانت تُمنَى بعجزٍ مخيف، وفي خلال ثماني سنوات من ١٨٦٠ إلى ١٨٦٧ أصبح العجزُ المتراكمُ يتفاوت بين ثلاثة مليارات ونصف مليار وأربع مليارات، وسرعان ما ظهر جليًّا بأن إيطالية بدلًا من أن تكتفي بصرف مجموع وارداتها البالغ نصف مليار في عهد الحكومات القديمة أصبحتْ مضطرة إلى أن تنفق أربعمائة مليون ليرة أكثر من ذلك.
ورغم أن إصلاح الإدارة كان أقل شأنًا من القضية المالية إلا أنه كان يمس أساس الحكومة نفسها، ولا شك في أن البيمونتيين كانوا يحتكرون أكثرية الوظائف المهمة وكانوا تعلموا في مدرسة التجارِب البصيرة والتدبير، وكانوا نزيهين فعالين إلا أنهم كانوا لا يأخذون بالمقتضيات الحديثة إلا ببطء، وكانوا متمسكين — حسب عادتهم — بالأصول التقليدية وغير محبوبين لخصالهم الحسنة السيئة معًا.
وكان لا بد من أن يكون عددٌ كبير من موظفي الحكومات الملغاة موظفين في الحكومة الجديدة، وقد احتفظ هؤلاء بتقاليدهم التي ورثوها من تلك الحكومات، وقد دخل كثيرون من طلاب الوظائف في مصالح الدولة سنة ١٨٦٠ فأفسدوا الإدارة بكسلهم وعدم استقامتهم، ومما زاد في الإدارة سوء الطريقة التي اتبعت لأول مرة في التوظيف، والتي تُعفي الموظف من تأدية الامتحان قبل انتسابه إلى الوظيفة ولا تصنف الدرجات تصنيفًا معقولًا، فكان الكاتبُ الوضيعُ يرتقي إلى منصب موظف كبير بالقدم والالتماس، ومعنى ذلك اندحار الكفاية أمام المحسوبية، وعليه فإن المكانة الحكومية كانت فاسدة تجعجع ولا تطحن، أولها صرير ولكن بلا إنتاج، وكان معظم رؤساء البلدية وكلاء الحكومة السياسيين وقد جعلهم عدم مسئوليتهم ونفوذهم البالغ خطرًا دائمًا يهدد إدارة المؤسسات الحرة.
وكانت اللامركزية أنجع دواء لإصلاح تلك الفوضى، وكانت الحكومة المحلية كأنها في حالةٍ وقتية كما كانت وخاوية إلى حدٍّبعيد، وكان الانقلاب قد وجد في كل محل حكومة بلدية قوية وكادت توجد في كل محل حكومة إيالة تتصرف مستقلة في طرق المواصلات والتعليم الثانوي وبإدارة المؤسسات الخيرية، على أن تنظيمات الإيالة في طوسكانه ولمبارديه — على الأقل — كانت أرقى ما عليه في بيمونتيه.
ولما أصبح إيجاد نموذج مشترك للدول المختلفة أمرًا ضروريًّا كان التدبير المصيب يقضي بوضع لائحة تحتوي مزايا جميع هذه الأساليب، ولكن القانون المتعجل الذي أصدره رتازي سنة ١٨٥٩ قد حال دون وضع لائحة من هذا النوع في عناية ودقة، وقد سوى قانون رتازي بين الناحيات مهما كانت سعتها من أكبر مدينة إلى أصغر قرية وجعلها في حالات متشابهة تقريبًا، وكانت سلطات مجالس البلدية ولجانها الإجرائية خطيرة الشأن تشمل الإشراف على أرض المنطقة وطرق مواصلاتها والتعليم الابتدائي والحرس القومي فيها والسجلات الانتخابية، وكان النقيب (العمدة) الذي يترأس المجلس يُعيَّن من قبل الحكومة، ثم إن الوالي ومجلس الإيالة كانا يتمتعان بسلطة إشراف واسعة جدًّا، أما مقترحات منجيني فكانت لا تكتفي بتوسيع سلطة المجالس فحسب بل كانت ترمي إلى إنقاذها من إشراف الولاة، أما لائحة ريكاسولي سنة ١٨٦١ فكانت تمنحها السلطة لا الاستقلال؛ لأنها تقترح وضع طرق الإيالات والكليات والملاجئ تحت إشرافها ولكن دون أن تُنقذها من إشراف الوالي أو النقيب، وبعد انقضاء سنتين رجعت لائحةُ بيروزي إلى مبادئ أكثر حرية من مقترحات منجيني، فوسعت حق الانتخاب ونَحَّت الوالي والنقيب عن رئاسة المجالس وأضافت مراقبة الأنهر والغابات والوثائق إلى السلطات التي مُنحت لمجالس الإيالات في لائحة ريكاسولي.
بَيْدَ أن كل هذه التدابير فشلت الواحدة بعد الأخرى وكان من نصيب لانزة أن يستصدر من البرلمان حكمًا أثناء التشريعات المستعجلة التي سبقت نقل العاصمة سنة ١٨٦٥، وكان قانون لانزة كلائحة ريكاسولي يخول وظائف واسعة ذوي استقلال محدود، فقد منح الإيالات سلطة إشراف على طُرُق المواصلات في الإيالات والجسور والسدود والمنارات والتعليم الثانوي والفني ودور المجانين مع بعض واجبات قليلة الأهمية نحو المدارس الابتدائية والصحة العامة، وقد فرضت على الناحيات لقاء الصلاحيات التي منحتها إياها أن تُشرف على شئون الموانئ الصغيرة والمنارات وتسجيل الولادات والوفيات والشرطة المحلية، وكانت مهمة الوالي في إيطالية مراقبة المجالس المحلية أكثر من قيامه بواجبات الحكومة المركزية.
ومع أن قانون لانزة كان خيرًا من لائحة رتازي؛ فإنه ترك كثيرًا من الأُمُور مرتبكة، وقد حنقت البلاد التي تأصلت فيها تقاليد بها المدنية على القيود التي قيدت حرية البلديات، ويجدر بنا أن نقول إن أهم المعطِّلات الداخلية في السنوات العشر تناول المشكلة المالية والإدارة والحكومة المحلية وعلاقات الكنيسة بالدولة.
وكان الاستياءُ شديدًا؛ حيث تكون الفاقةُ فيها على أشُدِّها وكانت ست سنوات لا تكفي للقيام بأعمالٍ جسام لتطهير الجنوب وحل مشاكله وبعثه من جديد، وقد ساعدت حكومة لامامورا الحازمة في نابولي في قمع الفتن وسحق جمعية الكامورا، ولم تتنفس نابولي الصعداء إلا بالقبض على رجال الكامورا في إيلول سنة ١٨٦٢، وكانت أعراضُ الفوضى الاجتماعية والسياسية في بعض أنحاء صقلية كثيرةَ الخطورة، وإذا كان الناس هناك قد كَفُّوا عن الكلام في الانفصال ما عدا البوربونيين فإن رغبتهم في الحصول على الحكم الذاتي تحت أي شكلٍ من الأشكال كانت لا تزال شديدة، وقد حال تبديلُ الولاة المستمر دون تأسيس إدارة قوية مستقرة لا يتم أي شيءٍ من دونها، فكانت صقلية إذن في حاجةٍ ماسة إلى حكومةٍ حازمة تستطيع أن تسحق الشغب الإكليريكي، وتقضي على الفوضى التي سببتْها الطبقة الوسطى والقرويون وتمهد السبيل وتعد العدة لجيلٍ يكون أكثر مدنية وحبًّا للنظام من سابقه.
وقد جاء في إحصاء أحد المسئولين أن ألفًا وخمسمائة حادثة قَتْل قد وقعت في المدينة خلال عشر سنوات، أما في باليرمو فقد ظلت جمعية مافيا تتحين الفرصة التي أضاعتها سنة ١٨٦٠ لنهب قصور العاصمة، وكان التجنيد عاملًا جديدًا في تعميم الاستياء، وكان الإعفاء من الخدمة العسكرية في صقلية قد زال، وبلغت شدة المعارضة للتجنيد حدًّا نال فيه الجنود جزاءهم في بعض الحالات النادرة جدًّا، وكان في باليرمو وحدها نحو أربعة آلاف متخلف أو هارب من الجندية في السنوات الثلاث التي تلت الوحدة، وقد قُتِلَ ستون جنديًّا من الكارابيزي حين تفتيشهم على الفارين من الجندية بطلقاتٍ نارية كانت تصوب إليهم من وراء السياجات والجدران، ولم تلق الحكومة أية معونة من أي حزب من الأحزاب الصقلية، فالأحرارُ كانوا يخافون من الاندفاع وأما أنصارُ الحكم الذاتي والغاريبالديون فقد ظلوا خلال ست سنوات يهاجمون الحكومة هجومًا عنيفًا لا هوادة فيه، وأخذ الشعب الذي لقن كره الحكومة الجديدة يميل إلى أنصار الحكومة السابقة، حتى إن خيرة الغاريبالديين بدءوا يندمون بعد فوات الفرصة على سلوكهم السابق وما وَلَّدَه من ضررٍ للمصلحة القومية، وأصبح الاستياءُ الذي أوجدوه أداة بيد الرُّهبان والبورنتيين الذين كانوا يتلقون الوحي من روما، ولعلهم كانوا يترقبون المعونة للقيام في الجنوب بعصيانٍ يئول إلى ثورة عامة في صقلية، وقد أعد الإكليريكيون ثورة إجرام والفقر فيها، وظلت الحكومة عمياء عاجزة وساعد فقدانها هيبتها في الحرب على الاستهانة بها، فهاجمت العصابات الثائرة في ١٦ أيلول باليرمو واستولتْ عليها وحاولتْ فتح أبواب السجون، ولما فشلت في ذلك نهبت القصر ومثلت بالجنود وبالمباني الحكومية أربعة أيام حتى جاءت النجدة من الخارج واستطاعت طرد الثوار.
وقد أظهر هذا العصيان خطورة الموقف مرة أُخرى، وأيقن ريكاسولي أن أخطر مهمة يجب أن يضطلع بها القضاء على هذا الفساد الذي أهلك البلاد، وتطهير الإدارة وتقويتها وإنماء الصناعة والتعليم وإعادة التوازن للمالية من دون ضرائب جديدة، ومما يؤثر عنه قوله: «أجدرُ بمال الدولة أن يُنفق على الأشغال العامة بدلًا من إنفاقه في قمع الثورات وإقامة السجون.»
ولقد شغلت قضية روما باله في الماضي والحاضر، وحين ألغى البرلمان الأديرة في الصيف انتقلت أراضي تلك الأديرة وأملاك الكنيسة كلها إلى الدولة فأقدمت على بيعها مما سبب نقمة روما، وأضاف جفاءً إلى جفائها الأول، ولا سيما لأن قانون المشبوهين قد نال من الإكليريكية اللاقومية وأصابها منه اضطهاد عظيم، ولكن لم تخل روما من فئةٍ صغيرة من الأساقفة كانت تريد التفاهُم وتوافق على مشروع الكنيسة الحرة الذي وضعه ريكاسولي كما وافقت على مشروع كافور سنة ١٨٦١.
وكان بعضُ الأساقفة قد مَلَّ من المنفى، وتاقت نفسُهُ للرجوع إلى أسقفيته، وأدرك أنتونللي أن روما لا تستطيع أن تُصِرَّ على رَفْض التفاهُم وقد حمله جلاء الإفرنسيين المزمع على تغيير موقفه والكَفِّ عن عناده، أما فريق بلاط روما فقد ظل عنيدًا كالسابق غليظ القلب تجاه إيطالية، وتردد البابا بين هذين الفريقين إلا أنه كان أكثر ميلًا للثاني.
وكان ريكاسولي قد اغتمَّ للهوة التي أخذت تتوسع بين إيطالية والبابوية، ومع أنه حزن كثيرًا للروح المسيطرة على روما؛ فكان يدرك بأن الفريق الثاني قد سلك مسلكًا غير سمح، وأنه من المستطاع تجنب مشكلة الأسقفيات الشاغرة، وأن قلب مباني الأديرة والأسقفيات إلى الأملاك العامة كان قد جرى بشدةٍ لا داعي لها، وكانت لهفته للحصول على روما قد أخذت تهمد منذ أخذت القضية تتأخر كثيرًا، وتتلخص الفكرة التي اختمرت في رأسه بما يلي: يجب أن ينتهي التدخُّل الأجنبي، ويجب أن تكف روما عن أن تظل عشًّا للدسائس ضد المملكة وأن تعرف أوروبا أن روما جزءٌ من الأرض الإيطالية، وليست إقطاعًا للعالم الكاثوليكي، وإذا ما تم الاتفاق على ذلك فسيوافق على تفاهُم يقوم على الأسس الآتية: إما أن تنفذ المقترحات التي عرضت في فرصٍ عديدة منذ سنة ١٨٦٠ وتقضي بأن يحتفظ البابا بمدينة ليونين «قسم روما الذي يحتوي كنيسة القديس بطرس والفاتيكان» مع ثقة من أرض الساحل، وإما أن تصبح روما عاصمة الشرف الإيطالية؛ أي المحل الذي يتوج فيه ملوك إيطالية من قبل البابا بينما تظل فلورنسة قاعدة الحكومة.
وكان مستعدًّا لأنْ يتخلَّى عن هذا وعن جميع مطامحه السياسية لو تسنى له الحصولُ على رضاء روما، وكان الوقتُ حرجًا فالإفرنسيون على أهبة ترك روما والميثاق يتطلب منهم الجلاءَ قبل ١١ كانون الأول، وستبحر — بعد انقضاء ثلاثة أيام من ذلك التاريخ — آخرُ قطعة من قطعاتهم من جيفيتا فيكيَّا، وكانت أوروبا بأجمعها تنتظر بفارغ الصبر ماذا سيعمله الرومانيون، وأخذ بعض المعتدلين ينظم حركة مشروعة ترمي إلى حمل البابا على استدعاء الحكومة الإيطالية لتكون حَكَمًا بينه وبين رعيته، أما ريكاسولي فيظهر أنه كان يخشى نُشُوب اضطراب شديد في تلك الساعة في مصلحة السلم، ففرض مشروعَ الكنيسة الحرة واقترح فيه تخليصَ الكنيسة الكاثوليكية من إشراف الحكومة الذي يوجبُهُ الاتفاق، أي أن الحكومة تتخلى عن حقها في تعيين الأساقفة والكف عن إعطاء البراءة الملكية وتخسر الكنيسة لقاء ذلك الإعانة التي كانت تدفعها الخزينة العامة لها، وبذلك تُصبح الكنيسة من الوجهة القانونية عبارةً عن منظمةٍ عادية، حرة في إدارة أملاكها وفي نظامها وانضباطها الداخلي، وتُدار بموجب قوانينها الدينية، وينص القسم الثاني من المشروع على بيع الأراضي الخاصة بالأديرة الملغاة ويضيف إليها جميع أراضي الكنيسة مهما كان نوعها.
لقد قوبل هذا المشروع بضجةٍ من الاستنكار شديدة فرفضه الأساقفة ولم تستطع كل المزايا التي وعدهم المشروعُ أن تقنعهم بالتخلي عن النفوذ الذي سوف يحرمهم إياه، أما الأحرار والدموقراطيون فعَارضوه معارضةً شديدة وأدتْ عودة الأساقفة إلى مظاهراتٍ صاخبة ضد المكروهين منهم.
وكان الرأيُ الشائعُ أن الحكومة لم تُقْدِم على التضحية بامتيازات التاج وهيبة البرلمان فحسب، بل إنها أقدمتْ على تقديم امتيازاتٍ تجعل مقام الدولة في خطر، واتفق ذوو الرأيِ الحُرِّ والقوميون الذين ورثوا تقاليد إشراف الدولة على الكنيسة على مهاجمة المشروع معتقدين بأنه سيتخلى عن حقوقٍ ثمينة، وسيلقي على الأجيال القادمة حملًا ثقيلًا شديد الخطر عظيم الضرر، وقد امتنع عددٌ كبيرٌ من هؤلاء عن الموافقة على هذا المشروع؛ لأنه يُهمل جانبًا من حقوق طبقة الإكليروس الدنيا والعلمانيين، وينذر بعودة الأساقفة في روما إلى عُهُود الاستبداد، أما أعداء الإكليروس المتطرفون — ومن بينهم غاريبالدي — فاعتبروا المشروعَ هبةً جديدة تُمنح للطائفة الممقوتة، ونادَوا بضرورة استخدام أملاك الكنيسة، وهي من أملاك الأُمَّة في حاجة الدولة ورعاية الفقراء.
وسرعان ما تبين أن المشروع لا يمكن أن يُقبل وكان ريكاسولي قد أغفل عرضه على الوزارة، وأصبح زملاؤُهُ الذين كانوا يتسامحون في المفاوضات مع روما أكثر فتورًا وصدوفًا عن مشروع الكنيسة الحرة، ولَمَّا انتشر الشغب في البلاد أضاع ريكاسولي التوازُن واشتد في تفسير القانون خلافًا لمبادئه وتنفيذه بشدةٍ؛ لكي يستطيع أن يمنع الاجتماعات العامة التي أخذتْ تنعقد في فنيسيه، وكانت أكثر صخبًا من غيرها فسهلت على اليسار مهاجمته واتهامه بالرجعية وتخلى عنه بعضُ أفراد الحزب الوزاري، ثم وجه المجلس إليه اللوم على عمله هذا في ١١ شباط بمائة وستة وثلاثين صوتًا ضد مائة وأربعة، فلم يبق أمام ريكاسولي سوى الاستقالة أو حل المجلس واستفتاء الأمة فآثر الرأي الأخير، وقد حوى النداء الذي وجهه إلى الناخبين خلاصة معقولة للسياسة الحرة التي سينهجها وتتلخص بما يلي:
مشروع الكنيسة الحرة مع ضمانات الطبقة الإكليروس الدنيا والاقتصاد في النفقات ومد السكك الحديدية وسياسة ليست بسياسة مغامرات ولا هي بسياسةٍ رهيبة، وكانت هيبة الحكومة قد هبطت بسبب الضرائب الباهظة وفضائح حياة الملك الخاصة، وجرت الانتخاباتُ في ١٠ آذار بكفاحٍ جديد لا مثيل له وزج الدموقراطيون غاريبالدي في معركة الانتخابات في فنيسيه، فوجه للإكليريكيين وشركائهم مطاعنَ عديدة قد هزتْ سامعيه وأثارتْ حماستهم إلا أنها لم تؤثِّرْ في نتيجة الانتخابات، فانتخبت فنيسيه أفواجًا من المعتدلين، وبنتيجة الانتخابات ظلت نسبة قوة الأحزاب في المجلس كالسابق، وظهر أن المجلس الجديد معارضٌ لسياسة ريكاسولي كالمجلس السابق، وكان الملك قد ظاهر ريكاسولي إلى ذلك الحين، غير أن نفوذ رتازي قد جذب الملك نحو المعارضة بحجة أن سللا غير محبوب من الشعب، فاضطر ريكاسولي إلى الاستقالة في ٤ نيسان سنة ١٨٦٧.