نحو روما
حين جرى في المجلس النيابي الإيطالي في ٢٢ كانون الأول اقتراعٌ على الاقتراح بتأييد حقوق إيطالية في روما واستنكار معركة منتانة وعَدِّها عملًا لا ينطبق على الحقوق الدولية؛ رُفض الاقتراحُ بأكثرية صوتين، فاضطر مينا بريه إلى الاستقالة، ثم أعاد تأليف الوزارة، على الرغم من إخراجه الأعضاء المتشددين في رجعيتهم فإن الوزارة ظلت من أشد الوزارات المحافظة التي شهدتْها المملكة.
لقد كان مينا بريه من أهل صافويه، وكان وطنيًّا ينتمي سنة ١٨٤٨ إلى الأحرار المتحمسين، ولكنه أصبح بعد أن انسلخت الإيالة من المحافظين في السياسة الداخلية حتى كاد أن يكون رجعيًّا، والتف حوله الباقون من حزب اليمين السابق ممن كانوا يدعون للتفاهُم مع البابوية ولا يرغبون في الذهاب إلى روما فيما إذا أمكن اجتناب ذلك وكانوا يحذرون من المؤسسات الحرة ويخشون الفكرة الدموقراطية.
ويؤيد هؤلاء قسمٌ من حزب الكنسورتيرية الذي اشتهر بعدائه للأفكار الحرة اشتهاره بمقته لبيمونته، كما كان يؤيده بعضُ حديثي القول بالفكرة القومية من أنصار الأُسرات المالكة الساقطة الذين فَقَدُوا كل أمل في عودة الحكم السابق ولكنهم ظلوا يتمسكون بروح الحكومات الغابرة.
حقًّا لقد أحدثتْ منتانة حركة ارتجاعية ضد الحرية، حتى إن الصحافة المعتدلة أخذت تطالب بتعديل الدستور، ودَلَّ اضطهادُ مينا بريه للأحرار وحوادث العنف وتفتيش الشرطة للبيوت والناس وإرهاق الصحافة؛ على التخلي عن السياسة الحرة، فاستولى القادةُ العسكريون على معظم السلطة الإجرائية وبُدِّلَ الحكام بغيرهم، وصُودرت الأوراق وحُلت الجمعيات الدمقراطية، ولم يسمح لجمعية الإكليروس الحرة في نابولي بأن تعقد الاجتماعات، وكان فرعا اليسار وحلفاؤهم في المركز أشد خصوم الوزارة، واقترع الحزب الدائم ضد مينا بريه في شهر كانون الأول، وعلى الرغم من مساعي منجيني فإن هذا الحزب رفض أن يُعاضد وزارة أخذت بسياسةٍ ضعيفة تجاه روما ولم يكن لانزا أو سيللا ولامارمورا يرتاحون إليها، ومع أن أغلبية النواب كانوا على اتفاقٍ في الحذر من الحكومة والشكِّ في سياستها فإن الناس كانوا يَحارون فيمن يستطيع أن يخلفها، وقد علم توالي الأزمات في البرلمان الروية والرصانة، ففضل أن يتسامح مع مينا بريه بدلًا من إحداث تبديل وزاري أو الانحراف في تيار انتخاب مجهول العاقبة، وحدث أن عرض على المجلس مشروعُ انحصار التبغ فقبله على الرغم من إسهاب لانزا في شرح مضراته، وشاعتْ رواياتٌ عن مساعدة بعض الوزراء والنواب في هذا المشروع، فهاج الرأي العام واتهم أحد نواب اليسار بعض أعضاء الوزارة في إحدى جلسات المجلس النيابي.
ثم حدث بعد عشرة أيام من هذا الاتهام أن جُرح النائبُ المذكور بضربة خنجر في أحد شوارع فلورنسة مما أدى إلى فضيحة حملت الوزارة على الاستقالة، واستمرت الأزمةُ الوزاريةُ نحو الشهر ثم حمل المجلس الملك على دعوة لانزا لتأليف الوزارة فألفها في ١٤ كانون الأول، وكان سللا و«فيسكونتي فنستة» من الأعضاء البارزين فيها.
وقد تسلم سللا وزارة المالية بعد أن حصل على عهد بتمكينه من تطبيق سياسة اقتصادية معينة، وكان يأمل أن يقتصد ٢٣ مليون ليرة من نفقات الجيش والأسطول، وكان الرأي العام يسنده ولا سيما لأن البلاد منذ معركتي كوستوزه وليسا سلبت ثقتها من الجيش والأسطول، وحاول جيالديني وبيكس عبثًا أن يبرهنا على الخطر الذي يحيق بالبلاد فيما إذا بقيت محرومة من وسائط الدفاع، بينما كانت تنذر الحوادث بقرب وقوع الحرب في أوروبا، وعبثًا سعى الملك ليحافظ على قوة الجيش ليستطيع الأخذ بسياسة فيها احترام وجراءة وقال جيالديني: «إنكم تخافون من الموت جوعًا أما أنا فأخاف من أن أخنق.» بَيْدَ أن الأكثرية كانت تشارك الوزير خوفه من الإفلاس، ومع أن سللا لم يوفق في توفير أكثر من خمسة عشر مليونًا من الليرات فإنه استطاع أن يؤمن بعض التوازن في مالية إيطالية.
وواجه لانزا خارج البرلمان استياء جديدًا من ضعف الحكومة والبرلمان، وقد أصبح اهتمام الناس بتأمين أقواتِ معيشتهم يفوقُ اهتمامهم بالحركة السياسية؛ إذ ارتفع سعر الخبز بسبب تداوُل الأوراق النقدية وانتشرت الهيضة فوَلَّدَت شعورًا ثوريًّا من اليأس والقنوط، وقد فتك الشعب بكثيرٍ من الناس في المدن ظانًّا بأنهم سمموا غذاءه مقتنعًا بأن المرض إنما نشأ عن إفساد المواد الغذائية، وراح الأُجراء الجياع والعمال القانطون في الشمال والجنوب ينشدون النجدة خارج البرلمان وحدثتْ ثوراتٌ ضد ضريبة الطحن، حتى إن القرويين الوادعين في بيمونته اتفقوا فيما بينهم على أنْ لا يدفعوا الضريبة.
وعاد مازيني إلى بث آرائه الجمهورية وأخذ يُعلن للملأ بأن سبب جميع المصائب التي أحاقتْ بإيطالية تندمج في العرش، وأخذ كثيرون من المستائين الذين قد ترددوا سنة ١٨٦٦ في قطع صلاتهم مع الملك؛ يقولون بالجمهورية، وتسربت الآراء الجمهورية في صفوف الجيش الدنيا ولا سيما بين ضباط الصف، وأخذ بعض نواب اليسار يشجعون هذه الآراء وانضم نيكيتره سنة ١٨٦٩ ومعظم نواب أقصى اليسار إلى حزب الاتحاد الجمهوري الذي أسسه مازيني، وبرأتْ هيئات المحلفين العدول ساحة الجرائد الجمهورية حين قدمت للمحاكمة، وأخذت الصحافة تهزأ بالملك والأمراء وأخذ المتطوعون يتدربون في الخفاء.
وفي سنتي ١٨٦٨-١٨٦٩ نفذ صبر مازيني؛ لأنه لم يتيسر له تدبير ثورة، ووقعت في ربيع سنة ١٨٧٠ ثوراتٌ صغيرة في مختلف المراكز ولا سيما في أميلية، ولكنها لم تبلغ درجة الجد والخطورة إلا بتواطؤ الحاميات علنًا، وأعلنت عصابة غاريبالدي مؤلفة من ٣٠٠ رجل الجمهورية في ماتيدة في كلبريه وذلك في شهر أيار وبدأ فتيان غاريبالدي ينضمون إليها، بيد أن هذه الثورة أخفقتْ كما أخفقتْ ثورة في الشمال، فوجه مازيني أنظاره نحو صقلية؛ حيث عزم على أنْ يستخدم السلاح الذي مَدَّهُ به بيسمارك ضد مواطنيه، فكان هذا العمل آخرَ مرحلة لسقوط مازيني، وبه انتقل من وطنيٍّ أمين إلى متآمر ضد بلاده، ولَمَّا وصل إلى باليرمو متنكرًا قُبض عليه بأمر الحكومة وسُجن في جايته في آب سنة ١٨٧٠.
على أن هذه الارتباكات الداخلية وعواقبها في هذه اللحظة لم تكن أشد خطورة مما بين الكنيسة والدولة، فقد أعاد الانتصار إلى البابا كثيرًا من نفوذه بعد أن استطاعتْ حكومتُهُ قمع الثورة في المدينة حين أخذت تؤكد بأنها قد تغلبت على غاريبالدي قبل وصول الإفرنسيين إلى مينتانة، وجاهرت النسمة في عهد «بويست» رئيس الوزراء البروتستاني بخصومتها للبابا فخرقت الاتفاقية المقدسة وقررت مشروعية النكاح الذي يعقد بين أزواج ذوي مذاهب مختلفة، أما بيسمارك فقد كان يتملق للبابوية لكسب جانب الكاثوليك في جنوب ألمانية، وقد استولى القنوط على إيطالية وأصبح رجال الدولة من أحزاب اليمين وحزب اليسار — وكانوا يستطيعون أن يساعدوا كثيرًا على العودة إلى الميثاق — لا يجرءون على قطع الحبل مع فرنسة، وكان لانزا ولامارمورا ومينا بريه ورتازي؛ متفقي الرأي على التخلي عن كل أمل في الحصول على روما، أما القوميون الخُلَّص فأخذوا يعتزلون الحياة العامة شيئًا فشيئًا.
ومع أن وزارة مينا بريه كانت قد أصدرتْ قانونًا بضغط المجلس النيابي يقضي بجعل رجال الكهنوت خاضعين للتجنيد فإنها ساعدت الأساقفةَ الجُدُد على اضطهاد الإكليروس الحر، ومع ذلك فإن القنوط الذي استحوذ على النفوس كان مؤقتًا فالجميعُ يعلمون بأن يد فرنسة هي التي أنقذت السلطة الزمنية من السقوط، فمتى سحبت فرنسة يدها وبدلت موقفها راضية أو مضطرة فإن روما ستلحق بإيطالية لا محالة.
غير أن روما البابوية ظلت متمسكة بسياستها المزدرية ولكي تؤيد سلطانها التجأت إلى المجمع المسكوني المؤلَّف من أساقفة الكنيسة الكاثوليكية، حملتْه على الاجتماع في روما وأخذ البحث يجري في عصمة البابا، ثم صدر مرسومٌ أطلق يد البابا في جميع الشئون الخاصة بنظام الكنيسة وحكومتها فأفزع هذا المرسومُ السلطات المدنية؛ لأنه سلح كنيسة روما بسلاحٍ هجومي مخيف.
وقد احتج الفاليكان العلمانيون في فرنسة والكاثوليك الأحرار في مدرسة مونتالمبرت منددين باستبداد روما الجديد، وشن دوللينجر وأنصاره في ألمانية الهجوم على الأحكام الواردة في المرسوم المذكور، أما في إيطالية فإن الرُّهبان الأحرار والعلمانيين قد نظروا إلى هذه المناورة الجديدة التي قام بها أنصار السلطة الزمنية بعين القلق والجزع، وشاركتْ بعض الحكومات قلق العلمانيين في أوروبا فاحتجت بروسية وأنذر بويست رئيس وزارة النمسة فيما إذا أيد المجمع ذلك المرسوم بأنه يمنع نشر السيللابوس، وطلبت حكومة بافاربه إلى الحكومات الأُخرى اتخاذ التدابير المشتركة للقضاء على المجمع وشجعت الحكومة الفرنسية الأساقفة على معارضة هذه القرارات الجديدة، ووقف مائة وخمسون أسقفًا بزعامة دوبا نلوب وداربوي وشتروسماير في صف المعارضة لهذا الهجوم، وكان هؤلاء من الأساقفة البارزين في عالمهم وخطورة أسقفياتهم وكانوا يمثلون باريس وميلانو وتورينو وقسمًا كبيرًا من ألمانية الكاثوليكية، إلا أنهم أصبحوا عاجزين تجاه جمهرة الأساقفة من ذوي الألقاب والأساقفة الدنيا، وبعد اجتماع المجمع بسبعة أشهُر انتصر أنصار السلطة الزمنية المتطرفين وأعلنوا في روما عصمة البابا، وقد جاء هذا عقيب إعلان الحرب بين فرنسة وألمانية في يوم ٢٠ تموز ١٨٧٠، فالمجمع المسكوني — والحالة هذه — يجب أن يُعتبر من الأسباب التي قضت على السلطة الزمنية بدلًا من دعمها؛ لأنه حمل جميع حكومات أوروبا على الحذر والارتياب بنزعة السلطة الزمنية المتطرفة، ولم تجد البابوية في المستقبل حماسة تسوق الناس للدفاع عنها.
لقد اتضح بعد سنة ١٨٦٦ أن الحرب بين فرنسة وبروسية واقعةٌ لا محالة، فقد نشرت المعاهدات بين بروسية والدول الألمانية الجنوبية في ربيع سنة ١٨٦٧، وهذه كانت كفيلة لحث فرنسة على النزول إلى الميدان وإلقاء القفاز إيذانًا بالنزول للبراز، كانت قضية لوكسمبورج قد جعلت البلد على قاب قوسين من الحرب في آذار سنة ١٨٦٧، غير أن فرنسة ما كانت تستطيع أن تخوض حربًا عظيمة دون أن يكون لها حليفٌ، وكانت النمسة وإيطالية صديقتيها الطبيعيتين، أما النمسة فلأنها تُريد أن تنتقم من بروسية وأما إيطالية فلمراعاتها جانب فرنسة، وكلاهما لأنهما تنشدان حربًا تعيد سمعتهما اللتين أضاعتاهما سنة ١٨٦٦.
ويظهر أن مفاوضات جرت بين فينا وفلورنسة منذ سنة ١٨٦٥ ثم استؤنفت في صيف سنة ١٨٦٨ بمكاتباتٍ سرية بين الإمبراطور فرنسو جوزيف والملك فيكتور عمانوئيل ولم يطلع الملك حكومته عليها مدة من الزمن، وقد ظاهر الملك مشروع الحلف الثلاثي بحرارةٍ وكان يتوق إلى غسل عار كوستوزه والانتقام لصولفرينو، بَيْدَ أنه لم يكن في إيطالية سوى رجالٌ قلائلُ يُشاركون الملك حُسْن ظنه بفرنسة وانعطافه لها، ولربما كان الرأيُ العام يرحب بمحالفة النمسة؛ لأنه لم يبق بعد أن تخلت عن فنيسيه ما يعكر العلاقات بينها وبين إيطالية سوى قضيتي التيرول وإيسترية الثانويتين، وقد أدرك الجانبان بأنهما أصبحا حليفين طبيعيين يحملان نفس الآراء المشتركة ويناضلان ضد نزعة السلطة الزمنية المتطرفة، أما محالفة فرنسة فإنها لا ريب غيرُ محبَّبة لدى الشعب.
ولما وصل وليُّ العهد البروسي إلى فلورنسة سنة ١٨٦٨ قوبل بحفاوةٍ بالغة مما دل على ميل الشعب الإيطالي إلى أي جانب، وكان رجال الاقتصاد يحذرون الناس من الحرب وعواقبها وينذرون بالإفلاس الذي يؤدِّي إليه، ولم يكن لفرنسة أصدقاءٌ سوى حزب البلاط أو الحزب العسكري والمحافظين المتطرفين، ولما عرض الملك مشاريعه على مينا بريه وبعض زملائه كانوا راغبين في الأخذ بسياسة الحلف الإفرنسي النمسوي إلا أنهم كانوا موقنين بأن ذلك يجعلهم بمعزلٍ عن الأمة، فلم يكن أمامهم لاستمالة الرأي العام الإيطالي إلى الرضا عن هذا الحلف سوى وضع شروط ثقيلة على فرنسة والنمسة وإيغار ظهرهما بكثيرٍ من المطاليب، مثال ذلك جَعْل عودة فرنسة إلى ميثاق شهر أيلول والجلاء عن جيفتا فيكيا شرطين أساسيين، والاشتراط بأن تتواطأ الدول الثلاثةُ على اختيار مرشح يخلف البابا في حالة موته وأن تتخلى النمسة عن التيرول وأن يسمح لإيطالية بأن تُقيم لها قاعدةً بحرية على شاطئ تونس، وكان بويست على استعدادٍ للموافَقة على جميعِ طلبات إيطالية، فطالب بشدة بأن يُسمح لإيطالية بأن تحتل الأراضي البابوية ورضي بتصحيح حدود تيرول وربما حدود الألب الشرقية أيضًا.
إلا أن المفاوضات فشلت؛ لأن فرنسة رفضت التخلي عن البابا رفضًا باتًّا، وكان بيسمارك قد جَرَّ الإمبراطور نابليون للوقوع في الفخ وفرح للحماقة التي ارتكبتْها فرنسة بإصابتها إيطالية بجرحٍ فاغر حَالَ دون كل اتفاق، وقد طلب مازيني منه مالًا وسلاحًا لمهاجمة روما، وفاوضه بيسمارك إلا أنه كان حريصًا على ألا يتعهد بشيءٍ من قبيل الحرب، وكانت الدسائسُ قد أصابت المرمى وقَوَّتْ عزم الإفرنسيين على عدم الجلاء ولكن يظهر أنهم رضوا بأن تصحح إيطالية حدودها فتعيد جزءًا من إيالة نيس، بَيْدَ أنهم أبوا أن يتخلوا عن جيفتا فكيا وأن يسمحوا لإيطالية بالذهاب إلى روما.
ثم نجحت المعارضة في فرنسة في انتخابات سنة ١٨٦٩ نجاحًا باهرًا، وأقنع إميل أوليفيه نابليون بأنه لا سبيل للاحتفاظ بعرشه إلا إذا هو فسح المجال للأحرار، ويتلخص منهج الإمبراطورية الحرة بالعبارة الآتية: «الحرية في الداخل والسلم في الخارج.»
ورأى أوليفيه أن وقت الوقوف أمام توسُّع بروسية قد فات فلا تجدي محاربتها، وقد تنفست أوروبا الصعداء من جديد، إلا أن قضية جديدة ظهرت بغتةً على المسرح السياسي وتلك هي قضية الاستخلاف على العرش الإسباني، وهذه قربت وقوع الحرب وقد عزمت الحكومة الإفرنسية في ١٤ تموز على القتال لسببها، وكان ذلك قبل أن تطلب فرنسة من النمسة وإيطالية محالفتها بأربعة أيام، ولبى بويست وفيكتور عمانوئيل ذلك الطلب بشوقٍ؛ إذ كان فيكتور يعتقد بانتصار الجيوش الإفرنسية السريع ويأمل أن يؤدي الحلف المذكور إلى ظفر الطليان بروما، وقد يمد في حدود إيطالية نحو نيس أو التيرول، بَيْدَ أن الوزارة التي وعدت بالاقتصاد ترددت كثيرًا في جَرِّ البلاد إلى الحرب، فلانزا كان يميل إلى جانب فرنسة أما سيللا فكان يميل إلى جانب بروسية وكلاهما يُعارض الحلف، وكان سيللا يرى بأن انتصار فرنسة يعني نجاح الأحكام التي وردت في مرسوم البابوية والسيللا بوسي وهدمه المبادئ الحرة وتجديد عقد البابوية بممارسة السلطة الزمنية مدة غير معينة، ولكن هناك فئة من الوزارة رأت رأي الملك، وأخيرًا تفاهم الفريقان على تلبية طلب فرنسة بشرط أن تعترف فرنسة بحق إيطالية في روما.
ولعل فرنسة كانت تستطيع في تلك اللحظة أن تشتري حلف إيطالية بالرجوع إلى ميثاق أيلول، إلا أن أوليفيه لم يجرؤ على إغاظة الكاثوليك والحرب على الأبواب، وعبثًا حاول بويست أن يُقنع فرنسة بأن ذهاب الحكومة الإيطالية إلى روما خيرٌ من ذهاب الغاريبالديين إليها، وأبى أوليفيه أن يعد بالرجوع إلى الميثاق أو بالجلاء إلا في ٢٣ تموز، إلا أنه كان يمتنع عن الموافقة على دُخُول الطليان في روما، فساعد التلكؤ والتأخُّر أنصار الرفض في وزارة لانزا على استحالة فريق المسالمين الذين قرروا هم أيضًا رفض التحالُف مع فرنسة، وقد ظاهرتهم في اتجاههم الآراءُ المعادية للإفرنسيين التي انتشرتْ في البلاد، وجرت في فلورنسة وميلانو وتورينو مظاهراتٌ ضد الحلف، وطلب حزب اليسار من الحكومة وعدًا برفض التحالُف إلا أنه لم ينجح، أما الدعوة إلى الحرب التي وجهها جيالديني للمجلس فلم تلق قليلًا من التأييد، أما في النمسة فقد أظهر الأهلون من الهنغاريين والألمان تمسكهم الشديد بسياسة الحياد وأسفر الأمر عن تراجع فرنسو جوزيف عن الانغمار في حرب ثالثة مخربة، أما روسية فأنذرت بالتدخُّل فيما إذا تحركت النمسة فنشطت المفاوضات بتحريض بويست لتأسيس حياد مسلح بين النمسة وإيطالية لمصلحة فرنسة.
على الرغم من معارَضة سيللا فإن الحكومة الإيطالية وافقتْ على الحلف المذكور مشترطةً أن ترضى فرنسة باحتلال إيطالية لروما، وأوفد الملك فيكتور رسولًا إلى الإمبراطور في مدينة «متز» في ٣ آب فوجد نابليون يشارك وزراءه ويرفض منح أي امتياز لإيطالية، وكانت الإمبراطورة تقول: «إن وُجُود البروسيين في باريس خيرٌ من وُجُود البيمونتيين في روما.» وكان الإفرنسيون قانعين بالنصر العاجل إلا أنه سرعان ما خابت الآمال؛ لأن الجنرال مكماهون انكسر بعد ثلاثة أيام في «ورط» أمام زحف البروسيين، فاستيقظت الحكومة الإفرنسية أخيرًا بعد أن جبهتها الحقيقةُ وتضرعت إلى إيطالية بأن ترسل ٥٠٠٠٠ من جندها عن طريق «مونت سنس»، وهنا بذل فريق التحالُف مع فرنسة جهدًا آخر، وكادت الوزارة أن تعلن الحرب لو لم تصل إليها رسالة نيجرا في ٨ آب تنبئ بأن الجمهوريين في فرنسة أخذوا يتحفزون وأن الإمبراطورية في طريق الانهيار.
وفي ١٨ آب أظهرتْ هزيمة «جرافلوط» فداحة الكارثة وقد بدا للإمبراطور الآن أن سلامة فرنسة وعرشه في خطر، فصار مستعدًّا لأنْ يضحي بالسلطة الزمنية على الرغم من معارضة الإكليريكيين وربما معارضة وزرائه أيضًا، فأوفد الأمير نابليون إلى فلورنسة في ٢٠ آب ليقول للطليان بأنه يستطيع أن يطلق يدهم في روما على أن يرسلوا جيشهم لنجدته، ولكن الملك نفسه رأى أن الإفرنسيين سيخسرون الحرب لا محالة، وهكذا تسلسلت الحوادث وارتبطتْ حادثةُ منتانة بهزيمة الإفرنسيين المنكرة في سيدان، التي خسر فيها نابليون الثالث عرشه ووقع أسيرًا بيد البروسيين.
ورأت إيطالية في هذه المعمعة فرصةً سانحةً لتحقيق الوحدة وكان فيكونتي فنوستة قد وعد رسميًّا برعاية إيطالية للميثاق، كما أن الملك تعهد بذلك للإمبراطور أيضًا ولكن الرغبة في إخراج الإفرنسيين من إيطالية قد اشتدت في البلاد وبلغت حدًّا لم يفكر أحدٌ معه في الوفاء بالعهد ومراعاة الشرف، وكان بعضُ الوزراء يعتبرون حرب فرنسة في ساعة محنتها خيانة، بينما كان آخرون مثل سيللا عازمين على فسخ الميثاق حالما تنهار الإمبراطورية، وقد أدت الظروف في فرنسة إلى أن يترك آخر جندي جيفتا فيكيا في ١٩ آب، واقترح حزب اليسار في اليوم التالي على المجلس تقرير إلغاء الميثاق ولكنه فشل، غير أن المظاهرات التي تلت تقديم الاقتراح أثبتت بأن البلاد كانت تغلي وأنها في جانب اليساريين، وأنذر حزب اليسار بالانسحاب من المجلس كتلة واحدة وإثارة البلاد فيما إذا لم يلغ الميثاق، ولم ينقذ الموقف إلا تهديد سيللا الوزارة بالاستقالة منها فيما إذا هي لم تقرر الزحف على روما.
وأخيرًا أسرعت الوزارة إلى قَبُول آراء حزب اليسار وعزم لانزا كما عزم سيللا على الاستيلاء على روما، إلا أنه كان يُريد أن يوصيَ للعالم الكاثوليكي بالثقة فيه؛ ليظهر أمامه في مظهر المحامي للبابا، وليقنعه بأن البابا يستطيع أن يبقى في الفاتيكان في حريةٍ وأمان.
من أجل هذه الغاية حاصر غاريبالدي في كاربيره وقبض على مازيني واتخذ تدابيرَ جدية لمنع أية حركة متجهة نحو الحدود وليحبط كل ثورة تقوم في الإيالات الرومانية، وفي ٢٢ آب قررت الوزارة احتلال روما حالما تعلن الجمهورية في فرنسة، وحجتها في ذلك أن الميثاق إنما عُقد مع شخص الإمبراطور وليس مع فرنسة، وهناك قضيةٌ أخرى أمام الوزارة وهي البَتُّ فيما إذا كانت روما ستُصبح العاصمة، وكان لانزا يأمل بأنه سيستطيع بالروية والصبر الحصولَ على موافقة البابا، وكان بين الكرادلة فريقٌ مسالمٌ وكان الخوف من نشوب ثورة شعبية قد جعل هذا الفريق يستقبل الجند الطلياني كمحررين.
وانتظر لانزا ريثما ينجلي الرأي العام فيطلب إليه بأن تصبح إيطالية الحامية للبابوية الأمر الذي لا يسعه إلا أن يوافق عليه، وبينما كان في تردُّده وردتْ إلى فلورنسة في ٣ أيلول أخبار الاستسلام الإفرنسي في سيدان، فأنذر حزب اليسار أيضًا بالاستقالة وربما استشفَّ لانزا حركة جمهورية إذا لم تعتزم الوزارة الذهاب إلى روما، ولكن الوزارة ظلتْ في تردُّدها حتى انقضاء يومين حينما علمتْ أن الجمهورية قد أُعلنت في باريس، وحينئذٍ أوفدت سان مارتينو إلى روما ليطمئن البابا وليحصل على موافقته إذا أمكن على دخول القطعات الإيطالية بصورةٍ سلمية إلى روما.
وفي ٧ أيلول بلغ فكيسنتي فنوسية وزير الخارجية الدول بأن حكومته لن تحتل إلا بعض الأماكن من أراضي البابا وأنها ستترك الرومانيين أحرارًا في البت في مصيرهم، ويظهر بأن فيسكونتي ولانزا كانا ينويان النظر في تعيين وضع البابوية في طلب مؤتمر تشترك فيه الدول الكاثوليكية، وقد تجلى عزم الوزارة على احتلال المدينة حين انجلى موقف أوروبا أيضًا.
أما جول فافر الوزير الإفرنسي فمع أنه يرفض باسم الجمهورية الإفرنسية أن يعتبر بأن الميثاق ملغًى إلا أنه عده غير مشروع وعده مثلًا سيئًا، أما بيسمارك فوافق على خطط الطليان وأما إنجلترة فلم تُبْدِ أي اعتراض، وأما النمسة فبعد أن طمأنتْها الحكومةُ الإيطالية بمشروع الضمانات التي تعطى للبابا رضيت مختارة.
وفي ١٠ أيلول قررت الحكومة أن تجتاز القطعات الحدود في اليوم التالي، وكانت قد حشدت خمسين ألفًا بعد جهدٍ ومشقة، وكان لانزا يأمل بأن يستطيع هذا العدد المتفوق إحباط أية مقاومة دون سفك الدماء، وقد سلكت أرتال الجنرال كادرونا الطريق الطويل الشاق ليعطي بهذا التأخير أنصار البابا الوقت الكافي للتفكير وترك كل محاولة للمقاومة.
وقد احتلت هذه القطعات فيتربة وجيفتا استلانا في ١٢ أيلول بلا قتال واستسلمت جيفتا فيكيا للجنرال بيكسيو من دون إطلاق نار المدافع، ولم يقرب كادرونا أسوار روما إلا في ١٧ أيلول ولم تنجح خطة لانزا السوقية، وعاد سان مارتينو يحمل رفض أنتونللي البات للمفاوضات وقرر البابا المقاومة جهد استطاعته والشروع بالمفاوضة حالما تفتح ثغرة في أسوار المدينة.
وأخيرًا هاجم كادرونا المدينة في ٣٠ أيلول وبعد قصف المدفعية إياها بضع ساعات دخل الطليان في ثغرة بالقرب من «بورتابيا» وقوبلوا بعاصفةٍ من التصفيق الحاد من قِبَل الشعب المُحرر، لقد رمى ببصره نحو روما منذ أربعين سنة طلب كافور اتخاذها عاصمة لإيطالية منذ عشرة سنوات، وها هي اليوم تفتح وتحقق الأحلام وتظفر إيطالية بعاصمتها الطبيعية إلا أنه لما يعقد أي سلم ديني في الكابتيول.
فأصبح هم لانزا الشاغل إقناع البابوية بعقد السلم وأخذ يتجنب — في حذرٍ — التوغل في بلدة ليونين قبل أن يلتمس منه البابا إرسال جنود لصيانة سلامته، وقد أصر على أن يشمل صيغة الاستفتاء بشأن الوحدة الاقتراع على بقاء سلطة البابا الروحية أيضًا، ودفع بناء على طلب أنتونللي خمسين ألف سكودي باعتبارها الإعانة الشهرية الأولى التي وعدت بها الحكومة بدفعها، قد شاركته الوزارة بأجمعها رأيه للبرهنة لأوروبا على أنه لن يلجأ إلى الشدة حين احتلال روما وأن سلطة البابا الروحية سوف تُصان كما كانت تُصان من قبل رايته الخاصة، على أن لانزا لو سلك سياسة أجرأ لأصاب كثيرًا وإنما اختار سياسة الاعتدال فكان لا بد له من احتمال عاقبتها؛ إذ ما أسرع ما تأكد بأن أي اقتراح في التفاهُم لم يُلاقِ آذانًا صاغية من الفاتيكان.
وقد عزم البابا على الرغم من ضغط اليسوعيين البقاء في روما فأيد أنتونللي هذا العزم بشدة، وقدمت له الحكومة الإنجليزية وربما حكومات أُخرى ملجأً وقتيًّا إلا أن هذه الدعوات كانت باردة، فكان النزاع مع الطليان أمرًا لا بد منه، وأثار استياء الحكومة على قصر الكردينال العائد إلى البابا سخط الكاثوليك، وامتنع البابا مِن استلام إعانة الحكومة بعد ذلك وشهر سلاح الحرمان الأعظم في وجه كل من اشترك في حركة قلب السلطة الزمنية، وكانت نتيجة الاستفتاء العام الذي جرى في ٢٠ تشرين الأول أن نالت الوحدة ١٣٣٠٠٠ صوت ضد ١٥٠٠ صوت من ١٦٧٠٠٠ مقترح مسجل، فدل هذا على مقدار تعلُّق الرومانيين بالوحدة، أما الصيانةُ التي كانت الحكومة تنوي أن تمنحها لمدينة ليونين عن طيبة خاطر فيما إذا رَحَّبَ البابا بالفاتحين؛ فقد قُضي عليها باحتلال تلك المدينة في ٢١ أيلول بعد أن رفض أنتونللي المفاوضات محاولًا جعلها عشًّا للمجرمين والثوريين، ثم قررت الوزارة بعد ذلك نقل قاعدة الحكومة إلى روما.
بقي الآن تقديمُ قانون الضمانات الذي ينظم العلاقات بين الكنيسة والدولة، ويمنح البابا الحرية الروحية الموعودة، وكان البرلمان قبل ثلاثة سنوات قد رفض مشروع ريكاسولي بشأن الكنيسة الحرة، وبينما كان البعض لا ينشد من تحبيذ قانون الضمانات الحديثة سوى الأهداف السياسية وهي: تبرئة إيطالية في أنظار أوروبا الكاثوليكية وإخراج البابا من موقف الخصومة وفسح المجال للمهادنة بين الكنيسة والدولة؛ كان ريكاسولي وحزبه يحرصان قبل كل شيء على معرفة إذا كان التنظيم الجديد سيأتي بثمراتٍ روحية طيبة إن كانوا يستهدفون إحياء الكنيسة وتضميد الجروح التي فرقت بين الكنيسة والوطنية، ومنح الكاثوليكية حياة جديدة ومنح الناس الروح الدينية.
بَيْدَ أنه كان من الصعب التوفيق التام بين غايات المصلحين وأهداف رجال السياسة، وأخيرًا استحال مشروعُ الكنيسة الحرة بشكله الضيق أغلبية الأحرار كحل للاختلافات بين إيطالية والبابوية، وأصبح أولئك الذين يخشون سلطة الكنيسة المحررة على استعدادٍ لقبول المشروع باعتباره الوسيلة الوحيدة لإرضاء الرأي العام الكاثوليكي ولفسح المجال لأنْ يعيش الملك والبابا في روما جنبًا إلى جنب بسلام.
ولم يكن سيللا وكثيرون من أنصاره يرغبون في منح الكنيسة أكثر من حرية محدودة ويريدون أن تحتفظ الدولة بحق الدفاع تجاه الخصومة الإكليريكية حتى كاد المشروع أن يخفق في المجلس النيابي لولا تدخل الوزارة، وقد كفل قانون الضمانات للبابا حقوق السيادة وامتيازاتها وصرح بأن شخصه مصون، وعاقب من يتعرض له بعقوبةِ التعرضِ للملك، وضمن له حرية التصرف في قصر الفاتيكان وقصر لاتران ودفع مبلغ سنوي جسيم، واعتبر قصوره والمحلات التي ينعقد فيها مجمع الكرادلة والمجمع العام من الأماكن التي لا يشملها تشريع الدولة، كما أنه منح للبابا تسهيلاتٍ خاصة بالبريد والبرق؛ ليستطيع الاتصال بالعالم الكاثوليكي بحريةٍ تامة، وكان موقف المجلس تجاه هذه المواد صريحًا حين ناقش الصعوبات التي تنجم عنها، وذلك حين المذاكرة في القسم الثاني من القانون الذي يحدد الحريات الجديدة للكنيسة في إيطالية.
وقد جاء في هذا القسم أن الدولة تضمن للبابا حرية مطلقة في ممارسة رسالته الروحية وفي مخابراته مع أساقفته، وتتخلى عن حقها في تعيين الأساقفة وتصرف النظر عن يمين الإخلاص وبراءة التعيين، وقد دلت النتيجة على مبلغ الحكومة في الاحتياطات التي اقترحها سللا وحزبه؛ لأن التوزيع بمقتضى النموذج الجديد لواردات الإكليروس لم يتم أبدًا ولو تم لاقتضى أن تنتهي واجباتُ الإكليروس.
وقد فُسرت تلك الأحكام من قِبَل المحاكم بأن الحكومة احتفظتْ بسلطةٍ واسعة للإشراف على الإكليروس، فكل كهنوتي لا يؤدي واجباته بموجب ما يتطلب منه القانون الديني أو يسيء استعمال تلك الواجبات في الانتخابات؛ فإنه يتعرض للحرمان من مخصصاته، حقًّا لقد وُضع قانون الضمانات بحيطةٍ كبيرة إلا أنه وُضع بحسن نية تامة، ولو رغب الفاتيكان في السلم لرُوعي نصًّا وروحًا.
مر القانون بالبرلمان في ٢١ آذار سنة ١٨٧١ ولكن لم يكد ينقضي شهران حتى امتنع البابا عن الاعتراف به أو الموافقة عليه، وفي ٢ تموز أقام الملك في مقره في روما وافتتح في ٢٧ تشرين الثاني البرلمان في العاصمة الجديدة وبذلك تمت الوحدة الإيطالية، وبصدور قانون الضمانات أُسدل الستار على الفصل الأول من فصول النزاع مع البابا، وإذا كانت الوحدة الإيطالية لم تحقق الخبر المنشود والذي بُولغ في تقديره؛ فإنها على كل حال قد أنقذت خمسة وعشرين مليونًا من النفوس من شر الشرطة والجواسيس الذي كان يحول دون أية زيادة في النفوس، وأنقذت الناس من استبدادٍ كنسي تدعمه يد الدولة القوية وأنقذتهم من حكومات لا تجرؤ على التقدُّم والعمل للرقي، فقد زادت الوحدة مدى حياة الناس ومنحت إيطالية السكك الحديدية والقوانين الصالحة والتطور الصناعي، وجهزتها بالمصارف الشعبية وجمعيات الإسعاف المشترك التي قد ساعدت الجيل القادم على القضاء على الاستجداء والفقر، وخلقت الوحدة في جميع الطليان شعورًا بالعزة القومية؛ إذ أصبحوا ينتمون إلى دولةٍ عظيمة لها وزنها في سياسة العالم، ولم تبق إيطالية بلد العاطفة والانتكاس وغدت إلى حدٍّبعيد عملية تقدمية وجدية.
وبعدُ، فإن إيطالية دولة فتية نعمت الآن بالسكينة والدعة، وفيها تضحية ولها مثل أعلى بشري فضلًا عن سياسة سامية، وإذا كانت فضائلها السياسية أقل شأنًا من نوايا بعض الأُمم الأخرى إلا أنها سالمةٌ من بعض معايب تلك الأمم، وإذا كانت لا تملك كثافة النفوس والثروة اللازمتين لكي تلعب دورًا خطيرًا في السياسة الأوروبية؛ فإنها تمثل بالإجمال دور السياسة الرصينة الحرة في وقتٍ أصبح العقل والحرية فيه في حالة الانحطاط، وحينما تنظم بيتها فإن سكينتها واعتدالها وزد على ذلك رغبتها في الخير؛ ستمنحها نفوذًا عظيمًا فعالًا.