الكاربوناريون الأخيرون
ظن الناس حين باءت الثورات في نابولي وبيمونته بالفشل، وحين قُضي على المتآمرين اللمبارديين أن الحركة الثورية في إيطالية قد ماتتْ مع أنها كانت في حالة التحفُّز، والحقيقةُ أنها دخلت في طورٍ جديد؛ إذ بدأ رجال جمعية كنجلياتورة يقولون بالعدول عن أسلوب الثورة العمياء على — الاستبداد — إلى حركةٍ منظمة حكيمة، وليدة تفكير تُعنى كثيرًا بترقية المستوى العقلي ولا تقتصر على إحداث تبدلات — سياسية.
وكانت الحركة الرومانتيكية في الآداب تعني أكثر من مجرد رقي أدبي، وعلى العكس من ذلك المدرسة الكلاسيكية القديمة؛ فإنها ظاهرة أدبيةٌ أكثر منها سياسية واجتماعية، وقد شجع نابليون المدرسة الكلاسيكية لأنها تُلائم أهدافه فهي مدرسةٌ تخلو في أسلوبها من معاني التقدم، وليس لها مثل عالٍ، وتقوم على أساطير روما الإمبراطورية.
والمعلوم أن الألمان قد رجعوا حينذاك إلى تقاليدهم القومية وأدركوا — بعد درس — أن للشعوب الأوروبية الحديثة تاريخًا وقصصًا وحياة شعبية، خليقة بأن تُنْظم فيها القصائد الحماسية والأشعار الغنائية، وأخذت هذه المدرسة الحديثة في ألمانية تذكي الروح الاستقلالية، وتُلهم الشعراء المعانيَ الوطنية، وتبث في الألمان روح الإيمان بالوطن الكبير.
وأسس الكتبي الفلورنسي «فبوسُّو» و«كابوني» أحد الأشراف الأحرار مجلة «أنتولوجيا» سنة ١٨٢٠، وكانت على صلة وثيقة بمانزوني ومدرسته، وعلى الرغم من ضِيق انتشارها فإن تأثيرها كان كبيرًا، وقد اشترك في تحريرها أهم الكتاب في إيطالية ومن بينهم «مازيني» وكان يرمي إلى «تصوير الهيئة الاجتماعية الإيطالية ووصف حاجاتها الروحية والأدبية ومساعدة إيطالية على معرفة نفسها بنفسها.» و«إيجاد مثل أعلى للطليان غير ضيق ولا محلي ولكنه مثل قومي واسع.»
ومن ذلك يتضح أن المجلة أصبحتْ سياسية تتعدى حدود عمل مانزوني، وقد وَجهت أعظم عنايتها إلى الإصلاحات الاجتماعية، وكانت في أكثر المناسبات لسان الوطنيين المعتدلين ينذرون به ويبشرون، والتفَّ حول المجلة جماعةٌ يتحمسون أكثر كثيرًا لدانتي، ومؤرخون كانت مدرستُهُم ترمي إلى جَعْل الآداب الرومانتيكية مجالًا للتغني بأمجاد إيطالية القديمة والدعوة إلى إحيائها وأخذ «كارلو تدويا» من نابولي و«قيصر بالبو» من تورينو و«كبُّوني» من فلورنسة؛ يعلمون مواطنيهم تاريخهم في القرون الوسطى، وكان «روسيني» و«بركيت» يَنظمان في منفاهما الأناشيدَ الوطنية وينشئان الكتابات الحماسية ضد البابا والأمراء.
وعلى الرغم من أن مازيني كان من أنصار الرومانتيكية فإنه لم يقصر في انتقاد الرومانتيكية الإيطالية، وكان يرتئي أن تصبح الحركة الرومانتيكية بأجمعها وطنية إيطالية، فالفروق إذن بين مانزوني ومازيني أن الأول كان يعتقد بالإصلاحات السياسية إنما تتم بإصلاح الفرد ولكن الثاني كان يرى عكس ذلك ويقول بأن إصلاح الفرد دائمًا نتيجةٌ للإصلاحات السياسية؛ ولذا فهو يَوَدُّ أنْ تكون الرومانتيكية ساحة قتال للحرية وللاستقلال.
وهكذا صارت الرومانتيكية موضع نقاش تتفرع منه مدرستان حرتان في السياسة الإيطالية، وكانت في الوقت نفسه بشيرًا بتكوين إيطالية الفتاة والوطنية المعتدلة، إلا أن تأثيرها في مجال السياسة لم يظهر إلا قليلًا؛ ذلك لأن مانزوني كان يرى أن الإصلاح الأدبي يحتاج إلى الزمن، أما مازيني فكان — إذ ذاك — مجهولَ الاسم في السياسة وكان الكاربوناريون لا يزالون يقبضون على ناصية الحركة الإصلاحية.
ولما فشلت الثورة في نابولي نقلوا مقرهم الأعلى إلى باريس، كعبة الدموقراطيين في أوروبا، ولم تبق جمعية الكاربوناري إيطالية لحمًا ودمًا فرغب رؤساؤها «لافابيت وببه والأمير لويس فليب» في تأسيس عصبة من الأمم اللاتينية تقف في وجه الحِلْف المقدس، وقد أضاعت الجمعية حماستها الأولى بعد أن أصبحت لا تمثل إيطالية وحدها بل فرنسة أيضًا، وفقدت أهدافها الدينية والأخلاقية، وشعرت بأنها غدت أداةً بيد رجال لا يتحمسون للدموقراطية إلا قليلًا.
وعلى الرغم مما بين الكاربوناريين والرومانتيكيين من خلاف، فإن الحقد على النمسة كان يؤلف بينهم، وكانت حركات سنة ١٨٢٠-١٨٢١ قد سوغت للنمسة الادعاء بضرورة مراقبة السياسة الداخلية لشبه الجزيرة، وجعلت نفسها بعد مؤتمر «لايباخ وفيرونه» الوصيةَ التي اختارتْها الدول لحماية العروش في إيطالية ضد الثورة، وساعدتها على ذلك الظروف السياسية في أوروبا حينذاك.
ثم شرعت تعمل على تقوية مركزها بعد أن أمنت من كل تدخل خارجي، فراحتْ قواتها تحتل نابولي وإنكونة، وأخذتْ تطالب بإلحاق طوسكانه إذا أصبح آل لورين بلا عقب، وأخذ عملاؤها من الجواسيس والكرادلة والضباط والقضاة يعملون في كل دولة لحسابها، وعلى الرغم من أن الملوك والأمراء في إيطالية كانوا يتهافتون على طلب المعونة من النمسة حين تنشب الثورة في بلادهم؛ فإن حماستهم كانت لا تتحمل مزاعم النمسة في أن يكون لها الحق في السيطرة عليهم، فأحبطت مساعي بيمونته وروما مساعي النمسة في تأسيس عصبة بريد مشتركة، وأخذ شارل فليكس ملك بيمونته وفرنسوا الأول ملك نابولي يدبران الدسائس لسحب جيوش الاحتلال، أما دوق مودينه فرسم خططه لتوسيع ممتلكاته لحساب النمسة ولقي في الكنيسة حليفًا له.
وعملتْ هذه الأحزاب على بَثِّ رُوح الاستياء بين الشعب، حتى أصبح الانفجار أمرًا لا بد من وقوعه إن عاجلًا أو آجلًا، وكانت دُويلة الروماني الملجأَ الذي تركزت فيه كل المؤامرات، وحال دون نشوب الثورة في دويلات البابا وجودُ حكومة «كنسالفي» في روما وعدم انحياز جيشها إلى الكاربوناريين، ولكن سوء الإدارة في هذه الدويلات بلغ حدًّا لا يُطاق، وحدث في مثل هذه الظروف أنْ مات البابا فسارعت النمسة وفرنسة إلى السعي الحثيث لانتخاب البابا من أنصارها ولكن البابا الجديد جاء خصمًا للنمسة ثم مات بعد أن حكم ست سنوات، فبذلت النمسة كل جهدها في بابا من أنصارها ولكن لم يلبث أكثر من سنة واحدة حتى مات، فسارع الكرادلة الزيلاني أنصار فرنسة إلى انتخاب مرشحهم سنة ١٨٣١ باسم جرجوار السادس عشر.
وفي عهد هذا البابا بلغ الشغب في الولايات البابوية حده الأقصى، وكان الكاربوناريون قد انبثُّوا في الإيالات الواقعة وراء الأبنين وأخذ الموظفون وأفراد الشرطة أنفسهم ينتمون إلى الجمعيات السرية، ونشبت الثورة في بعض المدن جهارًا، واستطاع الكاربوناريون في باريس أن يقبضوا على زمام الحركة في الشمال وفي الوسط.
ولما ارتقى الأمير «لويس فليب» على عرش فرنسة تبنى المؤامرة الإيطالية فانتشرت بسرعة حتى إن الدوق فرنسوا أمير مودينه كان مستعدًّا أن يحارب النمسة أو أن يحمل على الشروع باقتسام أملاك البابا، شريطة أن تُساعده فرنسة، وراح يتشاور مع رؤساء الأحرار في مودينه في هذه الأمور حتى إن وطنيي شمال إيطالية البسطاء أخذوا يرون فيه الرئيس الملكي المنتظر، وقامت فروع الكاربوناري في بولونيه وروما تدبر العصيان وحددت وقت الانفجار في بداية شباط «فبراير» إلا أن فرنسوا رأى أنه ركب مركبًا خشنًا، وهنالك ما يدل على أنه خان شركاءه اجتذابًا لعطف النمسة.
ولما نشب الاضطراب في روما قبل أوانه وتمكنت الحكومة من قمعه؛ قرر الدوق فرنسوا العمل فأحاطتْ جنودُهُ ليلة ٣ شباط ١٨٣١ بدار مينوتي من رؤساء الأحرار في مودينه وقبضوا عليهم، وفي اليوم التالي ثارت بولونيه وانضم إلى الكاربوناريين كثيرٌ ممن لم يكونوا يتحمسون لهم؛ أملًا في الخلاصِ من حكم الكنيسة فتآخى الجنودُ والثوار أو أنهم انسحبوا خائفين، أما فرنسوا فلما أطلع على هذا الخبر فر هاربًا ومعه المقبوض عليهم وسارت خلفه دوقة بارمه، وأصبحت بذلك البلادُ من بولونيه إلى بياسنزة في أيدي الأحرار، وكذلك التحقت الروماني أيضًا بالثورة التي اندلع لهيبها في أنحاءٍ كثيرة وامتدتْ مسافات شاسعة.
وحين تقدم جيش الأحرار بقيادة «سركونياني» اندلع لهيب الثورة في جميع ممتلكات البابا، ومال موظفو البلديات ومأمورو الدولة إلى الأحرار حتى إن كثيرًا من الرُّهبان وبعض الأساقفة أظهروا ميلًا نحو الثورة، وأعلنت الحكومة المؤقتة في بولونيه إلغاء حكم البابا، وأمرتْ بالشروع بالانتخابات لعقد مجلس الأمة.
وقد وصل إلى بولونيه مندوبون من جميع الأنحاء وعينوا أهدافهم القومية في تلك الحركة، فأطلقوا على المجلس اسم «مجلس نواب الإيالات الإيطالية المتحدة»، وفي اليوم التاسع عشر من شهر شباط حينما عسكر جيش سركونياني على مقربةٍ من روما طلبت إليه حكومة بولونيه أن لا يتقدم؛ لأنها كانتْ تشك في صداقة أهل روما، وكانت الحكومةُ في روما على غايةٍ من الارتباك، وليس لديها من القوة ما تستطيع بها المقاومة، وحدثت اضطرابات في المدينة نفسها فتأهب البابا لترك المدينة واستعد وزيره الأول برنيتي لمفاوضة الثوار.
وفي هذا الوقت الحرج كانت القوات النمسوية في طريقها لإنقاذ السلطة البابوية من موتها المحتم، وكانت الثورةُ قد اعتمدت على مساعدة فرنسة بأن تحميها أمام كل تدخُّل خارجي، ولكن المبدأ الذي اتفق عليه في ثورة تموز السابقة يقضي بألا تتدخل دولة في الحوادث الداخلية لأية دولة أخرى، من أجل ذلك أعلنت فرنسة أنها لا تسمح بإخلال ذلك الأساس، وكانت قد ساعدت اللاجئين الطليان على الدخول في الروماني، ووعدت بأن تُشهر سلاحها في وجه النمسة إذا تدخلت هذه في شئون الطليان الداخلية إلا أنها أرسلت في الوقت نفسه إلى مترنيخ رسالة سرية تؤكد له الأهمية لِما صرحت به.
فاستولى النمسويون بسهولة على بارمه ومودينه، وعاد الدوق بحراسة الحراب النمسوية، وكان أول عمله أن صلب مينوتي زعيم الأحرار في مودينه، أما الجنرال زوكي قائد جيش الثوار في مودينه فانسحب إلى حدود الروماني بدلًا من أنْ تسمح حكومةُ بولونيه بدخول الجيش الثائر في بلادها فإنما تمسكت بأساس «اللاتدخل»، وانتظرت عبثًا مساعدة فرنسة ثم اعتبرت جنود ذوكي محاربين، فجردتهم من السلاح ونقضت بذلك عمل المجلس في إطلاقه اسم إيالات إيطالية المتحدة على المناطق الثائرة.
ولم يلق النمسويون أية مقاومة في احتلال بولونيه، إلا أنهم حين توغلوا فيها اصطدموا بجيش زوكي الضعيف فارتدوا على أعقابهم، بَيْدَ أن حكومة بولونيه المؤقتة كانت قد استسلمتْ أمام رُسُل البابا لقاء وعد ضعيف بالعفو ووقعت شروط الهدنة وبتسريح جنود زوكي وسركونياني، وبهذا انتهت الثورة على الصورة المخزية بعد أن دامت ثلاثة أسابيع.
ولما أخضع النمسويون البلاد لحكم البابا أعلن برنيتي رئيس حكومة البابا في روما أن دورًا جديرًا لحكومة روما سيبدأ، واستهل هذا الدور برفض شروط الهدنة وإصدار الأمر إلى جنوده بقتل أهل ريمني إحدى المدن الثائرة، ولما انتهى دور الثورة وبدأ دور المناورات السياسية بين الدول لحماية ممتلكات البابا أخذ الرأي العام في فرنسة يبدي استياءه من كون النمسة وحدها تأخذ على عاتقها حماية البابا، وأصبحت سياسة فرنسة تستهدف إجلاء النمسويين عن الروماني وحث البابا على القيام بالإصلاحات لتهدئة الخواطر في بلاده.
أما مترنيخ فكان يريد أن يساعد البابا في مقاومة الأحرار ولم تطق الدول الأخرى أن ترى القضية أصبحتْ نزاعًا بين فرنسة والنمسة، فاجتمع مُمَثِّلُوها في روما للنظر في كيفية حمل القوات النمسوية على الانسحاب من الميدان الإيطالي، والعمل للقضاء على مساوئ الحكومة التي كانتْ سبب الاضطرابات.
وعليه، فقد أجبرت إنجلترة وفرنسة وبروسية على ضرورة القيام بإصلاحاتٍ واسعة ولكن النمسة وروسية خَالَفَتَا في ذلك ثم تظاهرتا فيما بعد بالموافقة ووَقَّعَتا مذكرة قدمتها الدول للبابا تطلب إليه تعيين موظفين علمانيين في الوظائف المدنية والمحاكم، ولعل إنجلترة الوحيدة التي كانت صادقة في توقيعها المذكرة، وسرعان ما أخذت النمسا وروسية تتأمران على المذكرة، فاكتفى برنيتي بالوعد بتأسيس المجالس في الولايات وتوظيف العلمانيين، وانسحبتْ على ذلك القوات النمسوية من ممتلكات البابا.
وشاهد الناسُ انسحابَ النمسويين، وسرعان ما شَبَّتْ نار الفتنة في الروماني ثانية، وامتنع الناس عن دفع الضرائب واستقالت الحكومات في بولونيه ورافيته وفورلي، وكان أهل الروماني على استعدادٍ لأنْ يتخلوا عن الانفصالية، على أنْ تقبل روما المنهج الإصلاحي المعتدل، وكان جواب روما على ذلك أنْ أمرت بإغلاق الجامعات سنة وزادت ضريبة الأملاك، فاجتمع مندوبو الولايات الثلاث وعقدوا المجلس، ومعنى ذلك أنهم جهروا بالعصيان، وشجعت الدول — باستثناء إنجلترة — برنيتي على أنْ يطلب إلى الثوار الخضوعَ بلا قيدٍ ولا شرط، وكانت فرنسة تصر على أنْ يجري قمعُ الثورة من قِبَل جنود البابا؛ خشية تدخل جنود النمسة.
فوجه برنيتي جيشًا قويًّا لضرب الثوار، وقد استطاع بعد مقاومة الثوار العنيفة أنْ يتغلب في سيسنة بدك المدينة بكنائسها، ونهبت مدينة فورلي، وأوشكت بولونيه أن تكابد المصير ذاته لولا أنها استقبلت القوات النمسوية حين اقتربت منها باعتبارها حامية فأصبحت في مأمنٍ من شر القوات الباباوية.
علمتْ فرنسة بذلك فأرسلت هي أيضًا جيشًا لاحتلال أنكونه فحيا الأحرار الإفرنسيون هذا العمل واعتبروه ممهدًا لحرب استقلالية لإنقاذ إيطالية، ولَمَّا دخلت القوة أخلى قائدها سبيل المسجونين السياسيين بينما كان الجنود يُنشدون نشيد المارسييز، ولما هدد برنيتي بقطع العلاقات السياسية مع فرنسة ولَوَّحَتْ روسية لفرنسة بالحرب خمدت حماسة الحكومة الفرنسية وتفاهمتْ مع النمسة على ضريح آمال الأحرار.
فشلتْ الثورتان في الروماني؛ لأن الذين قادوا الحركة فيهما لم يكونوا ذوي خبرة، وكان معظمُهُم من الحقوقيين والمعلِّمين الذين يجهلون خفايا السياسية والذين كانوا يحاولون تحريضَ الناس بالأمثال والحكم غير آبهين بالقوى المعنوية التي هي روحُ كل ثورة وكانوا بعيدين عن فهم روح الشعب وكان الرئيس أوجييني طاعن السن، ضعيفًا ولم يكن الجنرال زوكي يثق بالمتطوعين، أما الجنرال أرماندي فكان يبحث عن الوحدة الطليانية كأنما يبحث عن طوبى، فليس غريبًا إذن أن نرى الشعب الذي حَيَّا الثورة بحماسةٍ إبان نشوبها؛ عاد غير مهتم بها بعد فترة قصيرة.