مازيني وإيطالية الفتاة
لقد كانت خيبةً مرةً تلك التي مُني بها الأحرارُ، واعتبر شبانهم هذا الفشل إهانة لهم؛ إذ كيف استطاع بضعة آلاف من النمسويين أن يسحقوا الوثبة القومية بتلك السهولة، والأنكى من ذلك الموقف الجامد الذي وقفته الجماهير من الثورة، أضفْ إلى ذلك عجز الرؤساء الذين برهنوا على أنهم غيرُ أكفاء لمثل هذا العمل، وهكذا فإن الكاربوناريين قادوا الثورة مرتين وفشلوا في قيادتها، وإذن فلا بد للحركة من تنظيمٍ جديد يكون أكثر حيوية وأعظم كفاية، وهنا يأتي دور «جيزنة مازيني» الشاب الناقد الأدبي الذي تَرَأَّسَ ذلك التنظيم.
ولد مازيني في جنوة سنة ١٨٠٥، وكان لا يزال غلامًا حينما اشترك في تحرير مجلة أنتولوجيا، ثم اشتهر بخطته الثورية التي وضعها في سجنه في قلعة «سافونة» وكان يرى أن سبب فشل ثورة الكاربوناريين ناشئٌ مِن أن الرؤساء الذين تولَّوا زمامها كانوا رجالًا محدودي الكفاية والإبداع، فانتخبوا للرئاسة أُناسًا لا تؤهلهم مزاياهم للعمل، وإنما رُوعي في اختيارهم إما شيخوختُهُم أو عُلُوُّ مرتبتهم، ولم يكن لديهم أي منهج معد ليباشروا تنفيذه فور إسقاط الحكومات المستبدة، ولم تكن لهم أهدافٌ اجتماعيةٌ اللهم إلا فيما يتعلق بحرية الصناعة وطريقة الاشتراع والتعليم.
وكان من الممكن أن يكون النجاحُ حليفهم لو تولت الأمورَ حكومةٌ حرة؛ فالاستبداد بنظر مازيني لا يُسحق إلا بثورة يتولى زمامها رؤساء مملوءون إيمانًا وعزمًا، وكان يعتقد أنْ قد آن الأوانُ لبُرُوز أفكارٍ جديدة ورجال جدد، وكان شعاره في ذلك: «اتركوا المجال للشباب.» ثم يؤيد ذلك بقوله: «ضعوهم على رأس الثورة وأَفْهِمُوهم بأن عليهم واجبًا نبيلًا يجب أن يؤدوه، وأَذْكُوا في نفوسهم نار الحماسة، وأقنِعوهم بمقدرتهم ثم اقذفوا بهم في وجه النمسويين.»
أطلق مازيني على تنظيمه الجديد اسم إيطالية الفتاة، وجعله سريًّا، وطلب إلى الأعضاء أن يعملوا حسب اقتناعهم الشخصي؛ أي أنه لم يطالبهم بالطاعة العمياء التي يتطلبها الكاربوناريون من الأعضاء، وكان يرى أن تستهدف سياسة تربية الشعب إلى تربية ثقافية واجتماعية، وألا تقر عملها على تحرير إيطالية دون العمل فيما هو أبعد من ذلك، ولما هرب من سجنه سنة ١٨٣١ والتجأ إلى فرنسة، وراجت كتاباته في جميع أنحاء إيطالية؛ أخذت مدرسته الجديدة تقوم مقام الكاربوناري؛ إذ خلب منهجه الشباب الطلياني الذين كانوا ينظرون بفارغ الصبر ظهور الزعيم، وأخذ أنصارُهُ يزدادون يومًا فيومًا، وكان يعظ تلامذته ويطلب إليهم العمل باتحادٍ ونشاط، وبذلك يتم الاستعداد للثورة بالعدة الكاملة والهمة العالية، ويرى أن الثورة لا يُمكن أن تنجح من دون اشتراك العامة فيها، أي أنه كان يعمل في سبيل شعبية الحركة.
وكان يطلب إلى الأحرار بأنْ يضعوا الأهداف الاجتماعية نصب أعينهم، ويقول لهم: «قولوا للشعب إنكم تريدون إنقاذه من استبداد الملوك والأمراء ومن إهانة الموظفين ومن اضطهاد الأشراف والأغنياء، وحين ترونه أخذ يتململ حينئذٍ فقط، وَلُّوا وجوهكم شطر لمبارديه وبشروا بالحرب ضد النمسويين.» ولم يكتف مازيني بخطابه للأحرار بل إنه وجه نداءً حارًّا للكُتَّاب، طلب إليهم فيه أن يتفرغوا للعمل المثمر، وأن ينفذوا بأدبهم إلى قلوب الشعب، وأن يذكروه بتاريخه في الكتب والنشرات ويبينوا لهم أن هدف إيطالية الجديدة هو بعث إيطالية الدموقراطية المنظمة.
فإيطالية الجديدة — على هذا الطراز — يجب أن تكون جمهورية غير مجزَّئة؛ لأن حالة إيطالية وتقاليدها وجميع ذكرياتها الخالدة متمركزةٌ في فكرة الجمهورية.
يرى مازيني في الجمهورية مثلًا أعلى للحكم الكفيل بإلغاء كل الامتيازات، ويجعل الاهتمام بشئون الفقراء من أول واجبات الدولة، ففي الجمهورية يَفتح العلمُ آفاقًا واسعةً للرقي والتقدم، واقتنع مازيني بأن الشعب إذا وضع هذا نصب عينيه فلسوف يَهِبُّ بأجمعه لطرد النمسويين.
وكانت الوحدة الإيطالية في نظر مازيني أثمن من الجمهورية، وقليلٌ من الناس يعتقد بإمكان الوحدة حينذاك؛ لأن الحياة الإقليمية كانت قوية جدًّا، ومع أن الأحقاد بين الإيالات كانت آخذة بالتقلص إلا أنها لا تزال مستحكمة في النفوس، حتى يستحيل زوالها في جيلٍ واحد، فكل عاصمة تفتخر ببلاطها الصغير وكل جيش مرتبط بأميره ولا يعبأ بإيطالية، أما البابوية فظلت الخصم الذي لا يقبل التفاهُم حول بعث دولة إيطالية عظيمة، أما آل صافويه فقد استهدفوا مملكة في شمال إيطالية ولم يفكروا باندماج الوسط والجنوب بالشمال، لقد كان مازيني مؤمنًا بإمكان بعث إيطالية الموحدة التي تقود الشعب من فوق الأحداث الراهنة نحو هدف أرفع من خطة الاتحاد الذي كان ما يزال الأمل القومي الأعلى نحو شيء كان يبدو عسيرًا بعيد المنال.
وبشر مازيني برسالة الوحدة حتى أصبحت إنجيل الأمة، وسرى إيمان مازيني إلى الناس الذين أخذوا يعتقدون أن إيطالية لن تستطيع أن تكون قوية إلا بالوحدة وحين تصبح روما عاصمتها فستتبوأ مركزها في مصاف الأمم الأوروبية.
وبدهي ألا تكون إدارة الثورة لمثل هذه الأهداف غير جمعية سرية، على أن الجمعيات السرية لم تُحقق آمال مازيني كلها؛ لأنها — على العموم — لم تكن تستطيع أن تقف أمام ذهب الحكومة وسلاحها، ومع ذلك فإنها استطاعتْ أن تقوم بدعايةٍ واسعة النطاق، ولقد قامت في وجه مازيني منذ شرع يعمل إلى آخر أيامه الصعوباتُ التي تجابه كل ثورة، وليس ممكنًا أن يقف شعبٌ أعزلُ غير منظم أمام الحراب والمدافع، ولم يقدر مازيني رغم عزمه أن يدير دفة الأمور، وقد حمله الأمرُ الواقعُ على الاعتراف بشدة محافظة إيطالية ومع هذا كله فإنه خلق إيطالية؛ إذ استطاع بدهائه ورأيه أنْ يدفع الناس إلى الأعمال العظيمة، الأمر الذي لا يتم إلا بالتجرُّد عن المنافع.
وكان من تأثير رسالة مازيني أنها أذكتْ نار القومية الإيطالية، ووجهت السياسة الإيطالية نحو العمل للاستقلال، وجعلت الاحتلال الأجنبي أمرًا لا يجوز التساهُلُ معه أبدًا، وكان مازيني كأكثر الكاربوناريين يعتبر بيمونته مصدر الشروع في الحركة القومية، فأخذ أكثر الوطنيين بصيرة يعتقدون أنها مَهْدُ آمال إيطالية، ويدعون إلى هذه القاعدة عدا تلك المقاومة العنيدة التي كان بيت صافويه المالك يبيديها ضد محاولات النمسة لاستمالته إلى جانبها.
والقوة العسكرية في هذه المملكة الفتية، وتشبُّع مدينة جنوة بحب الحرية، وقرب ميلانو من الحدود النمسوية وإيمان الأمير شارل ألبرت اليقظ؛ كل هذه العوامل جعلت بيمونته منارة الطموح الإيطالي وشجعت الآمال في إيطالية تلك الثورة التي نشبت في إسبانية وبلاد اليونان، فكانت ذات صلة بحركة الكاربوناري الجديدة، ودبرت سنة ١٨٣٠ مؤامرة للحصول على الدستور واشترك فيها رجالٌ من الجيش ومن المحامين، وفكر المتآمرون ثانية في دعوة شارل ألبرت إلى رعاية الحركة، إلا أن آمالهم ذهبت أدراج الرياح فأَجَّل تنفيذ المؤامرة، ثم اطلعت عليها الحكومة فقضت عليها.
وفي تلك الأيام مات ملك بيمونته وارتقى العرش شارل ألبرت إلا أن ارتقاءه لم يتم من دون معارضة، فقد أرادت النمسة أنْ تستفيد من موت الملك من دون عقب فرشحت الدوق فرنسوا أمير مودينه زوج ابنة الملك السابق فيكتور عمانوئيل، إلا أن فرنسة هددتْ بإعلان الحرب إذا تبوأ العرش أميرٌ نمسوي.
وقد تردد مترنيخ كثيرًا عن رضائه من تبوُّؤ شارل ألبرت العرش؛ ولذلك فإنه حين عودته من فرنسة اضطره مترنيخ إلى البقاء في فلورنسة مدة طويلة واقترح على دول الحلف أن يتعهد أمام مؤتمرها برعاية القانون المتعلق بالنظام الملكي والمحافظة عليه، ولم يساعده مترنيخ على العودة إلا بعد أن أثبت بأنه حارب مع الجيش الإفرنسي ضد الأحرار الإسبان، ولما عاد إلى تورينو وعده في حكم المملكة باستشارة المجلس الرجعي وأن يحافظ على قانون المملكة الأساسي، ولم يكد شارل يرتقي العرش حتى بدأ عهده باضطهاد الأحرار مما دعى الشاعر الموسيقار بركيت أن يكتب من منفاه: «تحت أي سماء تكون أيها الخائن فلعنة المنفى تنزل عليك.»
قضى هذا الملك حياتَه في مناورات مع الأحرار، فكان مستبدًّا قلبًا وقالبًا، وكان يصرح بأنه لا يقر الثورة أبدًا، وكان يكره الحكم الدستوري بحجة أنه يؤدي إلى تشاحن الأحزاب ويخل بالانسجام القومي، ورغم كونه مستبدًّا فقد كان يخضع أمام كل وزير ذي عزيمة، وكان يتجنب اتخاذ القرارات الحاسمة؛ لذلك رُمِيَ بالتردُّد وكان موقفه من مجلس الوزراء موقف الجبان، فكلما رأى معارضة أَجَّلَ القرارات ورتب الأمور بصورةٍ يضطر الوزير معها إلى الانسحاب؛ خشية مناقشته «أليس من عجائب الدهر أن يعتبر هذا الملك زعيمًا لحركة كان يكرهها؟ ولما جلس على العرش توقع الأحرار منه إصلاحات عظيمة، تستهدف الخير»، ولو أقدم على مساعدتهم لَكان منح الدستور للأمة.
وكان يعلم أن النمسة تشهر الحرب عليه إذا رأت بيمونته تسير على النظام الدستوري، ومن جهة أخرى كان متمسكًا باليمين الذي أقسمه أمام الحلفاء؛ فلذلك أبقى في الوزارة الأعضاءَ الرجعيين وعَيَّنَ مجلسًا للدولة لا قيمة له، وخابت آمالُ البلاد حين رأت الوزارة الرجعية، ووجه مازيني رغم نزعته الجمهورية إلى الملك رسالةً يطلب إليه فيها بأن يكون على رأس الوطنيين وربما كان مازيني غيرَ مخلص للملك بكتابته تلك الرسالة؛ إذ كان يتوقع أن رفض الملك ما كلفه إياه؛ يزيل من نفوس الطليان الثقة بالملك والاعتماد عليه.
وكان جواب الملك أنْ أصدر على صاحب الرسالة حكمًا صارمًا، فما كان من مازيني إلا أن دعى إلى الثورة وكان فريسة أوهام المنفى؛ إذ خُيِّلَ له أن البلاد على أبواب الثورة فيكفي أن تنفخ إيطالية الفتاة في صورها حتى تهرع أفواج المتطوعين للحركة، ثم ينضم الجيش البيمونتي إلى الثوار ويستولي على لمبارديه ويكون شارل ألبرت بين أمرين: إما أن يترأس الحركة وإما أن يرضى بالخَلع.
فما أسرع ما اكتشفت الحكومةُ هذه المؤامرة، ولجأت إلى القسوة في البطش برجالها، فتألفت المحاكم العرفية وجاء دور من الإرهاب يقوم على التعذيب والقتل، وكان الملك بنفسه يُلحُّ على الحكام بإصدار الأحكام القاسية ويَعِدُهُم لقاء ذلك بالأوسمة.
وكان هذا الدور من أَسْوَد صحائف التاريخ في بيمونته، لكن مازيني لم يحفل بكل ذلك وأعد ثورة ثانية، واجتمع في سويسرا سبعمائة من المبعدين من جميع الأقطار، وزحفوا على إيالة صافويه، وكان على رأسهم الجنرال المنفي «رمارينو» بينما حاول غريبًا لدى البحار الشباب أن يُثير الأسطول، وأضاع بطء رمارينو وعجزه الفرصة وتشتت القوة إثر بعض مناوشات لم ترع فيها الأصول والدقة وذلك في شباط سنة ١٨٣٤.
ونشطت آمال الأحرار والدموقراطيين في حزب إيطالية الفتاة في نابولي عقيب موت الملك فرديناند سنة ١٨٢٥ وارتقاء ابنه فرنسوا على العرش، وكان قبل ذلك نائبًا للملك في صقلية فشجع فيها بعض الأفكار الحرة واشترك في مؤامرة سنة ١٨٢٠، ولكنه لم يكد يتولى الملك حتى انصرف إلى الملذات تاركًا شئون الدولة بيد المحسوبين عليه، وأمعن نائب الملك الجديد بصقلية في اضطهاد الأحرار ونشب عصيان في «البلانتو» فأسرع قائد كان قد اشترك في ثورة ١٨٢٠ إلى قمع العصيان بالنار والحديد، وقَطَعَ رءُوس — الزعماء وعَلَّقَها على أبواب بيوتهم.
ورغم ذلك فقد ظل الشعب يطالب ملوكَه بالإصلاحات، فلم يكد يتولى فرديناند الثاني العرش بعد موت أبيه فرنسوا سنة ١٨٣٠ حتى انتقد على ملأ من الناس سياسة أبيه، فنشطت الآمالُ ثانية وجهل الشعب أن هذا الأمير لم يخرج عن كونه من أُسرة بوربون العاتية، ولما كان الملك متدينًا فقد تَسَلَّطَ الرهبانُ على البلاط وأخذوا يأمرون وينهَون، فحلوا محل المحظيات اللاتي كن يحكمن في عهد أبيه.
ومع هذا فإنه أجرى بعض الإصلاحات في السنوات الأولى من حكمه ليصلح بعض ما أفسده أبوه من الأُمُور فاهتم بالسكك الحديدية، وأعاد تنظيم المالية فزادت الثقة بالتجارة وقويتْ آمالُ الأحرار حتى إن بعضهم في مدينة بولونيه، طلب إليه أن يتزعم الحركة القومية، ورغم رفضه طلب البابا إليه باتخاذ التدابير ضد الجمعيات السرية فإنه اقترح على الحكومات الإيطالية التحالُف في سبيل قمع الثورة، فهذا جزاء الأحرار الذين علقوا عليه الآمال.
وكان من جُملة ما طلبه إلى المعلمين أن يُعلِّموا تلاميذَهم أن الثورة أَمَرُّ مِن القتل وأن الملك يحل من تعهده بتحديد سلطاته، وكان الوزراء أُلعوبة بيده فشجع الخصومات الشخصية فيما بينهم ليجعلهم طوع أمره.
لم تنظم طوسكانه في الحركة إلا قليلًا، وحين غيرت الشرطة فيها خطتها المعتادة وأخذت تستعمل الشدة عَمَّ الاستياء حتى إن الحكومة نفسها طلبتْ إلى الشرطة أن تخفف من شدتها وأن تستعمل اللين، ولم يرق ذلك في أعين النمسة ولولا اعتراض الوزير الأول في طوسكانه ومقاومته لَكانت القوات النمسوية قد احتلت البلد، ومع ذلك اضطرت الحكومة إلى منع مجلة أنثولوجيا من الصدور بإيحاءٍ من النمسة وروسية.
أما في مودينه فكانت الرجعية هي السائدة، وقد زاد عدد ضحايا الدوق فرنسوا في السجون والمنافي، وكانت جريدة صوت الحق تنشر في أعمدتها بضرورة التنكيل بالأحرار تقول: «إن الله قد خلق جنهم وأقرب الأمر إلى التقوى ذلك الذي يجعل من وزيره الأول جلادًا.» أما الأحرار فيجب أن يقتلوا كما يقتل أعداء الهيئة الاجتماعية ولو وافق قيصر روسية لَتَمَّ نفيهم إلى سبيريا أفواجًا أفواجًا.
وكان حكم الشرطة واضطهادها يفوق الوصف فكانت تقبض على الأشخاص بلا سبب، وتتحرى البيوت وتتدخل في الحياة الشخصية، وهكذا وُضعت الرعية في فزعٍ مستمرٍّ، وكان أقل تعبير عن الآراء الحرة يكفي لإزالة صاحبه من الوجود.
أما في دُويلات الكنيسة فكان العهد الجديد الذي فتحه البابا جرجوار عهد اضطراب قائم، وكان البابا يُقاوم بنفسه كل مؤتمر علمي ويمنع تمديد السكك الحديدية في ممتلكاته؛ لأنه يزعم أن ذلك يخالف الدين ولأنه يعتقد أن السكة الحديدية تُسَهِّل مجيء الوفود المستاءة من الولايات، ولكي لا يضطر إلى الاستنجاد بالنمسة عند الحاجة فقد قرر تأليف قوة أهلية تستطيع قمع كل ثورة، فزاد «برنتيتي» عدد الجيش وشجع تأليف العصابات من المتطوعين غير النظاميين وأطلق عليهم اسم «سنتوريون»، وفي مدةٍ قصيرة زاد عدد هذه العصابات حتى بلغ الآلاف، أضفْ إلى ذلك أنه كُرْهَ أنصار البابا للأحرار قد جمع حولهم جماعات من المتشردين وكثيرًا من الرجال، فألفت قوة متحفزة للانتقام من خصوم الحكومة وللنهب، وبانضمام اليسوعيين إلى هؤلاء اضطر الأحرار إلى السكوت ورأت البلاد إرهابًا لا نظير له ولا سيما في دولة الروماني والمارك، فامتنع القرويون السنتوريون من دَفْع ديونهم وهدد العمال السنتوريون رؤساءهم.
وقد أثار كتاب سلفيو بلميكو «سجوني» حماسة القارئين أما شهيد سبيلبرج الشاعر الموسيقار بركيت فكتب نشيدَه الخالد إلى السلاح يا إيطالية إلى السلاح فقد بزغ فجرك.
فضلًا عن أن نشرات مازيني الحماسية كانت تنتقل من يدٍ إلى يد فتنفخ عزمًا جديدًا في الطَّبقات المثقفة بينما روايات مودينا الشعبية كانت تضرب على وتر شعبي حساس.
وقد بدأت فروعُ جمعية إيطالية الفتاة تتأسس تدريجيًّا رغم خمود الهمة، وامتدتْ حلقات المؤامرات إلى باليرمو ونابولي وفلورنسة وميلانو وأخذ المنفيون في إنجلترة وفرنسة وإسبانية وكورسيكة ومالطة والجزائر اليونانية يكاتبون أصدقاءهم الذين ظلوا في إيطالية وأمستْ صقلية مركزًا للعصيان، أما النزاع المديد بين أنصار اللامركزية وأنصار الحكم الذاتي فقد انتهى بانتصار الآخرين، ولما عزل الملك نائبه المحبوب من الأهالي حسدًا زالت الأحقاد بين أحرار الجزيرة واتحد الجميع لمقاومة المستبد، وانضم حزب — الانفصال القديم إلى الحزب الجديد الذي يقول بإدماج الجزيرة بالجمهورية الإيطالية، واجتمع في سنة ١٨٣٧ مندوبو الجمعيات السرية في باليرمو للمذاكرة في شئون الثورة، وحين تفشى مرض الهيضة «الكوليرا» في إيطالية وامتد إلى الجزيرة وقضى على أربعين ألفًا من النفوس في باليرمو، فقد استغل الأحرار عقلية الشعب وقوَّوا الاعتقاد بأن الحكومة هي التي سممت المياه وبشروا بالثورة عليها فهبت «مسينة وكتانية وسيراكوزه» ورفعت العلم الأصفر شارة الاستقلال، وفي سيراكوزه فتك الشعب بالشرطة وبجميع الأشخاص المشبوهين فأرسلت الحكومة على إثر ذلك القائد «لكاروتو» لإخماد الثورة فسلك سبيل الإرهاب وحكم على مائة منهم بالموت ومع أن ثورة صقلية حركة انفرادية فقد أظهرت كيف يتطور الاستياء إلى انفجار واستفاد حزب إيطالية الفتاة من ذلك حين نهض ثانية وأخذ يرسم خطط العصيان بإحكام وتنظيم، واعتزمت لجان الثورة في صيف سنة ١٨٤٣ عصيانًا عامًّا في كل من بلاد نابولي والروماني وطوسكانه إلا أنه كان كل قطر من هذه الأقطار ينتظر أن يبدأ الآخر بالقيام ففشلت الثورة.
ولما كُشفت المؤامرة في بولونيه ورافيته وخشي المتآمرون انتقامَ الحكومة؛ اعتصموا بجبال الأبنين ونظموا فيها حرب العصابات ولما لم يلقَوا عونًا من أهل الجبال تفرقوا شذر مذر، فمال مازيني إلى رأي أكثر المتآمرين بصيرةً واقتنع بتفاهة هذه الحركات، وبرز حينذاك الأخوان «أتليو وأميليو» الشابان الشريفان من فنيسيه وكانا من ضباط الأسطول النمسوي، وقد اقتنعا بأن ما تحتاجه بلادهم هو أمثولة العمل الجريء الحازم والفداء الصحيح، وأرادا أن يجعلا نفسهما المثالَ الحيَّ المنشود، وذلك بتنظيم حرب عصابات في القسم الجنوبي من جبال الأبنين.
وقد بذل مازيني وآخرون جهدهم لحملهما على العدول عما اعتزما عليه إلا أنهما لم يأخذا بالنصيحة وصَمَّا آذانهما عن سماعها وعن سماع توسلات أبيهما وزوجة أولهما آتيلو الفتاة، ففرا من الأسطول والتجآ إلى كورفو ثم أبحرا وبعض الرجال إلى إيطالية وبعثا إلى مازيني بكتبٍ بينا فيها خطتهما بالتفصيل، وقد اعتمدا على الأمانة التي تمتاز بها دوائر البريد الإنجليزي إلا أن كتبهما فتحت في دوائر البريد الإنجليزية وأخبر اللورد أبردين الحكومة النابولية بأمر المؤامرة وتفاصيلها حتى إذا ما نزلت القوة الصغيرة إلى البر قبضتهما فحكمت على الضابطين المذكورين بالموت بالرصاص، وقد هتفا حين نفذ فيهما حكم الموت قائلين: «فلتحي إيطالية.» وكان لموتهما على هذه الصورة الشريفة تأثيرٍ عظيم في البلاد؛ إذ اهتزت البلاد من أقصاها إلى أقصاها وعَرَفَ العالم كيف يموت الإيطاليون في سبيل وطنهم.