هجرة العقول!
كان الشابُّ النحيل يبدو مضطربًا، وقد سأل «أحمد»: هل أنت مصري؟
ابتسم «أحمد» ابتسامةً عريضة، وإن كان قد شعر بخيبة الأمل؛ فما دام يتكلم بالعربية، فإن هذا يعني أنه لن يقدم إليه جديدًا. أجاب: نعم، وأنت يبدو أنك من قطر شقيق!
قال الشاب: نعم، إنني من «سوريا».
رحَّب به «أحمد»، ثم سأله: ما اسمك؟
قال الشاب: «مروان»!
رحب به «أحمد» مرة أخرى، فقال «مروان»: إن هذه أول مرة أسافر فيها خارج بلادي.
سأله «أحمد»: لماذا؟
أجاب «مروان»: أبحث عن مجال أمارس فيه تخصصي!
كانت الإجابة مثيرة بالنسبة إلى «أحمد»؛ فما دام يبحث عن تخصص، فلا بد أنه تخصصٌ هامٌّ.
سأله في هدوء حتى لا يلفتَ نظرَه: أي تخصص، وبلادنا تحتاج إلى كل التخصصات؟!
تنهَّد «مروان» وهو يقول: إن بلادنا تحتاج فعلًا، لكنها تخصصات مكلفة، وتحتاج إلى دول ثرية حتى توفر الإمكانات، إنني أعرف قضيتي تمامًا، لكن، لم يكن أمامي سوى هذا التصرف!
صمتَ لحظة، بينما كانت الطائرة قد بدأَت حركتها. ثم قال: إنني متخصص في «الذرَّة»!
لمعَت عينَا «أحمد» وفكَّر بسرعة: هذا إذن واحد من العقول العربية العبقرية والطاقات اللامعة التي تتسرَّب من بلادنا. وسأل: هل هناك هدف محدد سوف تذهب إليه؟!
أجاب «مروان»: نعم، هناك زميل «سوري» أيضًا، يعمل هناك!
سأله «أحمد»: أين؟
أجاب «مروان»: في «بروكسل». لقد سافر منذ سنوات للدراسة، لكنه لم يَعُد. وكانت بيننا خطابات، وكان يطلب مني اللحاق به، لكني في الحقيقة كنت مترددًا، و…
– و… ماذا؟
قال «مروان»: لقد كنت أتمنى أن أجد مجالي في بلدي، وكنت مؤمنًا أنني أستطيع أن أُفيدَها. فنحن في حاجة إلى مثل هذه التخصصات، خصوصًا وأنني متخصص في مجال الزراعة!
كانت الطائرة قد أخذَت طريقَها إلى الفضاء، لكن «أحمد» و«مروان» لم يكونَا يشعران بشيء؛ فقد استغرقهما الحديث؛ «مروان» لأنه يشعر بالخوف من العالم المجهول الذي يذهب إليه. و«أحمد» الذي تشغله «سرقة العقول العربية»، فهو على يقين من أن الدول الغنية الأجنبية تبحث عن مثل هذه العقول، فتُغريها أو تُهددها، لتستفيد منها. ففي الوقت الذي تحتاج فيه الدول الفقيرة إلى طاقات أبنائها، يكون هؤلاء الأبناء أنفسهم في خدمة الغير. يطورون الزراعة والصناعة وغيرها، ولا تستفيد بلادهم شيئًا؛ لأن الدول الغنية هي التي تفوز بكل شيء في النهاية.
قطع «مروان» لحظاتِ الصمت قائلًا: إن الأبحاث في مجال الزراعة، تحتاج إلى أموال طائلة، أعرف أن بلادنا لا تملكها، مع ذلك، نحن نستطيع أن نستفيد من أبحاثنا في تجربتها في دول غنية، ثم نعود إلى بلادنا بكل ما توصلنا إليه لتُفيدَها.
قال «أحمد» وفي صوته رنةُ أسًى: قد يكون هذا صحيحًا، لكن هذه الدول لن تسمح لك بالعودة مرة أخرى!
هزَّ «مروان» رأسه ثم قال: أعرف هذه الحقيقة، لكني مع ذلك سوف أحاول!
صمتَ لحظة ثم قال: هل هذه أول مرة تسافر فيها خارج «مصر»؟!
ابتسم «أحمد» وقال: لا، أنا دائمًا على سفر؛ لأن طبيعة عملي تحتاج ذلك!
سأله «مروان»: وما هي طبيعة عملك؟!
ابتسم «أحمد» وقال: أعمل في مجال السياحة، وأسافر دائمًا للاتفاق على أفواج سياحية لزيارة بلادنا!
ثم ابتسم قائلًا: إنني لم أقدِّم نفسي لك بعد، اسمي «كريم»!
ابتسم «مروان» وقال: سعيد بك يا عزيزي «كريم». فسوف تنفعني وتُرشدني في الوصول إلى ما أريد، فإنني لا أعرف هذا العالم الغريب!
قال «أحمد»: وأنا يُسعدني أن أكون في خدمتك!
ثم أسرع يُضيف: هل ستكون في «بروكسل» ذاتها!
أجاب «مروان»: لا أعرف، لكن صديقي سوف ينتظرني في مطار «بروكسل». بعدها سوف يكون هو المسئول عني!
ثم ابتسم وأضاف: إنه هو الذي تحمل نفقات سفري!
برغم أن «أحمد» قد ابتسم، إلا أن شيئًا حزينًا كان يتردد في أعماقه. قال في نفسه: يبدو أن هناك منظمة ما هي التي تقوم بذلك كله … كان «مروان» قد استغرق في صمته هو الآخر، وكأن الاثنين يجمعهما همٌّ واحد. مرَّ الوقت، وكلٌّ منهما في صمته. مدَّ «أحمد» يدَه ثم أمسك بالكتاب الذي اشتراه عن «العلم والعلماء»، وبدأ يقرأ فيه. نظر له «مروان» مبتسمًا وهو يقول: هل أستطيع أن أستعير الكتاب الآخر؟
ردَّ «أحمد» بابتسامة، وهو يقدِّم له الكتاب. علَت الدهشةُ وجهَ «مروان» وهو يقول بينما يده تُمسك بالكتاب: هل لك اهتمامات بهذه العلوم؟!
أجاب «أحمد»: نعم، إنها تستهويني كثيرًا!
قال «مروان»: لكنها علومٌ صعبة، وتحتاج إلى متخصصين!
ابتسم «أحمد» وهو يردُّ: إنني أحاول فقط، فلا بأس من الإلمام ببعض المعلومات عمَّا يدور حولنا!
قال «مروان» سعيدًا: إنني معجب بك؛ فمثل هذه العلوم من الصعب أن يفكر فيها مَن عمله السياحة!
ثم أضاف بسرعة: إننا متفقان حتى في هواياتنا؛ فأنا أعشق القراءة في شتى الاتجاهات!
استغرق «أحمد» في كتابه، واستغرق «مروان» في كتابه، لكن «أحمد» كانت تتردَّد في خاطره عشرات الاحتمالات، كان أهمها احتمال أن يكون «مروان» بداية الخيط إلى مغامرته. لكنه فجأة قال في نفسه: إنني أحدِّد المغامرة قبل أن أعرف طبيعتها.
توقَّف لحظة، ثم قال لنفسه مرة أخرى: لكن الأبحاث التي قدَّمها لي رقم «صفر»، تكاد تحدِّد طبيعة المهمة التي خرجت من أجلها …
ألقى نظرة سريعة على «مروان» فرآه مستغرقًا تمامًا في القراءة. بل إنه أخرج قلمًا وبدأ يضع بعضَ الخطوط تحت اصطلاحات محددة. فكَّر «أحمد»: لعل هذه الكلمات التي يحدِّدها تكون مفتاحًا لشيء ما دون أن يدري! ومنذ هذه اللحظة قرر أن يضع «مروان» تحت الملاحظة؛ ولذلك فقد كانت عيناه تجريان على الكلمات التي أمامه في سرعة، ثم يُلقي نظرة جانبية على «مروان».
فجأة قال «مروان»: أرجو أن تعذرني؛ فقد استخدمتُ القلم في تحديد بعض المفاهيم!
ابتسم «أحمد» وهو يقول: أرجو أن تفعل ذلك من أجلي، فقد أستفيد مما تحدده!
ضحك «مروان» وهو يقول: هذه مسألة تحتاج إلى متخصص!
قال «أحمد»: لعلي ألجأ إليك إذا استعصَت على فهمي!
ضحك «مروان» واستغرق من جديد في قراءة كتابه، أما «أحمد» فقد ألقى نظرة من نافذة الطائرة، يرقب السحب التي تُشبه جبالًا من القطن. تردَّد في خاطره سؤال: لماذا لم يسأله حتى الآن عن اسم زميله الذي سوف يلقاه في بروكسل؟! ثم فكر هل يسأله الآن؟! لكنه أجَّل تنفيذَ هذه الفكرة؛ فقد قرر أن يقدم على السؤال عند سلَّم الطائرة، أو في صالة المطار عندما ينزلان هناك.
عاد إلى كتابه يقرأ فيه من جديد، فجأةً تذكَّر تلك الإحصائية التي احتفظ بها في حقيبته السرية، مدَّ يده وأخذ الحقيبة التي كان يضعها أمامه، ثم فتحها، كان عقله يفكر بينما هو يأخذ الإحصائية التي كتبها في ورقة صغيرة. سأل نفسه: سوف أعرضها على «مروان»؛ لأرى ردَّ فعله عليها.
قال مخاطبًا «مروان»: اسمح لي أن أقطع استرسالك في القراءة!
نظر إليه «مروان» مباشرة، فقال «أحمد»: معي إحصائية حول هجرة العلماء العرب إلى الخارج!
ظهر الاهتمام على وجه «مروان» وقال: يهمُّني أن أعرفها!
أضاف «أحمد»: إنها صادرة عن إحدى منظمات الأمم المتحدة.
ثم بسط الورقة أمامه، وبدأ يقرأ: إن عدد العلماء العرب الذين هاجروا وصل إلى ٧٥٠٠ عالم في «العلوم الطبيعية» وحدها!
ظهرَت الدهشة على وجه «مروان» وقال: إنه رقم كبير!
استمر «أحمد» في القراءة: هاجر أيضًا ٢٤ ألف طبيب، و١٧ ألف مهندس، وكلُّهم من «مصر» و«العراق» و«لبنان» و«سوريا» و«فلسطين» و«الأردن».
قال «مروان» في دهشة: إن ذلك يعني استنزاف كفاءاتنا العلمية!
ردَّ «أحمد»: نعم، إنها مسألة مثيرة!
ثم أضاف: هل تدري أنه حتى عام ١٩٨٣ كان قد هاجر إلى «أمريكا» وحدها ١٠٠ ألف من هذه الكفاءات العالية التي أنفقت بلادنا عليها الكثير!
انتظر لحظة ثم أضاف: سوف أقرأ لك نِسَبَ بعضِ هذه التخصصات: من الأطباء ٦٢٪ من مجموع الأطباء، و٦٠٪ من المهندسين، و٥٨٪ من علماء الطبيعة، و٣٧٪ من الزراعيِّين!
ثم نظر إلى «مروان» مبتسمًا، وقال: وسوف ترتفع النسبة طبعًا، فها أنت تنضم إليهم.
تنهَّد «مروان» وقال في أسًى: لا توجد طريقة أخرى!
انتهزها «أحمد» فرصة وسأل: ما اسم الزميل الذي سوف تلقاه في «بروكسل»؟!
انتظر «مروان» لحظة، ثم قال: «شداد»!
في تلك اللحظة جاء صوت مذيعة الطائرة، تُعلن أنهم سوف يهبطون في مطار «بروكسل» خلال ربع ساعة … نظر الاثنان إلى بعضهما، وقال «مروان»: ها أنا ذا أبدأ رحلتي إلى المجهول!
ابتسم «أحمد» وقال: أرجو ألَّا تطولَ الرحلة!