الْفَصْلُ الرَّابِعُ
(١) ثَلَاثُونَ عَامًا
لَمْ يَكَدْ «أَبُو زِيَادٍ» يَسْتَسْلِمُ لِلرَّاحَةِ — فَوْقَ الْحَشَائِشِ الْقَرِيبَةِ مِنْ سِيَاجِ الْحَقْلِ (سُورِهِ) — حَتَّى الْتَفَتَ إِلَيَّ، وَنَظَرَ فِي وَجْهِي نَظَرَاتٍ فَاحِصَةً ذَاتَ مَعَانٍ لَا تَخْفَى عَلَى مَنْ يَرَاهَا. وَهِيَ تَدُلُّ عَلَى عَقْلٍ ذَكِي وَتَفْكِيرٍ بَارِعٍ. قَالَ «أَبُو زِيَادٍ»: «لَيْسَ فِي قُدْرَتِي أَنْ أَصِفَ كُلَّ أَشْجَانِي، وَأُعَبِّرَ عَنْ جَمِيعِ أَحْزَانِي، لِأَنَّ الْكَلِمَاتِ لَا تَفِي بِإِظْهَارِ مَكْنُونِ شُعُورِي. وَلَوْ طَاوَعَنِي التَّعْبِيرُ عَمَّا أُرِيدُ، لَمْ يُطَاوِعْنِي ضَعْفِي وَاخْتِلَالُ صِحَّتِي الَّتِي أَصْبَحَتْ تَتَأَذَّى كُلَّمَا عَرَضَتْ لَهَا تِلْكَ الذِّكْرَيَاتُ الطَّوِيلَةُ الْمُؤْلِمَةُ. وَلَا أَكْتُمُكِ أَنَّ حَيَاتِي لَمْ تَكُنْ إِلَّا سِلْسِلَةً مُتَّصِلَةَ الْحَلَقَاتِ مِنَ الْآلَامِ وَالْمَصَائِبِ. فَقَدْ عِشْتُ دَهْرًا طَوِيلًا، وَقَضَيْتُ عُمْرًا مَدِيدًا لَمْ يَكَدْ يَبْلُغُهُ حِمَارٌ آخَرُ. وَمَا أَظُنُّكِ سَمِعْتِ أَنَّ حِمَارًا بَلَغَ مِنَ الْعُمْرِ ثَلَاثِينَ عَامًا، كَمَا بَلَغْتُ.»
فَتَجَدَّدَتْ دَهْشَتِي، وَزَادَ عَجَبِي مِمَّا سِمِعْتُ. وَتَفَرَّسْتُ (دَقَّقْتُ النَّظَرَ) فِي مَلَامِحِهِ، وَقَدِ اشْتَدَّتْ رَغْبَتِي فِي سَمَاعِ قِصَّتِهِ، فَقُلْتُ لَهُ: «الْحَقُّ يَا صَاحِبِي أَنَّنِي لَمْ أَكُنْ أَظُنُّ قَطُّ، أَنَّ مِنَ الْحَمِيرِ مَا يَعِيشُ مِثْلَ هَذَا الْعُمْرِ الطَّوَيلِ. لَا تَعْجَبْ يَا ابْنَ عَمَّ. أَلَيْسَ عُمْرُكَ الْآنَ أَرْبَعَةَ أَمْثَالِ عُمْرِي تَقْرِيبًا؟»
فَتَعَجَّبَ «أَبُو زِيَادٍ»، وَهَزَّ رَأْسَهُ الْأَشْعَثَ (الْمُفَرَّقَ) الشَّعْرِ، قَائِلًا: «أَحَقٌّ مَا تَقُولِينَ؟ آمُلُ أَلَّا تَكُونِي قَدْ كَابَدْتِ (عَانَيْتِ) مِنَ الْمَتَاعِبِ مِثْلَ مَا كَابَدْتُ. إِنَّنِي أُدْعَى: «أَبَا زِيَادٍ» أَوْ عَلَى الْأَصَحِّ، كَانَ ذَلِكِ مَا أُطْلِقَ عَلَيَّ مُنْذُ سَنَوَاتٍ كَثِيرَةٍ سَلَفَتْ (مَضَتْ). وَإِنْ كَانَ يَلُوحُ (يَبْدُو) لِذَاكِرَتِي الضَّعِيفَةِ أَنَّ ثَمَّةَ (هُنَاكَ) أَسْمَاءَ أُخْرَى أُطْلِقَتْ عَلَيَّ فِي أَثْنَاءِ طُفُولَتِي، وَلَكِنِي لَا أَكَادُ أَذْكُرُهَا الْآنَ.»
(٢) أَيَّامُ السَّعَادَةِ
لَقَدْ وُلِدْتُ فِي بَلَدٍ نَاءٍ (بَعِيدٍ) عَنْ هَذَا الْبَلَدِ. وَحِينَ كُنْتُ طِفْلًا صَغِيرًا، انْتَقَلْتُ إِلَى بَلَدٍ آخَرَ نَاءٍ بَعِيدٍ. وَقَدْ عَبَرْتُ بَحْرًا وَاسِعًا جِدًّا فَوْقَ مَرْكَبٍ تِجَارِي كَبِيرٍ، ظَلِلْتُ فِيهِ أَيَّامًا كَثِيرَةً حَتَّى بَلَغْتُ ذَلِكِ الْبَلَدَ. وَكُنْتُ — حِينَئِذٍ — فِي صُحْبَةِ أمِّي وَجُمْهُورِ أَهْلِي، وَظَلِلْتُ رَدْحًا (مُدَّةً) مِنَ الزَّمَنِ أُعَامَلُ مُعَامَلَةً حَسَنَةً.
وَكَانَ هَوَاءُ ذَلِكِ الْبَلَدِ يَجْمَعُ بَيْنَ الدِّفْءِ وَالْجَفَافِ. فَشَعَرْتُ بِأَنَّهُ يُوَافِقُنِي أَتَمَّ مُوَافَقَةٍ. وَسُرْعَانَ مَا صَحَّ جِسْمِي وَنَمَا.
وَكُنْتُ أَسْمَعُ النَّاسَ يَمْتَدِحُونَ جَمَالَ مَنْظَرِي وَانْسِجَامَ جِسْمِي (انْتِظَامَهُ وَاسْتِوَاءَهُ)، وَيَقُولُونَ مُعْجَبِينَ: «يَا لَهُ مِنْ حِمَارٍ!»
وَهُنَا أَطْرَقَ «أَبُو زِيَادٍ» دَقِيقَةً أَوْ دَقِيقَتَيْنِ، كَأَنَّمَا غَرِقَ فِي ذِكْرَيَاتِ تِلْكَ الْأَيَّامِ الْغَابِرَةِ (الْقَدِيمَةِ الْمَاضِيَةِ).
وَكُنْتُ — حِينَئِذٍ — أَخْتَلِسُ (أَخْتَطِفُ بِسُرْعَةٍ عَلَى غَفْلَةٍ) بَعْضَ النَّظَرَاتِ السَّرِيعَةِ إِلَى جِسْمِهِ النَّحِيفِ، وَشَعْرِهِ الْأَشْعَثِ (الْمُفَرَّقِ)، وَأَنَا أَقُولُ لِنَفْسِي مُتَعَجِّبَةً: «تُرَى أَيْنَ ذَهَبَ جَمَالُهُ الَّذِي يَتَحَدَّثُ عَنْهُ، فَإِنِّي لَا أَرَى لَهُ أَيَّ أَثَرٍ عَلَى التَّحْقِيقِ؟»
ثُمَّ اسْتَأْنَفَ «أَبُو زِيَادٍ» قَائِلًا: «مَا أَجْدَرَنِي أَنْ أَمُرَّ بِتِلْكِ الْأَيَّامِ مَرًّا سَرِيعًا، فَقَدْ كَانَتْ مُنْذُ عَهْدٍ بَعِيدٍ جِدًّا، وَقَدْ كِدْتُ أَنْسَاهَا، وَقَلَّمَا ذَكَرْتُهَا.
قُلْتُ لَكِ: إِنَّنِي نَمَوْتُ (ازْدَادَ حَجْمُ جِسْمِي) بِسُرْعَةٍ عَظِيمَةٍ، وَأَصْبَحْتُ وَاحِدًا مِنْ أَطْوَلِ أَبْنَاءِ أُسْرَتِي وَأَقْوَاهَا. وَكَانَ صَاحِبِي رَجُلًا رَحِيمًا، فَأَحْسَنَ تَغْذِيَتِي، كَمَا أَحْسَنَ مُعَامَلَتِي. وَلَقِيتُ مِنْ تَقْدِيرِهِ وَعَطْفِهِ مَا لَا مَزِيدَ عَلَيْهِ. فَكَانَ يَمْشُطُ شَعْرِي (يُسَرِّحُهُ وَيُخَلِّصُ بَعْضَهُ مِنْ بَعْضٍ) حَتَّى أَصْبَحَ — لِفَرْطِ نَظَافَتِهِ — لَامِعًا، كَمَا يَلْمَعُ شَعْرُكِ الْجَمِيلُ!
فَلَا تَعْجَبِي إِذَا قُلْتُ لَكِ: إِنَّنِي — حِينَئِذٍ — شَمَخْتُ بِرَأْسِي مَزْهُوًّا مُعْجَبًا بِهَذَا الثَّنَاءِ الَّذِي سَمِعْتُ، وَأَيْقَنْتُ أَنَّنِي أَصْبَحْتُ أَظْرَفَ حِمَارٍ فِي الدُّنْيَا كُلِّهَا، وَأَنَّنِي جَدِيرٌ بِالِانْتِسَابِ إِلَى أَبِينَا الْعَظِيمِ: شَحَّاجٍ الْأَكْبَرِ.»
(٣) حُزْنُ الْأُمِّ
فَقُلْتُ لَهُ: «ذَلِكَ مَعْقُولٌ، فَأَتْمِمْ حَدِيثَكَ.» فَقَالَ، وَقَدْ سِيءَ وَجْهُهُ (قَبُحَ) وَعَلَا الِاكْتِئَابُ سِحْنَتَهُ، فَنَظَرَ إِلَيَّ بِوَجْهٍ مُتَجَهِّمٍ (عَابِسٍ مُتَغَيِّرٍ): «أَرْجُو أَلَّا تُقَاطِعِينِي، كَمَا أَرْجُو أَلَّا تَتَعَجَّلِينِي، لِأَنِي أَعْرِفُ مَا يُقَالُ وَمَا لَا يُقَالُ.
دَعِينِي أَقُصُّ عَلَيْكِ حَدِيثِي — كَمَا يَحْلُو لِي بِأُسْلُوبِي الْخَاصِّ — وَإِلَّا كَفَفْتُ (سَكَتُّ) عَنِ الْكَلَامِ بَتَاتًا.»
فَقُلْتُ لَهُ: «الْحَقُّ مَا تَقُولُ، فَلَنْ أُقَاطِعَكَ مَرَّةً أُخْرَى!»
فَقَالَ: «لَمَّا أَوْفَتْ (أَشْرَفَتْ) سِنِي عَلَى الثَّانِيَةِ، بَاعَنِي صَاحِبي. وَقَدِ امْتَلَأَ قَلْبُ أمِّي حُزْنًا وَرُعْبًا لِفِرَاقِي، وَقَالَتْ: «مَا أَتْعَسَ حَظِّي، فَإِنَّنِي مَنْكُوبَةٌ هَكَذَا دَائِمًا. أَوَكُلَّمَا نَمَا (كَبِرَ) طِفْلٌ مِنْ أَطْفَالِي، أَخَذَهُ مِنِي صَاحِبِي قَسْرًا (كَرْهًا وَاغْتِصَابًا)، وَأَبْعَدَهُ عَنِي، فَلَا أَكَادُ أَظْفَرُ مِنْ أَوْلَادِي إِلَّا بِصُحْبَةِ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فَقَطْ؟»
(٤) الصَّاحِبُ الْجَدِيدُ
ثُمَّ أَخَذَنِي صَاحِبِي الْجَدِيدُ، إِلَى مُرْتَفِعَاتٍ مِنَ التُّلُولِ وَالْهِضَابِ الْعَالِيَةِ وَمُنْخَفِضَاتٍ مِنَ السُّهُولِ — وَالْأَوْدِيَةِ وَالْوِهَادِ (وَهِيَ: الْأَرَاضِي الْمُنْخَفِضَةُ) حَيْثُ رَأَيْتُ أَقْدَامِي لَا تَسْتَطِيعُ أَنْ تَتَثَبَّتَ فِي الْأَرْضِ. وَمَا أَظُنُّ أَنَّ فِي قُدْرَتِكِ أَنْ تَمْشِي فِي تِلْكِ الْمَسَالِكِ الْخَطِرَةِ الَّتِي كُنْتُ أَرْتَادُهَا (أَسِيرُ فِيهَا) جِيئَةً وَذَهَابًا.»
فَقَالَتْ «قَسَامَةُ»: «ذَلِكَ مَا لَمْ أُحَاوِلْهُ قَطُّ، وَلَنْ أَسْتَطِيعَ إِذَنْ أَنْ أَعْرِفَ: أَفِي مَقْدُورِي هَذَا أَمْ فِي غَيْرِ مَقْدُورِي؟ وَلَكِنْ لَا رَيْبَ أَنَّكَ عَلَى حَقٍّ، فَإِنَّنِي ثَقِيلَةُ الْجِسْمِ، وَأَرْجُلِي لَيسَتْ رَشِيقَةً (لَيْسَتْ خَفِيفَةَ الْحَرَكَةِ) كَأَرْجُلِكَ. فَهِيَ لِذَلِكَ لَا تَصْلُحُ لِلسَّيْرِ فِي الْأَمَاكِنِ الْوَعْرَةِ (الصَّعْبَةِ).»
فَاسْتَأْنَفَ «أَبُو زِيَادٍ» قَائِلًا: «ذَلِكِ حَقٌّ لَا رَيْبَ فِيهِ. فَلَيْسَ فِي مَقْدُورِ أَحَدٍ أَنْ يَحْكُمَ عَلَى شَيْءٍ قَبْلَ أَنْ يُمَارِسَهُ (يُعَالِجَهُ) وَيُجَرِّبَهُ وَيَتَعَرَّفَ مَدَى (مِقْدَارَ) قُدْرَتِهِ — أَوْ عَجْزِهِ — عَنْ مُزَاوَلَتِهِ (عَمَلِهِ وَالْقِيَامِ بِهِ).
(٥) فِي أَعَالِي التِّلَالِ
لَقَدْ كُنْتُ — أَنَا نَفْسِي — أَحْسَبُنِي عَاجِزًا عَنْ صُعُودِ التِّلَالِ وَسَلَالِمِ الْجِبَالِ، حِينَ رَأَيْتُهَا أَوَّلَ وَهْلَةٍ (أَوَّلَ شَيْءٍ رَأَيْتُهُ) فَقَدْ خُيِّلَ إِلَيَّ — حِينَ لَمْ أَرَ فِيهَا إِلَّا مَنَافِذَ لِلسَّيْرِ مُنْحَدِرَةً مُلْتَوِيَةً — أَنَّنِي غَيْرُ مُسْتَطِيعٍ الصُّعُودَ إِلَيْهَا. وَشَعَرْتُ — حِينَ هَمَمْتُ بِارْتِقَائِهَا (الصُّعُودِ فِيهَا) — أَنَّنِي لَنْ أَلْبَثَ أَنْ أَقَعَ عَلَى ظَهْرِي.
وَلَكِنَّنِي — حِينَ دَفَعْتُ رَأْسِي وَذِرَاعِي إِلَى الْأَمَامِ قُدُمًا (بِلَا الْتِوَاءٍ)، وَثَبَّتُّ أَقْدَامِي فِي الصَّخْرِ تَثْبِيتًا — تَمَكَّنْتُ مِنَ السَّيْرِ نَاجِيًا (خَالِصًا مِنَ الْأَذَى). وَكُتِبَتْ لِي السَّلَامَةُ بَعْدَ ذَلِكِ.»
(٦) بِدَايَةُ الشَّقَاءِ
فَقُلْتُ لَهُ، وَأَنَا أَرْثِي لِحَالِهِ (أَرِقُّ وَأَعْطِفُ): «لَعَلَّكَ ابْتَهَجْتَ حِينَ بَلَغْتَ غَايَتَكَ، وَوَصَلْتَ إِلَى الْقِمَّةِ (بَلَغْتَ رَأْسَ الْجَبَلِ).»
فَقَالَ: «لَقَدْ خُيِّلَ إِلَيَّ أَنَّ آلَامِي قَدِ انْتَهَتْ. وَلَكِنْ، وَا أَسَفَاهُ، فَقَدْ كَانَتْ هَذِهِ بِدَايَةَ الْآلَامِ لَا نِهَايَتَهَا. وَطَبِيعِيٌّ أَنَّنِي لَمْ أَعْرِفْ هَذِهِ الْحَقَائِقَ — حِينَئِذٍ — وَلَكِنَّنِي رَأَيْتُ فِي هَذَا الْجُزْءِ مِنَ الْجِبَالِ جَمَاعَةً مِنَ الْمَعْدِنِيِّينَ (الْمُشَتَغِلِينَ بِاسْتِخْرَاجِ الْمَعْدِنِ) يَعْمَلُونَ فِي مَنْجَمٍ (وَالْمَنْجَمُ: الْمَوْضِعُ الَّذِي تُسْتَخْرَجُ مِنْهُ الْمَعَادِنُ). وَرَأَيْتُ الْقِطَعَ الَّتِي تَخْرُجُ مِنَ الْمَنَاجِمِ تُحْمَلُ عَلَى ظُهُورِ أَفْرَادٍ مِنْ أُسْرَتِي الْحِمَارِيَّةِ، إِلَى السُّهُولِ الْمُنْبَسِطَةِ الْوَاطِئَةِ فِي سَفْحِ الْجَبَلِ. وَقَدْ كَانَ ذَلِكِ الْعَمَلُ سَهْلًا — إِلَى حَدٍّ كَبِيرٍ — عَلَى أَبْنَاءِ عَشِيرَتِي مِنَ الْحَمِيرِ الْمُدَرَّبِينَ الَّذِينَ أَكْسَبَهُمُ الْعَمَلُ مَرَانَةً (تَمْرِينًا) وَخِبْرَةً.
أَمَّا أَنَا فَمَا كِدْتُ أَبْلُغُ حَافَةَ الْمُنْحَدَرِ (جَانِبَهُ وَطَرَفَهُ) — وَعَلَى ظَهْرِي أَوَّلُ حِمْلٍ — حَتَّى رَجَعْتُ أَدْرَاجِي مُرْتَاعًا (عُدْتُ — مِنْ حَيْثُ أَتَيْتُ — خَائِفًا) مُفَزَّعًا.»
(٧) ضَرْبَةُ الْعَصَا
وَالْآنَ صَوِّرِي لِنَفْسِكِ — يَا «أُمَّ سَوَادَةَ» — أَنَّنِي كُنْتُ أَبْغِي (أَطْلُبُ) الذَّهَابَ قُدُمًا (إِلَى الْأَمَامِ) وَلَمْ أُرِدْ إِلَّا أَنْ أَتَرَوَّى (أَتَفَكَّرَ) لَحْظَةً، رَيْثَمَا أَتَبَيَّنُ طَرِيقِي.
وَلَكِنَّ الْعَامِلَ الَّذِي كَانَ يَسُوقُنِي حِينَئِذٍ قَالَ: «إِنَّنِي دَابَّةٌ عَنِيدَةٌ.» وَقَدْ أَهْوَى (نَزَلَ) عَلَى ظَهْرِي بِضَرْبَةٍ مُوجِعَةٍ مِنْ عَصَاهُ.
وَكَانَتْ هَذِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ تَلْمُسُ الْعَصَا جَسَدِي (جِسْمِي). وَقَبْلَ أَنْ أُوَاصِلَ سَيْرِي، حَاوَلْتُ أَنْ أُفَكِّرَ فِيمَا حَدَثَ، وَأَتَعَرَّفَ أَسْبَابَهُ. فَمَا رَاعَنِي (لَمْ يُفَزِّعْنِي) إِلَّا عَصَاهُ، وَهِيَ تَرْتَفِعُ مَرَّةً أُخْرَى، ثُمَّ تَهْوِي (تَسْقُطُ) عَلَى ظَهْرِي مَرَّاتٍ مُتَتَالِيَةً (مُتَتَابِعَةً). وَلَمْ أَكُنْ عَلَى الْحَقِيقَةِ أَدْرِي كَيْفَ كَانَتْ تَنْتَهِي النَّتِيجَةُ، لَوْلَا أَنَّ صَدِيقِي «أَبَا عَيْرَةَ» دَانَانِي (قَرُبَ مِنِي)، ثُمَّ أَسَرَّ إِلَيَّ فِي أُذُنِي هَامِسًا (مُتَحَدِّثًا بِصَوْتٍ خَفِي): «هَلُمَّ فَتَحَرَّكْ — يَا أَبَا زِيَادٍ — فَهَذَا هُوَ مَا يُرِيدُهُ الرَّجُلُ مِنْكَ أَنْ تَفْعَلَهُ.»
وَكَانَ «أَبُو عَيْرَةَ» مِنْ رِفَاقِي الْمُجَرَّبِينَ بِأَخْلَاقِ سَادَتِنَا الْأَنَاسِي (النَّاسِ)، فَلَمْ أُخَالِفْ لَهُ نُصْحًا. وَمَشَيْتُ فِي حَذَرٍ شَدِيدٍ، وَأَنَا أَتَحَسَّسُ الْأَرْضَ بِأَقْدَامِي، وَتَتَشَبَّثُ حَوَافِرِي بِهَا، وَقَدْ ضَمَمْتُ جِسْمِي، وَحَنَيْتُ ظَهْرِي، حَتَّى كَادَ يَلْتَصِقُ بِالْأَرْضِ مِنْ شِدَّةِ الْخَوْفِ. وَلَمْ أَلْبَثْ أَنْ بَلَغْتُ — فِي النِّهَايَةِ — سَفْحَ الْجَبَلِ سَالِمًا.
(٨) غَبَاوَةُ النَّاسِ
وَكُنْتُ — فِي أَثْنَاءِ سَيْرِي — دَائِمَ التَّفْكِيرِ، وَأَنَا أُسَائِلُ نَفْسِي: «لِمَاذَا ضَرَبَنِي الرَّجُلُ؟ إِنَّنِي لَمْ أَرْتَكِبْ خَطَأً قَطُّ.» وَلَمَّا أُنْزِلَتِ الْأَحْمَالُ مِنْ فَوْقِ ظُهُورِنَا، سَأَلْتُ رَفِيقِي مُتَعَجِّبًا: «خَبِّرْنِي — يَا أَبَا عَيْرَةَ — مَاذَا نَقَمَ الرَّجُلُ (مَاذَا كَرِهَ وَأَنْكَرَ) مِنِي، فَأَهْوَى عَلَى جِسْمِي بِعَصَاهُ الْغَلِيظَةِ؟» فَأَجَابَنِي: «الْأَمْرُ بَيِّنٌ (وَاضِحٌ) — يَا أَبَا زِيَادٍ — فَإِنَّ الرَّجُلَ قَدْ حَسِبَ (ظَنَّ) — حِينَ تَوَقَّفْتَ — أَنَّكَ تُصِرُّ عَلَى الْوُقُوفِ، وَأَنَّكَ حَرَنْتَ فَلَنْ تَسِيرَ بَعْدَ ذَلِكَ، فَأَصَرَّ عَلَى أَنْ يُرْغِمَكَ عَلَى السَّيْرِ. وَلَعَلَّهُ لَوْ عَرَفَ السَّبَبَ الَّذِي دَعَاكَ لِلتَّرَيُّثِ (الْإِبْطَاءِ)، لَكَانَ أَرْأَفَ بِكَ (أَكْثَرَ رَحْمَةً)، وَأَعْظَمَ شَفَقَةً عَلَيْكَ.»
ثُمَّ قَالَ: «إِنَّ النَّاسَ — يَا أَبَا زِيَادٍ — لَمْ يَبْلُغُوا مِنَ التَّعَقُّلِ وَالْفَهْمِ تِلْكَ الْمَرْتَبَةَ الَّتِي يَتَخَيَّلُونَهَا، وَيَزْعُمُونَهَا لِأَنْفُسِهِمْ. إِنَّهُمْ — لِقِصَرِ عُقُولِهِمْ، وَضَعْفِ إِدْرَاكِهِمْ — يَتَّهِمُونَنَا بِالْبَلَاهَةِ وَالْغَبَاوَةِ، وَإِنْ كَانُوا هُمْ أَنْفُسُهُمْ يَصِلُونَ — أَحْيَانًا — فِي هَاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ إِلَى أَبْعَدَ مِمَّا بَلَغْنَا.»
(٩) فَهْمٌ خَاطِئٌ
ذَلِكَ مَا حَدَّثَنِي بِهِ رَفِيقِي «أَبُو عَيْرَةَ» وَهُوَ عَلَى صَوَابٍ فِيمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ. وَلَا أَكُتُمُكِ — يَا عَزِيزَتِي «قَسَامَةُ» — أَنَّ هَذَا الرَّجُلَ — لِسُوءِ الْحَظِّ — قَدْ أَسَاءَ الظَّنَّ بِي، فَتَحَامَلَ عَلَيَّ (اشْتَدَّ وَعَنُفَ) بَعْدَ هَذَا الْحَادِثِ الْمَشْئُومِ.
لَقَدْ أُدْخِلَ فِي رُوعِهِ (قَلْبِهِ) أَنَّنِي حَرُونٌ (عَاصٍ لَا أَنْقَادُ)، عَنِيدٌ، فَلَمْ يَنْسَ لِي ذَلِكَ الْمَوْقِفَ أَبَدًا.
وَكُنْتُ — مُنْذُ هَذَا الْيَوْمِ — لَا أَكَادُ أَقِفُ لَحْظَةً، لِأَتَنَفَّسَ أَوْ أَتَمَلْمَلَ مِنْ حِمْلِي قَلِيلًا، حَتَّى يَنْهَالَ عَلَيَّ ضَرْبًا مُبَرِّحًا (مُؤْذِيًا)، بِكُلِّ مَا أُوتِي مِنْ قُوَّةٍ.
(١٠) جُهْدٌ غَيْرُ مَشْكُورٍ
وَلَقَدْ بَذَلْتُ إِمْكَانِي، وَلَمْ أَدَّخِرْ وُسْعًا فِي إِرْضَاءِ صَاحِبِي، وَتَحْقِيقِ رَغَبَاتِهِ. فَانْطَلَقْتُ أَمْشِي فِي الْمُنْحَدِرَاتِ وَالْمُنْعَرِجَاتِ الضَّيِّقَةِ، بِخُطًى ثَابِتَةٍ، قَانِعًا بِالتَّافِهِ (الْحَقِيرِ) مِنَ الزَّادِ، رَاضِيًا بِالْأَقَلِّ الْأَخَسِّ مِنَ الطَّعَامِ. حَتَّى لَوَدِدْتُ (تَمَنَّيْتُ) لَوْ قَدَرْتُ عَلَى الْحَيَاةِ — بِغَيْرِ زَادٍ — مَا دَامَ يَحْلُو لَهُ أَنْ أَمُوتَ جُوعًا. وَكُنْتُ أَحْمِلُهُ مُسْرِعًا فِي السُّهُولِ، وَأَعْدُو (أَجْرِي) بِهِ فِي أَثْنَاءِ عَوْدَتِهِ. وَلَكِنَّ هَذَا كُلَّهُ لَمْ يُجْدِ نَفْعًا. فَقَدِ اسْتَقَرَّ فِي خَلَدِهِ (بَالِهِ)، وَثَبَتَ فِي نَفْسِهِ: أَنَّنِي حَرُونٌ عَنِيدٌ، وَأَنَّنِي إِنَّمَا أُسْرِعُ فِي الْجَرْي، خَوْفًا مِنْ عَصَاهُ، لَا تَلْبِيَةً لِهَوَاهُ، وَاسْتِجْلَابًا لِمَحَبَّتِهِ وَتَوَخِّيًا (اخْتِيَارًا وَقَصْدًا) لِرِضَاهُ. فَلَمْ يُغْنِنِي ذَلِكِ أَقَلَّ غِنَاءٍ (لَمْ يَعُدْ عَلَيَّ بِأَقَلِّ فَائِدَةٍ). وَلَمْ يَتَرَدَّدْ فِي ضَرْبِي لِأَتْفَهِ الْأَسْبَابِ، كُلَّمَا خُيِّلَ إِلَيْهِ أَنَّنِي قَصَّرْتُ.
(١١) فِي مَحَلَّةِ الْقَصَبِ
فَقُلْتُ لَهُ مُهَدِّئَةً مِنْ أَلَمِهِ وَحِدَّتِهِ، مُخَفِّفَةً مِنْ غَضَبِهِ وَثَوْرَتِهِ: «مِسْكِينٌ أَنْتَ يَا صَاحِبِي. لَقَدْ مَرَّتْ بِكَ أَوْقَاتٌ سُودٌ، وَمِحَنٌ (مَصَائِبُ) قَاسِيَةٌ. فَقَدْ لَقِيتَ — إِلَى وَفْرَةِ الْعَنَاءِ (كَثْرَةِ التَّعَبِ) — سُوءَ الْجَزَاءِ (قُبْحَ الْمُكَافَأَةِ). فَكَمْ مِنَ الزَّمَنِ بَقِيَتَ عَلَى هَذِهِ الْحَالِ؟»
فَقَالَ «أَبُو زِيَادٍ»: «سَنَوَاتٍ عِدَّةً — عَلَى الْحَقِيقَةِ — حَتَّى فَرَغَتْ مُحْتَوَيَاتُ الْمَنَاجِمِ.» فَقُلْتُ لَهُ: «فَمَاذَا لَقِيتَ مِنَ الْأَحْدَاثِ (الْحَوَادِثِ) بَعْدَ ذَلِكَ؟» فَقَالَ: «لَقَدْ بَاعَنِي صَاحِبِي — مَعَ جَمْهَرَةٍ مِنْ رِفَاقِي وَإِخْوَانِي — لِرَجُلٍ آخَرَ. فَسَارَ بِنَا فِي الْوِدْيَانِ وَالسُّهُولِ، حَتَّى بَلَغْنَا مَحَلَّةً كَبِيرَةً، حَيْثُ وُضِعْنَا فِي عَرَبَةِ قِطَارٍ أَقَلَّنَا (حَمَلَنَا) حَتَّى بَلَغَ بِنَا شَاطِئَ الْبَحْرِ. وَثَمَّ حَلَلْنَا سَفِينَةً كَبِيرَةً نَقَلَتْنَا إِلَى مَزْرَعَةٍ وَاسِعَةٍ يَنْمُو فِيهَا قَصَبُ السُّكَّرِ. وَلَمْ يَكُنِ الْمَكَانُ بَلَدًا عَظِيمًا كَذِلِكِ الْبَلَدِ الَّذِي كُنْتُ فِيهِ، بَلْ دَسْكَرَةً (قَرْيَةً) مُشْرِفَةً عَلَى الْبَحْرِ، مَمْلُوءَةً بِالْهَضَبَاتِ وَالْمُرْتَفِعَاتِ.
وَأَغْلَبُ الظَّنِّ أَنَّهَا — لَوْ لَمْ تَكُنْ هَكَذَا — لَمَا احْتَاجَ إِلَيْنَا أَحَدٌ. وَاقْتَصَرَ عَمَلُنَا عَلَى حَمْلِ عِيدَانِ الْقَصَبِ إِلَى الْمَعَاصِرِ. وَلَكِنَّ الطُّرُقَ — الَّتِي كُنَّا نَجُوسُ أَثْنَاءَهَا (نَسِيرُ خِلَالَهَا) — كَانَتْ شَدِيدَةَ الِانْحِدَارِ، حَتَّى لَيَصْعُبُ عَلَى السَّائِرِينَ مِنَ النَّاسِ أَنْ تَسْتَقِرَّ عَلَيْهَا أَقْدَامُهُمْ. وَكَانَ الرَّجُلُ الْمَنُوطُ (الْمُتَعَلِّقُ) بِهِ رِعَايَتُنَا (الْعِنَايَةُ بِنَا)، أَحْسَنَ بِكَثِيرٍ مِنْ صَاحِبِنَا الْأَوَّلِ. وَكَانَ عَلَى الْأَغْلَبِ — فِيمَا يَلُوحُ لَنَا — طَيِّبَ الْقَلْبِ، حَسَنَ الْمُعَامَلَةِ. وَلَكِنَّنَا لَمْ نَكُنْ نَعْلَمُ مَاذَا يَحْدُثُ مِنْهُ فِيمَا بَعْدُ.
(١٢) نِهَايَةُ كَرِيمٍ
وَذَاتَ يَوْمٍ بَيْنَا كُنَّا نَهْبِطُ فِي طَرِيقٍ مُنْحَدِرٍ، يَكَادُ يَكُونُ عَمُودِيًّا، زَلَّتْ قَدَمُهُ، فَهَوَى (سَقَطَ) إِلَى الْقَاعِ، وَتَرَدَّى فِي الْحَضِيضِ (وَقَعَ فِي الْمَكَانِ الْوَطِئِ السَّحِيقِ). وَلَمْ نَرَهُ بَعْدَ ذَلِكِ الْيَوْمِ مَرَّةً أُخْرَى. فَلَا شَكَّ عِنْدِي فِي أَنَّهُ قُتِلَ.
وَلَا تَسْأَلِي — يَا أُمَّ سَوَادَةَ — عَنْ مَبْلَغِ حُزْنِنَا عَلَيْهِ. فَقَدْ أَحْبَبْنَاهُ لِشَفَقَتِهِ وَرَحْمَتِهِ. وَالْحِمَارُ — كَمَا تَعْلَمِينَ — شَكُورٌ يُثْمِرُ فِيهِ الْمَعْرُوفُ.
وَلَا غَرْوَ (لَا عَجَبَ) فِي ذَلِكِ، فَقَدْ وَرِثْنَا هَذَا الْخُلُقَ النَّبِيلَ عَنْ جَدِّنَا الْأَعْلَى: «شَحَّاجٍ» — مُنْذُ بَدْءِ الْخَلِيقَةِ إِلَى الْيَوْمِ — وَامْتَلَأَتْ قُلُوبُنَا عِرْفَانًا بِالْجَمِيلِ. وَجِنْسُنَا مُتَحَابٌّ (يُحِبُّ بَعْضُهُ بَعْضًا)، مَعْرُوفٌ بِنَقَاءِ السَّرِيرَةِ (حُسْنِ النِّيَّةِ)، وَطِيبَةِ الْقَلْبِ. لَا يَتَرَدَّدُ فِي شُكْرِ مَنْ يُحْسِنُ إِلَيْهِ، مَهْمَا قَلَّ مَا يُسْدِيهِ إِلَيْهِ مِنْ جَمِيلِ (مَا يُقَدِّمُهُ لَهُ مِنْ مَعْرُوفٍ).»
فَقَالَتْ «قَسَامَةُ»: «هَكَذَا سَمِعْتُ، يَا أَبَا زِيَادٍ؟ فَكَيْفَ حَالُ سَيِّدِكَ الْجَدِيدِ؟» فَقَالَ: «لَقَدْ كَانَ أَطْيَبَ مَنْ عَرَفْتُ مِنَ النَّاسِ قَلْبًا، وَأَصْفَاهُمْ نَفْسًا، وَأَوْفَرَهُمْ (أَكْثَرَهُمْ) رَحْمَةً:
كَانَ مِنَ الزُّنُوجِ. وَكَانَ وَجْهُهُ أَشَدَّ سَوَادًا مِنْ جَمِيعِ رِفَاقِهِ (مِنْ كُلِّ أَصْحَابِهِ). وَلَكِنَّ أَيَادِيَهُ الْبِيضَ (نِعَمَهُ الْحِسَانَ) قَدْ مَلَأَتْ قُلُوبَنَا حُبًّا لَهُ وَعِرْفَانًا لِجَمِيلِهِ. فَقَدِ اعْتَادَ أَنْ يُغَنِّيَنَا وَنَحْنُ نَمْشِي الْهُوَيْنَى (فِي بُطْءٍ)، وَعَلَيْنَا الْأَثْقَالُ وَالْأَحْمَالُ. وَكَانَتِ الرِّحْلَاتُ تَبْدُو لَنَا — عَلَى طُولِهَا — أَقْصَرَ مِمَّا هِيَ، كَمَا كُنَّا نَشْعُرُ أَنَّ أَحْمَالَنَا الثَّقِيلَةَ أَخَفُّ مِنْ حَقِيقَتِهَا.»