باب البيان
بسم الله الرحمن الرحيم
والبيان اسمٌ جامع لكل شيء كشفَ لك قناع المعنى، وهتك الحُجُب دون الضمير، حتى يُفضيَ السامع إلى حقيقته، ويهجم على محصوله كائنًا ما كان ذلك البيان، ومن أي جنس كان ذلك الدليل؛ لأن مدار الأمر والغاية التي إليها يجري القائل والسامع إنما هو الفهم والإفهام؛ فبأي شيء بلَغت الإفهام، وأوضحت عن المعنى، فذلك هو البيان في ذلك الموضع.
ثم اعلم، حفظك الله، أن حكم المعاني خلاف حكم الألفاظ؛ لأن المعانيَ مبسوطة إلى غير غاية، ومُمتدة إلى غير نهاية، وأسماء المعاني مقصورةٌ معدودة، ومحصَّلةٌ محدودة. وجميع أصناف الدلالات على المعاني من لفظ وغير لفظ خمسةُ أشياء لا تنقص ولا تزيد؛ أولها اللفظ، ثم الإشارة، ثم العَقد، ثم الخط، ثم الحال وتُسمَّى نِصبة. والنصبة هي الحال الدالة التي تقوم مقام تلك الأصناف ولا تقصر عن تلك الدلالات.
ولكل واحد من هذه الخمسة صورةٌ بائنة من صورة صاحبتها، وحليةٌ مُخالفة لحلية أختها؛ وهي التي تكشف لك عن أعيان المعاني في الجملة، ثم عن حقائقها في التفسير، وعن أجناسها وأقدارها، وعن خاصِّها وعامِّها، وعن طبقاتها في السارِّ والضارِّ، وعما يكون منها لَغوًا بَهرجًا، وساقطًا مطَّرَحًا.
قال أبو عثمان: وكان في الحق أن يكون هذا الباب في أول هذا الكتاب، ولكنَّا أخَّرناه لبعض التدبير.
وقالوا: البيان بصر والعِي عمًى، كما أن العلم بصر، والجهل عمًى. والبيان من نتاج العلم، والعِي من نتاج الجهل. وقال سهل بن هارون: العقل رائد الروح، والعلم رائد العقل، والبيان تَرجمان العلم. وقال صاحب المنطق: حد الإنسان الحيُّ الناطق المُبِين. وقالوا: حياة المروءة الصدق، وحياة الروح العفاف، وحياة الحِلم العلم، وحياة العلم البيان. وقال يونس بن حبيب: ليس لعَييٍّ مروءة، ولا لمنقوص البيان بهاء، ولو حكَّ بيافوخه عنان السماء. وقالوا: شعر الرجل قطعة من كلامه، وظنُّه قطعة من علمه، واختياره قطعة من عقله. وقال ابن التوءم: الروح عماد البدن، والعلم عماد الروح، والبيان عماد العلم.
قد قلنا في الدلالة باللفظ، فأما الإشارة فباليد، وبالرأس، وبالعين والحاجب والمنكب، إذا تباعد الشخصان، وبالثوب وبالسيف. وقد يتهدَّد رافع السوط والسيف فيكون ذلك زاجرًا رادعًا، ويكون وعيدًا وتحذيرًا.
والإشارة واللفظ شريكان، ونِعْم العَون هي له، ونِعْم التَّرجمان هي عنه، وما أكثر ما تنوب عن اللفظ، وما تُغْني عن الخط!
وبعد، فهل تعدو الإشارة أن تكون ذات صورة معروفة، وحِلية موصوفة، على اختلاف في طبقاتها ودلالتها؟ وفي الإشارة بالطَّرْف والحاجب وغير ذلك من الجوارح مرفقٌ كبير، ومعونةٌ حاضرة في أمورٍ يُسرُّها الناس من بعض، ويُخفونها من الجليس وغير الجليس. ولولا الإشارة لم يتفاهم الناس معنى خاص الخاص، ولجَهِلوا هذا الباب البتَّة. ولولا أن تفسير هذه الكلمة يدخل في باب صناعة الكلام لفسَّرتها لكم. وقد قال الشاعر في دلالات الإشارة:
وقال الآخَر:
وقال الآخَر:
وقال الآخَر:
وقال الآخَر:
وقال الآخَر:
هذا، ومَبلغ الإشارة أبعدُ من مَبلغ الصوت؛ فهذا أيضًا بابٌ تتقدم فيه الإشارة الصوت. والصوت هو آلة اللفظ، وهو الجوهر الذي يقوم به التقطيع، وبه يوجد التأليف، ولن تكون حركات اللسان لفظًا ولا كلامًا موزونًا ولا منثورًا إلا بظهور الصوت، ولا تكون الحروف كلامًا إلا بالتقطيع والتأليف. وحسن الإشارة باليد والرأس من تمام حسن البيان باللسان، مع الذي يكون مع الإشارة من الدلِّ والشكل والتقتُّل والتثنِّي واستدعاء الشهوة، وغير ذلك من الأمور.
قد قلنا في الدلالة بالإشارة، فأما الخط، فممَّا ذكر الله تبارك وتعالى في كتابه من فضيلة الخط والإنعام بمنافع الكتاب قولُه لنبيِّه ﷺ: اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ. وأقسم به في كتابه المنزَّل على نبيِّه المُرسَل ﷺ حيث قال: ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ. ولذلك قالوا: القلم أحد اللِّسانَين. كما قالوا: قلَّة العيال أحد اليسارَين. وقالوا: القلم أبقى أثرًا، واللسان أكثر هذرًا. وقال عبد الرحمن بن كيسان: استعمال القلم أجدَرُ أن يحضَّ الذهن على تصحيح الكتاب من استعمال اللسان على تصحيح الكلام. وقالوا: اللسان مقصور على القريب الحاضر، والقلم مُطلَق في الشاهد والغائب، وهو للغابر الكائن، مِثله للقائم الراهن. والكتاب يُقرأ بكل مكان، ويُدرَس في كل زمان، واللسان لا يعدو سامعه، ولا يتجاوزه إلى غيره.
وأما القول في العَقد، وهو الحساب، دون اللفظ والخط، فالدليل على فضيلته، وعِظَم قدر الانتفاع به، قولُ الله عز وجل: فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ. وقال جل وتقدَّس: الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ * الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ. وقال تبارك وتعالى: هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ. وقال تبارك وتعالى: وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ. والحساب يشتمل على معانٍ كثيرة ومنافع جليلة. ولولا معرفة العباد بمعنى الحساب في الدنيا لمَا فهموا عن الله عز وجل ذِكره معنى الحساب في الآخرة.
وفي عدم اللفظ، وفساد الخط، والجهل بالعقد، فسادُ جُل النِّعم، وفقدان جمهور المنافع، واختلال كل ما جعله الله عز وجل لنا قوامًا، ومصلحةً ونظامًا.
وأما النصبة فهي الحال الناطقة بغير اللفظ، والمُشيرة بغير اليد. وذلك ظاهر في خلق السموات والأرض، وفي كل صامت وناطق، وجامد ونامٍ، ومُقيم وظاعن، وزائد وناقص؛ فالدلالة التي في الموات الجامد كالدلالة التي في الحيوان الناطق؛ فالصامت ناطق من جهة الدلالة، والعجماء مُعرِبة من جهة البرهان؛ ولذلك قال الأول: سَلِ الأرض فقُل: من شقَّ أنهارك، وغرس أشجارك، وجنى ثمارك؟ فإن لم تُجِبك حوارًا، أجابتك اعتبارًا. وقال بعض الخطباء: أشهد أن السموات والأرض آياتٌ دالَّات، وشواهد قائمات، كلٌّ يؤدي عنك الحجة، ويُعرِب عنك بالربوبية، موسومة بآثار قدرتك، ومعالم تدبيرك التي تجلَّيت بها لخلقك، فأوصلت إلى القلوب من معرفتك ما آنَسها من وحشة الفكر، ورجم الظنون، فهي على اعترافها لك، وذلِّها إليك، شاهدةٌ بأنك لا تُحيط بك الصفات، ولا تحدُّك الأوهام، وأن حظ المُفكر فيك الاعتراف لك. وقال خطيب من الخُطباء حين قام على سرير الإسكندر وهو ميت: الإسكندر كان أمسِ أنطقَ منه اليوم، وهو اليوم أوعَظُ منه أمس. ومتى دل الشيء على معنًى فقد أخبر عنه وإن كان صامتًا، وأشار إليه وإن كان ساكتًا.
وهذا القول شائع في جميع اللغات، ومتَّفَق عليه مع إفراط الاختلافات.
وأنشدني أبو الرُّدَيني العُكْلي في تنسُّم الذئب الريح واستنشاقه واسترواحه:
المقراع: الفأس التي يُكسَر بها الصخر. والموقع: المحدَّد. يُقال: وقَّعت الحديدة إذا حددتها. وقال عنترة بن شدَّاد العَبسي، وجعل نعيب الغُراب خبرًا للزاجر:
الحرق: الأسود. شبَّه لحيَيه بالجلمين؛ لأن الغراب يخبِّر بالفُرقة والغُربة، ويقطع كما يقطع الجلمان. وقال الراعي:
وقال نُصَيب في هذا المعنى، يمدح سليمان بن عبد الملك:
وهذا كثير جدًّا.
بسم الله الرحمن الرحيم
قال علي بن أبي طالب كرَّم الله وجهه: قيمة كل إنسان ما يُحسِن.
فلو لم نَقِف من هذا الكتاب إلا على هذه الكلمة لوجدناها كافيةً شافية، ومُجْزية مُغْنية، بل لوجدناها فاضلة على الكفاية، وغير مقصِّرة عن الغاية.
وأحسَنُ الكلام ما كان قليله يُغْنيك عن كثيره، ومعناه في ظاهر لفظه، وكان الله عز وجل قد ألبسه من الجلالة وغشَّاه من نور الحكمة على حسب نيَّة صاحبه وتقوى قائله. فإذا كان المعنى شريفًا، واللفظ بليغًا، وكان صحيح الطبع، بعيدًا من الاستكراه، ومنزَّهًا عن الاختلال، مصونًا عن التكلُّف، صنع في القلوب صنيع الغَيث في التُّربة الكريمة، ومتى فصَلت الكلمة على هذه الشريطة، ونفَذت من قائلها على هذه الصفة، أصْحَبها الله من التوفيق، ومنحها من التأييد، ما لا يمتنع من تعظيمها به صدور الجبابرة، ولا يذهل عن فهمها عقول الجهلة.
وقد قال عامر بن عبد القيس: الكلمة إذا خرجت من القلب وقعت في القلب، وإذا خرجت من اللسان لم تُجاوز الآذان.
قال الحسن، رضي الله تعالى عنه — وسمع مُتكلمًا يعظ فلم تقع موعظته بموضع من قلبه ولم يرقَّ عندها — يا هذا، إن بقلبك لشرًّا أو بقلبي. وقال علي بن الحسين بن علي، رضي الله عنهم: لو كان الناس يعرفون جملة الحال في فضل الاستبانة، وجملة الحال في صواب التبيين، لأعربوا عن كل ما تخلَّج في صدورهم، ولوجدوا من برد اليقين ما يُغْنيهم عن المُنازَعة إلى كل حال سوى حالهم، وعلى أن دَرَك ذلك كان يعدمهم في الأيام القليلة العدة، والفكرة القصيرة المدة، ولكنهم من بين مغمور بالجهل، ومفتون بالعُجب، ومعدول بالهوى عن باب التثبُّت، ومصروف بسوء العادة عن تفضيل التعلم. وقد جمع محمد بن علي بن الحسين صلاح شأن الدنيا بحذافيرها في كلمتَين، فقال: صلاح شأن جميع التعايش والتعاشر ملءُ مِكيال؛ ثُلُثاه فطنة، وثُلُثه تغافل. فلم يجعل لغير الفطنة نصيبًا من الخير، ولا حظًّا في الصلاح؛ لأن الإنسان لا يتغافل إلا عن شيء قد فطن له وعرفه.
وذكر هذه الثلاثةَ الأخبار إبراهيمُ بن داحة عن محمد بن عمير، وذكرها صالح بن علي الأفقم عن محمد بن عمير، وهؤلاء جميعًا من مشايخ الشيع، وكان ابن عمير أغلاهم.
المثج: السائل الكثير، وهو من الثجاج. والغرب ها هنا: الدوام.
أخبرنا هشام بن حسَّان وغيره، قال: قيل للحسن: يا أبا سعيد، إن قومًا زعموا أنك تذمُّ ابن عباس. قالوا: فبكى حتى اخضَّلت لِحيتُه، ثم قال: إن ابن عبَّاس كان من الإسلام بمكان، إن ابن عبَّاس كان من القرآن بمكان، وكان والله له لسانٌ سَئول، وقلبٌ عَقول، وكان والله مِثَجًّا يَسيل غَربًا.
قالوا: وقال علي بن عبد الله بن عبَّاس: من لم يجد مسَّ نقص الجهل في عقله، وذُلَّ المعصية في قلبه، ولم يستبِنْ موضع الخَلَّة في لسانه، عند كَلال حده عن حدِّ خصمه، فليس ممَّن يفزع عن ريبة، ولا يرغب عن حال مَعجزة، ولا يَكترث لفصل ما بين حُجة وشُبهة. قالوا: وذكر محمد بن علي بن عبد الله بن عبَّاس بلاغة بعض أهله فقال: إني لأكرَه أن يكون مقدار لسانه فاضلًا على مقدار علمه، كما أكره أن يكون مقدار علمه فاضلًا على مقدار عقله.
وهذا كلامٌ شريفٌ نافع، فاحفظوا لفظه وتدبَّروا معناه.
ثم اعلموا أن المعنى الحقير الفاسد، والدنيء الساقط، يُعشش في القلب، ثم يَبيض ثم يُفرخ. فإذا ضرب بجِرانه، ومكَّن لعُروقه، استفحل الفساد وبزَل، وتمكَّن الجهل وفرخ؛ فعند ذلك يقوى داؤه، ويمتنع دواؤه. اللفظ الهجين الرديُّ، والمُستكرَه الغبيُّ، أعلَقُ باللسان، وآلَف للسمع، وأشدُّ التحامًا بالقلب، من اللفظ النبيه الشريف، والمعنى الرفيع الكريم. ولو جالَست الجُهال والنَّوكى، والسُّخفاء والحَمقى، شهرًا فقط، لم تنقَ من أوضار كلامهم، وخبال معانيهم، بمجالسة أهل البيان والعقل دهرًا؛ لأن الفساد أسرع إلى الناس، وأشد التحامًا بالطبائع. والإنسان بالتعلُّم والتكلُّف، وبطول الاختلاف إلى العلماء، ومدارسة كُتُب الحكماء، يجود لفظه، ويحسُن أدبه. وهو لا يحتاج في الجهل إلى أكثر من ترك التعلم، وفي فساد البيان إلى أكثر من ترك التخيُّر.
ومما يؤكِّد قول محمد بن علي بن عبد الله بن عبَّاس، قولُ بعض الحكماء حين قيل له: متى يكون الأدب شرًّا من عدمه؟ قال: إذا كَثُر الأدب، ونقَصت القريحة. وقد قال بعض الأولين: من لم يكن عقله أغلب خصال الخير عليه، كان حتفه في أغلب خصال الخير عليه. وهذا كله قريبٌ بعضه من بعض.
وذكر المُغِيرة بن شُعبة عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، فقال: كان والله أفضل من أن يَخدع، وأعقل من أن يُخدَع. وقال محمد بن علي بن عبد الله بن عبَّاس: كفاك من علم الدين أن تعرف ما لا يسع جهله، وكفاك من علم الأدب أن ترويَ الشاهد والمثل. وكان عبد الرحمن بن إسحاق القاضي يروي عن جده إبراهيم بن سلمة، قال: سمعت أبا مسلم يقول: سمعت الإمام إبراهيم بن محمد يقول: يكفي من حظ البلاغة ألا يؤتى السامع من سوء إفهام الناطق، ولا يؤتى الناطق من سوء فهم السامع.
قال أبو عثمان: وأما أنا فأستحسن هذا القول جدًّا.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وصلَّى الله على سيدنا محمد خاصةً، وعلى الأنبياء عامةً.
أخبرني أبو الزبير كاتب محمد بن حسَّان، وحدَّثني محمد بن أبان — ولا أدري كاتب من كان — قالا: قيل للفارسي: ما البلاغة؟ قال: معرفة الفصل من الوصل. وقيل لليوناني: ما البلاغة؟ قال: تصحيح الأقسام، واختيار الكلام. وقيل للرومي: ما البلاغة؟ قال: حسن الاقتضاب عند البَداهة، والغزارة يوم الإطالة. وقيل للهندي: ما البلاغة؟ قال: وضوح الدلالة، وانتهاز الفرصة، وحسن الإشارة. وقال بعض أهل الهند: جِماع البلاغة البصر بالحُجة، والمعرفة بمواضع الفرصة. ثم قال: ومن البصر بالحجة، والمعرفة بمواضع الفرصة، أن تدع الإفصاح بها إلى الكناية عنها؛ إذ كان الإفصاح أوعر طريقةً، وربما كان الإضراب عنها صفحًا أبلغ في الدرك، وأحق بالنظر.
وقال مرةً: جِماع البلاغة التماس حسن الموقع، والمعرفة بساعات القول، وقلة الحرف بما التَبس من المعاني أو غمض، وبما شرد عليك من اللفظ أو تعذَّر. ثم قال: وزَينُ ذلك كله وبهاؤه، وحلاوته وسناؤه، أن تكون الشمائل موزونة، والألفاظ معدَّلة، واللهجة نقيَّة؛ فإن جامع ذلك السن والسمت والجمال وطول الصمت، فقد تم كل التمام، وكمل كل الكمال.
وكان سهل بن هارون شديد الإطناب في وصف المأمون في البلاغة والجهارة، وبالحلاوة والفخامة، وجودة اللهجة والطلاوة.
وإذا صِرنا إلى ذكر ما يحضُرنا من تسمية خُطباء بني هاشم، وبُلغاء رجال القبائل، قلنا في وصفهما على حسب حالهما، والفرق الذي بينهما، ولأننا عسى أن نذكُر جملة أسماء خطباء الجاهليين والإسلاميين، والبدويين والحضريين، وبعض ما يحضُرنا من صفاتهم وأقدارهم ومقاماتهم، وبالله التوفيق.
ثم رجع بنا القول إلى ذكر الإشارة. وروى أبو شَمِر عن مُعمَّر أبي الأشعث خلاف القول الأول في الإشارة والحركة عند الخطبة، وعند منازعة الرجال ومناقلة الأكْفاء.
وكان الذي غرَّ أبا شمر وموَّه له هذا الرأيَ أن أصحابه كانوا يستمعون منه، ويُسلِّمون له، ويميلون إليه، ويَقبلون كل ما يُورِده عليهم ويُثبِته عندهم؛ فلما طال عليه توقيرهم له، وترك مجاذبتهم إياه، وخفَّت مؤنة الكلام عليه، نَسِي حال منازعة الأكْفاء، ومجاذبة الخصوم. وكان شيخًا وقورًا، وزِمِّيتًا رَكينًا، وكان ذا تصرُّف في العلم، ومذكورًا بالفهم والحِلم.
«أول البلاغة اجتماع آلة البلاغة؛ وذلك أن يكون الخطيب رابِطَ الجأش، ساكن الجوارح، قليل اللحظ، مُتخير اللفظ، لا يُكلم سيِّد الأمَّة بكلام الأَمة، ولا الملوك بكلام السُّوقة، ويكون في قُواه فضل للتصرُّف في كل طبقة، ولا يُدقق المعاني كل التدقيق، ولا يُنقح الألفاظ كل التنقيح، ولا يُصفيها كل التصفية، ولا يُهذبها غاية التهذيب، ولا يفعل ذلك حتى يُصادف حكيمًا، أو فيلسوفًا عليمًا، ومن قد تعوَّد حذف فضول الكلام، وإسقاط مشتركات الألفاظ، قد نظر في صناعة المنطق على جهة الصناعة والمبالغة، لا على جهة الاعتراض والتصفح، وعلى جهة الاستطراف والتظرُّف.»
وقال من علم: حق المعنى أن يكون الاسم له طبقًا، وتلك الحال له وفقًا، ويكون الاسم له لا فاضلًا ولا مفضولًا، ولا مُقصرًا، ولا مُشتركًا ولا مُضمنًا، ويكون مع ذلك ذاكرًا لما عقد عليه أول كلامه، ويكون تصفُّحه لمصادره في وزن تصفُّحه لموارده، ويكون لفظه مُؤنقًا، ولهَول تلك المقامات مُعاودًا. ومدار الأمر على إفهام كل قوم بقدر طاقتهم، والحمل عليهم على أقدار مَنازلهم، وأن تُواتيَه آلته، وتتصرَّف معه أداته، ويكون في التهمة لنفسه مُعتدلًا، وفي حُسن الظن بها مُقتصدًا؛ فإنه إن تجاوَز مقدار الحق في التهمة لنفسه ظلمها، فأودعها ذلة المظلومين، وإن تجاوَز الحق في مقدار حسن الظن بها أمنها، فأودعها تهاوُن الآمنين، ولكل ذلك مقدار من الشغل، ولكل شغل مقدارٌ من الوهن، ولكل وهن مقدارٌ من الجهل.
وقال إبراهيم بن هانئ — وكان ماجنًا خليعًا، كثير العبث مُتمردًا — ولولا أن كلامه هذا الذي أراد به الهزل يدخل في باب الجد، لَمَا جعلته صلة الكلام الماضي، وليس في الأرض لفظٌ يسقط البتة، ولا معنًى يبور حتى لا يصلح لمكان من الأماكن، قال إبراهيم بن هانئ: من تمام آلة القَصص أن يكون القاصُّ أعمى، ويكون شيخًا بعيد مدى الصوت. ومن تمام آلة الزَّمر أن تكون الزامرة سوداء، ومن تمام آلة المغنِّي أن يكون فاره البِرذَون، برَّاق الثياب، عظيم الكِبْر، سيِّئ الخُلق. ومن تمام آلة الخمَّار أن يكون ذميًّا، ويكون اسمه أذين، أو مازيار، أو أزدا نقاذار، أو ميشا، أو شَلُوما، ويكون أرقط الثياب، مختوم العنق. ومن تمام آلة الشعر أن يكون الشاعر أعرابيًّا، ويكون الداعي إلى الله صوفيًّا. ومن تمام آلة السؤدد أن يكون السيِّد ثقيل السمع، عظيم الرأس.
ولذلك قال ابن سِنان الجديدي لراشد بن سَلمة الهُذلي: ما أنت بعظيم الرأس ولا ثقيل السمع فتكون سيِّدًا، ولا بأرسح فتكون فارسًا. وقال شبيب بن شيبة الخطيب لبعض فِتيان بني منقر: والله ما مطلتَ مَطْل الفُرسان، ولا فتقتَ فَتْق السادة.
قال الشاعر:
فعاب صِغر رأسه وصِغر كفه، كما عاب الشاعر كف عبد الله بن مطيع العدوي حين وجدها غليظةً جافية، فقال:
وهذا بابٌ يقع في «كتاب الجوارح» مع ذِكر البُرْص والعُرْج والعُسْر والأُدْر والفُلْج والحُدْب والقُرْع، وغير ذلك من عِلل الجوارح، وهو وارد عليكم بعد هذا الكتاب إن شاء الله تعالى.
وقال إبراهيم بن هانئ: ومن تمام آلة الشيعي أن يكون وافِرَ الجُمَّة، صاحب بازَيُكَند. ومن تمام آلة الحارس أن يكون زِمِّيتًا قَطوبًا، أبيض اللحية، أقْنى أجْنى، وصاحب تكلُّم بالفارسية.
وأخبرني إبراهيم بن السندي قال: دخل العُماني الراجز على الرشيد ليُنشِده شعرًا، وعليه قَلَنسُوةٌ طويلة، وخُفٌّ ساذَج، فقال: إياك أن تُنشِدني إلا وعليك عمامةٌ عظيمة الكَور، وخُفَّان دُمالقان. قال إبراهيم، قال أبو نصر: فبكر عليه من الغد وقد تزيَّا بزِيِّ الأعراب، فأنشده ثم دنا منه فقبَّل يده، وقال: يا أمير المؤمنين، قد والله أنشدت مروان، ورأيت وجهه، وقبَّلت يده، وأخذت جائزته؛ وأنشدت يزيد بن الوليد وإبراهيم بن الوليد، ورأيت وجوههما، وقبَّلت أيديَهما، وأخذت جوائزهما؛ وأنشدت السفَّاح، ورأيت وجهه، وقبَّلت يده، وأخذت جائزته؛ وأنشدت المنصور، ورأيت وجهه، وقبَّلت يده، وأخذت جائزته؛ وأنشدت المهديَّ ورأيت وجهه، وقبَّلت يده، وأخذت جائزته؛ وأنشدت الهاديَ، ورأيت وجهه، وقبَّلت يده، وأخذت جائزته؛ هذا إلى كثير من أشباه الخُلفاء، وكبار الأمراء، والسادة الرؤساء، ولا والله إن رأيت فيهم أبْهى مَنظرًا، ولا أحسن وجهًا، ولا أنعم كفًّا، ولا أندى راحةً، منك يا أمير المؤمنين. ووالله لو أُلقيَ في رُوعي أني أتحدَّث عنك ما قلت لك ما قلت. فأعظم له الجائزة على شعره، وأضعف له على كلامه، وأقبل عليه فبسطه، حتى تمنَّى والله جميعُ من حضر أنهم قاموا ذلك المقام.
ثم رجع بنا القول إلى الكلام الأول. قال ابن الأعرابي: قال معاوية بن أبي سفيان لصُحار بن عيَّاش العبدي: ما هذه البلاغة التي فيكم؟ قال: شيءٌ تَجيش به صدورنا فتقذفه على ألسنتنا. فقال له رجل من عُرْض القوم: يا أمير المؤمنين، [هم] بالبُسر والرُّطب، أبصر منهم بالخُطب. فقال له صُحار: أجل والله، إنا لنَعلَم إن الريح لتَنفخه، وإن البرد ليَعقده، وإن القمر ليَصبِغه، وإن الحر ليُنضِجه. فقال له معاوية: ما تعدُّون البلاغة فيكم؟ قال: الإيجاز. قال له معاوية: وما الإيجاز؟ قال له صُحار: أن تُجيب فلا تُبطئ، وأن تقول فلا تُخطئ. فقال له معاوية: أوَ كذلك تقول يا صحار؟ قال صحار: أقِلْني يا أمير المؤمنين، لا تُبطئ ولا تُخطئ.
وشأن عبد القيس عجيب؛ وذلك أنهم بعد محاربة إياد تفرَّقوا فِرقتَين؛ ففِرقة وقعت بعُمان وشق عُمان، وفيهم خطباء العرب؛ وفرقة وقعت إلى البحرَين وشق البحرين، وهم من أشعر قبيلة في العرب، ولم يكونوا كذلك حين كانوا في سُرَّة البادية وفي مَعدِن الفصاحة، وهذا عَجب. ومن خطبائهم المشهورين صَعْصعة بن صُوحان، وزيد بن صُوحان، وشَيخان بن صُوحان، ومنهم صُحار بن عيَّاش. وصحار من شيعة عثمان، وبنو صوحان من شيعة علي. ومنهم مَصقلة بن رقبة، ورقبة بن مَصقلة، وكَرِب بن رقبة.
وإذا صِرنا إلى ذِكر الخطباء والنسَّابين، ذكرنا من كلام كل واحد منهم بقدر ما يحضُرنا، وبالله التوفيق.
(١) باب ذِكر ناس من البُلغاء والخطباء والأبيناء والفقهاء والأمراء ممن لا يكاد يسكت مع قلة الخطأ والزلل
منهم زيد بن صوحان.
ومنهم أبو واثلة إياس بن معاوية المُزَني القاضي القائف، وصاحب الزَّكَن، والمعروف بجودة الفِراسة، ولكثرة كلامه قال له عبد الله بن شُبرُمة: أنا وأنت لا نتَّفق، أنت لا تشتهي أن تسكت، وأنا لا أشتهي أن أسمع. وأتى حلقةً من حلق قريش في مسجد دمشق فاستولى على المجلس، ورأوه أحمر دميمًا باذَّ الهيئة قشيفًا، فاستهانوا به، فلما عرفوه اعتذروا إليه وقالوا: الذنب مقسوم بيننا وبينك، أتيتنا في زيِّ مِسكين تُكلمنا بكلام الملوك. ورأيت ناسًا يستحسنون جواب إياس حين قيل له: ما فيك عيبٌ غير أنك مُعجَب بقولك. قال: أفأعجبكم قولي؟ قالوا: نعم. قال: فأنا أحقُّ بأن أعجب بما أقول وبما يكون مني منكم.
والناس، حفظك الله، لم يضعوا ذِكر العُجب في هذا الموضع. والمَعيب عند الناس ليس هو الذي يعرف ما يكون منه من الحسن، والمعرفة لا تدخل في باب التسمية بالعجب، والعجب مذموم، وقد جاء في الحديث: «إنَّ المؤمنَ من ساءته سيئتُه وسرَّته حسنتُه.» وقيل لعمر: فلان لا يعرف الشر. قال: ذلك أجدَرُ أن يقع فيه. وإنما العُجب إسراف الرجل في السرور بما يكون منه، والإفراط في استحسانه، حتى يظهر ذلك في لفظه وفي شمائله. وهو كالذي وصف به صعصعة بن صوحان المُنذرَ بن الجارود عند علي بن أبي طالب، كرَّم الله وجهه، فقال: أمَا والله إنه مع ذلك لنظَّار في عِطفَيه، تفَّال في شراكَيه، تُعجِبه حُمْرة بُردَيه.
قال: ومدح سَلَمة بن عيَّاش سوَّارَ بن عبد الله بمِثل ما وصف به إياسٌ نفسه حين قال:
وكتب عمر بن عبد العزيز، رحمه الله تعالى، إلى عَدي بن أرطاة: إن قِبَلك رَجلَين من مُزَينة، فولِّ أحدهما قضاء البصرة. يعني بكر بن عبد الله المُزني وإياس بن معاوية. فقال بكر: والله ما أُحسِن القضاء، فإن كنت صادقًا فما يحلُّ لك أن تولِّيَني، وإن كنت كاذبًا إنها لأحراهما. وكانوا إذا ذكروا البصرة قالوا: شيخها الحسن، وفتاها بكر. وقال إياس بن معاوية: لست بخِبٍّ والخِبُّ لا يخدعني، ولا يخدع ابن سيرين، وهو يخدع أبي ويخدع الحسن. ودخل الشام وهو غلام، فتقدَّم خصمًا له — وكان الخصم شيخًا كبيرًا — إلى بعض قضاة عبد الملك بن مروان، فقال له القاضي: أتتقدَّم شيخًا كبيرًا؟ قال: الحق أكبر منه. قال: اسكت. قال: فمن ينطق بحُجتي؟ قال: لا أظنُّك تقول حقًّا حتى تقوم. قال: لا إله إلا الله. أحقًّا هذا أم باطلًا؟ فقام القاضي فدخل على عبد الملك من ساعته فخبَّره بالخبر، فقال عبد الملك: اقضِ حاجته الساعة وأخرِجْه من الشام، لا يُفسِد عليَّ الناس. فإذا كان من إياس وهو غلام يُخاف على جماعة أهل الشام، فما ظنُّك به وقد كبِرَت سِنُّه وعض ناجذه؟
وجملة القول في إياس أنه كان من مفاخر مضر، ومن مقدَّمي القضاة، وكان فقيه البدن، رقيق المسلك في الفِطن، وكان صادق الحَدس نقَّابًا، وعجيب الفِراسة مُلهَمًا، وكان عفيف الطعم، كريم المدخل والشِّيَم، وجيهًا عند الخُلفاء، مقدَّمًا عند الأكْفاء، وفي مُزينة خيرٌ كثير.
ثم رجعنا إلى القول الأول. ومنهم ربيعة الرأي، وكان لا يكاد يسكت. قالوا: وتكلَّم يومًا فأكثر وأُعجبَ بالذي كان منه، فالتَفَت إلى أعرابيٍّ كان عنده فقال: يا أعرابي، ما تعدُّون العيَّ فيكم؟ قال: ما كنت فيه منذ اليوم. وكان يقول: الساكت بين النائم والأخرس.
ومنهم عُبيد الله بن محمد بن حفص التيمي، ومحمد بن حفص هو ابن عائشة، ثم قيل لعُبيد الله ابن أبي عائشة، وكان كثير العلم والسماع، مُتصرفًا في الخبر والأثر، وكان من أجود قريش، وكان لا يكاد يسكت، وهو في ذلك كثير الفوائد، وكان أبوه محمد بن حفص عظيم الشأن كثير العلم، بعث إليه ميخاب خليفته في بعض الأمر، فأتاه في حلقته في المسجد، فقال له في بعض كلامه: أبو مَن أصلَحَك الله؟ فقال له: هلَّا عرَفت هذا قبل مجيئك؟ وإن كان لا بد لك من هذا فاعترض من شئت فاسأله. فقال له: إني أريد أن تُخلِيَني. قال: أفي حاجة لك أم في حاجة لي؟ قال: بل في حاجة لي. قال: فالْقَني في المنزل. قال: فإن الحاجة لك. قال: ما دون إخواني ستر.
ومنهم محمد بن مِسعَر العُقيلي، وكان كريمًا، كريم المجالسة، يذهب مذهب النُّسَّاك، وكان جوادًا. مر صديق له من بني هاشم بقصر له وبستانٍ نفيس، فبلغه أنه استحسنه، فوهبه له.
ومنهم أحمد بن المُعذَّل بن غَيلان، كان يذهب مذهب مالك، وكان ذا بيان وتبحُّر في المعاني وتصرُّف في الألفاظ.
وممن كان يُكثِر الكلام جدًّا الفضل بن سهل، ثم الحسن بن سهل في أيامه. وحدَّثني محمد بن الجهم ودؤاد بن أبي دؤاد قالا: جلس الحسن بن سهل في مُصلَّى الجماعة لنُعيم بن حازم، فأقبل نعيم حافيًا حاسرًا وهو يقول: ذنبي أعظم من السماء، ذنبي أعظم من الهواء، ذنبي أعظم من الماء. قالا، فقال الحسن بن سهل: على رِسْلك، تقدَّمت منك طاعة، وكان آخر أمرك إلى توبة، وليس للذنب بينهما مكان، وليس ذنبك في الذنوب بأعظم من عفو أمير المؤمنين في العفو.
ومن هؤلاء علي بن هشام، وكان لا يسكت، ولا أدري كيف كان كلامه.
قال: وحدَّثني مهدي بن ميمون، قال حدَّثنا غيلان بن جرير، قال كان مُطرف بن عبد الله يقول: لا تُطعِم طعامك من لا يشتهيه. يقول: لا تُقبِل بحديثك على من لا يُقبِل عليك بوجهه. وقال عبد الله بن مسعود: حدِّثِ الناس ما حدجوك بأسماعهم، ولحَظُوك بأبصارهم، فإذا رأيت منهم فترةً فأمسِكْ. قال: وجعل السمَّاك يومًا يتكلم، وجارية له حيث تسمع كلامه، فلما انصرف إليها قال لها: كيف سمعت كلامي؟ قالت: ما أحسنه، لولا أنك تُكثِر تَرْداده. فقال: أردِّده حتى يفهمه من لم يفهمه. قالت: إلى أن يفهمه من لم يفهمه قد ملَّه من فهمه. قال عبَّاد بن عوَّام، عن شُعبة، عن قتادة، قال: مكتوب في التوراة: لا يُعاد الحديث مرَّتَين. وسفيان بن عُيينة، عن الزُّهري، قال: إعادة الحديث أشدُّ من نقل الصخر. وقال بعض الحكماء: من لم ينشط لحديثك فارفع عنه مؤنة الاستماع منك.
قال ثُمامة بن أشرس: كان جعفر بن يحيى أنطق الناس، قد جمع الهدوء والتمهُّل، والجزالة والحلاوة، وإفهامًا يُغْنيه عن الإعادة، ولو كان في الأرض ناطقٌ يستغني بمنطقه عن الإشارة لاستغنى جعفر عن الإشارة، كما استغنى عن الإعادة. وقال مرةً: ما رأيت أحدًا كان لا يتحبَّس، ولا يتلجلج، ولا يتنحنح، ولا يرتقب لفظًا قد استدعاه من بعد، ولا يلتمس التخلص إلى معنًى قد تعصَّى عليه طلبه، أشد اقتدارًا، ولا أقل تكلفًا، من جعفر بن يحيى. وقال ثمامة: قلت لجعفر بن يحيى: ما البيان؟ قال: أن يكون الاسم يُحيط بمعناك، ويُجلِّي عن مَغزاك، وتُخرجه من الشركة، ولا تستعين عليه بالفكرة. والذي لا بد منه أن يكون سليمًا من التكلُّف، بعيدًا من الصنعة، بريئًا من التعقُّد، غنيًّا عن التأويل.
وهذا هو تأويل قول الأصمعي: البليغ من طبَّق المَفصِل، وأغناك عن المفسِّر.
خبَّرني جعفر بن سعيد، رضيع أيوب بن جعفر وحاجبُه، قال: ذكرت لعمرو بن مَسعدة توقيعات جعفر بن يحيى، فقال: قد قرأت لأم جعفر توقيعاتٍ في حواشي الكتب وأسافلها، فوجدتها أجود اختصارًا وأجمع للمعاني. قال: ووصف أعرابي أعرابيًّا بالإيجاز والإصابة، فقال: كان والله يضع الهِناء مواضع النُّقب. يظنُّون أنه نقل قول دُرَيد بن الصِّمَّة في الخنساء بنت عمرو بن الشريد إلى ذلك الموضع، وكان دريد قال فيها:
ويقولون في إصابة عين المعنى بالكلام المُوجَز: فلانٌ يفلُّ المَحزَّ، ويُصيب المَفصِل. وأخذوا ذلك من صفة الجزَّار الحاذق، فجعلوه مثلًا للمُصيب المُوجِز. وأنشدني أبو قطن الغنوي، وهو الذي يُقال له شهيد الكرم، وكان أبيَن من رأيته من أهل البدو والحضر:
يقول: هم ملوك وأشباه الملوك، ولهم كفاة؛ فهم لا يُحسنون إصابة المفصل. وأنشد أبو عُبيدة في مثل ذلك:
وكذلك:
وقال الآخَر، وهو ابن الزِّبَعرى:
وقال الراعي في المعنى الأول:
وأنشد الأصمعي:
وأنشد الأصمعي:
وقد فسَّر ذلك لبيد بن ربيعة، وبيَّنه وضرب المثل به، حيث قال في الحكم بين عامر بن الطُّفيل وعَلقمة بن علاثة:
يقول: احكم بين عامر بن الطفيل وعلقمة بن علاثة بكلمة فصل، وبأمرٍ قاطع، فتفصل بها بين الحق والباطل، كما يفصل الجزَّار الحاذق مَفصل العظمَين. وقد قال الشاعر في هرم:
ويُقال في الفَحل إذا لم يُحسِن الضِّراب: جملٌ عياياء، وجملٌ طباقاء. وقالت امرأة في الجاهلية تشكو زوجها: زوجي عياياء طباقاء، وكل داء له داء. حتى جعلوا ذلك مثلًا للعي الفدم الذي لا يتَّجه للحُجة. وقال الشاعر:
وذكر زُهير بن أبي سُلمى الخَطَل فعابَه فقال:
وقال الشاعر:
الشُّمُس: مأخوذة من الخيل، وهي الخيل المَرِحة الضاربة بأذنها من النشاط. والمجذر: القصير. والتنبال: القصير الدنيء.
وقال أبو الأسود الدؤلي — واسم أبي الأسود ظالم بن عمرو — وكان من المقدَّمين في العلم:
وأنشد:
وقال إبراهيم بن هَرمة في تطبيق المفصل، وتُلحَق هذه بمعاني أخواتها قبل:
وهذه الصفات التي ذكرها ثُمامة بن أشرَس، فوصف بها جعفر بن يحيى، كان ثمامة بن أشرس قد انتظمها لنفسه، واستولى عليها دون جميع أهل عصره، وما علمت أنه كان في زمانه قرويٌّ ولا بلدي كان بلَغ من حُسنِ الإفهام مع قلة عدد الحروف، ولا من سهولة المخرج مع السلامة من التكلف، ما كان بلغه. وكان لفظه في وزن إشارته، ومعناه في طبقة لفظه. ولم يكن لفظه إلى سمعك بأسرع من معناه إلى قلبك. قال بعض الكُتاب: معاني ثُمامة الظاهرة في ألفاظه الواضحة في مخارج كلامه. كما وصف الخُزيمي شعر نفسه في مديح أبي دُلَف حيث يقول:
وأول هذه القصيدة:
وحدَّثني صالح بن خاقان، قال: قال شبيب بن شيبة: الناس موكَّلون بتفضيل جودة الابتداء، وبمدح صاحبه، وأنا موكَّل بتفضيل جودة القطع، وبمدح صاحبه، وحظ جودة القافية وإن كانت كلمةً واحدة أرفع من حظ سائر البيت. ثم قال شبيب: فإن ابتُليت بمقام لا بد لك فيه من الإطالة، فقدِّمْ إحكام البلوغ في طلب السلامة من الخطل، قبل التقدم في إحكام البلوغ في شرف التجويد، وإياك أن تَعدِل بالسلامة شيئًا؛ فإن قليلًا كافيًا خيرٌ من كثيرٍ غير شافٍ.
ويُقال إنهم لم يرَوا قطُّ خطيبًا بلديًّا إلا وهو في أول تكلُّفه لتلك المقامات كان مُستثقَلًا مُستصلَفًا أيام رياضته كلها، إلى أن يتوقَّح وتستجيب له المعاني، ويتمكَّن من الألفاظ، إلا شبيب بن شيبة؛ فإنه كان ابتدأ بحلاوة ورشاقة، وسهولة وعذوبة؛ فلم يزَل يزداد منها حتى صار في كل موقف يَبلُغ بقليل الكلام ما لا يَبلُغه الخطباء المصاقع بكثيره. قالوا: ولما مات شبيب بن شيبة أتاهم صالحٌ المُرِّي، أو بعض من أتاهم للتعزية، فقال: رحمة الله على أديب الملوك، وجليس الفقراء، وأخي المساكين. وقال الراجز:
حدَّثني صديق لي قال، قلت للعتَّابي: ما البلاغة؟ قال: كل من أفهمك حاجته من غير إعادة ولا حُبسة ولا استعانة فهو بليغ؛ فإن أردت اللسان الذي يروق الألسنة، ويفوق كل خطيب، فإظهار ما غمض من الحق، وتصوير الباطل في صورة الحق. قال، فقلت له: قد عرفت الإعادة والحبسة، فما الاستعانة؟ قال: أما تراه إذا تحدَّث قال عند مقاطع كلامه: يا هناه، ويا هذا، ويا هيه، واسمع مني واستمع إليَّ، وافهم عني، أوَ لست تفهم؟ أوَ لست تعقل؟ فهذا كله وما أشبهه عِي وفساد.
قال عبد الكريم بن روح الغِفاري، حدَّثني عمر الشَّمَّري، قال، قيل لعمرو بن عُبيد: ما البلاغة؟ قال: ما بلَغ بك الجنة، وعدل بك عن النار، وما بصَّرك مواقعَ رُشْدك، وعواقبَ غيِّك. قال السائل: ليس هذا أريد. قال: من لم يُحسِن أن يستمع، ومن لم يُحسِن الاستماع لم يُحسِن القول. قال: ليس هذا أريد. قال: قال النبي ﷺ: إنا معشرَ الأنبياء بِكاءٌ.
أي قليلو الكلام، ومنه قيل: رجل بَكئ. وكانوا يكرهون أن يزيد منطق الرجل على عقله.
قال السائل: ليس هذا أريد. قال: كانوا يخافون من فتنة القول ومن سقطات الكلام، ما لا يخافون من فتنة السكوت ومن سقطات الصمت. قال السائل: ليس هذا أريد. قال عمرو: فكأنك إنما تريد تحبير اللفظ في حسن الإفهام؟ قال: نعم. قال: إنك إن أردت تقرير حجة الله في عقول المكلَّفين، وتخفيف المؤنة على المُستمِعين، وتزيين تلك المعاني في قلوب المُريدين، بالألفاظ المستحسَنة في الآذان، المقبولة عند الأذهان، رغبةً في سرعة استجابتهم، ونفي الشواغل عن قلوبهم، بالموعظة الحسنة، على الكتاب والسُّنة، كنت قد أوتيت فصل الخطاب، واستوجبت على الله جزيل الثواب.
قلت لعبد الكريم: من هذا الذي صبر له عمرو هذا الصبر؟ قال: قد سألت عن ذلك أبا حفص فقال: ومن كان يجترئ عليه هذه الجراءة إلا حفص بن سالم؟
قال عمر الشمَّري: كان عمرو بن عبيد لا يكاد يتكلم، فإذا تكلم لم يكَد يُطيل. وكان يقول: لا خير في المُتكلم إذا كان كلامه لمن شهده دون نفسه، وإذا طال الكلام عرضت للمُتكلم أسباب التكلُّف، ولا خير في شيء يأتيك به التكلف.
وقال بعضهم — وهو من أحسن ما اجتبيناه ودوَّنَّاه — لا يكون الكلام يستحقُّ اسم البلاغة حتى يُسابق معناه لفظه، ولفظه معناه؛ فلا يكون لفظه إلى سمعك أسبق من معناه إلى قلبك.
وكان موسى بن عِمران يقول: لم أرَ أنطق من أيوب بن جعفر، ويحيى بن خالد. وكان ثُمامة يقول: لم أرَ أنطق من جعفر بن يحيى بن خالد. وكان سهل بن هارون يقول: لم أرَ أنطق من المأمون أمير المؤمنين. وقال ثُمامة: سمعت جعفر بن يحيى يقول لكتابه: إن استطعتم أن يكون كلامكم كله مثل التوقيع فافعلوا. وسمعت أبا العتاهية يقول: لو شئت أن يكون حديثي كله شعرًا موزونًا لكان. وقال إسحاق بن حسان بن فوهة: لم يُفسر البلاغةَ تفسيرَ ابن المُقفع أحدٌ قط، سئل: ما البلاغة؟ قال: البلاغة اسمٌ جامع لمعانٍ تجري في وجوهٍ كثيرة؛ فمنها ما يكون في السكوت، ومنها ما يكون في الاستماع، ومنها ما يكون في الإشارة، ومنها ما يكون في الحديث، ومنها ما يكون في الاحتجاج، ومنها ما يكون جوابًا، ومنها ما يكون ابتداءً، ومنها ما يكون شعرًا، ومنها ما يكون سجعًا وخطبًا، ومنها ما يكون رسائل؛ فعامة ما يكون من هذه الأبواب الوحيُ فيها والإشارة إلى المعنى والإيجاز هو البلاغة؛ فأما الخطب بين السِّماطَين، وفي إصلاح ذات البَين، فالإكثار في غير خطل، والإطالة في غير إملال، وليكُنْ في صدر كلامك دليل على حاجتك، كما أن خير أبيات الشعر البيت الذي إذا سمعت صدره عرفت قافيته.
كأنه يقول: فرِّق بين صدر خطبة النكاح وبين صدر خطبة العيد، وخطبة الصلح وخطبة المواهب، حتى يكون لكل فن من ذلك صدرٌ يدلُّ على عَجُزه؛ فإنه لا خير في كلام لا يدل على معناك، ولا يُشير إلى مَغزاك، وإلى العمود الذي إليه قصدت، والغرض الذي إليه نزعت.
قال، فقيل له: فإن ملَّ المُستمع الإطالة التي ذكرت أنها حق ذلك الموقف؟ قال: إذا أعطيت كل مقام حقَّه، وقمت بالذي يجب من سياسة ذلك المقام، وأرضيت من يعرف حقوق الكلام، فلا تهتمَّ لما فاتك من رضا الحاسد والعدو؛ فإنه لا يُرضيهما شيء، وأما الجاهل فلست منه وليس منك، ورضا جميع الناس شيء لا تناله، وقد كان يُقال: رضا الناس شيء لا يُنال.
قال: والسُّنة في خطبة النكاح أن يُطيل الخاطب ويقصِّر المُجيب، ألا ترى إلى قيس بن خارجة بن سنان لما ضرب بصفيحة سيفه مؤخِّرة راحلتَي الحاملَين في شأن حَمَالة داحس والغبراء، وقال: ما لي فيها أيها العشَمتان؟ قالا: بل ما عندك؟ قال: عندي قِرى كل نازِل، ورضا كل ساخط، وخطبة من لدن تَطلع الشمس إلى أن تغرب، آمر فيها بالتواصل، وأنهى فيها عن التقاطع.
قالوا: فخطب يومًا إلى الليل فما أعاد فيها كلمة ولا معنًى.
فقيل لأبي يعقوب: هلَّا اكتفى بالأمر بالتواصل عن النهي عن التقاطع؟ أوَ ليس الأمر بالصلة هو النهي عن القطيعة؟ قال: أوَ ما علمت أن الكناية والتعريض لا يعملان في العقول عمل الإفصاح والتكشُّف؟
قال: وسئل ابن المقفع عن قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ما يتصعَّدني كلام كما تصعَّدني خطبة النكاح. قال: ما أعرفه إلا أن يكون أراد قرب الوجوه من الوجوه، ونظر الحِداق من قرب في أجواف الحِداق، ولأنه إذا كان جالسًا معهم كانوا كأنهم نُظراء وأكْفاء، وإذا علا المِنبر صاروا سُوقة ورعيَّة. وقد ذهب ذاهبون إلى أن تأويل قول عمر يرجع إلى أن الخطيب لا يجد بدًّا من تزكية الخاطب؛ فلعلَّه كره أن يمدحه بما ليس فيه، فيكون قد قال زورًا وغرَّ القوم من صاحبه. ولعَمْري إن هذا التأويل ليجوز إذا كان الخطيب موقوفًا على الخطابة، فأما عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، وأشباهه من الأئمة الراشدين، رضوان الله تعالى عليهم أجمعين، فلم يكونوا ليتكلَّفوا ذلك إلا فيمن يستحقُّ المدح.
وروى أبو مِخنف، عن الحارث الأعور، قال: والله لقد رأيت عليًّا وإنه ليخطب قاعدًا كقائم، ومُحاربًا كمُسالم. يريد بقوله «قاعدًا» خطبةَ النكاح.
وقال الهيثم بن عدي: لم تكن الخطباء تخطب قُعودًا إلا في خطبة النكاح.
وكانوا يستحسنون أن يكون في الخطب يوم الحفل، وفي الكلام يوم الجمع، آيٌ من القرآن؛ فإن ذلك مما يُورث الكلام البهاء والوقار، والرقة وحسن الموقع. قال الهيثم، قال عِمران بن حِطَّان: إن أول خطبة خطبتها عند زياد — أو قال عند ابن زياد — فأُعجبَ بها زياد، وشهدها عمي وأبي. ثم إني مررت ببعض المجالس، فسمعت رجلًا يقول لبعضهم: هذا الفتى أخطب العرب لو كان في خطبته شيءٌ من القرآن.
وأكثر الخطباء لا يتمثَّلون في خطبهم الطِّوال بشيء من الشعر، ولا يكرهونه في الرسائل إلا أن تكون إلى الخلفاء. وسمعت مؤمَّل بن خاقان — وذكر في خطبته تميم بن مُر — فقال: إن تميمًا له الشرف القديم العَود، والعِزُّ الأقعَس، والعدد الهَيضَل، وهي في الجاهلية القُدَّام، والذروة والسَّنام. وقد قال الشاعر:
وكان المؤمَّل وأهله يُخالفون جمهور بني سعد في المقالة؛ فلشدة تحدُّبه على سعد وشفقته عليهم، كان يُناضل عند السلطان كل من سعى على أهل مقالتهم، وإن كان قوله خلاف قولهم حدبًا عليهم. وكان صالحٌ المُرِّي، القاصُّ العابد البليغ، كثيرًا ما يُنشد في قصصه وفي مواعظه هذا البيت:
وأنشد الحسن في مجلسه وفي قصصه وفي مواعظه:
وأنشد عبد الصمد بن الفضل بن عيسى بن أبان الرَّقاشي، الخطيب القاصُّ السجَّاع، إما في قصصه، وإما في خُطبة من خُطَبه، رحمه الله سبحانه وتعالى:
وقال أبو الحسن: خطب عبد الله بن الحسن على منبر البصرة في العيد فأنشد في خطبته:
وكان مالك بن دينار يقول في قصصه: ما أشدَّ فِطامَ الكبير!
وهو كما قال القائل:
ومِثله أيضًا قول صالح بن عبد القُدُّوس:
قال كلثوم بن عمرو العتَّابي:
وكانوا يمدحون الجَهير الصوت، ويذمُّون الضئيل الصوت؛ ولذلك تشادقوا في الكلام، ومدحوا سعة الفم، وذمُّوا صِغر الفم. حدَّثني محمد بن بشير الشاعر، قيل لأعرابي: ما الجمال؟ قال: طول القامة، وضخم الهامة، ورُحْب الشِّدق، وبُعْد الصوت. وسأل جعفر بن سليمان أبا المِخشِّ عن ابنه المِخَش، وكان جَزِع عليه جزعًا شديدًا، قال: صِف لي المخش. فقال: كان أشدق خُرطُمانيًّا، سائلًا لُعابه، كأنما ينظر من قَلتَين، كأن تَرقُوَته بُوان أو خالفة، وكأن مَنكبه كِركِرةُ جمل ثَقال. فقأ الله عيني إن كنت رأيت قبله أو بعده مِثله. قال، وقلت لأعرابي: ما الجمال؟ قال: غُئورُ العَينَين، وإشراف الحاجِبَين، ورُحْب الشِّدقَين.
قال دغفل بن حنظلة النسَّابة، والخطيب العلَّامة، حين سأله معاوية عن قبائل قريش، فلما انتهى إلى بني مخزوم قال: مِعزى مَطيرة، عليها قُشَعريرة، إلا بني المُغيرة؛ فإن فيهم تشادُق الكلام، ومُصاهَرة الكرام.
وقال الشاعر في عمرو بن سعيد الأشدق:
وأنشد أبو عُبيدة:
وتكلَّم يومًا عند معاوية الخطباءُ فأحسنوا، فقال: والله لأرميَنَّهم بالخطيب الأشدق، قم يا يزيد فتكلَّمْ.
وهذا القول وغيره من الأخبار والأشعار حُجة لمن زعم أن عمرو بن سعيد لم يسمَّ الأشدق للفَقَم ولا للَّقْوة. وقال يحيى بن نَوفل في خالد بن عبد الله القَسري:
ويدلُّك على تفضيلهم سعة الأشداق، وهجائهم ضِيق الأفواه، قول الشاعر:
وقال الآخَر:
وإنما شبَّه أفواههم بأفواه الدبى لصِغر أفواههم وضِيقها. وعلى ذلك المعنى هجا عَبْدة بن الطبيب حُييَّ بن هزَّال وابنَيه، فقال:
وقد كان العبَّاس بن عبد المُطَّلب جهيرًا جهير الصوت، وقد مُدِح بذلك، وقد نفع الله المسلمين بجهارة صوته يوم حُنَين حين ذهب الناس عن رسول الله ﷺ، فنادى العبَّاس: يا أصحاب سورة البقرة، هذا رسول الله ﷺ! فتراجع القوم، وأنزل الله عز وجل النصرة وأتى بالفتح.
أخبرني ابن الكلبي عن أبيه، عن أبي صالح، عن ابن عباس، قال: كان قيس بن مَخرمة بن المطَّلب بن عبد مناف يمكو حول البيت فيُسمَع ذلك من حراء. قال الله تعالى: وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً. فالتصدية: التصفيق. والمكاء: التصفير أو شبيه بالصفير. ولذلك قال عنترة:
وقال العُجَير السَّلولي في شدة الصوت:
الصلق: شدة الصوت. وفطور: شقوق. وقال مُهلهِل:
والصريف: صوت احتكاك الأنياب. والصليل: صوت الحديد ها هنا. وفي شدة الصوت قال الأعشى في وصفه الخطيب بذلك:
وقال بشَّار بن بُرْد في ذلك ويهجو بعض الخُطباء:
ووقع بين فتًى من النصارى وبين ابن فِهْريز كلام، فقال له الفتى: ما ينبغي أن يكون في الأرض رجلٌ واحدٌ أجهل منك. وكان ابن فِهريز في نفسه أكثر الناس علمًا وأدبًا، وكان حريصًا على الجثلقة. فقال للفتى: وكيف حلَلتُ عندك هذا المحل؟ قال: لأنك تَعلَم أنَّا لا نتَّخذ الجاثليق إلا مديدَ القامة، وأنت قصيرُ القامة؛ ولا نتَّخذه إلا جهيرَ الصوت جيِّدَ الخلق، وأنت دقيقُ الصوت رديءُ الخلق؛ ولا نتَّخذه إلا وهو وافر اللحية عظيمها، وأنت خفيف اللحية صغيرها؛ وأنت تَعلَم أنَّا لا نختار للجَثلقة إلا رجلًا زاهدًا في الرياسة، وأنت أشدُّ الناس عليها كلَبًا، وأظهرهم لها طلبًا؛ فكيف لا تكون أجهل الناس وخصالك هذه كلها تمنع من الجثلقة، وأنت قد شغلت في طلبها بالك، وأسهرت فيها ليلك؟ وقال أبو الحَجناء في شدة الصوت:
المرجم: الحاذق بالمراجمة بالحجارة. والوداق: الذي يُسيل الحجارة كالودق من المطر. وجاء في الحديث: «من وُقِي شرَّ لَقلَقه وقَبقَبه وذَبذَبه وُقِي الشر.» يعني لسانه وبطنه وفرجه. وقال عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، في بواكي خالد بن الوليد بن المغيرة: «وما عليهن أن يُرِقن من دموعهن على أبي سليمان ما لم يكن نقعٌ أو لقلقة؟» وجاء في الأثر: «ليس منا من حَلَق، أو صَلَق، أو سَلَق، أو شَق.»
ومما مدح به العُماني هارون الرشيد، بالقصيد دون الرجز، قوله:
النياط: معاليق القلب. الأين: الإعياء. الظليم: ذكر النعام. عمم: حسن، ومنه قيل: نبتٌ عميم؛ أي حسنٌ كثير. ويُقال: إن جسمه لَعَمم، وإنه لَعمُّ الجسم، إذا كان تامًّا.
وكان الرشيد إذا طاف بالبيت جعل لإزاره ذنبَين عن يمين وشمال، ثم طاف بأوسع من خطو الظليم، وأسرع من رجع يد الأرنب. وقد أخبرني إبراهيم بن السِّندي بمحصول ذرع ذلك الخطو، إلا أني أحسبه فراسخ فيما رأيته يذهب إليه. قال إبراهيم، ونظر إليه أعرابي في تلك الحال والهيئة فقال: «خطْوَ الظليمِ رِيعَ مُمسًى فانشمَر.»
ريع: فزع. ممسًى: حين المساء. انشمر: جدَّ في الهرب.
وحدَّثني إبراهيم السِّندي قال: لما أتى عبدَ الملك بن صالح وفدُ الروم وهو في البلاد، أقام على رأسه رجالًا في السماطَين لهم قَصَرٌ وهام، ومَناكب وأجسام، وشوارب وشعور؛ فبيْنا هم قيامٌ يُكلمونه، ومنهم رجلٌ وجهه في قفا البطريق، إذ عطس عطسةً ضئيلة، فلحظه عبد الملك، فلم يدرِ أيَّ شيء أنكر منه! فلما مضى الوفد قال له: ويلك، هلَّا إذ كنت ضيِّق المنخر كزَّ الخَيشوم، أتبعتها بصيحةٍ تَخلَع بها قلب العِلج؟
وفي تفضيل الجهارة يقول شبَّة بن عِقال بعقب خُطبته عند سليمان بن علي بن عبد الله بن عبَّاس:
وقال طَحلاء يمدح معاوية بالجهارة وبجودة الخُطبة:
معن: تعرِض له الخطبة فيخطبها مُقتضبًا لها. تريع: ترجع إليه. هوادي الكلام: أوائله. فأراد أن معاوية يخطب في الوقت الذي يذهب فيه كلام المهذر. والمهذر: المِكثار.
وزعموا أن أبا عطيَّة عُفيفًا النَّصري، في الحرب التي كانت بين ثقيف وبين بني نصر، لما رأى الخيل بعَقوته يومئذٍ وأيِس، نادى: يا صباحاه، أُتِيتم يا بني نصر! فألقت الحبالى أولادها من شدة صوته. قالوا، فقال ربيعة بن مسعود يصف تلك الحرب وصوت عفيف:
وكان أبو عُروة، الذي يُقال له أبو عروة السباع، يصيح بالسَّبُع وقد احتمل الشاة، فيُخليها ويذهب هاربًا على وجهه، فضرب به الشاعر المَثل، وهو النابغة الجَعدي، فقال:
وقال الفرزدق: شقاشق بين أشداق وهام.
وأنشد خلف:
وأنشد أبو عمرو بن [العلاء]:
والفيل والزندبيل: أبان والحكم ابنا عبد الملك بن بشر بن مروان. وذو الضرس وذو الشفة المائلة: هو خالد بن سلَمة المخزومي الخطيب. يعني دخولهم على ابن هبيرة. والزندبيل: الأنثى من الفِيَلة فيما ذكر أبو اليقظان نجيم بن حفص. وقال غيره: هو الذكر. فلم يقفوا من ذلك على شيء.
وقال الشاعر في خالد بن سلَمة المخزومي الخطيب:
قوله «دغفل»: يريد دغفل بن يزيد بن حنظلة الخطيب الناسب. والحيقطان: عبدٌ أسود، وكان خطيبًا لا يُجارى.
وأنشد أصحابنا:
وقال الفرزدق: أنا عند الناس أشعَرُ العرب، ولرُبَّما كان نزعُ ضرس أيسرَ عليَّ من أن أقول بيت شعر.
وأنشدنا منيع:
أبو يعقوب الثقفي، عن عبد الملك بن عُمير، قال: سئل الحارث بن أبي ربيعة عن علي بن أبي طالب، كرَّم الله وجهه، فقال: كم كان له ما شئت من ضِرسٍ قاطع في العلم بكتاب الله، والفقه في السُّنة، والهجرة إلى الله ورسوله، والبَسطة في العشيرة، والنجدة في الحرب، والبذل للماعون. قال الآخَر:
وأنشدني أبو الرُّديني العُكلي:
وكان علي بن الهيثم جوادًا، بليغ اللسان والقلم.
قال لي أبو يعقوب الخزيمي: ما رأيت كثلاثة رجال يأكلون الناس أكلًا، حتى إذا رأوا ثلاثة رجال ذابوا كما يذوب المِلح في الماء، أو الرَّصاص عند النار. كان هشام بن الكلبي علَّامة نسَّابة، وراوية للمثالب عيَّابة؛ فإذا رأى الهيثم بن عدي ذاب كما يذوب الرصاص عند النار. وكان الهيثم بن عدي مِفقعانيًّا صاحب تفقيع وتقعير، ويستولي على كلام أهل المجلس، لا يحفل بشاعر ولا بخطيب؛ فإذا رأى موسى الضبِّي ذاب كما يذوب الرصاص عند النار. وكان علَّوَيه المغنِّي أحد الناس في الرواية وفي الحكاية، وفي صنعة الغناء وجودة الضرب، وفي الإطراب وحُسن الخُلق؛ فإذا رأى مُخارقًا ذاب كما يذوب الرصاص عند النار.
وأعيَبُ عندهم من دقة الصوت وضِيق مخرجه وضعف قوته، أن يعترض الخطيبَ البُهرُ والارتعاش، والرِّعدة والعرَق. قال أبو الحسن، قال سفيان بن عُيينة: تكلَّمَ صعصعة عند معاوية فعرق، قال معاوية: بهرَك القول؟ فقال صعصعة: إن الجياد نضَّاحة بالماء.
والفَرس إذا كان سريع العرق، وكان هشًّا، كان ذلك عيبًا. وكذلك هو في الكثرة. وإذا أبطأ ذلك وكان قليلًا قيل: قد كبا، وهو فَرسٌ كابٍ. وذلك عيب أيضًا.
وأنشدني ابن الأعرابي لأبي مِسمار العُكلي في شبيه بذلك قوله:
والذفارى هنا، يعني بدن الخطيب، والذفريان للبعير: وهما اللحمتان في قفاه. وإنما ذكر خطب الإملاك لأنهم يذكرون أنه يَعرِض للخطيب فيها من الحصَر أكثر مما يعرض لصاحب المنبر؛ ولذلك قال عمر بن الخطاب، رضي الله تعالى عنه: ما يتصعَّدني كلامٌ كما تتصعَّدني خطبة النكاح. وقال العُماني:
الهش: الذي يجود بعَرَقه سريعًا، وذلك عيب. والذفر: الكثير العرق. والكابي: الذي لا يكاد يعرق، كالزند الكابي الذي لا يكاد يوري. فجعل له العُماني حالًا بين حالين إذا خطب، وخبر أنه رابط الجأش، مُعاود لتلك المقامات.
وقال الكُميت بن زيد، وكان خطيبًا: إن للخُطبة صعداء، وهي على ذي اللُّب أرمى.
وقولهم أرمى وأربى سواء. يُقال: فلان قد أرمى على المائة وأربى. ولم أرَ الكُميت أفصح عن هذا المعنى ولا تخلَّص إلى خاصَّته، وإنما يجترئ على الخطبة الغُمر الجاهل الماضي الذي لا يَثنيه شيء، أو المطبوع الحاذق الواثق بغزارته واقتداره؛ فالثقة تنفي عن قلبه كل خاطر يورث اللجلجة والنحنحة، والانقطاع والبهر والعرق.
قال عُبيد الله بن زياد وكان خطيبًا، على لُكنةٍ كانت فيه: نِعمَ الشيء الإمارة، لولا قعقعة البُرد، والتشدُّق للخطب. وقيل لعبد الملك بن مروان: عَجِل عليك الشَّيب يا أمير المؤمنين. قال: وكيف لا يعجل عليَّ وأنا أعرض عقلي على الناس في كل جمعة مرةً أو مرتَين؟
يعني خطبة الجمعة وبعض ما يعرض من الأمور. قال بعض الكلابيين:
ثم دفع إليهم صحيفة من تحبيره وتنميقه، وكان أول ذلك الكلام:
«خذ من نفسك ساعة نشاطك، وفراغ بالك، وإجابتها إياك؛ فإن قليل تلك الساعة أكرم جوهرًا، وأشرف حسبًا، وأحسن في الأسماع، وأحلى في الصدور، وأسلم من فاحش الخطأ، وأجلب لكل عين وغُرَّة، من لفظٍ شريف ومعنًى بديع. واعلم أن ذلك أجدى عليك مما يُعطيك يومك الأطول بالكد والمطاولة والمجاهدة، وبالتكلف والمعاودة، ومهما أخطأك لم يُخطئك أن يكون مقبولًا قصدًا، وخفيفًا على اللسان سهلًا، وكما خرج من ينبوعه، ونجم من مَعدنه. وإياك والتوعُّر؛ فإن التوعُّر يُسلِمك إلى التعقيد، والتعقيد هو الذي يستهلك معانيك، ويشين ألفاظك. ومن أراد معنًى كريمًا فلْيَلتمس له لفظًا كريمًا؛ فإن حق المعنى الشريف اللفظُ الشريف، ومن حقهما أن تصونهما عما يُفسدهما ويهجِّنهما، وعما تعود من أجله إلى أن تكون أسوأ حالًا منك قبل أن تلتمس إظهارهما، وترتهن نفسك بملابستهما وقضاء حقهما. وكُن في ثلاث منازل؛ فإن أولى الثلاث أن يكون لفظك رشيقًا عذبًا، وفخمًا سهلًا، ويكون معناك ظاهرًا مكشوفًا، وقريبًا معروفًا، إما عند الخاصة إن كنت للخاصة قصدت، وإما عند العامة إن كنت للعامة أردت. والمعنى ليس يشرُف بأن يكون من معاني الخاصة، وكذلك ليس يتَّضع بأن يكون من معاني العامة، وإنما مدار الشرف على الصواب وإحراز المنفعة، مع موافقة الحال، وما يجب لكل مقام من المقال، وكذلك اللفظ العامِّي والخاصِّي؛ فإن أمكنك أن تبلُغ من بيان لسانك، وبلاغة قلمك، ولطف مداخلك، واقتدارك على نفسك، على أن تُفهم العامة معانيَ الخاصة، وتكسوَها الألفاظ الواسطة التي لا تلطف عن الدهماء، ولا تجفو عن الأكْفاء؛ فأنت البليغ التام.»
قال بِشر: فلما قُرئت على إبراهيم قال لي: أنا أحوَج إلى هذا من هؤلاء الفِتيان.
قال أبو عثمان: أما أنا فلم أرَ قومًا قطُّ أمثَل طريقةً في البلاغة من الكُتاب؛ فإنهم قد التمسوا من الألفاظ ما لم يكُن متوعِّرًا وحشيًّا، ولا ساقطًا سوقيًّا. وإذا سمعتموني أذكُر العوام فإني لست أعني الفلَّاحين والحِشوة والصُّناع والباعة، ولست أعني أيضًا الأكراد في الجبال، وسكان الجزائر في البحار، ولست أعني من الأمم مثل اليبر والطيلسان، ومثل موقان وجيلان، ومثل الزِّنج وأمثال الزنج، وإنما الأمم المذكورون من جميع الناس أربع؛ العرب، وفارس، والهند، والروم، والباقون همج وأشباه الهمج. وأما العوام من أهل مِلَّتنا ودعوتنا ولُغتنا وأدبنا وأخلاقنا، فالطبقة التي عقولها وأخلاقها فوق تلك الأمم ولم يبلغوا منزلة الخاصة منا، على أن الخاصة تتفاضل في الطبقات أيضًا.
«فإن كانت المنزلة الأولى لا تُواتيك ولا تعتريك، ولا تَسنَح لك عند أول نظرك وفي أول تكلُّفك، وتجد اللفظة لم تقع موقعها، ولم تَصِر إلى قرارها، وإلى حقها من أماكنها المقسومة لها، والقافية لم تحلَّ في مركزها وفي نِصابها، ولم تصل بشكلها، وكانت قلِقةً في مكانها، نافرةً من موضعها؛ فلا تُكرِهها على اغتصاب الأماكن والنزول في غير أوطانها؛ فإنك إذا لم تتعاطَ قَرْض الشعر الموزون، ولم تتكلف اختيار الكلام المنثور، لم يُعِبك بترك ذلك أحد؛ وإن أنت تكلَّفتَها ولم تكُن حاذقًا مطبوعًا، ولا مُحكِمًا لسانك، بصيرًا بما عليك أو ما لك، عابَك من أنت أقل عيبًا منه، ورأى من هو دونك أنه فوقك؛ فإن ابتُليتَ بأن تتكلَّف القول، وتتعاطى الصنعة، ولم تسمح لك الطباع في أول وهلة، وتعصَّى عليك بعد إجالة الفكرة، فلا تعجل ولا تضجر، ودَعه بياض يومك أو سواد ليلك، وعاوِدْه عند نشاطك وفراغ بالك؛ فإنك لا تَعدِم الإجابة والمُواتاة، إن كانت هناك طبيعة، أو جريت من الصناعة على عِرق؛ فإن تمنَّع عليك بعد ذلك من غيرِ حادثِ شُغلٍ عرَض، ومن غير طول إهمال، فالمنزلة الثالثة أن تتحول من هذه الصناعة إلى أشهى الصناعات إليك، وأخفِّها عليك؛ فإنك لم تشتهِه ولم تُنازع إليه إلا وبينكما نَسب، والشيء لا يحنُّ إلا إلى ما يُشاكله، وإن كانت المشاكلة قد تكون في طبقات؛ لأن النفوس لا تجود بمكنونها مع الرغبة، ولا تسمح بمخزونها مع الرهبة، كما تجود به مع المحبة والشهوة، فهكذا هذا.»
وقال: ينبغي للمُتكلم أن يعرف أقدار المعاني، ويُوازن بينها وبين أقدار المُستمِعين وبين أقدار الحالات، فيجعل لكل طبقة من ذلك كلامًا، ولكل حالة من ذلك مقامًا، حتى يقسم أقدار الكلام على أقدار المعاني، ويقسم أقدار المعاني على أقدار المقامات، وأقدار المُستمِعين على أقدار تلك الحالات؛ فإن كان الخطيب مُتكلمًا تجنَّب ألفاظ المُتكلمين، كما أنه إن عبَّر عن شيء من صناعة الكلام، واصفًا أو مُجيبًا أو سائلًا، كان أولى الألفاظ به ألفاظ المُتكلمين؛ إذ كانوا لتلك العبارات أفهم، وإلى تلك الألفاظ أميل، وإليها أحنَّ وبها أشغف؛ ولأن كبار المُتكلمين ورؤساء النظَّارين كانوا فوق أكثر الخُطباء، وأبلغ من كثير من البُلغاء، وهم تخيَّروا تلك الألفاظ لتلك المعاني، وهم اشتقُّوا لها من كلام العرب تلك الأسماء، وهم اصطلحوا على تسمية ما لم يكُن له في لغة العرب اسم، فصاروا في ذلك سلفًا لكل خلف، وقدوة لكل تابع؛ ولذلك قالوا: العرَض، والجوهر، وأيس، وليس. وفرَّقوا بين البُطلان والتلاشي، وذكروا الهذيَّة والهُويَّة والماهية وأشباه ذلك. وكما وضع الخليل بن أحمد لأوزان القصيد وقِصار الأرجاز ألقابًا لم تكُن العرب تتعارف تلك الأعاريض بتلك الألقاب، وتلك الأوزان بتلك الأسماء، كما ذكر الطويل والبسيط والمديد والوافر والكامل وأشباه ذلك، وكما ذكر الأوتاد والأسباب والخَرم والزِّحاف. وقد ذكرت العرب في أشعارها السِّناد والإقواء والإكفاء، ولم أسمع الإيطاء. وقالوا في القصيد والرَّجز والسجع والخُطب، وذكروا حروف الرَّوي والقوافي. وقالوا: هذا بيت، وهذا مِصراع. وقد قال جندل الطهوي حين مدح شعره:
وقال ذو الرُّمَّة:
وقال أبو حِزامٍ العُكلي:
وكما سمَّى النحويون، فذكَروا الحال والظرف وما أشبه ذلك؛ لأنهم لو لم يضعوا هذه العلامات لم يستطيعوا تعريف القرويِّين وأبناء البلديِّين عِلم العَروض والنحو. وكذلك أصحاب الحساب؛ فقد اجتلبوا أسماءً وجعلوها علامات للتفاهم.
وإنَّما جازت هذه الألفاظ في صناعة الكلام حين عجزت الأسماء عن اتساع المعاني. وقد تَحسُن أيضًا ألفاظ المُتكلمين في مثل شعر أبي نُواس، وفي كل ما قالوه على جهة التظرُّف والتملُّح، كقول أبي نُواس:
وكقوله:
يعني العنق. ويقول فيه أيضًا:
وكقول الآخَر:
وقال أسود بن أبي كريمة:
وكما لا ينبغي أن يكون اللفظ عاميًّا ساقطًا سوقيًّا، فكذلك لا ينبغي أن يكون غريبًا وحشيًّا، إلا أن يكون المُتكلم بدويًّا أعرابيًّا؛ فإن الوحشيَّ من الكلام يفهمه الوحشي من الناس، كما يفهم السوقيُّ رطانةَ السوقي.
وكلام الناس في طبقات، كما أن الناس أنفُسهم في طبقات؛ فمن الكلام الجزلُ، والسخيفُ، والمليح، والحسن، والقبيح، والسميح، والخفيف، والثقيل، وكله عربي، وبكلٍّ قد تكلَّموا، وبكلٍّ قد تمادحوا وتعايبوا. فإن زعم زاعمٌ أنه لم يكن في كلامهم تفاضُل، ولا بينهم في ذلك تفاوُت، فلِمَ ذكروا العَيِي، والبَكِي، والحَصِر، والمُفحَم، والخَطِل، والمُسهَب، والمُتشدق، والمُتفيهِق، والمِهماز، والثَّرثار، والمِكثار، والهمَّاز؟ ولمَ ذكَروا الهُجر، والهذر، والهذيان، والتخليط؟ وقالوا: رجلٌ تَلقاعة وتَلهاعة، وفلانٌ يتلهيَع في خطبته. وقالوا: فلانٌ يُخطئ في جوابه، ويُحيل في كلامه، ويُناقض في خبره. ولولا أن هذه الأمور قد كانت تكون في بعضهم دون بعض لما سمَّى ذلك البعض والبعض الآخر بهذه الأسماء.
وكان محمد بن عبَّاد بن كاسب يقول: والله لَفلانٌ أثقلُ من مغنٍّ وسط، وأبغض من ظريفٍ وسط.
ومتى سمعت، حفظك الله، بنادرة من كلام الأعراب، فإيَّاك وأن تحكيَها إلا مع إعرابها ومخارج ألفاظها؛ فإنك إن غيَّرتها بأن تلحن في إعرابها، وأخرجتها مخرج كلام المولَّدين والبلديين، خرجت من تلك الحكاية وعليك فضل كبير. وكذلك إذا سمعت بنادرة من نوادر العوام، ومُلْحة من مُلَح الحِشوة والطَّغام، فإيَّاك وأن تستعمل فيها الإعراب، أو تتخير لها لفظًا حسنًا، أو تجعل لها من فيك مَخرجًا سريًّا؛ فإن ذلك يُفسِد الإمتاع بها، ويُخرِجها من صورتها ومن الذي أُريدت له، ويُذهب استطابتهم إياها واستملاحهم لها.
ثم اعلم أن أقبح اللحن لحنُ أصحاب التقعير والتقعيب، والتشديق والتمطيط، والجَهورة والتفخيم، وأقبح من ذلك لحن الأعاريب النازلين على طُرُق السابلة وبقرب مجامع الأسواق، ولأهل المدينة ألسنةٌ ذلِقة، وألفاظٌ حسنة، وعبارةٌ جيِّدة، واللحن في عوامِّهم فاشٍ، وعلى من لم ينظر في النحو منهم غالب.
واللحن من الجواري الظِّراف، ومن الكواعب النواهد، ومن الشوابِّ المِلاح، ومن ذوات الخدور الغرائر، أيسر. وربما استملح الرجل ذلك منهن ما لم تكن الجارية صاحبة تكلُّف، ولكن إذا كان اللحن سجيَّة سكان البلد. وكما يستملحون اللَّثْغاء إذا كانت حديثة السن، ومقدودةً مجدولة؛ فإذا أسنَّت واكتهلت تغيَّر ذلك الاستملاح. وربما كان اسم الجارية «غُليِّم» و«صُبيَّة» وما أشبه ذلك؛ فإذا صارت كهلةً جزلة، وعجوزًا شَهلة، وحملت اللحم، وتراكم عليها الشحم، وصار بنوها رجالًا، وبناتها نساءً، فما أقبح حينئذٍ أن يُقال لها: يا غليم، كيف أصبحت؟ ويا صبية، كيف أمسيت؟ ولأمرٍ ما كنَّت العرب البنات فقالوا: فعلت أم الفضل، وقالت أم عمرو، وذهبت أم حكيم. نعم، حتى دعاهم ذلك إلى التقدُّم في تلك الكُنى.
وقد فسَّرنا ذلك كله في كتاب «الأسماء والكُنى والألقاب والأنباز».
وقد قال مالك بن أسماء في استملاح اللحن من بعض نسائه:
وهم يمدحون الحِذق والرِّفق، والتخلُّص إلى حبَّات القلوب، وإلى إصابة عيون المعاني، ويقولون: أصاب الهدف، إذا أصاب الحق في الجملة. ويقولون: قرطس فلان، وأصاب القِرطاس، إذا كان أجود إصابةً من الأول. فإن قالوا: رمى فأصاب الغُرَّة، وأصاب عين القرطاس، فهو الذي ليس فوقه أحد. ومن ذلك قولهم: فلان يفلُّ المحز، ويُصيب المَفصِل، ويضع الهِناء مواضع النُّقَب. وقال زُرارة بن جزء حين أتى عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، فتكلَّم عنده، ورفع حاجته إليه:
وفي شبيه ذلك يقول عبد الرحمن بن حسَّان حيث يقول:
وفي إصابة فص الشيء وعينه، يقول ذو الرُّمَّة في مديح بلال بن أبي بردة الأشعري:
ومما قالوا في الإيجاز، وبلوغ المعاني بالألفاظ اليسيرة، قول ثابت بن قُطنة:
وقال رجل من طيِّئ ومدح كلام رجل فقال: هذا كلامٌ يُكتفى بأولاه، ويُشتفى بأُخراه. وقال أبو وَجرة السَّعدي، من سعد بن بكر، يصف كلام رجل:
ومن كلامهم المُوجَز في أشعارهم قول العُكلي في صفة قوس:
وقال الآخَر، ووصف سهم رامٍ أصاب حمارًا، فقال: حتى نجا من جوفه وما نجا.
وقال الآخَر وهو يصف ذئبًا:
ووصف الآخَر ناقةً فقال: خَرْقاءُ إلا أنَّها صَنَاعُ.
المفطوح الأول للقوس، وهو العريض، وهو ها هنا موضع مقبض القوس، والمفطوح الثاني السهم العريض؛ يعني أنه ألقى على مقبض القوس سهمًا عريضًا.
وقال الآخَر:
وقالوا في المَثل: الليلُ أخفى للوَيل.
وقال رؤبة يصف حمارًا:
الحشرجة: صوت الصدر. والسحيل: صوت الحمار إذا مده. والشهيق: أن يقطع الصوت.
وقال بعض ولد العبَّاس بن مِرداس السُّلمي في فرس أبي الأعور السُّلمي:
قوله: جاش ناظره؛ أي جاش بمائه، وناظر البرق سحابه. يسبح: يعني يمد ضبعَيه، فإذا مدَّهما علا كفَلُه.
وقال الآخَر: إنْ سَرَّك الأهوَنُ فابْدَأ بالأشد.
وقال العجَّاج:
اليم: معظم الماء. وغوارب اليم: معظمه. جسر: قطع، ومنه قيل للجسر جسرٌ لأن الناس يقطعون عليه. وقوله: حتى يُقال جاسر وما جسر؛ أي قطع الأمر وهو بعدُ فيه لما يرَون من مضائه فيه وقدرته عليه.
وقال الآخَر:
قوله: أخربها عمران من بناها، يقول: عمَّرها بالخراب. وأصل العمران مأخوذ من العمر، وهو البقاء، فإذا بقي الرجل في داره فقد عَمَرها، فيقول: إن مدة بقائه فيها أبلت منها؛ لأن الأيام مؤثِّرة في الأشياء بالنقص والبلاء؛ فلما بقي الخراب بها وقام مقام العمران في غيرها سُمِّي بالعمران.
وقال غيره:
يعني الفأر. يقول: هذا عُمرانها. كما يقول الرجل: ما نرى من خيرك ورِفدك، إلا ما يبلغنا من خطبك علينا، وفتِّك في أعضادنا. وقال الله عز وجل: هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ. والعذاب لا يكون نزلًا، ولكنه لما أقام العذاب لهم في موضع النعيم لغيرهم سُمِّي باسمه.
وقال الآخر:
والتمر لا يكون كهرة وزبرًا، ولكنه على ذا. وقال الله عز وجل: وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا. وليس في الجنة بُكرةٌ ولا عشي، ولكن على مقدار البُكر والعشيات. وعلى هذا قول الله عز وجل: وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ. والخزنة الحفَظة، وجهنم لا يضيع منها شيء فيُحفَظ، ولا يختار دخولَها إنسان فيُمنَع منها، ولكن لما قامت الملائكة مقام الحافظ الخازن سُمِّيت به.
قوله: ممساها؛ يعني مساءها. ومغناها: موضعها الذي أقيم فيه. والمغاني: المنازل التي كان بها أهلوها. وطفقت: يعني ظلَّت. تبكي على عراصها عيناها: يُقال لكل جوبة منفتقة ليس فيها بناء «عرصة». عيناها ها هنا السحاب. وجعل المطر بكاءً من السحاب على طريق الاستعارة، وتسمية الشيء باسم غيره إذا قام مقامه.
ولعل حُميدًا أن يكون أخذه عن النَّمر بن تَولب. قال النمر:
وقال أبو العتاهية: أسرَعَ في نقضِ أمرٍ تمامُه.
ذهب إلى كلام الأول: كلُّ ما أقام شخَص، وكل ما ازداد نقَص، ولو كان الناس يُميتهم الداء إذًا لأعاشهم الدواء.
وقال الثالث: بل قول أبي ذؤيب الهُذلي:
فقال قائل: هذا من مفاخر هُذيل؛ أن يكون ثلاثة من الرواة لم يُصيبوا في جميع أشعار العرب إلا ثلاثة أنصاف، اثنان منها لهُذيل وحدها. فقيل لهذا القائل: إنما كان الشرط أن يأتوا بثلاثة أنصاف مُستغنِيات بأنفسها، والنصف الذي لأبي ذؤيب لا يستغني بنفسه، ولا يفهم السامع معنى هذا النصف حتى يكون موصولًا بالنصف الأول؛ لأنك إذا أنشدت رجلًا لم يسمع بالنصف الأول وسمع «وإذا تُرد إلى قليلٍ تقنعُ»، قال: ومن هذه التي تُرد إلى قليلٍ فتقنع؟ وليس المضمَّن كالمُطلَق، وليس هذا النصف مما رواه هذا العالم، وإنما الرواية قوله:
ومما مدحوا به الإيجاز والكلام الذي كالوحي والإشارة، قول أبي دؤاد بن جرير الإيادي:
فمدح كما ترى الإطالة في موضعها، والحذف في موضعه.
ومما يدل على شغفهم وكلَفهم، وشدة حبهم للفهم والإفهام، قول الأسدي في صفة كلام رجل نعَت له موضعًا من تلك السباسب التي لا أمارة فيها بأقل اللفظ وأوجزه، فوصف إيجاز الناعت، وسرعة فهم المنعوت له، فقال:
وهذا كقولهم لابن عبَّاس: أنَّى لك هذا العلم؟ قال: قلبٌ عَقول، ولسانٌ سئول. وقد قال الراجز:
وقالوا في التحذير من مِيسم الشعر، ومن شدة وقْع اللسان، ومن بقاء أثره على الممدوح والمهجو، قال امرؤ القيس بن حُجْر:
وقال طَرَفة:
قال، وأنشدني محمد بن زياد:
وأنشد محمد بن زياد:
الهجمة: القطعة من النوق فيها فحل. والكلكل: الصدر. والفصال: جمع فصيل، والفصيل ولد الناقة إذا فُصِل عنها. والهوادل: العظام المشافر. والعقل ها هنا: الدية. والعاقلة: أهل القاتل الأدنَون والأبعدون. والصفا: جمع صفاة، وهي الصخرة.
وقال طرَفة:
وقال العُماني:
الريط: الثياب، واحدها ريطة، والريطة كل ملاءة لم تكن لفقَين، والحُلة لا تكون إلا ثوبين. والموادع: الثياب التي تصون غيرها، واحدها ميدعة.
وقالوا: الحرب أولها شكوى، وأوسطها نجوى، وآخرها بلوى. وكتب نصر بن سيَّار إلى ابن هُبيرة أيام تحرُّك أمير السواد بخُراسان:
وقال بعض المولَّدين:
وقالوا: مذاكرة الرجال تلقيح لألبابها. ومما قالوا في صفة اللسان قول الأسدي، أنشدنيها ابن الأعرابي:
وقال الأعشى:
الملحب: القاطع.
وقال ابن هَرمة:
وقال الراجز:
وأنشد:
بسم الله الرحمن الرحيم
فمن زعم أن البلاغة أن يكون السامع يفهم معنى القائل، جعل الفصاحة واللُّكنة، والخطأ والصواب، والإغلاق والإبانة، والملحون والمُعرَب، كله سواءً، وكله بيانًا. وكيف يكون ذلك كله بيانًا، ولولا طول مخالطة السامع للعجم وسماعه للفاسد من الكلام لمَا عرفه؟ ونحن لم نفهم عنه إلا للنقص الذي فينا، وأهل هذه اللغة وأرباب هذا البيان لا يستدلُّون على معاني هؤلاء بكلامهم، كما لا يعرفون رطانة الرومي والصقلبي. وإن كان هذا الاسم إنما يستحقُّونه بأنا نفهم عنهم كثيرًا من حوائجهم، فنحن قد نفهم من حمحمة الفَرس كثيرًا من حاجاته، ونفهم بضغاء السِّنَّور كثيرًا من إرادته، وكذلك الكلب، والحمار، والصبي الرضيع، وإنما عنى العتَّابي إفهامك العرب حاجتك على مجرى كلام الفصحاء، وأصحاب هذه اللغة لا يفقهون قول القائل منا:
«مُكرَهٌ أخاك لا بَطَل»، و«إذا عزَّ أخاك فهُنْ».
قال أبو الحسن، قال مولى زياد لزياد: أهدوا لنا هِمار وهش. قال: أي شيء تقول ويلَك؟ قال: أهدوا لنا أيرًا. يريد: أهدوا لنا عَيرًا. قال زياد: ويلك، الأول خير. وقال الشاعر يذكر جارية له لَكْناء:
فزياد قد فهم عن مولاه، وصاحب الجارية قد فهم عن جاريته، ولكنهما لم يفهما عنهما من إفهامها لهما، ولكنهما لما طال مُقامهما في الموضع الذي يكثر فيه سماعهما لهذا الضرب، صارا يفهمان هذا الضرب من الكلام.
(٢) ذِكر ما قالوا في مديح اللسان بالشعر الموزون واللفظ المنثور
قال الشاعر:
وقال الآخَر:
وقال الآخَر:
وفيما مدحوا به الأعرابيَّ إذا كان أديبًا، أنشدني ابن أبي خُزيمة، واسمه أسود:
وقال ابن هرمة:
وقال كعب بن سعد الغَنَوي:
وقال الحارثي:
وقال الآخَر:
ويقول: كأنَّ لسانه لسان ثَور. وحدَّثني من سمع أعرابيًّا مدح رجلًا برِقَّة اللسان، فقال: كان والله لسانه أرقَّ من ورقة، وأليَنَ من سَرَقة. وقال النبي ﷺ لحسَّان بن ثابت: ما بَقي من لسانك؟ فأخرج لسانه حتى ضرب بطرفه أرنبته، ثم قال: والله ما يَسرُّني به مِقوَلٌ من مَعد، والله لو وضعته على صخرٍ لفلَقه، أو على شعرٍ لحلَقه. قال: وسمعت أعرابيًّا يصف لسان رجل، فقال: كان يشول بلسانه شولان البروق، ويتخلل به تخلُّل الحيَّة. وأظن هذا الأعرابي أبا وجيه العكلي.
يشول: يرفع. البروق: الناقة إذا طلبت الفحل؛ فإنها حينئذٍ ترفع ذنَبها. وإنما سُمِّي شوَّال شوَّالًا لأن النُّوق شالت بأذنابها فيه. فإن قال قائل: قد يتَّفق أن يكون شوال في وقت لا تشول الناقة بذنَبها فيه، فلِمَ بقي هذا الاسم عليه وقد ينتقل ما له لزم عنه؟ قيل له: إنما جُعل هذا الاسم له سمة حيث اتفق أن شالت النوق بأذنابها فيه، فبقي عليه كالسِّمة، وكذلك رمضان إنما سُمِّي لرمض الماء فيه وإن كان قد يتَّفق هذا الاسم في وقت البرد والحر.
ووصف أعرابي رجلًا فقال: أتيناه فأخرج لسانه كأنه مِخراق لاعب. وقال العبَّاس بن عبد المطَّلب للنبي ﷺ: يا رسول الله، فيمَ الجمال؟ قال: في اللسان. وكان مُجاشع بن دارم خطيبًا سليطًا، وكان نهشل بكيئًا منزورًا، فلما خرجَا من عند بعض الملوك عذله مُجاشع في تركه الكلام، فقال له نهشل: إني والله لا أُحسِن تَكْذابك ولا تَأثامك، تشول بلسانك شوَلان البروق.
وقالوا: علا جميعَ الخلق مرتبةً الملائكةُ ثم الإنس ثم الجن. وإنما صار لهؤلاء المزيَّة على جميع الخلق بالعقل، وبالاستطاعة على التصرُّف، وبالمنطق.
وقال خالد بن صفوان: ما الإنسان لولا اللسان إلا صورةٌ ممثَّلة، أو بهيمة مُهمَلة. وقال رجل لخالد بن صفوان: ما لي إذا رأيتكم تتذاكرون الأخبار، وتتدارسون الآثار، وتتناشدون الأشعار، وقع عليَّ النوم؟ قال: لأنك حمار في مِسلاخ إنسان.
ولما دخل ضَمْرة بن ضَمْرة على النُّعمان بن المُنذِر، زرى عليه للذي رأى من دمامته وقِصَره وقلَّته، فقال النعمان: تسمع بالمُعَيدي لا أن تراه. فقال: أبيتَ اللعن، إن الرجال لا تُكال بالقُفزان، ولا تُوزَن بالميزان، وليست بمُسوكٍ يُستقى بها، وإنما المرء بأصغَرَيه؛ بقلبه ولسانه، إن صال صال بجَنان، وإن قال قال ببَيان.
واليمانية تجعل هذا للصَّقْعب النَّهدي؛ فإن كان ذلك كذلك فقد أقرُّوا أن نهدًا من معد.
وكان يُقال: عقل المرء مدفون بلسانه.
(٣) باب في ذكر اللسان
أبو الحسن قال، قال الحسن: لسان العاقل من وراء قلبه؛ فإذا أراد الكلام تفكَّر، فإن كان له قال، وإن كان عليه سكت. وقلب الجاهل من وراء لسانه؛ فإن همَّ بالكلام تكلَّم به، له أو عليه.
وقال سعد بن أبي وقاص لعمر ابنه حين نطق مع القوم فبذَّهم، وقد كانوا كلَّموه في الرضا عنه: هذا الذي أغضبني عليه؛ أني سمعت رسول الله ﷺ يقول: «يكون قومٌ يأكلون الدنيا بألسنتهم، كما تلحس الأرضَ البقرةُ بلسانها.»
وقال معاوية لعمرو بن العاص: يا عمرو، إن أهل العراق قد أكرهوا عليًّا على أبي موسى، وأنا وأهل الشام راضون بك، وقد ضُمَّ إليك رجلٌ طويل اللسان، قصير الرأي، فأجِد الحز، وطبِّق المَفصل، ولا تَلقَه برأيك كله.
والعَجب من قول ابن الزُّبير للأعراب: سلاحكم رَث، وحديثكم غَث. وكيف يكون هذا وقد ذكروا أنه أحسن الناس حديثًا، وأن أبا نضرة وعبد الله بن أبي بكر إنما كانا يحكيانه؟ فلا أدري إلا أن يكون حسن حديثه هو الذي ألقى الحسد بينه وبين كل حسن الحديث.
قال أبو اليقظان، قال عمر بن عبد العزيز: ما كلَّمني رجل من بني أسد إلا تمنَّيت أن يُمَد له في حُجته حتى يكثُر كلامه فأسمعه.
وقال يونس: ليس في بني أسد إلا خطيب، أو شاعر، أو قائف، أو زاجر، أو كاهن، أو فارس. قال: وليس في هُذيل إلا شاعر، أو رامٍ، أو شديد العَدْو.
التَّرجُمان بن هُزَيم بن عدي بن أبي طَحمة قال: دُعِي رقبة بن مَصقلة — أو كَرِب بن رقبة — إلى مجلس ليتكلم فيه، فرأى مكان أعرابي في شَملة، فأنكر موضعه، فسأل الذي عن يمينه عنه فخبَّره أنه الذي أعدُّوه لجوابه، فنهض مُسرعًا لا يلوي على شيء كراهةَ أن يجمع بين الديباجتَين فيتَّضع عند الجميع.
وقال خلَّاد بن يزيد: لم يكُن أحدٌ بعد أبي نضرة أحسن حديثًا من مسلم بن قُتيبة. قال: وكان يزيد بن عمر بن هُبيرة يقول: احذفوا الحديث كما يحذفه مسلم بن قتيبة.
ويزعمون أنه لم يرَوا محدِّثًا قطُّ صاحب آثار كان أجود حذفًا وأحسن اختصارًا للحديث من سفيان بن عُيينة، سألوه مرةً عن قول طاوس في ذكاة الجراد، فقال ابنه عنه: ذكاته أخذه.
(٤) وبابٌ آخر
وكانوا يمدحون شِدَّة العارضة، وقوة المُنَّة، وظهور الحُجة، وثبات الجَنان، وكثرة الريق، والعُلو عن الخصم؛ ويهجون بخلاف ذلك. قال الشاعر:
طباقاء، يُقال للبعير إذا لم يُحسِن الضِّراب: جملٌ عياياء، وجمل طباقاء، وهو هنا للرجل الذي لا يتَّجه للحُجة. الحلال: الجماعات، ويُقال حيٌّ حِلال، إذا كانوا مُتجاورين مُقيمين. والعطر ها هنا: الحرس. المأقط: الموضع الضيِّق. والمأقط: الموضع الذي يُقتتل فيه.
وقال نافع بن خليفة الغنَوي:
القروم: الجمال المصاعب. الزوائر: الذين يزأرون. الهدر: صوته عند هيجه، ويُقال له الهدير.
دلفت: دنوت.
قوله: أدنِ منها، أي قلِّلها واختصِرها. وجدتها مطبقة: أي قد طبقتهم بالحجة. اليهماء: الأرض التي لا يُهتدى فيها الطريق، ويهماء ها هنا يعني التي لا يُهتدى إليها ويضل الخصوم عندها. والأيهم من الرجال: الحائر الذي لا يهتدي لشيء. وأرض يهماء: إذا لم يكن فيها علامة.
وقال الأسلع بن قِطاف الطُّهَوي:
التوءمان: الأخوان المولودان في بطن.
وقال التميمي في ذلك:
ذهب في البيت الأخير إلى قول الشاعر:
وإلى قول الآخَر:
وأُنشدَ في المعنى الأول:
المُتخمط: المُتكبر مع غضب. التيَّاح والمِتيَح: الذي يعرض في كل شيء ويدخل فيما لا يعنيه. قوله: مملَّح بملاح؛ أي مُنقبض كأنه مُلِّح من المِلح.
وأُنشدَ أيضًا:
النشاص: السحاب الأبيض المُرتفع بعضه فوق بعض، وليس بمُنبسط. والتلألؤ، ظهور البرق في سرعة. مملاة بالماء، غصاص: قد غُصَّت بالماء.
اللواقح: التي قد لقحت من الريح. والدلح: الدانية الظاهرة المثقلة بالماء. سُحم: سود. الخصاص ها هنا: خلل السحاب.
النثير: الكلام المنثور. القوافي: خواتم أبيات الشعر. الأسجاع: الكلام المزدوج على غير وزن.
وأُنشدَ لرجل من بني ناشب بن سليمان بن سلامة بن سعد بن مالك بن ثعلبة:
وأنشد للأقرع:
وأُنشدَ:
عاصبه: يابسه، يعتصم به حتى يتم كلامه. الكماة: جمع كَمِي، والكَميُّ الرجل المتكمِّي، وهو المتكمِّي بالسلاح؛ يعني المتكفِّر به المتستِّر، ويُقال: كمَّى الرجل شهادته يكمِّيها، إذا كتمها وسترها.
وقال ابن أحمر، وذكر الريق والاعتصام به:
وقال الزُّبير بن العوَّام وهو يرقِّص ابنه عُروة:
وقالت امرأة من بني أسد:
تناءى: تبعد. الثوية: موضع يُقال له صحراء الثوية، ومن قال الثُّوية فهي تصغير الثَّوية.
وقال أوس بن حَجرٍ في فَضالة بن كَلَدة:
هدمين: ثوبين خلَقين، يُقال ثوبٌ أهدام، إذا كان خلَقًا. والطملال: الفقير.
وقال أيضًا في فضالة بن كلدة:
ورقبته: انتظاره إذن الملوك. وجعله بين السرادق والحاجب ليدل على مكانته من الملك.
وأُنشدَ أيضًا:
إبط الشمال: يعني الفؤاد؛ لأنه يكون في تلك الناحية.
وقال شُتَيم بن خُوَيلد:
تأسو: تُداوي، أسوًا وأسًى مصدران، والآسي الطبيب. ومؤيد: داهية. خنفقيق: داهية أيضًا. الشأو: الغَلوة لركض الفَرس.
وأُنشدَ لآدم مولى بَلعَنبر، يقولها لابن له:
الوصب: المرض. والعصب: الشديد، يُقال: يوم عَصِب وعصيب وعصبصب، إذا كان شديدًا. مباهير: متاعيب قد علاهم البُهر. الأرب، يُقال: رجل أريب وأرِب وله أرَب، إذا كان عاقلًا أديبًا حازمًا. أظلعته، يُقال: ظلع الرجل إذا خمع في مشيه. الرتبة: واحدة الرتب والرتبات، وهي الدَّرج، وهي ها هنا الأشياء المختلفة؛ أي تُخرجه من شيء إلى شيء. الأشوس: الذي ينظر بمؤخر عينه، ملحاح: مُلح، من الإلحاح على الشيء. كلب: أي الذي قد كلَب. مذب: أي يذبُّ عن حريمه وعن نفسه.
وقالت ابنة وثيمة ترثي أباها وثيمة بن عثمان:
التلاد: القديم من المال. والطارف: المستفاد. والمدره: لسان القوم المتكلم عنهم. مجلحة: أي داهية مُصممة. احمر آفاق السماء: اشتد البرد وقل المطر وكثُر القحط. ديمة: واحدة الدِّيَم، وهي الأمطار الدائمة مع سكون. تعذَّر: تمنَّع. الآكال: جمع أُكْل، وهو ما يؤكل. الهشيمة: ما يُهشَّم من الشجر، أي يُكسر. الثلة: ما بين الست إلى العشر من الغنم. مسيمة: راعية.
وكانت العرب تعظِّم شأن لقمان بن عاد الأكبر والأصغر، ولُقَيْم بن لُقمان في النباهة والقدر، وفي العلم والحكم، وفي اللسان وفي الحِلم. وهذان غير لقمان الحكيم المذكور في القرآن على ما يقول المفسِّرون. ولارتفاع قدره وعِظم شأنه قال النمر بن تولب:
وذلك أن أخت لقمان قالت لامرأة لقمان: إني امرأةٌ مُحمِقة، ولقمان رجلٌ مُنجِب مُحكِم، وأنا في ليلة طُهري، فهَبي لي ليلتك. ففعلت، فباتت في بيت امرأة لقمان، فوقع عليها فأحبلها بلقيم؛ فلذلك قال النمر بن تولب ما قال. والمرأة إذا ولدت الحمقى فهي مُحمِقة، ولا يُعلَم ذلك حتى يُرى ولد زوجها من غيرها أكياسًا.
وقالت امرأةٌ ذات بنات:
وقال الآخَر:
ضاوية الأعراق: أي ضعيفة الأعراق نحيفتها، يُقال: رجل ضاوٍ وفيه ضاوية، إذا كان نحيفًا قليل الجسم، وجاء في الحديث: «اغترِبوا لا تضووا.» أي لا يتزوج الرجل القرابة القريبة فيجيء ولده ضاويًا، والفعل منه ضوِي يَضوى ضوًى. والأعراق: الأصول، والمحماق: التي عادتها أن تلد الحمقى.
ولبغضهم في البنات قالت إحدى القوابل:
وقال آخَر في إنجاب الأمَّهات، وهو يُخاطب بني إخوته:
ولبغض البنات هجر أبو حمزة الضبِّي خيمة امرأته، وكان يقيل ويبيت عند جيران له، حين ولدت امرأته بنتًا، فمرَّ يومًا بخبائها وإذا هي ترقِّصها وتقول:
فغدا الشيخ حتى ولج البيت، فقبَّل رأس امرأته وابنتها.
وهذا الباب يقع في كتاب الإنسان من كتاب «الحيوان»، وفي فضل ما بين الذكر والأنثى تامًّا، وليس هذا الباب مما يدخل في باب البيان والتبيين، ولكن قد يجري السبب فيُجرى معه بقدر ما يكون تنشيطًا لقارئ الكتاب؛ لأن خروجه من الباب إذا طال لبعض العلم كان ذلك أروح على قلبه وأزيَد في نشاطه إن شاء الله.
وقد قال الأول في تعظيم شأن لقيم بن لقمان:
اصبحيني: الصَّبوح شرب الغداة. والغبوق: شرب العشي. الرمس: القبر، يُقال: رمست الميت أرمِسه وأرمُسه إذا دفنته.
وقد ذكرت العرب هذه الأمم البائدة، والقرون السالفة، ولبعضهم بقايا قليلة، وهم أشلاء في العرب مُتفرقون مغمورون، مثل: جُرْهم، وجاسم، ووبار، وعملاق، وأميم، وطَسم، وجديس، ولقمان، والهس ماس، وبني الناصور، وقَيل بن عتر، وذي جدَن. ويُقال في بني الناصور إن أصلهم من الروم.
فأما ثمود فقد خبَّر الله عز وجل عنهم فقال: وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى. وقال: فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ. أنا أعجب من مسلم يصدِّق بالقرآن ويزعم أن في قبائل العرب من بقايا ثمود. وكان أبو عُبيدة يتأوَّل قوله: وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى، أن ذلك إنما وقع على الأكثر وعلى الجمهور الأكبر. وهذا التأويل أخرجه من أبي عُبيدة سوء الرأي في القوم، وليس له أن يجيء إلى خبرٍ عام مُرسَل غير مقيَّد، وخبر مُطلَق غير مستثنًى منه، فيجعله خاصًّا كالمستثنى منه. وأي شيء بقي لطاعن أو مُتأول بعد قوله: فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ؟ فكيف يقول ذلك إذا كنا نحن قد نرى منهم في كل حي باقية؟ معاذ الله من ذلك. وروَوا أن الحجَّاج قال يومًا على المِنبر: يزعمون أنَّا من بقايا ثمود، وقد قال الله تبارك وتعالى: وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى.
فأما الأمم البائدة من العجم، مثل كَنْعان ويونان وأشباه ذلك، فكثير، ولكن العجم ليست لها عناية بحفظ شأن الأموات ولا الأحياء!
وقال لبيد بن ربيعة الجعفري:
السَّحَر: الرئة، والمسحر المُعلل بالطعام والشراب، والمسحر المخدوع، كما قال امرؤ القيس:
أي نُعلَّل؛ فكأنا نُخدَع ونُسحَر بالطعام وبالشراب.
وقال الفرزدق:
وقال آخَر:
وقال أُفنون التغلبي:
وقال آخَر:
قال: وهم وإن كانوا يُحبون البيان والطلاقة، والتحبير والبلاغة، والتخلُّص والرشاقة، فإنهم كانوا يكرهون السلاطة والهَذَر والتكلف والإسهاب والإكثار؛ لما في ذلك من التزيُّد والمُباهاة، واتباع الهوى، والمنافسة في العُلو والقدر. وكانوا يكرهون الفضول في البلاغة؛ لأن ذلك يدعو إلى السلاطة، والسلاطة تدعو إلى البذاء، وكل مِراءٍ في الأرض فإنما هو من نتاج الفضول. ومن حصَّل كلامه وميَّزه، وحاسَب نفسه، وخاف الإثم والذم، أشفق من الضراوة وسوء العادة، وخاف ثمرة العُجب وهُجنة القُبح، وما في حب السُّمعة من الفتنة، وما في الرياء من مجانبة الإخلاص.
ولقد دعا عُبادة بن الصامت بالطعام بكلامٍ ظُن أنه ترك فيه المحاسبة، فقال أوس بن شدَّاد: إنه قد ترك فيه المحاسبة. فاسترجع ثم قال: ما تكلَّمت بكلمة منذ بايعت رسول الله ﷺ إلا مزمومةً مخطومة. قال، وروَوا عن حمَّاد بن سلَمة، عن أبي حمزة، عن إبراهيم قال: إنما يَهلِك الناس في فضول الكلام، وفضول المال. وقال: دَعِ المَعاذر؛ فإن أكثرها مَفاجر. وإنما صارت المعاذر كذلك لأنها داعية إلى التخلص بكل شيء. وقال سلَّام بن أبي مُطيع، قال لي أيوب: إيَّاك وحِفظَ الحديث. خوفًا عليه من العُجب. وقال إبراهيم النخعي: دع الاعتذار؛ فإنه يُخالط الكذب.
وزعم إبراهيم بن السندي، قال أخبرني من سمع عيسى بن علي يقول: فضول النظر من فضول الخواطر، وفضول النظر تدعو إلى فضول القول، وفضول القول يدعو إلى فضول العمل، ومن تعوَّد فضول الكلام ثم تَدارك استصلاح لسانه خرج من استكراه القول، وإن أبطأ أخرجه إبطاؤه إلى أقبح من الفضول.
قال أبو عمرو بن العلاء: أنْكحَ ضِرار بن عمرو الضبِّي ابنته مَعبدَ بن زُرارة، فلما أخرجها إليه قال لها: يا بُنيَّة، أمسِكي عليك الفضلَين. قالت: وما الفضلان؟ قال: فضل الغُلمة، وفضل الكلام.
وضِرار بن عمرو هو الذي قال: من سرَّه بَنُوه ساءته نفسه. وهو الذي لما قال له المُنذر: كيف تخلَّصت يوم كذا وكذا، وما الذي نجَّاك؟ قال: تأخير الأجل، وإكراهي نفسي على المُقِّ الطِّوال.
المقَّاء: المرأة الطويلة. والمُق: جماعة النساء الطوال. والمُق أيضًا: الخيل الطوال.
وكان إخوته قد استشالوه حتى ركب فرسه ورفع عقيرته بعُكاظ، فقال: ألا إن خير حائل أمٌّ، ألا فزوِّجوا الأمَّهات. وذلك أنه صُرِع بين القنا فانشل عليه إخوته لأمِّه حتى أنقذوه.
وكانت زوجته غزالة من الشجاعة والفروسية بالموضع العظيم، فكانت تُباشر الحروب بنفسها، وتخوض المعامع بسيفها، وتصرع الأبطال بقوة جنانها، وهي التي لما أحجم الحجَّاج في إحدى المواقع عن مبارزتها عيَّره بعض الشعراء بقوله:
وهو رأس فِرقة من فِرَق المعتزلة تُنسب إليه يُقال لها «البشرية»، لها آراء ومسائل أخذتها عنه وانفردت بها عن سائر الفِرق. ولبشر أشعارٌ كثيرة يحتجُّ فيها على أصحاب المقالات. قال الجاحظ إنه لم يرَ أحدًا أقوى على المخمَّس والمزدوَج مما قَويَ عليه بِشر، وإنه كان في ذلك أكثر وأقدر من أبان اللاحقي. ومن شِعره:
فوجم الجاحظ ساعةً ثم قال: لو سقط إليَّ هذا الخبر أولًا لمَا قلت ما تقدَّم. فقلت له: فأصلِحْه. فقال: الآن وقد سار به الكُتاب في الآفاق؟