باب الصمت
كان أعرابي يُجالس الشَّعبي يُطيل الصمت، فسُئل عن طول صمته، فقال: أسمع فأعلم، وأسكت فأسلم. وقالوا: لو كان الكلام من فِضة لكان السكوت من ذهب. وقالوا: مَقتل المرء بين لَحيَيه وفكَّيه. وأخذ أبو بكر الصدِّيق، رضي الله عنه، بطرف لسانه وقال: هذا الذي أوردني الموارد. وقالوا: ليس شيءٌ أحقَّ بطول سجن من لسان. وقالوا: اللسان سبُعٌ عَقور.
وقال النبي ﷺ: «وهل يكبُّ الناسَ على مناخرهم في نار جهنم إلا حصائدُ ألسنتهم.»
وقال ابن الأعرابي عن بعض أشياخه: تكلَّم رجل عند النبي ﷺ فخطل في كلامه، فقال النبي ﷺ: «ما أُعطيَ العبد شرًّا من طلاقة اللسان.»
وقال خالد بن عبد الله القَسْري لعمر بن عبد العزيز رحمه الله: من كانت الخلافة زانَته فقد زِنتَها، ومن شرَّفَته فقد شرَّفتَها؛ فأنت كما قال الشاعر:
فقال عمر: إن صاحبكم أُعطيَ مَقولًا، ولم يُعطَ معقولًا. وقال الشاعر:
وأخبرنا بإسناد له أن ناسًا قالوا لابن عمر: ادعُ الله لنا بدعوات. فقال: اللهم ارحمنا وعافِنا وارزقنا. فقالوا: لو زِدتنا يا أبا عبد الرحمن. قال: نعوذ بالله من الإسهاب.
وقال أبو الأسود الدؤلي في ذكر الإسهاب، يقولها في الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة بن المغيرة، والحارث هو القُباع، وكان خطيبًا من وجوه قريش ورجالهم، وإنما سُمِّي القُباع لأنه أتي بمكتل لأهل المدينة، فقال: إن هذا المكتل لَقُباع. فسُمِّي به، والقُباع: الواسع الرأس القصير. وقال الفرزدق لجرير:
قال أبو الأسود:
وقال الشاعر:
وقال أبو العتاهية:
الوازع: الناهي. والوزَعة: جمع وازع، وهم الناهون والكافُّون.
وقال الأفوه الأودي:
وأنشد:
قالوا: وكان الأحنف أشد الناس سلطانًا على نفسه، وكان الحسن أترك لما نُهي عنه. وقال الآخر:
وقال الكُميت بن زيد الأسدي:
وأنشدني الأحوص بن محمد:
تخاصرني: آخذ بيدها وتأخذ بيدي. والقُنة: المواضع الغليظة من الأرض في صلابة. الخود: الحسنة الخلق. تأطر: تتثنى. والغادة: الناعمة اللينة.
وقال جرير في فوت الرأي:
ومدح النابغة ناسًا بخلاف هذه الصفة، فقال:
اللازب واللازم واحد، واللازب في مكانٍ آخر: اليابس، قال الله عز وجل: مِنْ طِينٍ لَازِبٍ. واللزبات: السِّنون الجَدبة.
وأنشد:
وقال قائل عند يزيد بن عمر بن هُبيرة: والله ما أتى الحارث بن شريح بيوم خير قط. فقال له التَّرجمان بن هُزيم: إلا يكُن أتى بيوم خير فقد أتى بيوم شر. وذهب الترجمان بن هزيم إلى مِثل معنى قول الشاعر:
ومن هذا الجنس من الأحاديث — وهو يدخل في باب المُلَح — قال الأصمعي: وصلت بالعلم، ونِلت بالمُلَح. قال رجلٌ مرةً: أبي الذي قاد الجيوش، وفتح الفتوح، وخرج على الملوك، واغتصب المنابر. فقال له رجل من القوم: لا جَرم، لقد أُسِر وقُتِل وصُلِب. فقال له المفتخِر بأبيه: دعني من أسْر أبي وقتله وصلبه، أبوك أنت حدَّث نفسه بشيء من هذا قط؟
قد سمعنا رواية القوم واحتجاجهم، وأنا أوصيك ألا تدع التماس البيان والتبيين إن ظننت أن لك فيهما طبيعة، وأنهما يُناسبانك بعض المناسبة، ويُشاكِلانك في بعض المشاكلة. ولا تُهمِل طبيعتك فيستوليَ الإهمال على قوة القريحة، ويستبدَّ بها سوء العادة. وإن كنت ذا بيان، وأحسست من نفسك بالنفوذ في الخطابة والبلاغة، وبقوة المُنة يوم الحفل، فلا تُقصِّر في التماس أعلاها سورة، وأرفعها في البيان منزلة، ولا يقطعنَّك تهييبُ الجُهلاء، وتخويف الجُبناء، ولا تصرفنَّك الروايات المعدولة عن وجوهها، والأحاديث المتناولة على أقبح مخارجها.
فأما ما ذكرتم من الإسهاب والتكلُّف، والخطل والتزيُّد، فإنما يخرج إلى الإسهاب المتكلَّف، وإلى الخطل المتزيَّد، فأما أرباب الكلام، ورؤساء أهل البيان، والمطبوعون المُعاوِدون، وأصحاب التحصيل والمحاسبة، والتوقِّي والشفقة، والذين يتكلمون في صلاح ذات البَين، وفي إطفاء نائرة، أو في حمالة، أو على مِنبر جماعة، أو في عقد إملاك بين مسلم ومسلمة، فكيف يكون كلام هؤلاء يدعو إلى السلاطة والمراء، وإلى الهذر والبذاء، وإلى النفج والرياء؟ ولو كان هذا كما يقولون لكان علي بن أبي طالب وعبد الله بن عبَّاس، رضي الله عنهم، أكثر الناس فيما ذكرتم، فلِمَ خطب صَعصَعة بن صُوحان عند علي بن أبي طالب، وقد كان ينبغي للحسن البصري أن يكون أحق التابعين بما ذكرتم؟
قال الأصمعي: قيل لسعيد بن المُسيب: ها هنا قومٌ نُسَّاك يعيبون إنشاد الشعر. قال: نسَكوا نُسكًا أعجميًّا.
وزعمتم أن رسول الله ﷺ قال: «شُعبتانِ من شُعَب النفاق؛ البذاء والبيان، وشُعبتانِ من شُعَب الإيمان؛ الحياء والعِي.»
ونحن نعوذ بالله من العي، ونعوذ بالله أن يكون القرآن يحثُّ على البيان ورسولُ الله ﷺ يحثُّ على العي، ونعوذ بالله أن يجمع رسول الله ﷺ بين البذاء والبيان، وإنما وقع النهي على كل شيء جاوَز المقدار، ووقع اسم العي على كل شيء قصر عن المقدار؛ فالعيُّ مذموم، والخطل مذموم، ودين الله تبارك وتعالى بين المقصِّر والغالي.
وها هنا رواياتٌ كثيرة مدخولة، وأحاديث معلولة. وروَوا أن رجلًا مدح الحياء عند الأحنف، وأن الأحنف قال: بمَ يعود ذلك ضعفًا والخيرُ لا يكون سببًا للشر؟ ولكنا نقول: إن الحياء اسم لمقدار من المقادير، ما زاد على ذلك المقدار فسمِّه ما أحببت. وكذلك الجود اسم لمقدار من المقادير؛ فالسَّرَف اسم لما فضَل عن ذلك المقدار. وللحزم مقدار؛ فالجبن اسم لما فضل عن ذلك المقدار. وللاقتصاد مقدار؛ فالبخل اسم لما خرج عن ذلك المقدار. وللشجاعة مقدار، فالتهوُّر والخَور اسم لما جاوَز ذلك المقدار.
وهذه الأحاديث ليست لعامتها أسانيد متَّصلة، فإن وجدتها متَّصلة لم تجدها محمودة، وأكثرها جاءت مطلقة ليس لها حاملٌ محمود ولا مذموم؛ فإذا كانت الكلمة حسنةً استمتعنا بها على قدر ما فيها من الحسن.
فإن أردت أن تتكلف هذه الصناعة، وتُنسَب إلى هذا الأدب، فقرضت قصيدة، أو حبرت خطبة، أو ألَّفت رسالة؛ فإيَّاك أن تدعوَك ثقتك بنفسك، ويدعوَك عُجبُك بثمرة عقلك، إلى أن تنتحله وتدَّعيه، ولكن اعرضْه على العلماء في عرض رسائل أو أشعار أو خطب؛ فإن رأيت الأسماع تُصغي له، والعيون تحدج إليه، ورأيت من يطلبه ويستحسنه، فانتحِلْه؛ فإن كان ذلك في ابتداء أمرك، وفي أول تكلُّفك، فلم ترَ له طالبًا ولا مُستحسِنًا، فلعله أن يكون — ما دام ريِّضًا قضيبًا — تعنيسًا أن يحلَّ عندهم محل المتروك؛ فإن عاودت أمثال ذلك مرارًا، فوجدت الأسماع عنه منصرفة، والقلوب لاهية، فخُذ في غير هذه الصناعة، واجعل رائدك الذي لا يكذبك حِرصَهم عليه أو زهدهم فيه. وقال الشاعر:
وفي المثل المضروب: «كل مُجرٍ في الخلا مُسَرٌّ.» ولم يقولوا مسرور، وكلٌّ صواب.
فلا تثق في كلامك برأي نفسك؛ فإني ربما رأيت الرجل مُتماسكًا وفوق المُتماسك، حتى إذا صار إلى رأيه في شعره، وفي كلامه، وفي ابنه، رأيته مُتهافتًا وفوق المُتهافت.
وكان زُهير بن أبي سُلمى، وهو أحد الثلاثة المُتقدمين، يُسمِّي كبار قصائده «الحَوليَّات». وقال نوح بن جرير، قال الحُطيئة: خير الشعر الحَوليُّ المنقَّح. وقال البعيث الشاعر، وكان أخطب الناس: إني والله ما أُرسلُ الكلام قضيبًا خشيبًا، وما أريد أن أخطب يوم الحفل إلا بالبائت المحكَّك.
وكنت أظن أن قولهم «محكَّك» كلمةٌ مولَّدة، حتى سمعت قول الصعب بن علي الكناني:
يريد بقوله: قِران، التشابه والموافقة.
وقد روَوا ذلك في زُهير وابنه كعب.
وقيل لعقيل بن عُلَّفة: لِمَ لا تُطيل الهجاء؟ قال: يكفيك من القلادة ما أحاط بالعنق. وقيل لأبي المهوس: لِمَ لا تُطيل الهجاء؟ قال: لم أجد المثل النادر إلا بيتًا واحدًا، ولم أجد الشعر السائر إلا بيتًا واحدًا. وقال مَسلمة بن عبد الملك لنُصَيب: يا أبا الحجناء، أمَا تُحسِن الهجاء؟ قال: أمَا تراني أحسن مكان «عافاك الله» «لا عافاك الله»؟ ولاموا الكُميت بن زيد على الإطالة، فقال: أنا على القِصار أقدر. وقيل للعجَّاج: ما لك لا تُحسِن الهجاء؟ قال: هل في الأرض صانع إلا وهو على الإفساد أقدر؟ وقال رؤبة: الهدم أسرع من البناء.
وهذه الحُجج التي ذكروها عن نُصيب والكُميت والعجَّاج ورؤبة، إنما ذكروها على وجه الاحتجاج لهم، وهذا منهم جهل إن كانت هذه الأخبار صادقة. وقد يكون الرجل له طبيعة في الحساب وليس له طبيعة في الكلام؛ ويكون له طبيعة في التجارة وليست له طبيعة في الفِلاحة، ويكون له طبيعة في الحُداء أو في التعبير أو في القراءة بالألحان وليس له طبيعة في الغناء، وإن كانت هذه الأنواع كلها ترجع إلى تأليف اللحون، ويكون له طبيعة في الناي وليس له طبيعة في السرناي، ويكون له طبيعة في قصبة الراعي ولا يكون له طبيعة في القصبتَين المضمومتين، ويكون له طبع في صناعة اللحون ولا يكون له طبع في غيرها، ويكون له طبع في تأليف الرسائل والخطب والأسجاع ولا يكون له طبع في قرض بيت شعر، ومِثل هذا كثير جدًّا.
وكان عبد الحميد الأكبر وابن المقفع، مع بلاغة أقلامهما وألسنتهما، لا يستطيعان من الشعر إلا ما لا يُذكَر مِثله. وقيل لابن المقفع في ذلك، فقال: الذي أرضاه لا يجيئني، والذي يجيئني لا أرضاه. وهذا الفرزدق وكان مُشتهرًا بالنساء، وكان زير غوانٍ، وهو في ذلك ليس له بيتٌ واحد في النسيب مذكور، ومع حسده لجرير، وجرير عفيف لم يعشق امرأةً قط، وهو مع ذلك أغزل الناس شعرًا. وفي الشعراء من لا يستطيع مجاوزة القصيد إلى الرجز، ومنهم من لا يستطيع مجاوزة الرجز إلى القصيد، ومنهم من يجمعهما كجرير وعمر بن لجأ، وأبي النجم، وحُميد الأرقط، والعماني. وليس الفرزدق في طواله بأشعر منه في قصاره. وفي الشعراء من يخطب، وفيهم من لا يستطيع الخطابة، وكذلك حال الخطباء في قرض الشعر، وشاعرٌ نفسه قد تختلف حالاته. وقال الفرزدق: أنا عند الناس أشعر الناس، وربما مرَّت عليَّ ساعة ونزعُ ضِرسي أهوَنُ عليَّ من أن أقول بيتًا واحدًا. وقال العجَّاج: لقد قلت أرجوزتي التي أولها:
وأنا بالرمل، فانثالت عليَّ قوافيها انثيالًا، وإني لأريد اليوم دونها في الأيام الكثيرة فما أقدر عليه. وقال لي أبو يعقوب الخزيمي: خرجت من منزلي أريد الشمَّاسية، فابتدأت القول في مرثية لأبي التَّختاخ، فرجعت والله وما أمكنني بيتٌ واحد. وقال الشاعر:
(١) باب من القول في القوافي الظاهرة واللفظ الموجز من ملتقطات كلام النُّساك
قال بعض الناس: من التوقِّي تركُ الإفراط في التوقِّي. وقال بعضهم: إذا لم يكُن ما تريد فأرِدْ ما يكون.
وقال الشاعر:
وقيل لأعرابي في شَكاته: كيف تجدك؟ قال: أجد ما لا أشتهي، وأشتهي ما لا أجد، وأنا في زمان من جاد لم يَجِد، ومن وجد لم يَجُد. وقال بعض النُّسَّاك: أنا لِما لا أرجو أرجى مني لِما أرجو. وقال بعضهم: أعجبُ من العَجب، تركُ التعجُّب من العَجب. وقال عمر بن عبد العزيز، رحمه الله، لعبد بني مخزوم: إني أخاف الله فيما تقلَّدت. قال: لست أخاف عليك أن تخاف، وإنما أخاف عليك ألا تخاف. وقال الأحنف لمعاوية: أخافك إن صدَقتك، وأخاف الله إن كذَبتك. وقال رجل من النساك لصاحب له وهو يجود بنفسه: أما ذنوبي فإني أرجو لها مغفرة الله، ولكني أخاف على بناتي الضيعة. فقال له صاحبه: فالذي ترجوه لمغفرة ذنوبك فارجُه لحفظ بناتك. وقال رجل من النساك لصاحب له: ما لي أراك حزينًا؟ قال: كان عندي يتيمٌ أربِّيه لأوجَر فيه، فمات فانقطع عنا أجره؛ إذ بطل قيامنا بمؤنته. فقال له صاحبه: فاجتلِبْ يتيمًا آخر يقوم لك مقام الأول. قال: أخاف ألا أصيب يتيمًا في سوء خُلُقه. قال له صاحبه: أما أنا فلو كنت في موضعك منه لما ذكرت سوء خُلُقه. وقال آخر، وسمعه أبو هريرة النحوي وهو يقول: ما يمنعني من تعلُّم القرآن إلا أني أخاف أن أضيعه. قال: أما أنت فقد عجَّلت له التضييع، ولعلك إذا تعلَّمته لم تُضيعه. وقال عمر بن عبد العزيز لرجل: من سيِّد قومك؟ قال: أنا. قال: لو كنت كذلك لم تقُل.
(٢) باب آخَر
وقالوا في حسن البيان، وفي التخلُّص من الخصم بالحق والباطل، وفي تخليص الحق من الباطل، وفي الإقرار بالحق، وفي ترك الفخر بالباطل:
قال أعرابي وذكر حِماس بن ثامل:
وقال العُجير السَّلولي:
الشول: جمع شائلة، وهي الناقة التي قد جفَّ لبنها، وإذا شالت بذنَبها بعد اللقاح فهي شائل، وجمعها شُول.
المرادي: المصادع والمقارع، يُقال: رديت الحجر بصخرة أو بمِعول، إذا ضربته بها لتكسره. والمرادة: الصخرة التي تُكسر بها الحجارة.
وقال ابن رُبْع الهُذلي:
وقال بعض اليهود، وهو الربيع بن أبي الحُقيق من بني النضير، وبعثه رسول الله ﷺ إلى خيبر فقتلوه:
وقال الآخر، وذكر حِماسًا أيضًا:
ليرحض: أي ليغسل، والراحض: الغاسل، والمرحاض: الموضع الذي يُغسل فيه.
الجرار: عود يعرض في فم الفصيل أو يُشَق به لسانه لئلا يرضع. فيقول: قومي لم يطعنوا بالرماح فأُثني عليهم، ولكنهم فرُّوا فأمسكت كالمُجَر الذي في فمه جِرار.
وقال أبو عُبيدة: صاح رؤبة في بعض الحروب التي كانت بين تميم والأزد: يا معشر بني تميم، أطلقوا من لساني! قال: أبصر رجلًا منهم قد طعن فارسًا طعنةً فصاح: لا عيًّا ولا شللًا. والعرب تقول: عيٌّ أبأسُ من شلل. كأن العيَّ فوق كل زمانة. وقالت الجهضمية:
الحُلاحل: السيد. شريجان: جنسان، ويقال: الناس شَرجان وشريجان؛ أي فرقتان، ومنه حديث النبي ﷺ أنه لما بلغ الكديد أمر الناس بالفطر، فأصبح الناس شرجَين؛ أي بعضهم صائمًا وبعضهم مُفطرًا.
وأنشد أبو عُبيدة في الخطيب يطول كلامه، ويكون ذكورًا لأول خطبته وللذي بنى عليه أمره، وإن شغب شاغب فقطع عليه كلامه، أو حدث عند ذلك حدث يحتاج فيه إلى تدبيرٍ آخر، وصل الثاني من كلامه بالأول حتى لا يكون أحد كلامَيه أجود من الآخر:
وقال نُصيب:
وقال الآخر:
وقال الآخر:
وقال الآخر:
وقالت أخت يزيد بن الطَّثرية:
يصير هذا الشعر وما أشبهه مما وقع في هذا الباب إلى الشعر الذي في أول الفصل.
(٣) باب شعر وغير ذلك من الكلام مما يدخل في باب الخطب
قال الشاعر:
وقال الآخر:
وأنشد الآخر:
وقد يكون رديء العقل جيِّد اللسان.
وكان أبو العباس الأعمى يقول:
يقول إنه يَتِيه عن قوله ويأباه ويهجره، ويقول الحق على منبره بلسانه وسائرُه كافر.
وقال قيس بن عاصم المِنقري يذكُر ما في بني مِنقر من الخطابة:
ومن هذا الباب، وليس منه في الجملة، قول الآخر:
وقال نُصيب:
وقال آخر:
فهذا هو معنى قول العتابي: البلاغة إظهار ما غمض من الحق، وتصوير الباطل في صورة الحق. وقال الشاعر، وهو كما قال:
وموضع الصحيفة من هذا البيت موضع ذكر العنوان في شعره الذي رثى به عثمان بن عفان، رضي الله تعالى عنه، يقول:
وأنشد أيضًا:
وقال كِسرى أنوشِروان لبُزُرجمِهر: أي الأشياء خير للمرء العيي؟ قال: عقلٌ يعيش به. قال: فإن لم يكن له عقل؟ قال: فإخوانٌ يسترون عليه. قال: فإن لم يكن له إخوان؟ قال: فمالٌ يتحبَّب به إلى الناس. قال: فإن لم يكن له مال؟ قال: فعيٌّ صامت. قال: فإن لم يكن ذلك؟ قال: فموتٌ مُريح.
وقال موسي بن يحيى بن خالد، قال أبو علي: رسائل المرء في كُتُبه أدَلُّ على مقدار عقله، وأصدق شاهد على غيبه لك، ومعناه فيك، من أضعاف ذلك على المشافهة والمواجهة.
(٤) وباب آخر
ووصفوا كلامهم في أشعارهم فجعلوه كبُرود العَصْب، وكالحُلل والمعاطف، والديباج والوَشي، وأشباه ذلك.
وأنشدني أبو الجماهر جُندب بن مُدرك الهلالي:
وأنشدني لابن ميَّادة:
وأنشدني:
وقال أبو قردودة يرثي ابن عمَّار قتيل النُّعمان، ووصف كلامه، وقد كان نهاه عن مُنادَمته:
وقال الشاعر في مديح أحمد بن أبي دؤاد:
ومما يُضم إلى هذا وليس منه بعينه، قول جميل بن مَعمر:
نمت: شبت. الروابي من معد: البيوت الشريفة، وأصل الرابية والرباوة ما ارتفع من الأرض. وأفلجت: ظهرت وقهرت. الخفرات: الحييَّات.
الأناة: المرأة التي فيها فتور عند القيام. وقوله على نيرين: وصفها بالقوة، كالثوب الذي يُنسج على نيرين، وهو الثوب الذي له سديان، كالديباج وما أشبهه. أضحى لداتها، اللدة: القرينة في المولد والمنشأ. فيقول: إن أقرانها قد بلين، وهي جديد لحسن غذائها ودوام نعمتها.
ومن هذا الشكل وليس منه بعينه قول الشاعر:
المحال: محال الظهر، وهي فِقاره، واحدها محالة.
وقال أبو يعقوب الخزيمي الأعور: أول شعر قلتُه هذان البيتان:
وقال آخر، وهو أبو الأسود الدؤلي:
وقال ابن هرمة:
وفي غير هذا الباب وهو قريب منه قول ذي الرُّمَّة:
الرعابل: القطع، وشواء مرعبَل أي مقطَّع، ورعبلت الشيء أي قطَّعته. ويُقال: ثوبٌ سَملٌ وأسمال، وأسمل الثوب وسمَل، إذا أخلق.
وهو الذي يقول:
الحور: شدة بياض العين. والدعج: شدة سواد الحدقة. والنعج: اللين. قالوا: لأن المرأة الرقيقة اللون يكون بياضها بالغداة يضرب إلى الحُمرة، وبالعشي يضرب إلى الصفرة؛ ولذلك قال الأعشى:
وقال آخر:
وقال بشَّار بن بُرد:
وهذان أعميان قد اهتديا من حقائق هذا الأمر إلى ما لا يبلغه تمييز البصير، ولبشار خاصةً في هذا الباب ما ليس لأحد، ولولا أنه في «كتاب الرجل والمرأة» وفي «باب القول في الإنسان» في «كتاب الحيوان» أليَقُ وأذكى لذكَرناه في هذا الموضع. ومما ذكروا فيه الوزن قوله:
وقال ابن الزُّبير الأسدي:
(٥) باب آخر
ويذكُرون الكلام الموزون ويمدحون به، ويفضِّلون إصابة المقادير، ويذمُّون الخروج من التبويل. قال جعفر بن سليمان: ليس يطيب الطعام بكثرة الإنفاق وجودة التوابل، وإنما الشأن في إصابة القدر. وقال الشاعر، وهو عارق بن أُثال الطائي:
وأنشد بعض الشعراء:
الجناجن: عظام الصدر.
وقال طرَفة في المقدار وإصابته:
طلب الغيث على قدر الحاجة؛ لأن الفاضل ضار. وقال النبي ﷺ في دعائه: «اللهم اسقِنا سقيًا نافعًا.» لأن المطر ربما جاء في غير إبَّان الزراعات، وربما جاء والتمرُ في الجُرن، والطعام في البيادر، وربما كان في الكثرة مُجاوزًا لمقدار الحاجة. وقال النبي ﷺ: «اللهم حوالَينا ولا علينا.» وقال بعض الشعراء لصاحبه: أنا أشعر منك. قال: ولمَ؟ قال: لأني أقول البيت وأخاه، وتقول البيت وابن عمه. وعاب رؤبة شعر ابنه عُقبة، فقال: ليس له قِران. وجعل البيت أخا البيت إذا أشبهه وكان حقه أن يوضع إلى جنبه؛ وعلى ذلك التأويل قال الأعشى:
قال الله عز وجل: وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا.
وقال عمرو بن معد يكرب:
وقالوا فيما هو أبعد معنًى وأقل لفظًا، قال الهُذلي:
يعني بأبي عجل: الثور.
النجم: واحد وجمع، والنجم: الثريا في كلام العرب. مدجنة: أي سحابة دائمة.
وقال أبو النجم فيما هو أبعد من هذا، ووصف العَير والمعيور؛ الموضع الذي يكون فيه الأعيار:
فهذا مما يدل على توسُّعهم في الكلام، وحمل بعضه على بعض، واشتقاق بعضه من بعض. وقال النبي ﷺ: «نِعمَت العمَّة لكم النخلة.» كأن بينها وبين الإنسان تشابُه وتشاكل من وجوه، وقد ذكرنا ذلك في «كتاب الزرع والنخل». وفي مِثل ذلك قال بعض الفصحاء:
لأن الحبارى، وإن كانت أعظم بدنًا من الكروان، فإن اللون وعمود الصورة واحد؛ فلذلك جعلها خالته، ورأى أن ذلك قرابةٌ تستحقُّ بها هذا القول.
(٦) باب آخر من الشعر
قال كعب الأشقري:
وقال ثابت قُطنة:
وقالت ليلى الأخْيليَّة:
وقال الآخر:
وهؤلاء يفخرون بخطبهم التي عليها يعتمدون بالسيوف والرماح، وإن كانوا خُطباء.
وقال دُرَيد بن الصِّمَّة:
المقانب: جمع مِقنب، والمقنب: الجماعة من الخيل ليست بالكثيرة. الأشاجع: عروق ظاهر الكف، وهي مغرز الأصابع. اللمة: الشعيرة التي ألمَّت بالمنكب. زعيم القوم: رأسهم وسيدهم الذي يتكلم عنهم. والزعامة: مصدر الزعيم الذي يسود قومه. وقوله: معصوب بلمته؛ أي يعصب برأسه كل أمر. عرنينه: أنفه.
وقال أبو العبَّاس الأعمى مولى بني بكر بن عبد مناف في بني عبد شمس:
وقال العجَّاج:
المحصنة: ذات الزوج، والحاصن: العفيفة. والوقس: الجرب.
وقال امرؤ القيس بن حجر:
وقال أبو العبَّاس الأعمى:
وقال آخر:
وقال آخر في الزلل:
وقال آخر:
وقال ابن وابصة — واسمه سالم — في مقامٍ قام فيه مع ناس من الخطباء:
وأنشد أعرابي من باهلة:
وفي مثلها، في بعض الوجوه، قال عُروة بن الورد:
وقال ابن عبَّاس رضي الله تعالى عنه: الهوى إلهٌ معبود. وتلا قوله عز وجل: أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلَى عِلْمٍ.
وقال أبو الأعور سعيد بن زيد بن عمرو بن نُفيل:
المناصيف: الخدم، واحدهم مَنصف وناصف، وقد نصَف القوم ينصفهم نصافةً إذا خدمهم. نعمة زول: حسنة، والزول: الخفيف الظريف، وجمعه أزوال.
وقال عَبيد بن الأبرص في نحو هذا وليس كمثله:
الكشح: الخصر. وقوله: مهضومة، أراد لطيفة. والطفلة: الرَّخصة الناعمة.
وخرج عثمان بن عفان، رضي الله تعالى عنه، من داره يومًا، وقد جاء عامر بن عبد قيس فقعد في دهليزه، فلما رأى شيخًا دميمًا أشغى ثطًّا في عباءة فأنكره وأنكر مكانه، فقال: يا أعرابي، أين ربك؟ قال: بالمِرصاد.
والشغى: تراكُب الأسنان واختلافها. ثط: صغير اللحية.
يُقال إن عثمان بن عفان، رضي الله تعالى عنه، لم يُفحِمه أحدٌ قط غير عامر بن عبد قيس. ونظر معاوية إلى النخَّار بن أوس العُذري الخطيب الناسب في عباءة في ناحية من مجلسه، فأنكره وأنكر مكانه زرايةً منه عليه، فقال: من هذا؟ فقال النخَّار: يا أمير المؤمنين، إن العباءة لا تكلِّمك، إنما يكلِّمك من فيها.
ونظر النُّعمان بن المُنذر إلى ضَمرة بن ضَمرة، فلما رأى دمامته وقلته قال: تسمع بالمُعَيدي لا أنْ تراه. هكذا تقول العرب. فقال ضمرة: أبَيتَ اللعن، إن الرجال لا تُكال بالقُفزان، وإنما المرء بأصغرَيه؛ لسانه وقلبه. وكان ضمرة خطيبًا، وكان فارسًا شاعرًا شريفًا سيدًا.
وكان الرَّمق بن زيد مدح أبا جُبيلة الغسَّاني، وكان الرَّمق دميمًا قصيرًا، فلما أنشده وحاوَره، قال: عسل طيِّب في ظرف سوء.
قال: وتكلَّم علباءُ بن الهيثم السَّدوسي لدى عمر بن الخطاب، رضي الله تعالى عنه، وكان علباء أعوَر دميمًا، فلما رأى براعته وسمع بيانه، أقبل عمر يُصعِّد فيه بصره ويحدره، فلما خرج قال عمر: لكل أناس في جميلهم خبرة.
قال أبو عثمان: وأنشدت سهل بن هارون قول سلَمة بن خُرشُب وشعره الذي أرسل به إلى سُبيع التغلبي في شأن الرُّهن التي وُضعت على يدَيه في قتال عبس وذُبيان، فقال سهل بن هارون: والله لكأنه قد سمع رسالة عمر بن الخطاب، رضي الله تعالى عنه، إلى أبي موسى الأشعري في سياسة القضاء وتدبير الحكم. والقصيدة قوله:
الصتم: الصحيح القوي، يُقال: رجل صتم، إذا كان شديدًا.
وقال العايشي: كان عمر بن الخطاب، رضي الله تعالى عنه، أعلم الناس بالشعر، ولكنه إذا ابتُلي بالحكم بين النجاشي والعَجلاني، وبين الحُطيئة والزِّبرِقان، كَرِه أن يتعرض للشعراء، واستشهد رجالًا للفريقين مثل حسَّان بن ثابت وغيره ممن تهون عليه سبالهم، فإذا سمع كلامهم حكم بما يعلم، وكان الذي ظهر من حكم ذلك الشاعر مُقنعًا للفريقَين، ويكون هو قد تخلَّص بعِرضه سليمًا؛ فلما رآه من لا علم له يسأل هذا وهذا ظن أن ذلك لجهله بما يعرف غيره. ولقد أنشدوه شعرًا لزُهير، وكان لشعره مقدِّمًا، فلما انتهَوا إلى قوله:
قال عمر كالمُتعجب من علمه بالحقوق، وتفصيله بينها، وإقامته أقسامها:
يردِّد البيت من التعجب.
وأنشدوه قصيدة عَبْدة بن الطبيب الطويلة التي على اللام، فلما بلغ المُنشد إلى قوله:
قال عمر مُتعجبًا:
يُعجبهم من حسن ما قسَّم وفصَّل. وأنشدوه قصيدة أبي قيس بن الأسلت التي على العين، وهو ساكت، فلما انتهى المُنشد إلى قوله:
أعاد عمر البيت وقال:
وجعل عمر يردِّد البيت ويتعجب منه. قال محمد بن سلَّام الجُمحي عن بعض أشياخه، قال: كان عمر بن الخطاب، رضي الله تعالى عنه، لا يكاد يعرض له أمر إلا أنشد فيه بيت شعر.
وقال عمر بن العلاء: كان الشاعر في الجاهلية يُقدَّم على الخطيب بفرط حاجتهم إلى الشعر الذي يقيِّد عليهم مآثرهم، ويفخِّم شأنهم، ويهوِّل على عدوهم ومن غزاهم، ويهيِّب من فُرسانهم، ويخوِّف من كثرة عددهم، ويهابهم شاعر غيرهم فيُراقب شاعرهم؛ فلما كثُر الشعر والشعراء، واتخذوا الشعر مكسبةً، ورحلوا إلى السوقة، وتسرَّعوا إلى أعراض الناس، صار الخطيب عندهم فوق الشاعر؛ ولذلك قال الأول: الشعر أدنى مروءة السَّري، وأسرى مروءة الدَّني.
قال: ولقد وضع قول الشعر من قدر النابغة الذُّبياني، ولو كان في الدهر الأول ما زاده ذلك إلا رفعة.
(٧) باب
وكانوا يعيبون النَّوك والعِيَّ والحمق وأخلاق النساء والصِّبيان.
قال الشاعر:
وقال الآخر في التضييع والنوك:
وأنشد في ذلك:
وقال الآخر:
وقال الآخر:
وقال الآخر:
وقال بِشر بن المُعتمِر وأنشد:
وأنشدني آخر:
وأنشدني آخر:
وأنشدني آخر:
وأنشدني آخر:
وقال جرير:
وقال الأعرج المعنيُّ الطائي:
ويُقال: أظلَمُ من صبي، وأكذبُ من صبي، وأخرقُ من صبي.
وأنشد:
سُئل دَغفَل عن بني عامر فقال: أعناق ظِباء، وأعجاز نساء. قيل: فما تقول في أهل اليمن؟ قال: سيِّد وأنوَك.
(٨) باب في ذِكر المعلِّمين
من أمثال العامة: أحمَقُ من مُعلِّم كُتاب. وقد ذكرهم صِقلاب [فقال]:
وفي قول بعض الحكماء: لا تستشيروا معلِّمًا، ولا راعيَ غنم، ولا كثير القعود مع النساء. وقال: لا تدع أمَّ صبيِّك تضربه؛ فإنه أعقل منها وإن كانت أسنَّ منه.
وقد سمعنا في المثل: أحمَقُ من راعي ضأن ثمانين.
فأما استحماق رُعاة الغنم في الجملة، فكيف يكون ذلك صوابًا وقد رعى الغنمَ عدةٌ من جِلة الأنبياء عليهم السلام؟ ولَعَمْري إن الفدَّادين من أهل الوبر ورعاة الإبل ليتلوَّمون على رعاة الغنم، ويقول أحدهم لصاحبه: إن كنت كاذبًا فحلبت قاعدًا.
وقال الآخر:
وقالت امرأة من غامد، في هزيمة ربيعة بن مكدَّم، لجَمعِ غامدٍ وحده:
وقد سمعنا قول بعضهم: الحُمق في الحاكة والمعلِّمين والغزَّالين. قال: والحاكة أقلُّ وأسقط من أن يُقال لها حَمْقى وكذلك الغزَّالون؛ لأن الأحمق هو الذي يتكلم بالصواب الجيِّد ثم يجيء بخطأٍ فاحش، والحائك ليس عنده صواب جيِّد في فعال ولا مقال، إلا أن يُجعل جودة الحياكة من هذا الباب، وليس هو من هذا في شيء.
(٩) وهذا باب آخر
ويُقال: فلانٌ أحمق. فإذا قالوا: مائق، فليس يريدون ذلك المعنى بعينه. وكذلك إذا قالوا: أنوَك. وكذلك إذا قالوا: رقيع. ويقولون: فلانٌ سليم الصدر. ثم يقولون: غبي. ثم يقولون: أبله. وكذلك إذا قالوا: معتوه، ومسلوس، وأشباه ذلك.
قال أبو عُبيدة: يُقال للفارس: شجاع. فإذا تقدَّم ذلك قيل: بطل. فإذا تقدَّم شيئًا قيل: بُهْمة. فإذا صار إلى الغاية قيل: أليَس.
قال العجَّاج: أليَسُ عن حَوبائِه سَخيُّ.
وكيف تقول مِثل ذلك في هؤلاء وفيهم الفقهاء والشعراء والخطباء، مثل: كميت بن زيد، وعبد الحميد الكاتب، وقيس بن سعد، وعطاء بن أبي رباح، ومثل: عبد الكريم بن أبي أمية، وحسين المعلم، وأبي سعيد المعلم؟
ومن المعلِّمين: الضحَّاك بن مُزاحم أبو معبد الجُهني، وعامر الشعبي، فكانا يعلِّمان أولاد عبد الملك بن مروان، وكان أبو معبد يعلِّم سعيدًا.
ومنهم: أبو سعيد المؤدِّب، وهو غير أبي سعيد المعلم، وكان يحدِّث عن هشام بن عُروة وغيرهم.
ومنهم: عبد الصمد بن عبد الأعلى، وكان معلِّم ولد عتبة بن أبي سفيان.
وكان إسماعيل بن علي ألزم بعض بنيه عبد الله بن المقفع ليعلِّمه.
وكان أبو بكر عبد الله بن كيسان مُعلمًا.
ومنهم: محمد بن السكن. وما كان عندنا بالبصرة رجلان أدرى بصنوف العلم، ولا أحسن بيانًا، من أبي الوزير وأبي عدنان المُعلمين، وحالهما من أول ما أذكر من أيام الصبا.
وقد قال الناس في أبي البيداء، وفي أبي عبد الله الكاتب، وفي الحجَّاج بن يوسف وأبيه ما قالوا.
وقد أنشدوا مع هذا الخبر شاهدًا من الشعر على أن الحجَّاج وأباه كانا مُعلمين بالطائف.
ثم رجع بنا القول إلى الكلام الأول. قالوا: أحقُّ الناس بالرحمة عالمٌ يجري عليه حكمُ جاهل. وكتب الحجَّاج إلى المُهلب يُعجله في حرب الأزارقة ويُسمعه، فكتب إليه المهلب: إن البلاء كل البلاء أن يكون الرأي لمن يملكه دون من يبصره.
(١٠) وباب آخر
وقال بعض الربَّانيين من الأدباء، وأهل المعرفة من البُلغاء، ممن يكره التشادق والتعمُّق، ويُبغض الإغراق في القول والتكلُّف والاجتلاب، ويعرف أكثر أدواء الكلام ودوائه، وما يعتري المتكلم من الفتنة بحسن ما يقول، وما يعرض للسامع من الافتتان بما يسمع، والذي يُورث الاقتدار من التحكُّم والتسلُّط، والذي يمكِّن الحاذق والمطبوع من التمويه للمعاني والخلَّابة وحسن المنطق. وقال في بعض مواعظه: أُنذِركم حسن الألفاظ، وحلاوة مخارج الكلام؛ فإن المعنى إذا اكتسى لفظًا حسنًا، وأعاره البليغ مخرجًا سهلًا، ومنحه المتكلم قولًا مُتعشقًا، صارفي قلبك أحلى، ولصدرك أملى. والمعاني إذا كُسيت الألفاظ الكريمة، وأُلبست الأوصاف الرفيعة، تحوَّلت في العيون عن مقادير صورها، وأربَت على حقائق أقدارها، بقدر ما زُيِّنت، وعلى حسب ما زُخرِفت؛ فقد صارت الألفاظ في معاني المعارض، وصارت المعاني في معنى الجواري، والقلب ضعيف، وسلطان الهوى قوي، ومدخل خدع الشيطان خفي.
فاذكُر هذا الباب ولا تنسَه، وتأمَّلْه ولا تفرِّط فيه؛ فإن عمر بن الخطاب، رضي الله تعالى عنه، لم يقُل للأحنف بن قيس، بعد أن احتبسه حولًا مجرَّمًا ليستكثر منه وليُبالغ في تصفُّح حاله والتنقير عن شأنه، «إن رسول الله ﷺ قد كان خوَّفنا كل مُنافِق عليم، وقد خِفت أن تكون منهم»، إلا لما كان راعه من حسن منطقه، ومال إليه لما رأى من رفقه وقلة تكلُّفه؛ ولذلك قال رسول الله ﷺ: «إن من البيان لسحرًا.»
وقال عمر بن عبد العزيز لرجلٍ أحسن في طلب حاجة، وتأتَّى لها بكلامٍ وجيز ومنطقٍ حسن: هذا والله السِّحرُ الحلال. وقال رسول الله ﷺ: «لا خلابة.» فالقصد من ذلك أن تجتنب السوقي والوحشي، ولا تجعل همَّك في تهذيب الألفاظ، وشغلك في التخلص إلى غرائب المعاني، وفي الاقتصار بلاغ، وفي التوسط مجانبة للوعورة، والخروج من سبيل من لا يُحاسب نفسه، وقد قال الشاعر:
وقال الآخر:
وليكُن كلامك ما بين المقصِّر والغالي؛ فإنك تَسلَم من المحنة عند العلماء، ومن فتنة الشيطان. وقال أعرابي للحسن: علِّمني دينًا وسطًا، لا ذاهبًا شطوطًا، ولا هابطًا هبوطًا. فقال الحسن: لئن قلت ذاك إن خير الأمور أوساطها. وجاء في الحديث: «خالِطوا الناس وزايِلوهم.» وقال عبد الله بن مسعود في خطبته: وخير الأمور أوساطها، وما قل وكفى خيرٌ مما كثُر وألهى. نفسٌ تُنجيها، خير من إمارة لا تحصيها. وقال علي بن أبي طالب كرَّم الله وجهه: كُن في الناس وسطًا، وامْشِ جانبًا. وكانوا يقولون: اكْرَه الغُلو كما تكره التقصير. وكان رسول الله ﷺ يقول لأصحابه: «قولوا بقولكم ولا يستحوذنَّ عليكم الشيطان.» وكان يقول: «وهل يكبُّ الناس على مناخرهم في نار جهنم إلا حصائدُ ألسنتهم؟»
(١١) باب من الخُطب القِصار
قال رجل لأبي هُريرة النحوي: أريد أن أتعلَّم العلم وأخاف أن أضيِّعه. قال: كفى بترك العلم إضاعةً. وسمع الأحنف رجلًا يقول: التعلُّم في الصِّغر كالنقش في الحجر. فقال الأحنف: الكبير أكبر الناس عقلًا، ولكنه أشغل قلبًا. وقال أبو الدرداء: ما لي أرى علماءكم يذهبون، وجُهالكم لا يتعلمون؟
وقال رسول الله ﷺ: «إن الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من الناس، ولكن يقبض العلماء، حتى إذا لم يبقَ عالمٌ اتَّخذ الناس رؤساء جهالًا، فسُئلوا فأفتَوا بغير علم، فضلُّوا وأضلُّوا.»
ولذلك قال عبد الله بن عبَّاس، رضي الله تعالى عنهما، حين دلَّى زيد بن ثابت في القبر: من سرَّه أن يرى كيف ذهاب العلم فلينظر؛ فهكذا ذهابه.
وقال بعض الشعراء لبعض العلماء:
وقال قتادة: لو كان أحدٌ مُكتفيًا من العلم لاكتفى نبي الله موسى عليه السلام؛ إذ قال للعبد الصالح: هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا.
أبو العبَّاس التميمي قال، قال طاوس: الكلمة الصالحة صدقة.
وعن عبد الله بن ثُمامة بن أنس، عن أبيه، عن النبي ﷺ أنه قال: «فضل لسانك تعبِّر به عن أخيك الذي لا لسان له صدقة.»
وقال الخليل: تكثَّرْ من العلم لتَعرِف، وتقلَّلْ منه لتحفظ. وقال الفُضيل: نِعمَت الهدية الكلمة من الحكمة يحفظها الرجل حتى يُلقيَها إلى أخيه. وكان يُقال: اجعل ما في الكُتب بيت مال، وما في قلبك للنفقة. وكان يُقال: يكتب الرجل أحسن ما سمع، ويحفظ أحسن ما كتب. وقال أعرابي: حرفٌ في قلبك خير من عشرة في طومارك. وقال عمر بن عبد العزيز: ما قُرِن شيء بشيءٍ أفضل من علم إلى حِلم، ومن عفو إلى قدرة. وكان ميمون بن سِياه إذا جلس إلى قوم قال: إنا قومٌ منقطَع بنا، فحدِّثونا أحاديث نتجمَّل بها. وفخَر سليم مولى زياد بزياد عند معاوية، فقال معاوية: اسكت، فوالله ما أدرك صاحبك شيئًا بسيفه إلا وقد أدركت أكثر منه بلساني. وضرب الحجَّاج أعناق أسرى، فلما قدَّموا إليه رجلًا لتُضرَب عنقه قال: والله لئن كنَّا أسأنا في الذنب فما أحسنت في العفو. فقال الحجاج: أُفٍّ لهذه الجِيَف! أمَا كان فيها أحدٌ يُحسِن مِثل هذا؟ وأمسك عن القتل.
وقال بَشير الرَّحَّال: إني لأجدُ في قلبي حَرًّا لا يُذهِبه إلا بردُ العدل أو حر السِّنان. وقدَّموا رجلًا من الخوارج إلى عبد الملك بن مروان لتُضرَب عنقه، ودخل على عبد الملك ابنٌ صغير له قد ضربه المعلِّم وهو يبكي، فهمَّ عبد الملك بالمُعلم، فقال: دعه يبكي؛ فإنه أفتَحُ لجِرمه، وأصحُّ لبصره، وأذهب لصوته. فقال له عبد الملك: أمَا يشغلك ما أنت فيه عن هذا؟ قال الخارجي: ما ينبغي لمسلم أن يشغله عن قول الحق شيء. فأمر بتخلية سبيله. وقال إبراهيم بن أدهم: أعربنا في كلامنا فما نلحن حرفًا، ولحنَّا في أعمالنا فما نُعرِب حرفًا. وأنشد:
وقال زياد على المِنبر: إن الرجل ليتكلم بالكلمة ما يُقطَع بها ذنَبُ عنزٍ مَصُور، لو بلغت إمامه سفك بها دمه. وعزل عمر زيادًا عن كتابة أبي موسى في بعض قدماته، فقال له زياد: أعن عجز أم عن خيانة؟ قال: لا عن واحدة منهما، ولكن أكره أن أحمل على العامة فضل عقلك. وبلَغ الحجَّاجَ موتُ أسماء بن خارجة، فقال: هل سمعتم بالذي عاش ما شاء ومات حين شاء؟
وكان يُقال: كدرُ الجماعة خيرٌ من صفو الفُرقة. قال أبو الحسن: مرَّ عمر بن ذر، بعبد الله بن عيَّاش المنتوف، وقد كان سَفِه عليه ثم أعرض عنه، فتعلَّق بثوبه فقال: يا هناه، إنا لم نجد لك إذا عصيت الله فينا خيرًا من أن نُطيع الله فيك.
وهذا كلام أخذه عمر بن ذر عن عمر بن الخطاب، رضي الله تعالى عنه، حين قال عمر: إني والله لا أدَع حقًّا لله لشكايةٍ تظهر، ولا لغضبٍ يُحتمل، ولا لمُحاباة بشر، وإنك والله ما عاقبت من عصى الله فيك بمِثل أن تُطيع الله فيه. وكتب عمر بن الخطاب، رضي الله تعالى عنه، إلى سعد بن أبي وقَّاص: يا سعدَ سعدَ بني وُهيب، إن الله إذا أحب عبدًا حبَّبه إلى خلقه، فاعتبِرْ منزلتك من الله بمنزلتك من الناس، واعلم أن ما لك عند الله مِثل الذي لله عندك.
ومات لعمر بن ذر ابنٌ فقال: أي بُنيَّ، شغَلني الحزن لك عن الحزن عليك. وقال رجل من مُجاشع: كان الحسن يخطب في دمٍ فينا، فأجابه رجل فقال: وقد تركت ذلك لله ولوجوهكم. فقال الحسن: لا تقُل هكذا، بل قل: لله ثم لوجوهكم، وآجَرك الله.
ومر رجل بأبي بكر، رضي الله تعالى عنه، ومعه ثوب فقال: أتبيع الثوب؟ فقال: لا، عافاك الله. فقال أبو بكر رضي الله تعالى عنه: لقد علمتم لو كنتم تعلمون، قل: لا، وعافاك الله.
وسأل عمر بن الخطاب، رضي الله تعالى عنه، رجلًا عن شيء فقال: الله أعلم. فقال عمر: لقد شقينا إن كنَّا لا نعلم أن الله أعلم. إذا سُئل أحدكم عن شيء لا يعلمه فليَقل: لا عِلم لي. وكان أبو الدرداء يقول: أبغض الناس إليَّ أن أظلمه من لا يستعين عليَّ بأحد إلا بالله.
وذكر ابن ذر الدنيا فقال: كأنكم إنما زادكم في حرصكم عليها ذمُّ الله عز وجل لها. ونظر أعرابي إلى مال له كثير من الماشية وغيرها، فقال: ينعة، ولكل ينعةٍ استحشاف. فباع ما هناك من ماله، ثم لزم ثغرًا من ثغور المسلمين حتى مات فيه. وتمنَّى قوم عند يزيد الرقاشي، فقال: أتمنَّى كما تمنَّيتم؟ قالوا: تمنَّه. قال: ليتنا لم نُخلَق، وليتنا إذ خُلِقنا لم نَعصِ، وليتنا إذ عصينا لم نمُت، وليتنا إذ مُتنا لم نُبعَث، وليتنا إذ بُعِثنا لم نُحاسَب، وليتنا إذ حُوسِبنا لم نُعذَّب، وليتنا إذ عُذِّبنا لم نُخلَّد.
وقال الحجَّاج: ليت الله إذ خلَقَنا للآخرة كفانا أمر الدنيا؛ فرفع عنا الهمَّ بالمأكل والمشرب والملبس والمنكح، أو ليته إذ وقعنا في هذه الدار كفانا أمر الآخرة؛ فرفع عنا الاهتمام بما يُنجي من عذابه. فبلغ كلامهما عبد الله بن حسن بن حسن، أو علي بن الحسين، فقال: ما عَلِما شيئًا في التمنِّي، ما اختار الله فهو خير. قال أبو الدرداء: من هوان الدنيا على الله أنه لا يُعصى إلا فيها، ولا يُنال ما عنده إلا بتركها. قال شريح: الحدة كناية عن الجهل. وقال أبو عُبيدة: العارضة كناية عن البذاء.
وإذا قالوا: فلان مُقتصد، فتلك كناية عن البخل. وإذا قالوا للعامل: مُستقصٍ، فهو كناية عن الجور. وقال حبيب بن أوس الشاعر أبو تمَّام الطائي:
وقيل لأعرابيةٍ مات ابنها: ما أحسنُ عزائك عن ابنك؟ قالت: إن مصيبته آمَنتني من المصائب بعده. وقال سعيد بن عثمان بن عفان لطُويس المغنِّي: أيُّنا أسَنُّ؛ أنا أو أنت يا طويس؟ فقال: بأبي أنت وأمي، لقد شهدت زفاف أمك المُبارَكة إلى أبيك الطيِّب، فانظر إلى حِذقه وإلى معرفته بمخارج الكلام، كيف لم يقُل: زفاف أمك الطيبة إلى أبيك المبارك؟ وهكذا كان وجه الكلام، فقلب المعنى.
وقال رجل من أهل الشام: كنت في حلقة أبي مُسهِر في مسجد دمشق، فذكرنا الكلام وبراعته، والصمت ونبالته، فقال: كلَّا، إن النجم ليس كالقمر، إنك تصف الصمت بالكلام، ولا تصف الكلام بالصمت. وقال الهيثم بن صالح لابنه وكان خطيبًا: يا بُنيَّ، إذا أقللتَ من الكلام أكثرت من الصواب، وإذا أكثرت من الكلام أقللت من الصواب. قال: يا أبَه، فإن أنا أكثرت وأكثرت؟ يعني كلامًا وصوابًا. قال: يا بُنيَّ، ما رأيت موعوظًا أحقَّ بأن يكون واعظًا منك.
وقال ابن عبَّاس: لولا الوسواس، ما بالَيت ألا أكلِّم الناس.
وقال عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه: ما تستبقوا من الدنيا تجدوه في الآخرة. وقال رجل للحسن: إني أكره الموت. قال: ذلك أنك أخَّرت مالك، ولو قدَّمته لسرَّك أن تلحق به. وقال عامر بن الظَّرِب العَدْواني: الرأي نائم، والهوى يقظان؛ فمن هنا يغلب الهوى الرأي. وقال: مكتوب في الحكمة: اشكر لمن أنعمَ عليك، وأنعِمْ على من شكر لك. وقال أبو الدرداء: أيها الناس، لا يمنعكم سوءُ ما تعلمون منا أن تَقبَلوا أحسن ما تسمعون منا.
وقال عبد الملك على المنبر: ألا تُنصِفوننا يا معشر الرعية؟ تريدون منا سيرة أبي بكر وعمر، ولم تسيروا في أنفسكم ولا فينا سيرة رعية أبي بكر وعمر؟ نسأل الله أن يُعِين كلًّا على كلٍّ. وقال رجل من العرب: أربع لا يَشبَعن من أربع؛ أنثى من ذكر، وعين من نظر، وأرض من مطر، وأُذن من خبر.
وقال موسى عليه السلام لأهله: امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ. فقال بعض المُعترضين: فقد قال: أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ. قال أبو عَقيل: لم يعرف موقع النار من أبناء السبيل، ومن الجائع المقرور.
وقال لبيد بن ربيعة:
وقال:
وقال لبيد:
وقد قال أيضًا لبيد:
وقال زيد بن جُندب في ذِكر الشغب:
وقال آخر في الشغب:
وقال أحمر بن العمرَّد:
وقال:
وقال في التطبيق:
وهذا التطبيق غير التطبيق الأول.
وقال آخر:
وقال المُعترِض على أصحاب الخطابة والبلاغة:
قال لقمان لابنه: يا بُنيَّ، إني قد ندمت على الكلام، ولم أندم على السكوت.
وقال الشاعر:
وقال آخر:
وقال آخر في التحذير والاحتراس:
وقال في مثل ذلك:
لأن هذه الكلبة — وهي براقش — إذا نبحت غزيًّا وقد مرُّوا من ورائهم، وقد رجعوا خائبين مُخفِقين، فلما نبحتهم استدلوا بنباحها على أهلها فاستباحوهم، ولو سكتت كانوا قد سلموا؛ فضرب ابن بيض به المَثل.
وقال الأخطل:
النقيق: صياح الضفادع.
وقالوا: الصمت حُكْم وقليلٌ فاعله. وقالوا: استكثرَ من الهيبة صامت. وقيل لرجل من كلبٍ طويل الصمت: بحقٍّ ما سمَّتكم العلماء خُرْس العرب. فقال: أسكت فأسلم، وأسمع فأعلم. وكانوا يقولون: لا تَعدِلوا بالسلامة شيئًا. ولا تسمع الناس يقولون: جُلِد فلان حين صمت، ولا قُتِل حين سكت؛ وتسمعهم يقولون: جُلِد فلان حين قال كذا وكذا، وقُتِل حين قال كذا وكذا. وفي الحديث المأثور: رحم الله من سكت فسَلِم، أو قال خيرًا فغَنِم. والسلامة فوق الغنيمة؛ لأن السلامة أصل، والغنيمة فرع.
وقال النبي ﷺ: «إن الله يُبغض البليغ الذي يتخلَّل بلسانه كما تتخلل الباقرة بلسانها.»
وقيل: إن كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب. وقال صاحب البلاغة والخطابة وأهل البيان وحب التبيين: إنما عاب النبي ﷺ المُتشادِقين والثَّرثارين، والذي يتخلل بلسانه كما تتخلل الباقرة بلسانها، والأعرابي المُتشادق، وهو الذي يصنع بفكَّيه وشِدقَيه ما لا يستجيزه أهل الأدب من خطباء أهل المدر؛ فمن تكلَّف ذلك منهم فهو أعيَب، والذم له ألزم. وقد كان الرجل من العرب يقف الموقف فيُرسل عدة أمثال سائرة، ولم يكن الناس جميعًا يتمثَّلون بها إلا لِما فيها من المرفق والانتفاع، ومدار العلم على الشاهد والمَثل.
وإنما حثُّوا على الصمت لأن العامة إلى معرفة خطأ القول أسرَعُ منهم إلى معرفة خطأ الصمت، ومعنى الصامت في صمته أخفى من معنى القائل في قوله، وإلا فالسكوت عن قول الحق في معنى النطق بالباطل.
ولعَمْري إن الناس إلى الكلام لأسرع؛ لأن في أصل التركيب أن الحاجة إلى القول والعمل أكثر من الحاجة إلى ترك العمل والسكوت عن جميع القول. وليس الصمت كله أفضل من الكلام كله، ولا الكلام كله أفضل من السكوت كله، بل قد عَلِمنا أن عامة الكلام أفضل من عامة السكوت، وقد قال الله عز وجل: سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ. فجعل سمعه وكذبه سواءً.
وقال الشاعر:
وقال الآخر:
وكيف يكون الصمت أنفع، والإيثار له أفضل، ونفعه لا يكاد يُجاوز رأس صاحبه، ونفع الكلام يعمُّ ويخص؟ والرُّواة لم يروُوا سكوت الصامتين كما روت كلام الناطقين. وبالكلام أرسل الله أنبياءه لا بالصمت. ومواضع الصمت المحمودة قليلة، ومواضع الكلام المحمودة كثيرة. وطول الصمت يُفسِد اللسان. وقال بكر بن عبد الله المُزني: طول الصمت حُبْسة. كما قال عمر: ترك الحركة عُقْلة. وإذا ترك الإنسان القول ماتت خواطره، وتبلَّدت نفسه، وفسد حِسُّه. وكانوا يُرَوُّون صِبيانهم الأرجاز، ويعلِّمونهم المناقلات، ويأمرونهم برفع الصوت وتحقيق الإعراب؛ لأن ذلك يفتق اللَّهاة، ويفتح الجِرم. واللسان إذا أكثرت تحريكه رقَّ ولان، وإذا أقللت تقليبه وأطلت إسكاته جسأ وغلظ. وقال عُباية الجُعفي: لولا الدُّربة وسوء العادة لأمرت فِتياننا أن يُماريَ بعضهم بعضًا. وأية جارحة منعتها الحركة، ولم تمرِّنها على الأعمال، أصابها من التعقُّد على حسب ذلك المنع.
فلِمَ قال رسول الله ﷺ للنابغة الجعدي «لا يَفضُض اللهُ فاك»؟ ولِمَ قال لكعب بن مالك «ما نسي اللهُ لك مقالك ذلك»؟ ولِمَ قال لهيذان بن شيخ «رُبَّ خطيب من عبس»؟ ولِمَ قال لحسَّان لما هيَّج الغطاريف على بني عبد مناف «والله لشِعرُك أشد عليهم من وقع السهام في غبش الظلام»؟
وما نشك أنه، عليه وعلى آله السلام، قد نهى عن المِراء، وعن التزيُّد والتكلُّف، وعن كل ما ضارَع الرياء أو السُّمعة، والنفج والبذخ، وعن التهاتر والتشاغب، وعن المغالبة والمماتنة؛ فأما نفس البيان، فكيف ينهى عنه وأبيَنُ الكلام كلام الله، وهو الذي مدح التبيين وأهل التفصيل؟ وفي هذا كفاية إن شاء الله.
قال دغفل بن حنظلة: إن للعلم أربعًا؛ آفة، ونكدًا، وإضاعة، واستجاعة؛ فآفته النِّسيان، ونكده الكذب، وإضاعته وضعه في غير موضعه، واستجاعته أنك لا تشبع منه. وإنما عاب الاستجاعة لسوء تدبير أكثر العلماء، ولخرق سياسة أكثر الرُّواة؛ لأن الرواة إذا شغلوا عقولهم بالازدياد والجمع، عن تحفُّظ ما قد حصَّلوه، وتدبُّر ما قد دوَّنوه، كان ذلك الازدياد داعيًا إلى النقصان، وذلك الربح سببًا للخسران.
وقد جاء في الحديث: «منهومان لا يشبعان؛ منهوم في العلم، ومنهوم في المال.»
وقال الشاعر:
وقال الأحنف: السؤدد مع السواد. وتقول الحكماء: من لم ينطق بالحكمة قبل الأربعين لم يبلغ فيها.
وأنشد:
وقال الهُذلي:
صالح بن سليمان، عن عتبة بن عمر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، قال: ما رأيت عقول الناس إلا قريبًا بعضها من بعض، إلا ما كان من الحجَّاج وإياس بن معاوية؛ فإن عقولهما كانت ترجح على عقول الناس. أبو الحسن قال: سمعت أبا الضُّعري الحارثي يقول: كان الحجَّاج أحمق، بنى مدينة واسط في بادية النبط ثم قال لهم: لا تدخلوها. فلما مات دلفوا إليها من قريب. سمعت قَحطبة الجُشمي يقول: كان أهل البصرة لا يشكُّون أنه لم يكن بالبصرة رجلٌ أعقل من عُبيد الله بن الحسن وعُبيد الله بن سالم. وقال معاوية لعمرو بن العاص: إن أهل العراق قد قرنوا بك رجلًا طويل اللسان قصير الرأي، فأجِدِ الحز وطبِّق المَفصل، وإيَّاك أن تلقاه برأيك كله.
(١٢) باب ما قالوا فيه من الحديث الحسن المُوجَز المحذوف القليل الفضول
قال الشاعر:
وقال ابن أحمر:
وقال الآخر:
وقال بشَّار:
وقال بشَّار:
وقال بشَّار:
وقال بشَّار العُقيلي:
وقال بشَّار:
وقال بشَّار:
وقال الأخطل:
أخبرنا عامر بن صالح أن عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز كتب إلى امرأته وعنده إخوان له:
وأنشد الهُذلي:
وقال الهُذلي في حلاوة الحديث:
العوذ: جمع عائذ، وهي الناقة إذا وضعت، فإذا مشى ولدها فهي مُرشح، فإذا تبعها فهي مُتلِية لأنه يتلوها، وهي في هذا كله مُطفِل، فإن كان أول ولد لها ولدته فهي بِكر.
ماء المفاصل فيه قولان؛ أحدهما أن المفاصل ما بين الجبلين، واحدها مَفصِل، وإنما أراد صفاء الماء لأنه ينحدر عن الجبال ولا يمرُّ بطِين ولا تراب، ويُقال إنها مفاصل البعير، وذكروا أن فيها ماءً له صفاء وعذوبة.
وفي الكلام الموزون يقول عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر:
وقال أبو ذؤيب:
السِّرب: الجماعة من النساء والبقر والطير والظباء، بكسر السين، ويُقال: فلان آمِنُ السَّرب، بفتح السين، وخليُّ السرب، وواسع السرب؛ أي المسالك والمذاهب، وإنما هو مثلٌ مضروب للصدر والقلب، وعن الأصمعي: فلانٌ واسع السرب، مكسور؛ أي واسع الصدر، بطيء التأنيب.
وأنشد للحكم بن ريحان من بني عمرو بن كلاب:
ينبذن: يلقين. الغلة والغليل: العطش الشديد. والصادي: العطشان أيضًا، والاسم الصدى.
وقال الأخطل:
التنبال: القصير، والمجذر مثله. والشُّمس: النوافر. الأنف: جمع الآنفة، وهي المنكرة للشيء غير راضية عنه. العقيلة: المصونة في أهلها، وعقيلة كل شيء خيرتُه. والمكسال: ذات الكسل عن الحركة.
وقال أبو العَمَيثل:
تقول: ما يلقانا فلان إلا عن غُفرٍ؛ أي بعد مدة. مسي: أي وقت المساء. ويقال: أغذ السير، إذا جدَّ فيه وأسرع. واللوح، بالفتح: العطش، يُقال: لاح الرجل يلوح لوحًا، والْتاح يلتاح التياحًا، إذا عطش. واللوح أيضًا: الذي يُكتب فيه. واللوح، بالضم: الهواء، يُقال: لا أفعل ذلك ولو نزوت في اللوح، أو حتى تنزو في اللوح.
وأنشد:
وقال الشمَّاخ بن ضِرار التغلبي:
يريد أنهما من خوف الرُّقباء كانا على عجلة. والملهوج: المعجل الذي لم يُنتظر به النضج.
وقال جِران العَود:
وقال الكُميت:
وقال الآخر:
وقال الأشعث بن سُمَي:
وقال الراجز، ووصف عيون الظِّباء بالسحر، وذكر قوسًا صفراء، فقال:
ويُروى: «البقر.»
(١٣) باب آخر من الأسجاع في الكلام
قال عمر بن ذر: الله المستعان على ألسنةٍ تَصِف، وقلوبٍ تَعرِف، وأعمالٍ تُخلِف.
ولما مدح عُتيبة بن مِرداس عبد الله بن عبَّاس قال: لا أعطي من يعصي الرحمن، ويُطيع الشيطان، ويقول البُهتان.
وفي الحديث المأثور: «يقول العبد: مالي مالي. وإنما لك من مالك ما أكلت فأفنَيت، أو أعطيت فأمضيت، أو لبِست فأبليت.»
وقال النَّمِر بن تَولَب:
الصدى: طائر يخرج من قبر الميت فينعى إليه ضعفَ وليِّه وعَجْزه، وهذا كانت العرب تقوله في الجاهلية، وهو ها هنا مُستعار؛ أي إن أصبحت أنا.
ووصف أعرابي رجلًا فقال: صغير القَدْر، قصير الشَّبْر، ضيِّق الصدر، لئيم النَّجْر، عظيم الكِبر، كثير الفَخر.
الشبر: القامة. والنجر: الطباع.
ووصف بعض الخُطباء رجلًا فقال: ما رأيت أضرَبَ لمَثل، ولا أركَبَ لجَمل، ولا أصعدَ في قُلَل، منه. وسأل بعض الأعراب رسولًا قَدِم من أهل السِّند: كيف رأيتم البلاد؟ فقال: ماؤها وَشَل، ولِصُّها بَطَل، وتَمرُها دَقَل. إن كَثُر الجند بها جاعوا، وإن قلُّوا بها ضاعوا.
وقيل لصعصعة بن معاوية: من أين أقبلت؟ قال: من الفج العميق. قيل: فأين تريد؟ قال: البيت العتيق. قيل: هل من مطر؟ قال: نعم، حتى عفَّا الأثر، وأنضر الشجر، ودهده الحجر. واستجار عون بن عبد الله بن عتبة بن مسعود بمحمد بن مروان بنصيبين، وتزوج بها امرأةً، فقال محمد: كيف ترى نصيبين؟ قال: كثيرة العقارب، قليلة الأقارب.
يريد بقوله: قليلة، كقول القائل: فلانٌ قليل الحياء؛ ليس يريد أن هنالك حياءً وإن قل، يضعون قليلًا في موضع ليس.
والشبم: البرد.
وقالوا: لا تَغترَّ بمناصحة الأمير، إذا غشَّك الوزير. وقالوا: من صادَق الكُتاب أغنَوه، ومن عاداهم أفقروه. وقالوا: اجعل قول الكذَّاب ريحًا، تكُن مُستريحًا.
وقيل لعبد الصمد بن الفضل بن عيسى الرقاشي: لمَ تؤثِر السجع على المنثور، وتُلزِم نفسك القوافيَ وإقامة الوزن؟ قال: إن كلامي لو كنت لا آمل فيه إلا سماع الشاهد لقلَّ خلافي عليك، ولكني أريد الغائب والحاضر، والراهن والغابر؛ فالحفظ إليه أسرع، والآذان لسماعه أنشط؛ وهو أحق بالتقييد وبقلَّة التفلُّت، وما تكلَّمت به العرب من جيِّد المنثور أكثَرُ مما تكلَّمت به من جيِّد الموزون؛ فلم يُحفظ من المنثور عُشْره، ولا ضاع من الموزون عُشْره.
قالوا: فقد قيل للذي قال: يا رسول الله، أرأيت من لا شَرِب ولا أكَل، ولا صاح فاستهل، أليس مِثل ذلك يُطَل، فقال رسول الله ﷺ: «أسجْعٌ كسجع الجاهلية؟»
قال عبد الصمد: لو أن هذا المُتكلم لم يُرِد إلا الإقامة لهذا الوزن لمَا كان عليه بأس، ولكنه عسى أن يكون أراد إبطالًا لحق فتشادَق في كلامه.
وقال غير عبد الصمد: وجدنا الشعر من القصيد والرجز قد سمعه رسول الله ﷺ، واستحسنه وأمر به شعراءه، وعامة أصحاب رسول الله ﷺ قد قالوا شعرًا، قليلًا كان ذلك أم كثيرًا، واستمعوا واستنشدوا؛ فالسجع والمزدوج دون القصيد والرجز، فكيف يحل ما هو أكثر ويحرم ما هو أقل؟ وقال غيرهما: إذا لم يَطُل ذلك، ولم تكُن القوافي مطلوبةً مجتلَبة، أو ملتمَسة متكلَّفة، وكان ذلك كقول الأعرابي لعامل الماء: حُلبت ركابي، وخُرقت ثيابي، وضُربت صحابي، ومُنعت إبلي من الماء والكلأ.
والركاب: ما يُركب من الإبل.
قال: أوَسجعٌ أيضًا؟ فقال الأعرابي: فكيف أقول؟
لأنه لو قال: حُلبت إبلي أو جمالي أو نوقي أو بعراني أو صرمتي، لكان لم يعبِّر عن حقِّ معناه، وإنما حُلبت ركابه، فكيف يدع الركاب إلى غير الركاب؟ وكذا قوله: خُرقت ثيابي، وضُربت صحابي؛ لأن الكلام إذا قلَّ وقع وقوعًا لا يجوز تغييره، وإذا طال وجدت في القوافي ما يكون مجتلَبًا ومطلوبًا مستكرَهًا.
وفي الحديث المأثور — ويدخل على من طعن في قوله تعالى: تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وزعم أنه شعر؛ لأنه في تقدير مستفعلن مفاعلن — وطعن في قوله عليه السلام: «هل أنتِ إلا إصبعٌ دَمِيتِ، وفي سبيل الله ما لقيتِ؟»
فيُقال له: اعلم أنك لو اعترضت أحاديث الناس وخطبهم ورسائلهم، لوجدت فيها مثل «مستفعلن فاعلن» كثيرًا، وليس أحد في الأرض يجعل ذلك المقدار شعرًا. ولو أن رجلًا من الباعة صاح: من يشتري باذنجان؟ لقد كان تكلَّم بكلام في وزن «مستفعلن مفعولان»، فكيف يكون هذا شعرًا وصاحبه لم يقصد إلى الشعر؟ ومِثل هذا المِقدار من الوزن قد يتهيَّأ في جميع الكلام. وإذا جاء المقدار الذي يُعلم أنه من نتاج الشعر والمعرفة بالأوزان والقصد إليها، كان ذلك شعرًا، وهذا قريب، والجواب فيه سهل بحمد الله. وسمعت غلامًا لصديق لي، وكان قد سقى بطنه، يقول لغلمان مولاه: اذهبوا بي إلى الطبيب، وقولوا قد اكتوى. وهذا الكلام يخرج وزنه: فاعلاتن مفاعلن، مرَّتَين. وقد علمت أن هذا الغلام لم يخطر على بباله قطُّ أن يقول بيت شعر أبدًا، ومثل هذا كثير لو تتبعته في كلام حاشيتك وغلمانك لوجدته.
وكان الذي كرَّه الأسجاع بعينها، وإن كانت دون الشعر في التكلُّف والصنعة، أن كُهَّان العرب الذين كان أكثر الجاهلية يتحاكمون إليهم، وكانوا يدَّعون الكهانة، وأن مع كل واحد منهم رئيًّا من الجن، مثل «حازي جُهينة»، ومثل «شِق» و«سطيح»، و«عُزَّى سلمة» وأشباههم، كانوا يتكهَّنون ويحكمون بالأسجاع، كقوله: والأرض والسماء، والعُقاب والصَّقعاء، واقعةً ببقعاء، لقد نفَّر المجد بني العُشراء، للمجد والسَّناء. وهذا الباب كثير، ألا ترى أن «ضَمْرة بن ضَمْرة»، و«هَرِم بن قُطبة»، و«الأقرع بن حابس»، و«نُفيل بن عبد العُزَّى»، كانوا يَحكُمون وينفِّرون بالأسجاع، وكذلك «ربيعة بن حذار»؟ فوقع النهي في ذلك لقرب عهدهم بالجاهلية، ولبقيتها فيهم وفي صدور كثير منهم؛ فلما زالت العلة زال التحريم.
وقد كان الخُطباء تتكلم عند الخُلفاء الراشدين، فتكون في تلك الخطب أسجاعٌ كثيرة، فلم ينهَوا منهم أحدًا.
وكان الفضل بن عيسى الرقاشي سجَّاعًا في قصصه، وكان عمرو بن عُبيد، وهشام بن حسَّان، وأبان بن أبي عيَّاش، يأتون مجلسه. قال له داود بن أبي هند: لولا أنك تُفسر القرآن برأيك لأتيناك في مجلسك. قال: فهل تراني أحرِّم حلالًا وأُحلَّ حرامًا؟
وإنما كان يتلو الآية التي فيها ذِكر النار والجنة، والحشر والموت، وأشباه ذلك.
وقد كان عبد الصمد بن الفضل، وأبو العبَّاس القاسم بن يحيى، وعامة قُصَّاص البصرة، وهم أخطب من الخطباء، يجلس إليهم عامة الفقهاء. وقد كان النهي ظاهرًا عن مرثية أميَّة بن أبي الصَّلت لقتلى أهل بدر، كقوله:
وروى ناس شبيهًا بذلك في هجاء الأعشى لعلقمة بن علاثة؛ فلما زالت العلة زال النهي.
وقال أبو واثلة بن خليفة في عبد الملك بن المُهلب:
وخطب الوليد بن عبد الملك فقال: إن أمير المؤمنين عبدَ الملك كان يقول: إن الحَجَّاج جِلدةُ ما بين عينيَّ، ألا وإنه جلدة وجهي كله. وخطب الوليد بعد وفاة الحجَّاج وتوليته يزيد بن أبي مسلم، فقال: إنما مَثلي ومَثل يزيد بن أبي مسلم بعد الحجَّاج كمن سقط منه درهم فأصاب دينارًا.
شبيب بن شيبة قال، حدَّثني خالد بن صفوان قال، خطبنا يزيد بن المهلَّب بواسط فقال: إني قد أسمع قول الرَّعاع: قد جاء مَسلمة، وقد جاء العبَّاس، وقد جاء أهل الشام. وما أهل الشام إلا تسعة أسياف؛ سبعة منها معي واثنان عليَّ، وأما مَسلمة فجرادةٌ صَفراء، وأما العبَّاس فنسطوس بن نسطوس، أتاكم في برابرة وصقالبة، وجرامقة وجراجمة، وأقباط وأنباط وأخلاط من الناس. إنما أقبل إليكم الفلَّاحون والأوباش كأشلاء اللُّجم. والله ما لقوا قومًا قطُّ كحدِّكم وحديدكم، وعدِّكم وعديدكم. أعِيروني سواعدكم ساعةً من نهارٍ تصفقون بها خراطيمهم؛ فإنما هي غَدوة أو رَوحة حتى يحكم الله بيننا وبين القوم الفاسقين.
ومدح بشَّارٌ هَزار مُرْد العَتكي بالخُطب وركوبه المنابر، بل رثاه وأبَّنه، فقال:
خطباء البصرة
كان سوَّار بن عبد الله أول تميمي خطب على منبر البصرة، ثم خطب عُبيد الله بن الحسن. وولِيَ منبرَ البصرة أربعةٌ من القضاة، فكانوا قُضاةً أُمراء؛ بلال، وسوار، وعبيد الله، وأحمد بن رباح. وكان بلال قاضيًا ابن قاضٍ ابن قاضٍ.
وقال رؤبة:
قال أبو الحسن المدائني: كان عُبيد الله بن الحسن حيث وفد على المهدي معزِّيًا أعدَّ له كلامًا، فبلَغه أن الناس قد أعجبهم كلامه، فقال لشبيب بن شيبة: إني والله ما ألتفت إلى هؤلاء، ولكن سَل لي عنها أبا عبيد الله الكاتب. فسأله فقال: ما أحسنَ ما تكلَّم به! على أنه أخذ مواعظ الحسن ورسائل غيلان فلقَّح بينهما كلامًا، فأخبره بذلك شبيب، فقال عبيد الله: لا والله إنْ أخطأ حرفًا واحدًا.
وكان محمد بن سليمان له خطبة لا يغيِّرها، وكان يقول: إن الله وملائكتُه. فكان يرفع الملائكة، فقيل له [في] ذلك، فقال: خرِّجوا لها وجهًا، ولم يكن يدع الرفع.
قال: وصلَّى بنا خُزيمة يوم النحر، فخطب، فلم يُسمع من كلامه إلا ذِكر أمير المؤمنين الرشيد ووليِّ عهده محمد. قال: وكان زُهير بن محمد الضبِّي يُدار به إذا قرع المنبر.
وقال الشاعر:
وقال بعض شُعراء العسكر يهجو رجلًا من أهل العسكر:
وقال آخر:
(١٤) باب أسجاع
عبد الله بن المُبارَك، عن بعض أشياخه، عن الشعبي قال، قال عيسى بن مريم عليه السلام: «البِرُّ ثلاثة؛ المنطق، والمنظر، والصمت؛ فمن كان منطقه في غير ذِكر فقد لغا، ومن كان نظره في غير اعتبار فقد سها، ومن كان صمته في غير فِكر فقد لها.» وقال علي بن أبي طالب كرَّم الله تعالى وجهه: أفضل العبادة الصمت وانتظار الفرج. وقال يزيد بن المهلَّب وهو في الحبس: وا لَهفاه على طليَّة بمائة ألف، وفرْجٍ في جبهة الأسد! وقال عمر رضي الله تعالى عنه: استغزِروا الدموع بالتذكُّر.
وقال الشاعر:
حفص قال، سمعت عيسى بن عمر يقول، سمعنا الحسن يقول: اقدعوا هذه النفوس؛ فإنها طُلَعة، واعصوها؛ فإنكم إن أطعتموها تنزع بكم إلى شر غاية، وحادِثوها بالذِّكر؛ فإنها سريعة الدثور.
اقدعوا: كُفوا. طُلعة: أي تطلَّع إلى كل شيء. حادثوا: أي اجلوا واشحذوا. والدثور: الدروس، يُقال: دثر أثر فلان؛ أي ذهب، كما يُقال: درس وعفا.
قال: فحدَّثت بهذا الحديث أبا عمرو بن العلاء، فتعجَّب من كلامه.
وقال الشاعر:
الوجيف: السير الشديد، يُقال: وجف الفرس والبعير وأوجفته، ومِثله الإيضاع، وهو الإسراع. أراد بهيجاء: أقبلت مسرعة.
ومن الأسجاع قول أيوب بن القِرِّيَّة، وقد كان دُعي للكلام فاحتبس القول عليه، فقال: قد طال السَّمَر، وسقط القمر، واشتدَّ المطر، فماذا يُنتظر؟ فأجابه فتًى من عبد القيس فقال: قد طال الأرَق، وسقط الشفق، وكَثُر اللَّثَق، فلينطق من نطق.
اللثق: الندى الوحل.
وقال أعرابي لرجل: نحن والله آكَلُ منكم للمأدوم، وأكسَبُ منكم للمعدوم، وأعطى منكم للمحروم. ووصف أعرابي رجلًا فقال: إن رِفدَك لنجيح، وإن خيرك لسريح، وإن منعك لمُريح سريح.
عَجِل مريح: أي مريح من كد الطلب.
وقال عبد الملك لأعرابي: ما أطيَبُ الطعام؟ فقال: بَكرةٌ سَنِمة، في قدورٍ رَذِمة، بشِفارٍ خَذِمة، في غداةٍ شَبِمة. فقال عبد الملك: وأبيكَ لقد أطبتَ.
وسئل أعرابي فقيل له: ما أشدُّ البرد؟ فقال: ريحٌ جِربِياء، في طلِّ عماء، في غِبِّ سماء.
ودعا أعرابي فقال: اللهم إني أسألك البقاء، والنماء، وطيب الإتاء، وحط الأعداء، ورفع الأولياء.
الإتاء: الرزق.
وقال إبراهيم النخَعي لمنصور بن المعتمر: سَل مسألة الحَمقى، واحفظ حِفظ الكَيسى. ووصفت عمةُ حاجزٍ اللص حاجزًا، ففضَّلتْه وقالت: كان حاجزٌ لا يشبع ليلةَ يُضاف، ولا ينام ليلةَ يخاف.
ووصف بعضهم فرسًا فقال: أقبل بزُبْرة الأسد، وأدبر بعَجُز الذئب.
الزبرة: مغرز العنق، ويُقال للشعر الذي بين كتفَيه. ووصفه بأنه محطوط الكفل.
ولما اجتمع الناس، وقامت الخطباء لبيعة يزيد، وأظهر قومٌ الكراهة قام رجل يُقال له يزيد بن المقنَّع، فاخترط من سيفه شبرًا ثم قال: هذا أمير المؤمنين — وأشار بيده إلى معاوية — فإن مات فهذا — وأشار بيده إلى يزيد — فمن أبى فهذا — وأشار بيده إلى سيفه — فقال معاوية: أنت سيِّد الخطباء.
ولما قامت خطباء نِزار عند معاوية فذهبت في الخطب كل مذهب، قام صَبِرة بن شَيمان فقال: يا أمير المؤمنين، إنا حيُّ فَعَال، ولسنا حيَّ مَقال؛ ونحن نبلغ بفعالنا أكثر من مقال غيرنا.
ولما وفد الأحنف في وجوه أهل البصرة إلى عبد الله بن الزُّبير، تكلَّم أبو حاضر الأسيدي وكان خطيبًا جميلًا، فقال له عبد الله بن الزبير: اسكت، فوالله لوددت أن لي بكل عشرة من أهل العراق رجلًا من أهل الشام، صرف الدينار بالدرهم. قال: يا أمير المؤمنين، إن لنا ولك مثلًا، أفتأذن في ذِكره؟ قال: نعم. قال: مَثلُنا ومثلك ومثل أهل الشام قول الأعشى حيث يقول:
أحبَّك أهل العراق، وأحببتَ أهل الشام، وأحب أهل الشام عبد الملك بن مروان.
علي بن مجاهد، عن حُميد بن أبي البَختري، قال: ذكر معاوية لابن الزبير بيعة يزيد، فقال ابن الزبير: إني أناديك ولا أناجيك، إن أخاك من صدَقك، فانظر قبل أن تُقدِم، وتفكَّرْ قبل أن تندم؛ فإن النظر قبل التقدم، والتفكر قبل التندم. فضحك معاوية ثم قال: تعلَّمتَ أبا بكر السِّجاعةَ عند الكِبَر؟ إن في دون ما سجعت به على أخيك ما يكفيك. ثم أخذ بيده فأجلسه معه على السرير.
أخبرنا ثُمامة بن أشرَس، قال: لما صرفت اليمانية — من أهل مِزَّة — الماء عن أهل دمشق ووجَّهوه إلى الصحاري، كتب إليهم أبو الهَيذام: إلى بني استِها أهل مِزَّة، ليُمسِّيَنَّني الماء أو لتُصبِّحنَّكم الخيل. قال: فوافاهم الماء قبل أن يُعتموا.
أي يصيرون في وقت عتمة الليل. وعتمته: ظلامه، يُقال: عتَم الليل يَعتِم، إذا أظلم، وأعتم الناس صاروا في وقت العتمة.
فقال أبو الهيذام: الصِّدق يُنْبي عنك لا الوعيد.
بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الله أمير المؤمنين يزيد بن الوليد، إلى مروان بن محمد. أما بعد، فإني أراك تُقدِّم رِجلًا وتؤخِّر أخرى، فإذا أتاك كتابي هذا فاعتمِدْ على أيهما شئت، والسلام.
وها هنا مذاهب تدل على أصالة الرأي، ومذاهب تدل عل تمام النفس، وعلى الصلاح والكمال، لا أرى كثيرًا من الناس يقفون عليها.
واستعمل عبد الملك بن مروان نافع بن علقمة بن نضلة بن صفوان بن محرِّث خال مروان على مكة، فخطب ذات يوم — وأبان بن عثمان بحذاء المنبر — فشتم طلحة والزبير، فلما نزل قال لأبان: أرضَيتُك من المُدهِنين في أمير المؤمنين؟ قال: لا والله، ولكن سُؤتَني، حَسْبي أن يكونا شركاء في أمره.
فما أدري أيهما أحسن؛ كلام أبان بن عثمان هذا أم إسحاق بن عيسى؛ فإنه قال: أعيذ عليًّا أن يكون قتل عثمان، وأعيذ عثمان بالله أن يقتله علي. فمدح عليًّا بكلامٍ سديدٍ غير نافر، ومقبولٍ غير وحشي. وذهب إلى معنى الحديث في قول رسول الله ﷺ: «أشد أهل النار عذابًا من قتل نبيًّا أو قتله نبي.»
يقول: لا يتَّفق أن يقتله نبي بنفسه إلا وهو أشد خلق الله معاندةً، وأجرؤهم على معصيته. فيقول: لا يجوز أن يقتله علي إلا وهو مستحقٌّ للقتل.
خُطبة من خُطَب النبي ﷺ
«أيها الناس، إن لكم مَعالم فانتهوا إلى مَعالمكم، وإن لكم نهاية فانتهوا إلى نهايتكم. إن المؤمن بين مَخافتَين؛ بين عاجل قد مضى لا يدري ما الله صانع به، وبين آجل قد بقي لا يدري ما الله قاضٍ فيه؛ فليأخذ العبد من نفسه لنفسه، ومن دنياه لآخرته، ومن الشبيبة قبل الكَبْرة، ومن الحياة قبل الموت؛ فوالذي نفس محمد بيده، ما بعد الموت من مُستعتَب، ولا بعد الدنيا من دار، إلا الجنة أو النار.»
أبو الحسن المدائني قال: تكلَّم عمَّار بن ياسر يومًا فأوجز، فقيل له: لو زِدْتنا. قال: أمرنا رسول الله ﷺ بإطالة الصلاة وقِصر الخُطبة.
محمد بن إسحاق، عن يعقوب بن عُتبة، عن شيخ من الأنصار من بني زُريق، أن عمر بن الخطاب، رضي الله تعالى عنه، لما أُتي بسيف النُّعمان بن المُنذر دعا جُبير بن مُطعِم فسلَّحه إياه، ثم قال: يا جُبير، ممن كان النُّعمان؟ قال: من أشلاء قَنَص بن مَعَد. وكان جُبير أنسبَ العرب، وكان أخذ النَّسب عن أبي بكر الصدِّيق، رضي الله تعالى عنه، وعن جبير أخذ سعيد بن المسيب. وروى عن بعض ولد طلحة قال، قلت لسعيد بن المسيب: علِّمني النَّسب. قال: أنت رجلٌ تريد أن تُسابَّ الناس. وثلاثة في نسقٍ واحد كانوا أصحاب نسب؛ عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، أخذ ذلك عن الخطَّاب، وكان كثيرًا ما يقول: سمعت ذلك من الخطَّاب، ولم أسمع ذلك من الخطَّاب. والخطَّاب بن نُفيل، ونُفيل بن عبد العُزَّى، تنافر إليه عبد المطلب وحرب بن أمية، فنفَّر عبد المطلب؛ أي حكم لعبد المطلب. والمنافرة المحاكمة.
والنُّسَّاب أربعة؛ دَغفَل بن حنظلة، وعُميرة أبو ضَمْضام، وصُبح الحنفي، وابن الكيِّس النَّمري.
وقال الأصمعي: دغفل بن حنظلة، النسَّابة البكري، وكان نصرانيًّا. ولم يُسمِّه.
اتَّخِذوا كتاب الله إمامًا، وارضَوا به حَكمًا، واجعلوه قائدًا؛ فإنه ناسخ لما قبله، ولم ينسخه كتابٌ بعده. وأول كلام بارع سمعوه منه: الكلام فيما يَعنيك خيرٌ من السكوت عما يضرُّك، والسكوت عما لا يَعنيك خيرٌ من الكلام فيما يضرُّك.
خلَّاد بن يزيد الأرقط قال، سمعت من يُخبرنا عن الشعبي قال: ما سمعت مُتكلمًا على مِنبر قطُّ تكلَّم فأحسن إلا تمنَّيت أن يسكت خوفًا من أن يُسيء، إلا زيادًا؛ فإنه كلما كان أكثر كان أجود كلامًا.
وكان نَوفل بن مُساحق إذا دخل على امرأته صمت، وإذا خرج من عندها تكلَّم، فرأته يومًا كذلك فقالت: أما عندي فتُطرِق، وأما عند الناس فتَنطِق. قال: لأني أدِقُّ عن جليلك، وتجلِّين عن دقيقي.
قال أبو الحسن: قاد عيَّاش بن الزِّبرِقان بن بدرٍ إلى عبد الملك بن مروان خمسًا وعشرين فرسًا، فلما جلس لينظر إليها نسب كل فرس منها إلى جميع آبائه وأمهاته، وحلف على كل فرس بيمينٍ غير اليمين التي حلف بها على الفرس الآخر، فقال عبد الملك بن مروان: عجبي من اختلاف أيمانه أشدُّ من عجبي من معرفته بأنساب الخيل.
وقال: كان للزبرقان بن بدر ثلاثة أسماء؛ القمر، والزبرقان، والحصين. وكانت له ثلاث كُنًى؛ أبو شَذرة، وأبو عيَّاش، وأبو العبَّاس. وكان عيَّاش ابنه خطيبًا ماردًا، شديد العارضة، شديد الشكيمة، وجيهًا، وله يقول جرير:
فقال عيَّاش: إني إذًا لَمَقرور. قالوا: فغلَّب عليه.
(١٥) باب أسماء الخُطباء والبُلغاء والأبْيِناء وذِكر قبائلهم وأنسابهم
كان التدبير في أسماء الخطباء وحالاتهم وأوصافهم أن نذكر أسماء أهل الجاهلية على مراتبهم، وأسماء أهل الإسلام على منازلهم، ونجعل لكل قبيلة منهم خطباء، ونقسِّم أمورهم بابًا بابًا على حدته، ونقدِّم من قدَّمه الله عز وجل ورسوله ﷺ في النسب، وفضَّله في الحسب، ولكني لما عجزت عن نظمه وتنضيده، تكلَّفت ذكرهم في الجملة، والله المستعان، وبه التوفيق، ولا حول ولا قوة إلا به.
كان الفضل بن عيسى الرَّقاشي من أخطب الناس، وكان مُتكلمًا، وكان قاصًّا مُجيدًا. وكان يجلس إليه عمرو بن عُبيد، وهشام بن حسَّان، وأبان بن أبي عيَّاش، وكثير من الفقهاء. وهو رئيس الفضيلية وإليه يُنسَبون. وخطب إليه ابنتَه سوادة بنت الفضل سليمانُ بن طَرخان التيمي، فولدت له المُعتمر بن سليمان. وكان سليمان مُباينًا للفضل في المقالة، فلما ماتت سوادة شهد الجنازةَ المعتمرُ وأبوه فقدَّما الفضل.
وكان الفضل لا يركب إلا الحمير، فقال له عيسى بن حاضر: إنك لتؤثِر الحمير على جميع المركوب، فلِمَ ذلك؟ قال: لِما فيها من المَرافق والمنافع. قلت: مِثل أي شيء؟ قال: لا تستبدل بالمكان على قدر اختلاف الزمان، ثم هي أقلُّها داءً وأيسرها دواءً، وأسلم صريعًا، وأكثر تصريفًا، وأسهل مُرتقًى، وأخفض مَهوًى، وأقل جِماحًا، وأشهر فارهًا، وأقل نظيرًا، يَزهى راكبه وقد تواضع بركوبه، ويكون مُقتصدًا وقد أسرف في ثمنه. قال: ونظر يومًا إلى حمارٍ فارهٍ تحت سالم بن قُتيبة، فقال: قِعْدة نبي، وبِذْلة جبَّار. قال عيسى بن حاضر: ذهب إلى حمار عُزير، وإلى حمار مسيح الدجَّال، وإلى حمار بلعم، وكان يقول: لو أراد أبو سيَّارة عُمَيلة بن أعزلة أن يدفع بالموسم على فرسٍ عربي، أو جملٍ مهري، لفعل، ولكنه ركب عَيرًا أربعين عامًا لأنه كان يتألَّه. وقد ضُرِب به المثل فقالوا: أصحُّ من عَيْر أبي سيَّارة.
والفضل هو الذي يقول في قصصه: سَلِ الأرض فقُل: من شقَّ أنهارك، وغرس أشجارك، وجنى ثمارك؟ فإن لم تُجِبك حِوارًا، أجابتك اعتبارًا.
وكان عبد الصمد بن الفضل أغزر من أبيه وأعجب وأبيَن وأخطب. وحدَّثني أبو جعفر الصوفي القاص قال: تكلَّم عبد الصمد في خلق البعوضة وفي جميع شأنها ثلاثة مجالس تامة.
وكان يزيد بن أبان، عم الفضل بن عيسى بن أبان الرقاشي، من أصحاب أنَس والحسن، وكان يتكلم في مجلس الحسن، وكان زاهدًا عابدًا، وعالمًا فاضلًا، وكان قاصًّا مُجيدًا. قال أبو عبيدة: كان أبوهم خطيبًا، وكذلك جدهم، وكانوا خُطباء الأكاسرة؛ فلما سُبُوا ووُلِد لهم الأولاد في بلاد الإسلام وفي جزيرة العرب نزعهم ذلك العِرق، فقاموا في أهل هذه اللغة كمقامهم في أهل تلك اللغة، وفيهم شعر وخُطب، وما زالوا كذلك حتى أصهر الغُرباء إليهم، ففسد ذلك العِرق ودخله الخوَر.
ومن خطباء إياد «قُسُّ بن ساعدة»، وهو الذي قال فيه النبي ﷺ: رأيته بسوق عُكاظ على جملٍ أحمر وهو يقول: «أيها الناس، اجتمِعوا، فاسمعوا وعوا. من عاش مات، ومن مات فات، وكل ما هو آتٍ آتٍ.» وهو القائل في هذه: «آياتٌ مُحكَمات، مطر ونبات، وآباء وأمَّهات، وذاهب وآتٍ؛ ونجومٌ تمور، وبحورٌ لا تغور؛ وسقفٌ مرفوع، ومهادٌ موضوع؛ وليلٍ داجٍ، وسماءٍ ذات أبراج. ما لي أرى الناس يموتون ولا يرجعون؟ أرضوا فأقاموا، أم حُبسوا فناموا؟» وهو القائل: «يا معشر إياد، أين ثمود وعاد، وأين الآباء والأجداد؟ أين المعروف الذي لم يُشكر، والظلم الذي لم يُنكر؟ أقسم قُسٌّ قسمًا بالله أن لله دينًا هو أرضى له من دينكم هذا.» وأنشدوا له هذه:
ومن الخطباء «زيد بن علي بن الحسين». وكان خالد بن عبد الله أقرَّ على زيد بن علي، وداود بن علي، وأيوب بن سلمة المخزومي، وعلي بن محمد بن عمر بن علي، وعلي بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف؛ فسأل هشام زيدًا عن ذلك فقال: أحلف لك؟ قال: وإذا حلفت أصدِّقك؟ قال زيد: اتقِ الله. قال: أوَمِثلُك يا زيد يأمر مِثلي بتقوى الله؟ قال زيد: لا أحد فوق أن يُوصى بتقوى الله، ولا دون أن يُوصِي بتقوى الله. قال هشام: بلَغني أنك تريد الخلافة، ولا تصلح لها لأنك ابن أمَة. قال زيد: فقد كان إسماعيل بن إبراهيم، صلوات الله عليه، ابن أمَة، وإسحاق عليه السلام ابن حُرة، فأخرج الله عز وجل من صُلبِ إسماعيل عليه السلام خير ولد آدم محمدًا ﷺ. فعندها قال له: قم. قال: إذًا لا تراني إلا حيث تكره. ولما خرج من الدار قال: ما أحبَّ أحدٌ الحياة قطُّ إلا ذل. فقال له سالمٌ مولى هشام: لا يسمعن هذا الكلامَ منك أحد.
وقال محمد بن عُمير: إن زيدًا لما رأى الأرض قد طُبِّقت جورًا، ورأى قلة الأعوان، ورأى تخاذل الناس، كانت الشهادة أحبَّ المنيَّات إليه. وكان زيد كثيرًا ما يُنشِد:
قال: وكان كثيرًا ما يُنشِد شعر العبسي في ذلك:
ولما بعث يوسف بن عمر برأس زيد ونصر بن خزيمة مع شيبة بن عقال، وكلَّف آل أبي طالب أن يبرءوا من زيد ويقوم خطباؤهم بذلك، فأول من قام عبد الله بن الحسن فأوجز في كلامه ثم جلس، ثم قام عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر فأطنب في كلامه، وكان شاعرًا بيِّنًا وخطيبًا لسِنًا، فانصرف الناس وهم يقولون: ابن الطيَّار أخطب الناس. فقيل لعبد الله بن الحسن في ذلك، فقال: لو شئت أن أقول لقلت، ولكن لم يكن مقام سرور. فأعجب الناس ذلك منه.
وقال ابن الأعرابي: يُقال بنت الخس، وبنت الخص، وهي الزرقاء، وبنت الخسف. وقال يونس: لا يُقال إلا بنت الأخس، وهي الزرقاء. وقال أبو عمرو بن العلاء: داهيتا نساء العرب هند الزرقاء، وعنز الزرقاء. وهي زرقاء اليمامة.
قال اليَقطُري، قيل لعبد الله بن الحسن: ما تقول في المِراء؟ قال: ما عسى أن أقول في شيء يُفسِد الصداقة القديمة، ويحتل العقدة الوثيقة؟ وإن كان لأقل ما فيه أن يكون دُرْبةً للمغالبة، والمغالبة من أمتن أسباب الفتنة. إن رسول الله ﷺ لما أتاه السائب بن صيفي فقال: أتعرفني يا رسول الله؟ قال: كيف لا أعرف شريكي الذي كان لا يُشاريني ولا يُماريني؟ قال: فتحوَّلت إلى زيد بن علي فقلت له: الصمت خير أم الكلام؟ قال: أخزى الله المساكتة؛ فما أفسدها للبيان، وأجلبها للحصَر، والله لَلمماراة أسرع في هدم العي من النار في يَبس العرفج، ومن السيل في الحدور.
وقد عرف زيد أن المماراة مذمومة، ولكنه قال: المماراة على ما فيها أقل ضررًا من المساكتة التي تُورث البلدة، وتحل العقدة، وتُفسد المُنَّة، وتُورث عِللًا، وتولِّد أدواءً أيسرها العي؛ فإلى هذا المعنى ذهب زيد.
ومن الخطباء خالد بن سلمة المخزومي من قريش، وأبو حاضر، وسالم، وقد تكلَّم عند الخلفاء.
ومن خطباء بني أُسيد الحكمُ بن يزيد بن عُمير، وقد رأس.
ومن أهل اللسن منهم والبيان الحجَّاج بن عمير بن زيد.
ومن الخطباء سعيد بن العاص بن سعيد بن العاص بن أمية.
وقيل لسعيد بن المسيب: من أبلغ الناس؟ قال: رسول الله ﷺ. فقيل له: ليس عن هذا نسألك. قال: معاوية وابنه، وسعيد وابنه، وما كان ابن الزبير بدونهم، ولكن لم يكن لكلامه طلاوةٌ مقبولة.
فمن العجب أن ابن الزبير ملأ دفاتر العلماء كلامًا، وهم لا يحفظون لسعيد بن العاص وابنه من الكلام إلا ما لا بال له.
وكان سعيد جوادًا، ولم ينزع قميصه قط، وكان أسود نحيفًا، وكان يُقال له: عُكَّة العسل.
وقال الحطيئة:
وكان أول من خش الإبل في نفس عظم الأنف، وكان في تدبيره اضطراب. وقال قائل من أهل الكوفة:
والأُمراء تتحبَّب إلى الرعية بزيادة المكاييل، ولو كان المذهب في الزيادة في الأوزان كالمذهب في زيادة المكاييل ما قصَّروا، كما سأل الأحنف عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه الزيادة في المكاييل؛ ولذلك اختلفت أسماء المكاييل، كالزيادي، والفالج، والخالدي، حتى صِرنا إلى هذا المُلجَم اليوم.
ثم من الخطباء «عمرو بن سعيد»، وهو الأشدق. يُقال إن ذلك إنما قيل له لتشادُقه في الكلام. وقال آخرون: بل كان أفقم مائل الذقن؛ ولذلك قال عُبيد الله بن زياد حين أهوى إلى عبد الله بن معاوية: يدَك عنه يا لطيم الشيطان، ويا عاصي الرحمن.
وقال الشاعر:
ذُكِر ذلك عن عوانة، وهذا خلاف قول الشاعر:
وكان معاوية قد دعا به في غِلمة من قريش، فلما استنطقه قال: إن أول كل مركب صعب، وإن مع اليوم غدًا. وقال له: إلى من أوصى بك أبوك؟ قال: إن أبي أوصى إليَّ ولم يوصِ بي. قال: وبأي شيء أوصاك؟ قال: بألا يفقد إخوانه منه إلا شخصه. فقال معاوية عند ذلك: إن ابن سعيد هذا لَأشدَق. فهذا يدل عندهم على أنه إنما سُمِّي بالأشدق لمكان التشادق.
ثم كان بعد عمرو بن سعيد «سعيد بن عمرو بن سعيد»، وكان ناسبًا خطيبًا، وأعظم الناس كِبرًا. وقيل له عند الموت: إن المريض ليستريح إلى الأنين، وإلى أن يصف ما به إلى الطبيب. فقال:
ودخل على عبد الملك مع خطباء قريش وأشرافهم، فتكلَّموا من قيام، وتكلَّم وهو جالس، فتبسَّم عبد الملك وقال: لقد رجوت عثرته، ولقد أحسن حتى خِفت عثرته. فسعيد بن عمرو بن سعيد، خطيب ابن خطيب ابن خطيب.
ومن الخطباء «سُهيل بن عمرو الأعلم»، أحد بني حسل بن مَعِيص، وكان يُكنى أبا يزيد، وكان عظيم القدر، شريف النفس، صحيح الإسلام. وكان عمر رضي الله تعالى عنه قال للنبي ﷺ: يا رسول الله، انزِعْ ثَنيَّتَيه السُّفليَين حتى يدلع لسانه فلا يقوم عليك خطيبًا أبدًا. فقال رسول الله ﷺ: «لا أمثِّل فيمثِّل الله بي وإن كنت نبيًّا، دَعْه يا عمر؛ فعسى أن يقوم مقامًا نحمده.» فلما هاج أهل مكة عند الذي بلغهم من وفاة رسول الله ﷺ قام خطيبًا فقال: أيها الناس، إن يكن محمد قد مات فإن الله حي لم يمت، وقد علمتم أني أكثركم قتَبًا في بَر، وجاريةً في بحر، فأقِرُّوا أميركم وأنا ضامنٌ إن لم يتم الأمر أن أردَّها عليكم. فسكن الناس. وهو الذي قال يوم خرج آذِن عمر، وهو بالباب وعُيينة بن حصن، والأقرع بن حابس، وفلان وفلان، فقال الآذن: أين بلال، أين صهيب، أين سلمان، أين عمَّار؟ فتمعَّرت وجوه القوم، فقال سُهيل: لمَ تتمعَّر وجوهكم؟ دُعوا ودُعِينا، فأسرعوا وأبطأنا، ولئن حسدتموهم على باب عمر، لما أعدَّ الله لهم في الجنة أكثر.
ومن الخطباء «عبد الله بن عُروة بن الزُّبير». قالوا: كان خالد بن صفوان يشبَّه به. وما علمت أنه كان في الخطباء أحدٌ أجود خطبًا من خالد بن صفوان وشبيب بن شيبة؛ للذي يحفظه الناس ويدور على ألسنتهم من كلامهما، وما علِمنا أن أحدًا ولَّد لهما حرفًا واحدًا.
ومن النسَّابين من بني العنبر ثم من بني المُنذر «الختف بن زيد بن جَعوَنة»، وهو الذي تعرَّض له دغفل بن حنظلة العلَّامة عند ابن عامر بالبصرة، فقال له: متى عهدُك بسَجاحِ أمِّ صادر؟ فقال له: ما لي بها عهد منذ أضلَّت أم حِلس. وهي بعض أمهات دغفل. فقال له:
أنشدتُك بالله، أنحن كنَّا لكم أكثر غزوًا في الجاهلية أم أنتم لنا؟ قال: بل أنتم؛ فلم تُفلِحوا ولم تنجحوا. غزانا فارسُكم وسيدكم وابن سيدكم، فهزمناه مرةً وأسرناه مرة، وقتلناه مرة، وأخذنا في فدائه خِدر أمه. وغزانا أكثركم غزوًا، وأنبهكم في ذلك ذِكرًا، فأعرجناه ثم أرجلناه. فقال ابن عامر: أسألكما بالله لمَّا كفَفتُما.
وكان عبد الله بن عامر ومصعب بن الزبير يُحبَّان أن يعرفا حالات الناس، فكانا يُغْريان بين الوجوه وبين العلماء؛ فلا جَرَم أنهما كانا إذا سبَّا أوجعا.
وكان أبو بكر، رضي الله تعالى عنه، أنسب هذه الأمة، ثم عمر، ثم جُبير بن مُطعِم، ثم سعيد بن المُسيب، ثم محمد بن سعيد بن المُسيب. ومحمد هو الذي نفى آل عنكة المخزوميين، فرُفع ذلك إلى والي المدينة فجلده الحد. وكان يُنشد:
يعني هُبيرة بن أبي وهب المخزومي.
ومن النسَّابين العلماء «عُتبة بن عمرو» بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، وكان من ذوي الرأي والدهاء، وكان ذا منزلة من الحجَّاج بن يوسف. وعمر بن عبد الرحمن خامس خمسة في الشرف. وكان هو الساعيَ بين الأزد وتميم في الصلح.
ومن بني الحُرقوس «شُعبة بن القَلعَم»، وكان ذا لسان وجواب وعارضة، وكان وصَّافًا فصيحًا. وبنوه، عبد الله وعمر وخالد، كلهم كانوا في هذه الصفة، غير أن خالدًا كان قد جمع مع اللسان العلمَ والحلاوة والظَّرف. وكان الحجَّاج لا يصبر عنه.
ومن بني أُسيد بن عمرو بن تميم «أبو بكر بن الحكم»، كان ناسبًا راوية شاعرًا، وكان أحلى الناس لسانًا، وأحسنهم منطقًا، وأكثرهم تصرفًا، وهو الذي يقول له رؤبة:
ومنهم «مُعلَّل بن خالد»، أحد بني أنمار بن الهُجيم، وكان نسَّابة علَّامة راويةً صدوقًا مُقلدًا، وذُكِر للمُنتجِع بن نَبْهان فقال: كان لا يُجارى ولا يُمارى.
ومنهم من بني العَنبر ثم من بني عمرو بن جندب «أبو الخنساء عبَّاد بن كُسيب»، وكان شاعرًا علَّامة، وراويةً نسَّابة، وكانت له حُرمة بأبي جعفر المنصور.
ومنهم «عمرو بن خَولة»، كان ناسبًا خطيبًا، وراوية فصيحًا، من ولد سعيد بن العاص.
والذي أتى سعيدَ بن المسيب ليعلِّمه النسب هو «إسحاق بن يحيى بن طلحة».
وكان «يحيى بن عُروة بن الزبير» ناسبًا عالمًا، ضربه «إبراهيم بن هشام المخزومي» والي المدينة حتى مات لبعض القول.
وكان «مصعب بن عبد الله بن ثابت» ناسبًا عالمًا، ومن ولده «الزبيري» عامل الرشيد على المدينة واليمن.
ومنهم ثم من قريش «محمد بن جعفر بن حفص»، وهو ابن عائشة، ويُكنى أبا بكر، وابنه «عُبيد الله» كان يجري مَجراه، يُكنى أبا عبد الرحمن.
ومن خُزاعة بن مازن «أبو عمرو» و«أبو سفيان»، ابنا العلاء بن عمَّار بن العريان.
فأما «أبو عمرو» فكان أعلم الناس بأمور العرب، مع صحة سماع، وصدق لسان. وحدَّثني الأصمعي قال: جلست إلى أبي عمرو عشرَ حِججٍ ما سمعته يحتجُّ ببيتٍ إسلامي. قال، وقال مرةً: لقد كثر هذا المُحدَث وحَسُن حتى هممت أن آمر فِتياننا بروايته.
يعني شعر جرير والفرزدق وأشباههما.
وحدَّثني أبو عُبيدة قال: كان أبو عمرو أعلمَ الناس بالعرب والعربية، وبالقراءة والشعر وأيام الناس، وكانت داره خلف دار جعفر بن سليمان، وكانت كُتُبه التي كتب عن العرب الفصحاء قد ملأت بيتًا له إلى قريب من السقف، ثم إنه تقرَّأها فأحرقها كلها، فلما رجع بعدُ إلى علمه الأول لم يكن عنده إلا ما حفظه بقلبه. وكانت عامة أخباره عن أعراب قد أدركوا الجاهلية.
وفي أبي عمرو بن العلاء يقول الفرزدق:
فإذا كان الفرزدق وهو راوية الناس وشاعرهم وصاحب أخبارهم يقول فيه مثل هذا القول، فهو الذي لا يُشَك في خطابته وبلاغته.
وقال يونس: لولا شِعر الفرزدق لذهب نِصف أخبار الناس.
وقال في أبي عمرٍو مكي بن سَوادة:
وكان «أبو سفيان بن العلاء» ناسبًا، وكلاهما كُناهما أسماؤهما، وكذلك «أبو عمرو بن لبيد». و«أبو سفيان بن العلاء» بن لبيد التغلبي خليفة «عيسى بن شبيب المازني» على شرط البصرة.
وكان «عَقيل بن أبي طالب» ناسبًا عالمًا بالأمهات، بيِّن اللسان، شديد الجواب، لا يقوم له أحد.
وكان «أبو الجهم بن حُذيفة العدوي» ناسبًا شديد العارضة، كثير الذِّكر للأمهات بالمثالب.
ورؤساء النسَّابين «دَغفَل بن حنظلة»، أحد بني عمرو بن شيبان، لم يدرك الناس مِثله لسانًا وعلمًا وحفظًا.
ومن هذه الطبقة «زيد بن الكيِّس النَّمري». ومن نسَّابي كلب «محمدُ بن السائب»، و«هشام بن محمد بن السائب»، و«شرقي بن القطامي».
وكان أعلاهم في العلم ومن ضُرب به المثل «حمَّاد بن بشر».
قال سماك العُكلي:
وقد ذكرنا دغفلًا. وأخو هلال هو زيد بن الكيِّس، وبنو هلال حي من النمر بن قاسط.
وقال مِسكين بن أنيف الدارمي في ذلك:
وقال ثابت قُطنة:
وقال زياد الأعجم:
يهجو فيها بني الخنساء.
ومنهم «إياس النصري»، كان أنسب الناس، وهو الذي قال: كانوا يقولون أشعرُ العرب أبو دواد الإيادي، وعدي بن زيد العبادي.
وكان «أبو نَوفل بن أبي عقرب» علَّامة ناسبًا خطيبًا فصيحًا، وهو رجل من كنانة، أحد بني عُريج.
ومن بني كِنانة ثم من بني الشدَّاخ «يزيد بن بكر بن دأب»، وكان يزيد عالمًا ناسبًا، وراويةً شاعرًا، وهو القائل:
وولدَ يزيدُ «يحيى» و«عيسى»، هو الذي يُعرف في العامة ﺑ «ابن دأبٍ»، وكان من أحسن الناس حديثًا وبيانًا، وكان شاعرًا راوية، وصاحب رسائل وخطب، وكان يُجيدها جدًّا.
ومن آل دأب «حُذيفةُ بن دأب»، وكان عالمًا ناسبًا. وفي آل دأب علمٌ بالنسب والخبر.
وكان «أبو الأسود الدؤلي» — واسمه ظالم بن عمرو بن جندل بن سفيان — خطيبًا عالمًا، وكان قد جمع شدة العقل، وصواب الرأي، وجودة اللسان، وقول الشعر، والظرف، وهو يُعَد في هذه الأصناف، وفي الشيعة، وفي العُرجان، وفي المفاليج.
وعلى كل شيء من هذا شاهدٌ سيقع في موضعه إن شاء الله تعالى.
وقال الخُس لابنته هند: أريد شراء فحل لإبلي. قالت: إن اشتريته فاشترِه أسجح الخدَّين، غائر العينَين، أرقب، أحزم، أعكى، أكوم، إن عُصي غشَم، وإن أُطيع تجرثم. وهي التي قالت لما قيل لها: ما حمَلكِ على أن زنَيتِ بعبدك؟ قالت: طول السِّواد، وقرب الوِساد.
السواد: السِّرار. أسجح: سهل واسع، يُقال: ملكت فأسجح. أرقب: غليظ الرقبة. أحزم: منتفخ موضع المحزم. أعكى، العكوة: مَغرز الوركَين في المؤخر، تصفه بشدة الوركين. إن عُصي غشم: إن عصته الناقة غصبها نفسها. تجرثم: أي بقي، مأخوذ من الجرثومة، وهي الطين والتراب يُجمع حول النخلة ليُقويها، تصفه بالصبر والقوة على الضراب. أكوم: عظيم السنام.
وقال الشاعر في السِّواد:
يقال: في لسانِ فلانٍ حُكلة، إذا كان شديد الحُبسة مع لثغ.
قالوا: وعاتَب هشام بن عبد الملك زيد بن علي، فقال له: بلَغني عنك شيء. فقال: يا أمير المؤمنين، أحلف لك؟ قال: وإذا حلفت لي أصدِّقك؟ قال: نعم، إن الله لم يرفع أحدًا فوق ألا يرضى به، ولم يضع أحدًا دون ألا يرضى منه به.
وكان «عُبيد الله» أفتك الناس، وأخطب الناس. وهو الذي أتى باب «مالك بن مِسمَع» ومعه نار ليحرق عليه داره، وقد كان نابه أمرٌ فلم يرسل إليه قبل الناس، فأشرف عليه مالك فقال: مهلًا يا أبا مطر، فوالله إن في كِنانتي سهمًا أنا به أوثق مني بك. قال: وإنك لتعُدُّني في كِنانتك؟ فوالله لو أن قمت فيها لطُلْتها، ولو قعدت فيها لخرقتها. قال مالك: مهلًا، أكثر الله في العشيرة مِثلك. قال: لقد سألت الله شططًا.
ودخل «عُبيد الله» على «عبد الملك بن مروان» بعد أن أتاه برأس مُصعَب بن الزُّبير، ومعه ناس من وجوه بكر بن وائل، فأراد أن يقعد معه على سريره، فقال له عبد الملك: ما بال الناس يزعمون أنك لا تُشبِه أباك؟ قال: والله لَأنا أشبه بأبي من الليل بالليل، والغراب بالغراب، والماء بالماء، ولكن إن شئت أنبأتك بمن لا يُشبِه أباه. قال: ومن ذاك؟ قال: من لم يُولَد لتمام، ولم تُنضِجه الأرحام، ومن لم يُشبِه الأخوال والأعمام. قال: ومن ذاك؟ قال: ابن عمي سُويد بن منجوف. قال عبد الملك: أوَكذلك أنت يا سُويد؟ قال: نعم. فلما خرجا من عنده أقبل عليه سُويد فقال: وَرِيتْ بك زِنادي، والله ما يسرُّني أنك نقصته حرفًا واحدًا مما قلت له وأن لي حُمْر النَّعم. قال: وأنا والله ما يسرُّني بحِلمك اليوم عني سُود النَّعم. وأتى «عُبيد الله» عتَّاب بن ورقاء، وعتابٌ على أصبهان، فأعطاه عشرين ألف درهم، فقال: والله ما أحسنتَ فأحمدَك، ولا أسأتَ فأذُمَّك، وإني لأقرب البُعداء، وأبعد القُرباء. وقال أشيم بن شقيق بن ثور لعُبيد الله بن زياد بن ظبيان: ما أنت قائل لربِّك وقد حمَلت رأس مصعب بن الزبير إلى عبد الملك بن مروان؟ قال: اسكت، فأنت يوم القيامة أخطب من صعصعة بن صوحان إذا تكلَّمت الخوارج.
فما ظنُّك ببلاغة رجل عُبيد الله بن زياد يُضرب به المثل؟
وإنما أردنا بهذا الحديث خاصةً الدلالة على تقديم صعصعة بن صوحان في الخطب، وأولى من كل دلالة استنطاق علي له.
وكان «عثمان بن عُروة» أخطب الناس، وهو الذي قال: والشكر وإنْ قل، ثمنٌ لكل نوال وإنْ جل.
وكان «ثابت بن عبد الله بن الزبير» من أبين الناس، ولم يكن خطيبًا.
وكان «قَسامة بن زُهير» أحد بني رِزام بن مازن، مع زُهده ونُسكه ومَنطقه، من أبين الناس، وكان يعدل بعامر بن عبد قيس في زهده ومنطقه، وهو الذي قال: روِّحوا هذه القلوب تَعِ الذِّكر. وهو الذي قال: يا معشر الناس، إن كلامكم أكثر من صمتكم، فاستعينوا على الكلام بالصمت، وعلى الصواب بالفكر. وهو الذي كان رسول عمر في البحث عن شأن المُغيرة وشهادة أبي بَكرة.
وكان «خالد بن يزيد بن معاوية» خطيبًا شاعرًا، وفصيحًا جامعًا، وجيِّد الرأي كثير الأدب، وكان أول من ترجم كُتُب النجوم والطب والكيمياء.
ومن خطباء قريش «خالد بن سلَمة المخزومي»، وهو ذو الشفة. وقال الشاعر في ذلك:
ومن خطباء العرب «عُطارد بن حاجب بن زُرارة»، وهو كان الخطيب عند النبي ﷺ، وقال فيه الفرزدق بن غالب:
ومن الخطباء «عون بن عبد الله بن عتبة بن مسعود»، وكان مع ذلك راوية ناسبًا شاعرًا. ولما رجع عن قول المرجئة إلى قول الشيعة قال:
وكان حين هرب إلى محمد بن مروان في فلِّ ابن الأشعث ألزمه ابنَه يؤدِّبه ويقوِّمه، فقال له يومًا: كيف ترى ابن أخيك؟ قال: ألزمتَني رجلًا إن غِبتُ عنه عَتَب، وإن أتيتُه حُجِب، وإن عاتبتُه غَضِب. ثم لزم عمر بن عبد العزيز، وكان ذا منزلة منه. قالوا: وله يقول جرير:
وكان «الجارود بن أبي سبرة» — ويُكنى أبا نوفل — من أبيَنِ الناس وأحسنهم حديثًا، وكان راويةً علَّامة شاعرًا مفلِّقًا، وكان من رجال الشيعة. ولما استنطقه الحجاج قال: ما ظننت أن بالعراق مِثل هذا. وكان يقول: ما أمكنني والٍ قط من أذنه إلا غلبت عليه، ما خلا هذا اليهودي. يعني بلال بن أبي بردة. وكان عليه مُتحاملًا، فلما بلغه أنه دهق حتى دُقَّت ساقه، وجُعل الوتر في خُصيَيه، أنشأ يقول:
وإنما ذكر الخصية اليسرى لأن العامة تقول: إن الولد منها يكون.
ومن الخطباء الذين لا يُضاهَون ولا يُجارَون «عبد الله بن عبَّاس». قالوا: خطبَنا بمكة — وعثمان رضي الله تعالى عنه مُحاصَر — خطبةً لو شهدتْها التُّرك والديلم لأسلمتا. وذكره حسَّان بن ثابت فقال:
وقال الحسن: كان عبد الله بن عبَّاس أول من عُرِف بالبصرة صَعِد المِنبر فقرأ البقرة وآل عمران ففسَّرهما حرفًا حرفًا، وكان والله مِثجًّا يسيل غَربًا، وكان يُسمَّى «البحر» و«حبر قريش». وقال النبي ﷺ: «اللهم فقِّهْه في الدين، وعلِّمه التأويل.» وقال عمر: غُصْ غوَّاصُ. ونظر إليه يتكلم فقال:
الشعر لأبي أخزم الطائي، وهو جد أبي حاتم طيئ أو جد جده، وكان له ابن يُقال له أخزم فمات وترك بنين، فوثبوا يومًا على جدهم أبي أخزم فأدمَوه، فقال:
أي إنهم أشبهوا أباهم في طبيعته وخُلُقه. وأحسبه كان به عاقًّا. فهكذا ذكر ابن الكلبي. والشنشنة مثل الطبيعة والسجيَّة. فأراد عمر رضي الله تعالى عنه: إني أعرف فيك مشابهةً في أبيك في رأيه وعقله. ويُقال: إنه لم يكن لقرشي مِثلُ رأي العبَّاس.
ومن خطباء بني هاشم أيضًا «داود بن علي»، وكان يُكنى أبا سليمان، وكان أنطق الناس وأجودهم ارتجالًا واقتضابًا للقول. ويُقال: إنه لم يتقدم في تحبير خطبة قط. وله كلامٌ كثير معروف محفوظ؛ فمن ذلك خطبته على أهل مكة: شكرًا شكرًا، أمَا والله ما خرَجنا لنحتفر فيكم نهرًا، ولا لنَبنيَ فيكم قصرًا. أظَنَّ عدوُّ الله أن لم نظفر به أن أُرخيَ له في زمامه، حتى عثر في فضل خِطامه؟ فالآن عاد الأمر في نِصابه، وطلعت الشمس من مطلعها، وأخذ القوسَ باريها، وعاد النَّبْل إلى النَّزَعة، ورجع الأمر إلى مستقَرِّه، في أهل بيت نبيكم؛ أهل بيت الرأفة والرحمة.
ومن خطباء بني هاشم «عبد الله بن الحسن»، وهو القائل لابنه إبراهيم أو محمد: أيْ بُني، إني مؤدٍّ إليك حق الله في تأديبك، فأدِّ إليَّ حق الله في حُسن الاستماع. أيْ بُني، كُفَّ الأذى، وارفض البذا، واستعِن على الكلام بطول الفكر في المَواطن التي تدعوك نفسك فيها إلى القول؛ فإن للقول ساعاتٍ يَضرُّ فيها الخطأ ولا ينفع فيها الصواب، واحذر مشورة الجاهل وإن كان ناصحًا، كما تحذر مشورة العاقل إذا كان غاشًّا؛ يوشك أن يورِّطاك بمشورتهما، فيسبق إليك مكر العاقل، وغرارة الجاهل.
قال الحسن بن خليل: كان المأمون قد استثقل «سهل بن هارون»، فدخل عليه سهل يومًا والناس عنده على منازلهم، فتكلَّم المأمون بكلام فذهب فيه كل مذهب، فلما فرغ المأمون من كلامه أقبل سهل بن هارون على ذلك الجمع فقال: ما لكم تسمعون ولا تعون، وتُشاهدون ولا تفهمون، وتفهمون ولا تعجبون، وتنظرون ولا تُبصرون؟ والله إنه ليفعل ويقول في اليوم القصير مِثل ما فعل بنو مروان وقالوا في الدهر الطويل. عربكم كعجمهم، وعجمكم كعبيدهم، ولكن كيف يعرف الدواءَ من لا يشعر بالداء؟ قال: فرجع له المأمون بعد ذلك إلى الرأي الأول.
ومن خطباء بني هاشم ثم من ولد جعفر بن سليمان «سليمانُ بن جعفر» والي مكة. قال المكي: سمعت مشايخنا من أهل مكة يقولون: إنه لم يَرِد عليهم أمير منذ عقلوا الكلام إلا وسليمان أبيَنُ منه قاعدًا، وأخطَبُ منه قائمًا.
وكان «داود بن جعفر» إذا خطب اسحنفر فلم يرُدَّه شيء، وكان في لسانه شبيه بالرُّتَّة.
وكان «أيوب» فوق داود في الكلام والبيان، ولم تكن له مقامات داود في الخطب. قال عيسى بن إسحاق لداود بن جعفر: بلَغني أن معاوية قال للنخَّار بن أوس: ابغِني محدِّثًا. قال: ومعي يا أمير المؤمنين تريد محدِّثًا؟ قال: نعم، أستريح منك إليه، ومنه إليك، وأنا لا أستريح إلى غير حديثك، ولا يكون صمتك في حال من الحالات أوفق لي من كلامك.
وكان «إسماعيل بن جعفر» من أدقِّ الناس لسانًا وأحسنهم بيانًا.
ومن خطباء بني هاشم «جعفر بن حسن» بن الحسين بن علي، وكان أحد من يُنازع زيدًا في الوصية، فكان الناس يجتمعون ليسمعوا مجاوباتهما فقط.
وجماعة من ولد العبَّاس في عصرٍ واحد لم يكن لهم نُظراء في أصالة الرأي، وفي الكمال والجلالة، وفي العلم بقريش والدولة، وبرجال الدعوة، مع البيان العجيب، والغَور البعيد، والنفوس الشريفة، والأقدار الرفيعة، وكانوا فوق الخطباء، وفوق أصحاب الأخبار، وكانوا يَجلُّون عن هذه الأسماء إلا أن يصف الواصف بعضهم ببعض ذلك.
منهم «عبد الملك بن صالح»، سأله الرشيد — وسليمان بن أبي جعفر وعيسى بن جعفر شاهدان — فقال له: كيف رأيت أرض كذا وكذا؟ قال: مَسافي رِيح، ومَنابت شِيح. قال: فأرض كذا وكذا؟ قال: هِضابٌ حُمْر، وبِراثٌ عُفْر. حتى أتى على جميع ما أراد، فقال عيسى لسليمان: والله ما ينبغي لنا أن نرضى لأنفسنا بالدُّون من الكلام.
الهضبة: الجبل ينبسط على الأرض، وجمعها هضاب. والبراث: الأماكن اللينة السهلة، واحدها بَرْث. وقوله: عفر؛ أي حمرتها كحمرة التراب، والظبي الأعفر: الأحمر؛ لأن حمرته كذلك، والعَفَر والعَفْر: التراب؛ ومنه قيل: ضربه حتى عفره؛ أي ألحقه بالتراب.
ومن هؤلاء «عبد الله بن صالح»، و«العبَّاس بن محمد»، و«إسحاق بن عيسى»، و«إسحاق بن سليمان»، و«أيوب بن جعفر»، هؤلاء كانوا أعلم بقريش وبالدولة وبرجال الدعوة من المعروفين برواية الأخبار، وكان إبراهيم بن السندي يحدِّثني عن هؤلاء بشيء هو خلاف ما في كُتُب الهيثم بن عدي وابن الكلبي، وإذا سمعته علمت أنه ليس من المؤلَّف المزوَّر.
وكان «عبد الله بن علي» و«داود بن علي» يُعدَلان بأمَّة من الأمم.
ومن مواليهم «إبراهيم» و«نصر» ابنا «السِّندي».
فأما «نصر» فكان صاحب أخبار وأحاديث، وكان لا يعدو حديث ابن الكلبي والهيثم.
وأما «إبراهيم» فإنه كان رجلًا لا نظير له، وكان خطيبًا، وكان ناسبًا، وكان فقيهًا، وكان نحويًّا عَروضيًّا، وحافظًا للحديث، راويةً للشعر، شاعرًا، وكان فخم الألفاظ شريف المعاني، وكان كاتب القلم كاتب العمل، وكان يتكلم بكلام رؤبة، ويعمل في الخراج بعمل زاذان فروح الأعور، وكان مُنجمًا طبيبًا، وكان من رؤساء المُتكلمين، وعالمًا بالدولة وبرجال الدعوة، وكان أحفظ الناس لما سمع، وأقلَّهم نومًا وأصبرهم على السهر.
ومن خطباء تميم «جَحدَب»، وكان خطيبًا راوية، وكان قضى على جرير في بعض مذاهبه، فقال جرير:
وهو الذي كان لقيَه خالد بن سلمة المخزومي الخطيب الناسب، فقال: والله ما أنت من حنظلة الأكرمين، ولا سعد الأكثرين، ولا عمرو الأسدين، وما في تميم خيرٌ بعد هؤلاء. فقال له جحدب: والله إنك لمن قريش، وما أنت من بيتها ولا من ثبوتها، ولا من شورها وخلافتها، ولا من أهل سِدانتها وسِقايتها.
وهو شبيه بما قال خالد بن صفوان للعَبْدري؛ فإنه قال له: هشَمتْك هاشم، وأمَّتْك أميَّة، وخزَمتْك مخزوم، وأنت من عبد دارها، ومنتهى عارها، تفتح لها الأبواب إذا أقبلتْ، وتُغلِقها إذا أدبرتْ.
ومن ولد المُنذر «عبدُ الله بن شُبرُمة» بن طُفيل بن هُبيرة بن المُنذِر، وكان فقيهًا عالمًا قاضيًا، وكان راويةً شاعرًا، وكان خطيبًا ناسبًا، وكان حاضر الجواب مفوَّهًا، وكان لاجتماع هذه الخصال فيه يُشبَّه بعامر الشعبي، وكان يُكنى أبا شبرمة. وقال يحيى بن نوفل:
وابن شبرمة الذي يقول في ابن أبي ليلى:
وقال رجل من فقهاء المدينة: من عندِنا خرج العلم. فقال ابن شبرمة: نعم، ثم لم يرجع إليكم. وقال عيسى بن موسى: دُلُّوني على رجلٍ أُولِيه مكان كذا وكذا. فقال ابن شبرمة: أصلح الله الأمير، هل لك في رجل إن دعوتموه أجابكم، وإن تركتموه لم يأتكم، ليس بالمُلحِّ طلبًا، ولا بالمُمعِن هربًا؟
وسئل عن رجل، فقال: إن له شرفًا وبيتًا وقَدمًا. ونظروا فإذا هو ساقط من السِّفلة، فقيل له في ذلك، فقال: ما كذبت، شرفه أذناه، وقدمه التي يمشي عليها، ولا بد من أن يكون له بيتٌ يأوي إليه.
قال أبو إسحاق: بل كذبت، إنما هو كقول القائل حين سأله بعض من أراد تزويج حرمة عن رجل، فقال: هو يبيع الدواب. فلما نظروا في أمره وجدوه يبيع السنانير، فلما سئل عن ذلك قال: ما كذبت؛ لأن السِّنَّور دابة. قال أبو إسحاق: بل لعَمْري لقد كذب. وهذا مِثل القائل حين سئل عن رجل في تزويج امرأة فقال: رزين المجلس، نافذ الطعنة. فحسبوه سيدًا فارسًا، فنظروا فوجوده خيَّاطًا، فسئل عن ذلك، فقال: ما كذبت؛ إنه لطويل الجلوس، جيِّد الطعن بالإبرة. فقال أبو إسحاق: بل لعَمْري لقد كذب؛ لأنه قد غرَّهم منه. وكذلك لو سأله رجل عن رجل يريد أن يُسلفه مالًا عظيمًا، فقال: هو يملك مالًا كان يبيعه بمائة ألف ومائة ألف. فلما بايَعه الرجل وجده مُعدمًا ضعيف الحيلة، فلما قيل له في ذلك قال: ما كذبك؛ لأنه يملك عينَيه وأذنَيه وأنفه وشفتَيه. حتى عد جميع أعضائه وجوارحه.
ومن قال للمُستشير هذا القول فقد غرَّه، وذلك مما لا يحلُّ في دين، ولا يَحسُن في الحرية، وهذا القول معصية لله، والمعصية لا تكون صدقًا. وأدنى منازل هذا الخبر ألا يُسمَّى صدقًا، فأما التسمية له بالكذب فإن فيها كلامًا يطول.
ومن الخطباء المشهورين في العوام والمقدَّمين في الخواص «خالد بن صفوان الأهتمي»، زعموا جميعًا أنه كان عند أبي العبَّاس أمير المؤمنين، وكان من سُمَّاره وأهل المنزلة عنده، ففخر عليه ناس من بَلْحارث بن كعب وأكثروا في القول، فقال أبو العباس: لِمَ لا تتكلم يا خالد؟ فقال: أخوال أمير المؤمنين وعصبته. قال: فأنتم أعمام أمير المؤمنين وعصبته. قال خالد: وما عسى أن أقول لقومٍ كانوا بين ناسجِ بُرد، ودابغِ جِلد، وسائسِ قرد، وراكبِ عَرد؛ دل عليهم هُدهد، وغرَّقتهم فأرة، وملَكتهم امرأة؟
وكان أذكر الناس لأول كلامه، وأحفظهم لكل شيء سلف من منطقه. قال مكي بن سوادة في صفته له:
الكِروان: جمع كَرَوان، وهو ذكر الحُبارى. والأجدل: الصقر.
وكان يُقارض «شبيب بن شيبة» لاجتماعهما على القرابة والمجاورة والصناعة، فذُكِر شبيب عنده مرةً فقال: ليس له صديق في السر، ولا عدو في العلانية.
وهذا كلام ليس يعرف قدرَه إلا الراسخون في هذه الصناعة.
وكان خالد جميلًا ولم يكن بالطويل، فقالت له امرأة: إنك لجميل يا أبا صفوان. قال: وكيف تقولين هذا وما فيَّ عمود الجمال ولا رداؤه ولا بُرنُسه. فقيل له: ما عمود الجمال؟ قال: الطول، ولست بطويل؛ ورداؤه البياض، ولست بأبيض؛ وبرنسه سواد الشعر، وأنا أشمط. ولكن قولي: إنك لمليحٌ ظريف. وخالد يُعَد في الصُّلعان.
ولكلام خالد كتابٌ يدور في أيدي الورَّاقين.
وكان «الأزهر بن عبد الحارث» بن ضِرار بن عمرو الضبِّي، عالمًا ناسبًا.
ومن خطباء بني ضبَّة «حنظلة بن ضِرار»، وقد أدرك الإسلام وطال عمره حتى أدرك يوم الجمل. وقيل له: ما بقي منك؟ قال: أذكر القديم، وأنسى الحديث، وآرق بالليل، وأنام وسط القوم.
ومن خطباء بني ضبة وعلمائهم «مثجور بن غَيلان» بن خَرَشة، وكان مقدَّمًا في المنطق، وهو الذي كتب إلى الحجَّاج: إنهم قد عرضوا عليَّ الذهب والفضة، فما ترى أن آخذ؟ قال: أرى أن تأخذ الذهب. فذهب عنه هاربًا ثم قتله بعد.
وذكره القُلاح بن حَزن المِنقَري فقال:
ومن خطباء الخوارج «قَطَري بن الفُجاءة»، له خطبةٌ طويلة مشهورة، وكلامٌ كثير محفوظ، وكانت له كُنْيتان؛ كنية في السِّلم، وهو أبو محمد؛ وكنية في الحرب، وهو أبو نعامة.
وكانت كنية «عامر بن الطفيل» في الحرب غير كنيته في السِّلم، كان يُكنى في الحرب بأبي عقيل، وفي السلم بأبي علي.
وكان «يزيد بن مَزيَد» يُكنى في السلم بأبي خالد، وفي الحرب بأبي الزبير.
وقال مسلم بن الوليد الأنصاري:
وفيه يقول:
ألا تراه قد ذكر قتل الوليد؟
وقد كان «خالد بن يزيد» اكتنى بها في الحرب في بعض أيامه بمصر.
وهذا الباب مستقصًى مع غيره في أبواب الكُنى والأسماء، وهو وارد عليكم إن شاء الله تعالى.
ومن خطباء الخوارج «ابن صُدَيقة»، وهو القاسم بن عبد الرحمن بن صديقة، وكان صُفريًّا، خطيبًا ناسبًا، ويشوبه ببعض الظَّرف والهزل.
ومن علماء الخوارج «شُبَيل بن غَرْزة الضَّبُعي» صاحب الغريب، وكان راويةً خطيبًا، وشاعرًا ناسبًا، وكان سبعين سنةً رافضيًّا، ثم انتقل خارجيًّا صُفريًّا.
ومن علماء الخوارج «الضحَّاك بن قيس الشيباني»، ويُكنى أبا سعيد، وهو الذي ملك العراق، وسار في خمسين ألفًا، وبايَعه عبد الله بن عمر بن عبد العزيز وسليمان بن هشام بن عبد الملك وصلَّيا خلفه.
وقال شاعرهم:
وكان «ابن عطاء الليثي» يُسامر الرشيد، وكان صاحب أخبار وأسمار وعلم بالأنساب، وكان أظرف الناس وأحلاهم.
وكان «عبد العزيز بن عبد الله بن عامر» بن كُريز، راويةً ناسبًا، وعالمًا بالعربية فصيحًا.
وكان «عبد الأعلى بن عبد الله بن عامر» من أبيَنِ الناس وأفصحهم، وكان مَسلمة بن عبد الملك يقول: إني لأنحِّي كَور العِمامة عن أذني لأسمع كلام عبد الأعلى بن عبد الله. وقال بعض الأمراء — وأظنُّه بلال بن أبي بُردة — لأبي نوفل الجارود بن أبي سبرة: ماذا تصنعون عند عبد الأعلى إذا كنتم عنده؟ قال: يُشاهدنا بأحسن استماع، وأحسن حديث، ثم يأتي الطبَّاخ فيمثل بين عينَيه فيقول: ما عندك؟ فيقول: عندي لون كذا، وجدي كذا، ودجاجة كذا، ومن الحُلو كذا. قال: ولمَ يسأل عن ذلك؟ قال: ليُقصِر كل رجل عما لا يشتهي حتى يأتيَه ما يشتهي. ثم يأتون بالخوان فيتضايق ونتَّسع، ويقصِّر ونجتهد، فإذا شبعنا خوى تخوية الظليم، ثم أقبل يأكل أكل الجائع المقرور.
والجارود هو الذي قال: سوء الخُلُق يُفسد العمل، كما يُفسِد الخل العسل. وهو الذي قال: عليكم بالمربد؛ فإنه يطرد الفكر، ويجلو البصر، ويجلب الخبر، ويجمع بين ربيعة ومُضَر.
وصَعِد عثمان المِنبر فأُرتجَ عليه، فقال: إن أبا بكر وعمر كانا يُعدَّان لهذا المقام مقالًا، وأنتم إلى إمامٍ عادل أحوَجُ منكم إلى إمامٍ خطيب، وستأتيكم الخُطب على وجهها، وتعلمون إن شاء الله تعالى.
وشخَص «يزيد بن عمر بن هُبيرة» إلى هشام بن عبد الملك فتكلَّم، فقال هشام: ما مات من خلَّف مِثل هذا. فقال «الأبرش الكلبي»: ليس هناك، أمَا تراه يَرشَح جبينُه لضِيق صدره؟ قال يزيد: ما لذلك رشح، ولكن لجلوسك في هذا الموضع.
وكان الأبرش ثلَّابة نسَّابة، وكان مُصاحبًا لهشام بن عبد الملك، فلما أفضت إليه الخلافة سجد وسجد من كان عنده من جلسائه، والأبرش شاهد لم يسجد، فقال له هشام: ما منعك أن تسجد يا أبرش؟ قال: ولِمَ أسجد وأنت اليوم معي ماشيًا وغدًا فوقي طائرًا؟ قال: فإن طِرت بك معي؟ قال: أتُراك فاعلًا؟ قال: نعم. قال: فالآن طاب السجود. ودخل يزيد بن عمر على المنصور — وهو يومئذٍ أمير — فقال: أيها الأمير، إن عهد الله لا يُنكَث، وعقده لا يُحَل، وإن إمارتكم بِكر؛ فأذيقوا الناس حلاوتها، وجنِّبوهم مرارتها.
قال سهل بن هارون: دخل قُطرُب النحوي على المخلوع فقال: يا أمير المؤمنين، كانت عِدَتك أرفع من جائزتك. وهو يتبسم. قال سهل: فاغتاظ الفضل بن الربيع. فقلت له: إن هذا من الحصَر والضعف، وليس هذا من الجَلَد والقوة، أمَا تراه يفتل أصابعه، ويرشح جبينه؟
وقال عبد الملك لخالد بن سلمة المخزومي: من أخطَبُ الناس؟ قال: أنا. قال: ثم من؟ قال: سيِّد جُذام. يعني رَوح بن زِنباع. قال: ثم من؟ قال: أُخَيفش ثقيف. يعني الحجَّاج. قال: ثم من؟ قال: أمير المؤمنين. قال: ويحك، جعلتني رابع أربعة. قال: نعم، هو ما سمعت.
ومن خطباء الخوارج وعلمائهم ورؤسائهم في الفُتيا، وشعرائهم ورؤساء قعدهم، «عِمرانُ بن حِطَّان».
ومن علمائهم وشعرائهم وخطبائهم «حبيب بن خُدرة الهلالي»، وعداده في بني شيبان.
وممن كان يرى رأيَ الخوارج «أبو عُبيدة» النحوي مَعمر بن المثنَّى، مولى تيم بن مُرة، ولم يكن في الأرض خارجي ولا جماعي أعلمَ بجميع العلم منه.
وممن كان يرى رأيَ الخوارج «الهيثم بن عدي» الطائي ثم البحتري.
وممن كان يرى رأى الخوارج «شُعيب بن رباب» الحنفي، أبو بكَّار، صاحب أحمد بن أبي خالد ومحمد بن حسان السَّكسَكي.
ومن الخوارج من علمائهم ورُواتهم «مسلم بن كُرزين»، وكُنيته أبو عُبيدة، وكان إباضيًّا.
ومن علمائهم الصُّفرية، وممن كان مقنعًا في الأخبار لأصحاب الخوارج والجماعة جميعًا، «مُليل»، وأظنه من بني ثعلبة.
ومن أهل هذه الصنعة «أصفر بن عبد الرحمن»، من أخوال «طوق بن مالك».
ومن خطبائهم وفقهائهم وعلمائهم «المُقعطِل»، قاضي عسكر الأزارقة أيام قَطَري.
ومن شعرائهم ورؤسائهم وخطبائهم «عبيدة بن هلال اليَشكري». وكان في بني السَّمين ومن بني شيبان خطباء العرب، وكان فيهم ذاك فاشيًا؛ ولذلك قال الأخطل:
وقال سُحيم بن حفص: كان «يزيد بن عبد الله بن رؤبة الشيباني» من أخطب الناس عند «يزيد بن الوليد»، فأمر للناس بعطاءين.
ومن الخطباء «مَعبد بن طَوق العَنبري»، دخل على بعض الأمراء فتكلَّم وهو قائم فأحسن، قال: فلما جلس تلهيع في كلامه. فقال له: ما أظرَفَك قائمًا وأموَقَك قاعدًا! قال: إني إذا قمت جدَدت، وإذا قعدت هزلت. قال: ما أحسن ما خرجت منها!
ومن خطباء عبد القيس «مَصقلة بن رقَبة بن مَصقلة» و«كَرِب بن رقَبة».
والعرب قد ذكروا من خطب العرب «العجوز»، وهي خطبة لآل رقبة، ومتى تكلَّموا فلا بد لهم منها أو من بعضها؛ «والعذراء»، وهي خطبة «قيس بن خارجة» لأنه كان أبا عُذْرها؛ «والشَّوهاء»، وهي خطبة «سحبان وائل»، وقيل ذلك لها من حسنها؛ وذلك أنه خطب بها عند معاوية فلم يُنشد شاعر ولم يخطب خطيب.
وكان «أبو عمَّار الطائي» خطيب مَذحِج كلها، فبلَغ النُّعمانَ حُسنُ حديثه فحمَله على منادمته. وكان النُّعمان أحمر العينَين، أحمر الجلد، أحمر الشعر، وكان شديد العَربدة قتَّالًا للنُّدماء، فنهاه أبو قردودة الطائي عن منادمته، فلما قتله رثاه فقال:
وقال الأصمعي: هو كقوله:
وسأل رسول الله ﷺ عمرو بن الأهتم عن الزبرقان بن بدر، فقال: إنه لَمانعٌ لحوزته، مُطاع في أذينه. قال الزبرقان: يا رسول الله، إنه ليعلم مني أكثر مما قال، ولكنه حسدني يا رسول الله في شرفي فقصَّر بي. فقال عمرو: هو والله زَمِر المروءة، ضيِّق العطن، لئيم الخال. فنظر النبي ﷺ في عينَيه، فقال: يا رسول الله، رضيتُ فقلت أحسن ما علمت، وغضبتُ فقلت أقبح ما علمت، وما كذبت في الأولى، ولقد صدقت في الآخرة. فقال رسول الله ﷺ: «إن من البيان لسحرًا.»
وتكلَّم رجل في حاجة عند عمر بن عبد العزيز — وكانت حاجته في قضائها مشقَّة — فتكلَّم الرجل بكلامٍ رقيق موجز وتأتَّى لها، فقال عمر: والله إن هذا للسِّحرُ الحلال.
ومن أصحاب الأخبار والآثار «أبو بكر بن عبد الله بن محمد بن أبي سبرة»، وكان القاضيَ قبل أبي يوسف.
ومن أصحاب الأخبار والآثار: «أبو هُنَيدة» و«أبو نعامة» العَدويَّان.
ومن الخطباء «أيوب بن القِرِّيَّة»، وهو الذي لما دخل على الحجَّاج قال له: ما أعددت لهذا الموقف؟ قال: ثلاثة حروف، كأنهن ركْبٌ وقوف؛ دنيا وآخرة ومعروف. ثم قال له في بعض القول: أقِلْني عثرتي، وأسِغْني ريقي؛ فإنه لا بد للجواد من كَبوة، وللسيف من نَبوة، وللحليم من هَفوة. قال: كلا والله حتى أوردك جهنم. ألست القائل برُستاقاباد «تغدَّوا الجَديَ قبل أن يتعشَّاكم»؟
ومن خطباء غَطفان في الجاهلية «خُوَيلِد بن عمرو»، و«العُشَراء بن جابر» بن عقيل بن هلال بن سُمَي بن مازن بن فزارة. وخويلد خطيب يوم الفِجار.
ومن أصحاب الأخبار والنَّسب والخُطب وأهل البيان «الوضَّاح بن خيثمة».
ومن أصحاب الأخبار والنَّسب والخُطب والحكام عند أصحاب النفورات «بنو الكوَّاء»، وإياهم يعني مِسكينُ بن أُنيف الدارمي حين ذكر أهل هذه الطبقة فقال:
ومن الخطباء القدماء «كعب بن لؤي»، وكان يخطب على العرب عامة، ويحضُّ كنانة خاصةً على البر، فلما مات أكبروا موته، فلم تزَل كنانة تؤرِّخ بموت كعب بن لؤي إلى عام الفيل.
ومن الخطباء الأبْيِناء العلماء الذين جرَوا من الخطابة على أعراقٍ قديمة، «شبيب بن شيبة»، وهو الذي يقول في صالح بن أبي جعفر المنصور، وقد كان المنصور أقام صالحًا فتكلَّم، فقال شبيب: ما رأيت كاليوم أبيَنَ بيانًا، ولا أجوَد لسانًا، ولا أربط جَنانًا، ولا أبلَّ ريقًا، ولا أحسن طريقًا، ولا أغمض عروقًا، من صالح. وحُقَّ لمن كان أمير المؤمنين أباه، والمهدي أخاه، أن يكون كما قال زهير:
وخرج شبيب من دار الخلافة يومًا فقال له قائل: كيف رأيت الناس؟ قال: رأيت الداخل راجيًا، والخارج راضيًا. وقال خالد بن صفوان: اتقوا مجانيق الضعفاء. يريد الدعاء. وقال شبيب: اطلب الأدب؛ فإنه دليل على المروءة، وزيادة في العقل، وصاحب في الغُربة، وصلة في المجلس. وقال شبيب للمهدي يومًا: أراك الله في بَنِيك ما أرى أباك فيك، وأرى الله بَنِيك فيك ما أراك في أبيك.
وقال أبو الحسن، قال زيد بن علي بن الحسين: اطلب ما يعنيك، واترك ما لا يعنيك؛ فإن في ترك ما لا يعنيك دَرَكًا لما يعنيك، وإنما تُقدَّم على ما قدَّمتَ، ولستَ تُقدَّم على ما أخَّرت؛ فآثر ما تلقاه غدًا على ما لا تراه أبدًا. أبو الحسن، عن إبراهيم بن سعد قال، قال خالد بن صفوان: ما الإنسان لولا اللسان إلا صورةٌ ممثَّلة، أو بهيمةٌ مُهمَلة.
أبو الحسن قال: كان «أبو بكر خطيبًا»، وكان «عمر» خطيبًا، وكان «عثمان» خطيبًا، وكان «علي» خطيبًا.
وكان من الخطباء «معاوية» و«يزيد» و«عبد الملك» و«معاوية بن يزيد» و«مروان» و«سليمان» و«يزيد بن الوليد» و«الوليد بن يزيد» و«الوليد بن عبد الملك» و«عمر بن عبد العزيز».
ومن خطباء بني هاشم «زيد بن علي» و«عبد الله بن حسن» و«عبد الله بن معاوية»، خطباء لا يُجارَون.
ومن خطباء النُّسَّاك والعُبَّاد «الحسن بن أبي الحسن البصري»، و«مطرِّف بن عبد الله الحَرَشي»، و«مؤرِّق العِجلي»، و«بكر بن عبد الله المُزني»، و«محمد بن واسع الأزدي»، و«يزيد بن أبان الرقاشي»، و«مالك بن دينار السامي».
وليس الأمر كما قال؛ في هؤلاء القاصُّ المُجيد، والواعظ البليغ، وذو المنطق الوجيز؛ فأما الخُطب فإنا لا نعلم أحدًا يتقدم الحسن البصري فيها، وهؤلاء وإن لم يُسمَّوا خطباء فإن الخطيب لم يكن يشقُّ غُبارهم.
أبو الحسن قال، حدَّثني أبو سليمان الحميري قال، كان هشام بن عبد الملك يقول: إني لأستصفق العمامة الرقيقة تكون على أذني إذا كان «عبد الأعلى بن عبد الله بن عامر» يتكلم؛ مَخافةَ أن يسقط عني من حديثه شيء.
ومن الخطباء من بني عبد الله بن غطفان «أبو البلاد»، وكان راوية ناسبًا.
ومنهم «هاشم بن عبد الأعلى» الفَزاري.
ومن الخطباء «حفص بن معاوية الغلابي»، وكان خطيبًا، وهو الذي قال حين أشرك سليمان بن علي بينه وبين مولًى له على دارة القتب: أشركتَ بيني وبين غير الكَفِي، وولَّيتَني غيرَ السَّنِي.
ومن بني هلال بن عامر «زُرعة بن ضَمرة»، وهو الذي قيل: لولا غُلوٌّ فيه ما كان كلامه إلا الذهب. وقام عند معاوية بالشام خطيبًا، فقال معاوية: يا أهل الشام، هذا خالي فَأْتوني بخالٍ مِثله.
وكان ابنه «النعمان بن زُرعة» بن ضمرة من أخطب الناس، وهو أحد من كان تخلَّص من الحجَّاج من فلِّ ابن الأشعث بالكلام اللطيف.
قال سُحيم بن حفص: ومن الخطباء «عاصم بن عبد الله بن يزيد الهلالي»، تكلَّم هو و«عبد الله بن الأهتم» عند عمر بن هُبيرة يُفضل عاصمًا عليه، فقال قائل يومئذٍ: الخلُّ الحامض ما لم يكن ماءً.
ومن خطباء بني تميم «عمرو بن الأهتم»، وكان يُدعى المكحَّل لجماله، وهو الذي قيل فيه: إنما شعره حُللٌ منشَّرة بين أيدي الملوك تأخذ منه ما شاءت. ولم يكن في بادية العرب في زمانه أخطب منه.
ومن بني مِنقر «عبد الله بن الأهتم»، وكان خطيبًا ذا مقامات ووفادات.
ومن الخطباء «صفوان بن عبد الله بن الأهتم»، وكان خطيبًا رئيسًا، وابنه «خالد بن صفوان»، وقد وفد إلى هشام، وكان من سُمَّار أبي العبَّاس.
ومنهم «عبد الله بن عبد الله بن الأهتم»، قد ولِيَ خراسان، ووفد على الخلفاء، وخطب عند الملوك.
ومن ولده «شبيب بن شيبة» بن عبد الله بن عبد الله بن الأهتم، و«عبد الله بن عبد الله بن عبد الله بن الأهتم»، و«خاقان بن الأهتم»، وهو عبد الله بن عبد الله بن عبد الله بن الأهتم.
ومن خطبائهم «محمد الأحول بن خاقان»، وكان خطيب بني تميم، وقد رأيته وسمعت كلامه.
ومن خطبائهم «مَعمر بن خاقان»، وقد وفد.
ومن خطبائهم «مؤمَّل بن خاقان».
وقال أبو الزبير الثقفي: ما رأيت خطيبًا من خطباء الأمصار أشبه بخطباء البادية من المؤمَّل بن خاقان.
ومن خطبائهم «خاقان بن المؤمَّل بن خاقان».
وكان «صباح بن خاقان» ذا علم وبيان ومعرفة، وشدة عارضة، وكثرة رواية، مع سخاء واحتمال، وصبر على الحق، ونصرة للصديق، وقيام بحق الجار.
ومن بني مِنقر «الحكَم بن النَّضر»، وهو «أبو العلاء المِنقري»، وكان يصرِّف لسانه حيث شاء، مع جهارة واقتدار.
ومن خطباء بني صُريم بن الحارث «الخَزرَج بن الصدي».
ومن خطباء بني تميم ثم من مُقاعس «عمارة بن أبي سليمان».
ومن ولد مالك بن سعيد «عبد الله» و«خير» ابنا حبيب، كانا ناسبَين عالمين أديبين ديِّنَين.
ومن ولد مالك بن سعيد «عبد الله» و«العبَّاس» ابنا رؤبة، وكان «العبَّاس» علَّامة ناسبًا راوية، وكان «عبد الله» أرجز الناس وأفصحهم، ويُكنى «أبا الشعثاء»، وهو «العجَّاج».
ومن أصحاب الأخبار والنسب «أبو بكر الصدِّيق» رضي الله عنه، ثم «جُبير بن مُطعِم»، ثم «سعيد بن المسيب»، ثم «محمد بن سعيد» بن المسيب، ثم «قتادة»، و«عُبيد الله بن عبد الله بن عتبة المسعودي» الذي قال في كلمة له في عمر بن عبد العزيز وعبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان رضي الله عنه:
وهو الذي قيل له: كيف تقول الشعر مع النُّسك والفقه؟ فقال: إن المصدور لا يملك أن ينفث.
وقد ذكر المصدورَ أبو زُبيد الطائي في صفة الأسد فقال:
ومن خطباء هذيل «أبو المليح الهُذلي» أسامة بن عُمير.
ومنهم «أبو بكر الهُذلي»، كان خطيبًا قاصًّا، وعالمًا بيِّنًا، وعالمًا بالأخبار والآثار، وهو الذي لما فاخَر أهلَ الكوفة قال: لنا الساج، والعاج، والديباج، والخراج، والنهر العجَّاج.
(١٦) باب من أسماء الكُهان والحُكام والخطباء والعلماء من قَحْطان
قالوا: أكهَنُ العرب وأسجَعُهم «سَلمة بن أبي حيَّة»، وهو الذي يُقال له «عُزَّى سلمة».
ومنهم ومن خطباء عُمان «مُرَّة بن فَهْم التليد»، وهو الخطيب الذي أوفده المهلَّب إلى الحجَّاج.
ومن العتيك «بِشر بن المُغيرة بن أبي صُفرة»، وهو الذي قال لبني المهلَّب: يا بني عمِّي، إني والله قد قصَّرت عن شَكاة العاتب، وجاوزت شكاة المُستعتِب، حتى كأني لست موصولًا ولا محرومًا؛ فعِدوني امرأً خِفتم لسانه، أو رجوتم شكره، وإني وإن قلت هذا فلَمَا أبلاني الله بكم أعظم مما أبلاكم بي.
ومن خطباء اليمن ثم من حِميَر «الصبَّاح بن شُقي الحِميري»، كان أخطب العرب.
ومنهم ثم من الأنصار «قيس بن الشمَّاس»، ومنهم «ثابت بن قيس بن الشمَّاس» خطيب النبي ﷺ.
ومنهم «رَوح بن زِنباع»، وهو الذي لمَّا همَّ به معاوية قال: لا تُشمِتنَّ بي عدوًّا أنت وقَمتَه، ولا تسوءنَّ بي صديقًا أنت سرَرتَه، ولا تهدمنَّ مني ركنًا أنت بنَيتَه. هلَّا أتى حِلمك وإحسانك على جهلي وإساءتي؟
ومن خطبائهم «الأسود الكذَّاب بن كعب العَنسي». وكان «طُليحة» خطيبًا وشاعرًا، وسجَّاعًا كاهنًا ناسبًا. وكان «مُسيلمة الكذَّاب» بعيدًا من ذلك كله.
و«ثابت بن قيس بن شماس» هو الذي قال لعامر حين قال: أمَا والله لئن تعرَّضتَ لعنِّي وفنِّي، وذكاء سِنِّي، لتُولِّينَّ عني. فقال له ثابت: أمَا والله لئن تعرَّضتَ لسِبابي، وشبا أنيابي، وسرعة جوابي، لتكرهنَّ جَنابي. فقال النبي ﷺ: «يكفيك الله وأبناء قَيلة.»
وأخذت هذا الحديث من رجلٍ يصنع الأخبار فأنا أتَّهمه.
ومن خطباء الأنصار «بِشر بن عمرو بن محصن»، وهو أبو عَمرة الخطيب.
ومن خطباء الأنصار «سعد بن الربيع»، وهو الذي اعترضت ابنته النبي ﷺ، فقال لها: من أنت؟ قالت: ابنة الخطيب النقيب الشهيد؛ سعد بن الربيع.
ومنهم «خال حسَّان بن ثابت»، وفيه يقول حسان:
وإياه يعني حسان بقوله:
ومنهم من الرُّواة والنسَّابين والعلماء «شرقيُّ بن القطامي الكلبي»، و«محمد بن السائب الكلبي»، و«عبد الله عيَّاش الهَمْداني»، و«هشام بن محمد بن السائب الكلبي»، و«الهيثم بن عدي الطائي»، و«أبو رَوق الهَمْداني» واسمه «عطية بن الحارث»، و«أبو مِخنف لوط بن يحيى الأزدي»، و«محمد بن عمر الأسلمي الواقدي»، و«عَوانة الكلبي»، و«ابن عُيينة المهلَّبي»، و«الخليل بن أحمد» الفراهيدي، و«خلف بن حيَّان الأحمر» الأشعري.
قالوا: ومنا في الجاهلية «عُبيد بن شَريَّة»، ومنا «شِقُّ بن الصعب»، ومنا «ربيع بن ربيعة السطيح الذئبي»، ومنا «المأمور الحارثي»، و«الديَّان بن عبد المدان الحارثي»؛ الشريفان الكاهنان.
ومنهم «عمرو بن حنظلة بن نَهد الحَكَم»، وله يقول القائل:
ومنهم: «أبو الشطَّاح اللخمي»، وجمع معاوية بينه وبين دَغفل بن حنظلة البكري.
ومنهم «أبو الكُناس الكندي»، ومنهم «أبو مِخوَس الكندي»، وكانا ناسبَين عالمين.
ومن أصحاب الأخبار والآثار «عبد الله بن عتبة بن لهيعة»، ويُكنى أبا عبد الرحمن.
ومن القُدماء في الحكمة والخطابة والرياسة «عُبيد بن شريَّة» الجُرهمي، و«أسقف نجران»، و«أُكَيدِر» صاحب دُومة الجندل، و«أُفيعى نجران»، و«ذَرِب بن حوط»، و«عُلَيم بن جناب»، و«عمرو بن ربيعة»، وهو لُحَي بن حارثة بن عمرو مُزيقيا، و«جَذيمة بن مالك الأبرش»، وهو أول من أسرج الشَّمع ورمى بالمنجنيق.
(١٧) باب ذِكر النُّسَّاك والزُّهَّاد من أهل البيان
«عامر بن عبد قيس»، و«صلة بن أشيَم»، و«عثمان بن أدهم»، و«صفوان بن محرز»، و«الأسود بن كلثوم»، و«الربيع بن خيثم»، و«عمرو بن عتبة بن فرقد»، و«هرم بن حيان»، و«مؤرِّق العجلي»، و«بكر بن عبد الله بن الشِّخير الحرشي».
وبعد هؤلاء «مالك بن دينار»، و«حبيب أبو محمد»، و«يزيد الرقاشي»، و«صالح المُرِّي»، و«أبو حازم الأعرج»، و«زياد» مولى عيَّاش بن أبي ربيعة، و«عبد الواحد بن زياد»، و«حيَّان أبو الأسود»، و«دهثم أبو العلاء».
ومن النساء «رابعة القيسية»، و«مُعاذة العدوية» امرأة صلة بن أشيم، و«أم الدرداء».
ومن نساء الخوارج «البَلجاء»، و«غزالة»، و«قطام»، و«حمَّادة»، و«كُحيلة».
ومن نساء الغالية «ليلى الناعطية»، و«الصَّدوف»، و«هند».
وممن كان من النُّساك ممن أدركناه «أبو الوليد»، وهو «الحَكم الكِندي»، و«محمد بن محمد الحمراني».
ومن القدماء ممن كان يُذكَر بالقدر والرياسة، والبيان، والخطابة، والحكمة، والدهاء والنكراء؛ «لقمان بن عاد»، و«لُقيم بن لقمان»، و«مُجاشع بن دارم»، و«سليط بن كعب» بن يربوع، سمَّوه بذلك لسلاطة لسانه، وقال جرير:
و«لؤي بن غالب»، و«قُس بن ساعدة»، و«قُصي بن كلاب».
ومن الخطباء البلغاء والحكام الرؤساء «أكثَمُ بن صَيفي»، و«ربيعة بن حُذار»، و«هَرِم بن قُطبة»، و«عامر بن الظَّرِب»، و«لبيد بن ربيعة».
وكان من الشعراء وأسماء الصوفية من النُّساك ممن يُجيد الكلام «كِلاب»، و«كُليب»، و«هاشم الأوقص»، و«أبو هاشم الصوفي»، و«صالح بن عبد الجليل».
ومن القدماء العلماء بالنسب وبالغريب «الخَطَفى»، وهو جد جرير بن عطية بن الخطَفى، وهو حذيفة بن بدر بن سلمة بن عوف بن كليب بن يربوع، وإنما سُمِّي الخطَفى لأبياتٍ قالها:
العَنق: ضربٌ من السير، وهو المُسبطِر؛ فإذا ارتفع عن العنق قليلًا فهو التزيد، فإذا ارتفع عن ذاك فهو الذميل، والرسيم فوق الذميل. والخيطف: السريع؛ أي يخطف كما يخطف البرق، وخيطف من الخطف، والياء زائدة في خيطف، كما قالوا: رجل صيرف من الصرف، ورجل جيدر من الجدر وهو القِصر، وأصل الخطف الأخذ في سرعة، ثم استُعير لكل سريع.
(١٨) ذكر القُصَّاص
قصَّ «الأسود بن سريع»، وهو الذي قال:
وقص «الحسن» و«سعيد» بن أبي الحسن.
وكان «جعفر بن الحسن» أول من اتَّخذ في مسجد البصرة حلقة وأقرأ القرآن [فيها]، وقص «إبراهيم التيمي».
وقص «عُبيد بن عُمير الليثي»، وجلس إليه «عبد الله بن عمر». حدَّثني بذلك «عمرو بن فائد» بإسناد له.
ومن القُصَّاص «أبو بكر الهُذلي»، وهو «عبد الله بن أبي سليمان»، وكان خطيبًا بيِّنًا، صاحب أخبار وآثار.
وقص ابنه «مطرِّف بن عبد الله» بن الشِّخِّير في مكان أبيه.
ومن كبار القُصاص ثم من هُذيل «مُسلم بن جُندب»، وكان قاصَّ مسجد النبي ﷺ بالمدينة، وكان إمامهم وقارئهم، وفيه يقول عمر بن عبد العزيز: من سرَّه أن يسمع القرآن غضًّا فليسمع قراءة مسلم بن جندب.
ومن القُصاص «عبد الله بن عَرادة» بن عبد الله بن الوضين، وله مسجد في بني شيبان.
ومن القُصاص «موسى الأُسواري»، وكان من أعاجيب الدنيا، كانت فصاحته بالفارسية في وزن فصاحته بالعربية، وكان يجلس في مجلسه المشهور به، فيقعد العرب عن يمينه، والفُرس عن يساره، فيقرأ الآية من كتاب الله ويُفسرها للعرب بالعربية، ثم يحوِّل وجهه إلى الفُرس فيُفسرها لهم بالفارسية، فلا يُدرى بأي لسان هو أبيَن. واللغتان إذا الْتَقتا في اللسان الواحد أدخلت كل واحدة منهما الضَّيم على صاحبتها، إلا ما ذكروا من لسان «موسى بن سيَّار الأسواري»، ولم يكن في هذه الأمة بعد «أبي موسى الأشعري» أقرأ في مِحراب من «موسى بن سيار».
ثم «عثمان بن سعيد بن أسعد».
ثم «يونس النحوي»، ثم «المعلَّى».
ثم قصَّ في مسجده «أبو علي الأسواري»، وهو «عمرو بن فائد»، ستًّا وثلاثين سنة، فابتدأ لهم في تفسير سورة البقرة، فما ختم القرآن حتى مات؛ لأنه كان حافظًا للسِّيَر ولوجوه التأويلات، فكان ربما فسَّر آيةً واحدة في عدة أسابيع، كأن الآية ذُكر فيها يوم بدر، وكان هو يحفظ مما يجوز أن يلحق في ذلك من الأحاديث الكثيرة، وكان يقصُّ في فنونٍ كثيرة من القصص، ويجعل للقرآن نصيبًا من ذلك، وكان «يونس بن حبيب» يسمع منه كلام العرب ويحتجُّ به، وخصاله المحمودة كثيرة.
ثم قص من بعده «القاسم بن يحيى»، وهو «أبو العبَّاس الضرير»، لم يُدرَك في القُصَّاص مِثله.
وكان يقصُّ معهما وبعدهما «مالك بن عبد الحميد المكفوف»، ويزعمون أن «أبا علي» لم يسمع منه كلمة غيبة قط، ولا عارض أحدًا قط من المخالفين والحُساد والبُغاة بشيء من المكافأة.
فأما «صالح المُرِّي» فإنه كان يُكنى «أبا بشر»، وكان صحيح الكلام رقيق المجلس، فذكر أصحابنا أن «سُفيان بن حبيب» لما دخل البصرة وتوارى عند «مرحوم العطار» قال له مرحوم: هل لك أن تأتيَ قاصًّا عندنا فتتفرج بالخروج والنظر إلى الناس والاستماع منه؟ فأتاه على تكرُّه كأنه ظنَّه كبعض من يبلغه شأنه، فلما أتاه وسمع منطقه، وسمع تلاوته للقرآن، وسمعه يقول: حدَّثنا سعيد عن قتادة، وحدَّثنا قتادة عن الحسن، رأى بيانًا لم يحتسبه، ومذهبًا لم يكن يُدانيه، فأقبل سُفيان على مرحوم فقال: هذا ليس قاصًّا، هذا نذير.
(١٩) باب ما قيل في المَخاصر والعِصِي وغيرهما
كانت العرب تخطب بالمخاصر، وتعتمد على الأرض بالقِسِي، وتُشير بالعِصِي والقنا، نعم حتى كانت المخاصر لا تُفارق أيدي الملوك في مجالسها؛ ولذلك قال الشاعر:
وقال الشاعر قولًا فسَّر فيه ما قلنا، قال:
وقال الكُميت بن زيد:
وكما قال الأنصاري في المجامع حيث يقول:
وفي المخاصر والعِصي، وفي خد وجه الأرض بأطراف القِسي، قال الحطيئة:
وقال لبيد بن ربيعة في الإشارة:
وقال في خد وجه الأرض بالعِصي والقِسي:
عوج: جمع عوجاء، وهي ها هنا القوس. والسراء: شجر يُعمل منه القوس، وفي مِثله يقول الشاعر:
وقال الآخر:
وقال لبيد بن ربيعة في ذكر القِسي:
وقال مَعنُ بن أوس المُزني:
ومما قالوا في حمل القناة قوله:
وكما قال جرير بن الخطَفى:
وزعم سُحيم بن حفص أنه كان يُقال: أخطَبُ بني تميم البعيثُ إذا أخذ القناة. وقال يونس: لعَمْري لئن كان مغلَّبًا في الشعر لقد كان غُلِّب في الخطب.
ومن الشعراء من يَغلِب شيءٌ قاله في شعره على اسمه وكُنيته فيُسمَّى به، وهم كثير.
فمنهم «البعيث» هذا.
فسُمِّي «عويف القوافي».
ومنهم «يزيد بن ضِرار» التغلبي، غلب عليه «المزرِّد» لقوله:
فسُمِّي «المزرِّد».
ومنهم «عمرو بن سعيد» بن مالك، غلب عليه «المرقِّش»؛ وذلك لقوله:
فسُمِّي «مرقشًا».
ومنهم: «شاس بن نهار العبدي»، غلب عليه «الممزَّق» لقوله:
فسُمِّي «الممزق».
ومنهم «جرير بن عبد المسيح» الضبعي، غلب عليه «المتلمِّس» لقوله:
ومنهم «عمرو بن رباح» بن عمرو السُّلمي، أبو خنساء بنت عمرو، غلب «الشريد» على اسمه لقوله:
فسُمِّي «الشريد». وهذا كثير.
ودخل رجل من قيس عيلان على عبد الملك بن مروان، فقال: زُبَيريٌّ عُمَيري، والله لا يُحبُّك قلبي أبدًا. قال: يا أمير المؤمنين، إنما يجزع من فُقدان الحب المرأة، ولكن عدل وإنصاف.
وقال عمر لأبي مريم الحنفي السلولي قاتل زيد بن الخطاب: لا يُحبُّك قلبي أبدًا حتى تحب الأرض الدم المسفوح.
وهذا مثل قول الحجَّاج: والله لأقلعنَّك قلع الصمغة. لأن الصمغة اليابسة إذا فُرقت عن الشجرة انقلعت انقلاع الجُلْبة، والأرض لا تنشف الدم المسفوح ولا تمصُّه، فمتى جف الدم وتجلَّب لم ترَه أخذ من الأرض شيئًا.
ومن الخطباء: «الغضبان بن القَبَعثَرى»، وكان محبوسًا في سجن الحجَّاج، فدعا به يومًا، فلما رآه قال: إنك لسمين. قال: القَيد والرَّتعة، ومن يكن ضيفًا للأمير يَسمَن.
وقال يزيد بن عياض: لما نَقم الناس على عثمان خرج يتوكَّأ على مروان وهو يقول: لكلِّ أمَّةٍ آفة، ولكلِّ نعمةٍ عاهة، وإن آفة هذه الأمَّة عيَّابون طعَّانون، يُظهرون لكم ما تُحبُّون، ويُسرُّون ما تكرهون، طغام مثل النعام، يتبعون أول ناعق. لقد نقموا عليَّ ما نقموه على عمر، ولكن قمعهم ووقمهم. والله إني لأقرب ناصرًا وأعز نفرًا، فضَل فضلٌ من مالي، فما لي لا أفعل في الفضل ما أشاء؟
ورأيت الناس يتداولون رسالة «يحيى بن يعمر» على لسان «يزيد بن المهلَّب»: إنا لقينا العدو فقتَلْنا طائفة وأسَرْنا طائفة، ولحقت طائفة بعراعر الأودية وأهضام الغيطان، وبِتْنا بعُرعُرة الجبل، وبات العدو بحضيضه، فقال الحجَّاج: ما يزيد بأبي عُذرة هذا الكلام. فقيل له: إن معه يحيى بن يعمر. فحُمِل إليه، فلما أتاه قال: أين وُلدت؟ قال: بالأهواز. قال: فأنَّى لك هذه الفصاحة؟ قال: أخذتها عن أبي.
عراعر الأودية: أسافلها، وعراعر الجبال: أعاليها. وأهضام الغيطان: مداخلها. والغيطان: جمع غائط، وهو الحائط ذو الشجر.
ورأيتهم يُديرون في كُتُبهم أن امرأةً خاصمت زوجها إلى يحيى بن يعمر فانتهرها مرارًا، فقال له يحيى: إن سألتْك ثمن شَكْرها وشَبْرك، أنشأتَ تطلُّها وتَضهَلها؟
قالوا: الضهل: القليل. والشكر: الجماع. والشبر: البضع. تطلها: تذهب بحقها، يُقال: دم مطلول، ويُقال: بئر ضهول؛ أي قليلة الماء.
فإن كانوا إنما روَوا هذا الكلام لأنه يدل على فصاحة فقد باعَده الله من صفة البلاغة والفصاحة، وإن كانوا إنما دوَّنوه في الكُتب وتذاكروه في المجالس لأنه غريب، فأبيات من شعر العجَّاج أو شعر الطِّرمَّاح أو أشعار هُذيل تأتي لهم مع حسن الرصف على أكثر مما ذكروا. ولو خاطب بقوله «إن سألتْك ثمن شَكرها وشَبرك أنشأت تطلها وتضهلها؟» الأصمعي، لظننت أنه سيجهل بعض ذلك؛ فهذا ليس من أخلاق الكُتاب ولا من آدابهم.
أبو الحسن: كان غلامٌ يُقعر في كلامه، فأتى أبا الأسود الدؤلي يلتمس بعض ما عنده، فقال له أبو الأسود: ما فعل أبوك؟ قال: أخذته الحمَّى فطبخته طبخًا، وفتخته فتخًا، وفضخته فضخًا، فتركته فرخًا.
فتخته: أضعفته، والفتيخ: الرخو الضعيف. وفضخته: دقته.
فقال أبو الأسود: فما فعلت امرأته التي كانت تُشارُّه وتُمارُّه وتُهارُّه وتُزارُّه؟ قال: طلَّقها وتزوَّجتْ غيره، فرضِيت وحظِيت وبظِيت. قال أبو الأسود: قد عرفنا رضيت وحظيت، فما بظيت؟ قال: بظيت حرفٌ من الغريب لم يبلغْك. قال أبو الأسود: يا بُنيَّ، كل كلمة لا يعرفها عمُّك فاسترها كما تستر السِّنَّور خرءها.
قال أبو الحسن: مر «أبو علقمة النحوي» ببعض طرق البصرة، وهاجت به مِرَّة، فوثب عليه قوم منهم فأقبلوا يعضُّون إبهامه ويؤذِّنون في أذنه، فأفلت من أيديهم فقال: ما لكم تَتكأكئُون عليَّ كما تتكأكئُون على ذي جِنَّة؟ افرنقِعوا عنِّي. قالوا: دعوه؛ فإن شيطانه يتكلم بالهندية. وقال أبو الحسن: وهاج بأبي علقمة الدم فأُتي بحجَّام، فقال للحجَّام: اشدُد قصب المَلازم، وأرهِفْ ظُبات المشارط، وأسرِعِ الوضع، وعجِّلِ النزع، وليكن شرطك وخزًا، ومصُّك نهزًا، ولا تُكرِهنَّ أبيًّا، ولا تردَّنَّ أتيًّا. فوضع الحجَّام محاجمه في جُونته وانصرف.
فحديث أبي علقمة فيه غريب، وفيه أنه لو كان حجَّامًا مرةً ما زاد على ما قال. وليس في كلام يحيى بن يعمر شيء من الدنيا إلا أنه غريب، وهو أيضًا من الغريب بغيض.
وذكروا عن محمد بن إسحاق قال: لما جاء ابنَ الزبير — وهو بمكة — قتلُ مروان الضحَّاك بمرج راهط، قام فينا خطيبًا فقال: إن ثعلب بن ثعلب حفر بالصحصحة، فأخطأت استه الحفرة، وا لهفَ أم لم تلدني على رجل من مُحارب كان يرعى في جبال مكة، فيأتي بالشربة من اللبن فيبيعها بالقبضة من الدقيق، فيرى ذلك سدادًا من عيش، ثم أنشأ يطلب الخلافة ووراثة النبوة!
وأول هذا الكلام مُستكرَه، وهو موجود في كل كتاب، وجارٍ على لسان كل صاحب خبر، وقد سمعت لابن الزبير كلامًا كثيرًا ليس هذا في سبيله ولا يتعلق به.
وقال أبو يعقوب الأعور السُّلمي:
خلجة ظن: أي ظن سريع. تُشيف: تُشرف. بكارة مرباع: أي نوق صغار قد أذلَّت للفحل. مرباع: أي نوق ربيع، والمرباع: ربع الغنيمة في الجاهلية لصاحب الجيش، قال ابن عثمة:
وقال رجل من بني يربوع:
وقد أحسن الآخَر حيث يقول:
وقال الآخر:
وقال الخليع العطاردي: كنا بالبادية إذ نشأ عارض، وما في السماء قزَعة معلَّقة، وجاء السَّيل فاكتسح أبياتًا من بني سعد، فقلت:
وقال أبو عطاء السِّندي لعُبيد الله بن عبَّاس الكِندي:
فقال عُبيد الله: أقول عضَّ أبو عطاء ببَظْر أمه. فغُلِّب عليه.
قال أبو عبيدة، قال أبو البصير في أبي رهم السدوسي، وكان يلي الأعمال لأبي جعفر:
وقال أبو عثمان: وقد طعنت الشعوبية على أخذ العرب المخصرة في خُطبها، والقنا والقضيب، والاتكاء والاعتماد على القوس، والخد في الأرض، والإشارة بالقضيب، بكلامٍ مُستكرَه نذكُره إن شاء الله تعالى في الجزء الثالث.
ولا بد من أن نذكُر فيه بعض كلام معاوية، ويزيد، وعبد الملك، وابن الزبير، وسليمان، وعمر بن عبد العزيز، والوليد بن يزيد، ويزيد بن الوليد؛ لأن الباقين من ملوكهم لم يُذكَر لهم من الكلام الذي يُلحق بالخُطب وبصناعة المنطق إلا اليسير.
ولا بد من أن نذكُر فيه أقسام تأليف جميع الكلام، وكيف خالَف القرآن جميع الكلام الموزون والمنثور، وهو منثورٌ غير مقفًّى على مخارج الأشعار والأسجاع، وكيف صار نظمه من أعظم البرهان، وتأليفه من أكبر الحُجج.
ولا بد من أن يكون فيه ذِكر شأن إسماعيل، على نبيِّنا وعليه السلام، وانقلاب لغته وبيانه بعد أربع عشرة سنة، وكيف نسي لغته التي رُبي فيها وجرى على أعراقها، وكيف لفَظَ بجميع حاجاته بالعربية عن غير تلقين وترتيب، وحتى لم تدخله عُجمة ولا لُكنة ولا حُبسة، ولا تعلَّق بلسانه شيء من تلك العادة.
ولا بد من ذِكر بعض كلام المأمون ومذاهبه، وبعض ما يحضرني من كلام آبائه وجِلَّة رهطه.
ولا بد أيضًا من ذِكر من صَعِد المِنبر فحَصِر وخلط، أو قال فأحسن؛ ليكون الكتاب أكمل إن شاء الله تعالى.
ولا بد من ذِكر المنابر ولِمَ اتُّخذت، وكيف كانت الخطباء من العرب في الجاهلية وفي صدور الإسلام، وهل كانت المنابر لأمَّةٍ غير أمتنا، وكيف كانت الحال في ذلك.
وقد ذكرنا أن الأمم التي فيها الأخلاق والآداب والحِكَم والعلم أربع، وهي العرب والهند وفارس والروم.
وقال حُكيم بن عيَّاش الكلبي:
فما أدري بأي سبب وضَع الحبشة في هذا الموضع، وأما ذِكره لحِميَر فإن كان إنما ذهب إلى تُبَّع نفسه في الملوك فهذا له وجه، وأما النجاشي فليس هو عند الملوك في هذا المكان، ولو كان النجاشي في نفسه فوق تُبَّع وكِسرى وقيصر لمَا كان أهل مملكته من الحبش في هذا الموضع، وهو لم يفضِّل النجاشي لمكان إسلامه، يدل على ذلك تفضيله لكِسرى وقيصر، وكان وضع كلامه على ذِكر الممالك، ثم ترك الممالك وأخذ في ذكر الملوك.
والدليل على أن العرب أنطق، وأن لُغتها أوسع، وأن لفظها أدل، وأن أقسام تأليف كلامها أكثر، والأمثال التي ضُربت فيها أجوَد وأسيَر.
والدليل على أن البديهة مقصورة عليها، وأن الارتجال والاقتضاب خاصٌّ فيها، وما الفرق بين أشعارهم وبين الكلام الذي تُسميه الفُرس والروم شعرًا، وكيف صار النسيب في أشعارهم وفي كلامهم الذي أدخلوه في غنائهم وفي ألحانهم إنما يُقال على ألسنة نسائهم، وهذا لا يُصاب في العرب إلا القليل اليسير، وكيف صارت العرب تقطع الألحان الموزونة على الأشعار الموزونة، فتضع موزونًا على موزون، والعجم تُمطط الألفاظ فتقبض وتبسط حتى تدخل في وزن اللحن فتضع موزونًا على غير موزون.
وسنذكُر في الجزء الثاني من أبواب اللحن والعِي والغلط والغفلة أبوابًا ظريفة، ونذكُر فيه النَّوكى من الوجوه، ومجانين العرب، ومن ضُرِب به المَثل منهم، ونوادر من كلامهم، ومجانين الشعراء، لست أعني مثل «مجنون بني عامر» و«مجنون بي جَعدة»، وإنما أعني مثل «أبي حيَّة» في أهل البادية، ومثل «جُعيفِران» في أهل الأمصار، ومثل «أرسيموس» اليوناني.
وسنذكُر أيضًا بقيَّة أسماء الخطباء والنساك، وأسماء الظرفاء والملحاء، إن شاء الله سبحانه وتعالى.
وسنذكر من كلام الحجَّاج وغيره ما أمكننا في بقية هذا الجزء إن شاء الله تعالى.
وقال أبو الحسن المدائني: قال الحجَّاج لأنس بن مالك، حين دخل عليه في شأن ابنه عبد الله، وكان خرج مع ابن الأشعث: لا مرحبًا بك ولا أهلًا، لعنة الله عليك من شيخٍ جوَّال في الفتنة، مرةً مع أبي تُراب، ومرةً مع ابن الأشعث، والله لأقلعنَّك قلع الصمغة، ولأعصبنَّك عصب السَّلمة، ولأجرِّدنَّك تجريد الضب. قال أنس: مَن يعني الأمير أبقاه الله؟ قال: إيَّاك أعني، أصمَّ الله صداك. قال: فكتب أنس بذلك إلى عبد الملك، فكتب عبد الملك إلى الحجَّاج: بسم الله الرحمن الرحيم، يا ابن المُستفرِمة بعَجَم الزَّبيب، والله لقد همَمتُ أن أركلك برِجلي ركلةً تهوي بها في نار جهنم، قاتَلَك الله، أُخيفشَ العينَين، أصكَّ الرِّجلين، أسود الجاعرتين، والسلام.
وكان الحجَّاج أخيفش، مُسلق الأجفان؛ ولذلك قال إمام بن أرقم النُّميري، وكان الحجَّاج جعله على بعض شُرُط أبان بن مروان ثم حبسه، فلما خرج قال:
لأن طير الماء لا يكون أبدًا إلا مُنسلق الأجفان. والخَفش دون العَمش. والعصب: أن تُعصب الشجرة ذات الشوك بالعِصاب. وأصك الرجلين: تصك إحداهما الأخرى.
وخطب الحجَّاج يومًا فقال في خطبته: والله ما بقي من الدنيا إلا مِثل ما مضى، ولهُوَ أشبه به من الماء بالماء، والله ما أُحبُّ أن ما مضى من الدنيا لي بعمامتي هذه.
المفضَّل بن محمد الضبِّي قال: كتب الحجَّاج إلى قُتيبة بن مُسلم أنِ ابعث إليَّ بالآدم الجعدي الذي يفهمني ويفهم عني. فبعث إليه غدام بن شُتير. فقال الحجَّاج: لله دَرُّه! ما كتبت إليه في أمرٍ قط إلا فهم عني وعرف ما أريد.
قال أبو الحسن وغيره: أراد الحجَّاج الحج، فخطب الناس فقال: أيها الناس، إني أريد الحج، وقد استخلفت عليكم ابني محمدًا هذا، وأوصيته فيكم بخلاف ما أوصى به رسول الله ﷺ في الأنصار. إن رسول الله ﷺ أوصى أن يُقبَل من مُحسِنهم ويُتجاوز عن مُسيئهم، ألا وإني قد أوصيته ألا يَقبَل من مُحسِنكم ولا يتجاوز عن مُسيئكم، ألا وإنكم ستقولون بعدي مقالةً ما يمنعكم من إظهارها إلا مخافتي، ألا وإنكم ستقولون بعدي: لا أحسن الله له الصحابة. ألا وإني معجِّل لكم الإجابة، لا أحسن الله الخلافة عليكم. ثم نزل.
وكان يقول في خطبته: أيها الناس، إن الكفَّ عن مَحارم الله أيسر من الصبر على عذاب الله.
وقال عمرو بن عُبيد رحمه الله: كتب عبد الملك بن مروان وصية زياد بيده، وأمر الناس بحفظها وتدبُّر معانيها: إن الله عز وجل جعل لعباده عقولًا عاقَبهم بها على معصيته، وأثابهم بها على طاعته؛ فالناس بين مُحسِن بنعمة الله عليه، ومُسيء بخذلان الله إياه، ولله النعمة على المُحسن والحُجة على المُسيء، فما أولى من تمَّت عليه النعمة في نفسه، ورأى العِبرة في غيره، بأن يضع الدنيا بحيث وضعها الله فيُعطي ما عليه منها، ولا يتكثَّر بما ليس له فيها؛ فإن الدنيا دار فناء ولا سبيل إلى بقائها، ولا بد من لقاء الله، فأحذِّركم الله الذي حذَّركم نفسه، وأوصيكم بتعجيل ما أخَّرته العجَزة قبل أن تصيروا إلى الدار التي صاروا إليها، فلا تقدروا على توبة، وليس لكم منها أوبة، وأنا أستخلف الله عليكم وأستخلفه منكم.
وقد رُوي هذا الكلام عن الحجَّاج، وزيادٌ أحق به منه.
(٢٠) باب ما ذكروا فيه من أن أثر السيف يمحو أثر الكلام
قال جرير:
وقال الكُميت بن معروف:
والمثل السائر من قبل هذا: سبَقَ السيفُ العَذَل.
ومن أهل الأدب «زكريا بن درهم»، مولى بني سُليم بن منصور، صاحب سعيد بن عمرو الحرشي، وزكريا هو الذي يقول:
ومن أهل الأدب ممن وجَّهه هشام إلى الحرشي «السُّرادق بن عبد الله السَّدوسي» الفارسي، ولما ظفِر سَلْم بن قُتيبة بالأزد كان من الجند في دور الأزد انتهاب وإحراق وآثار قبيحة، فقام شبيب بن شيبة إلى سلم بن قتيبة فقال: أيها الأمير، إن هُريم بن عدي بن أبي طَحمة — وكان غير مِنطيق — قال ليزيد بن عبد الملك في شأن المهالبة: يا أمير المؤمنين، إنا والله ما رأينا أحدًا ظلم ظلمك، ولا نصر نصرك، فافعل الثالثة نقُلْها.
قال الهيثم بن عدي: قام «عبد الله بن الحجَّاج» التغلبي إلى عبد الملك بن مروان، وقد كان أراد الاتصال به، وقد كان عبد الملك حنِقًا عليه، فأقام ببابه حولًا لا يصل إليه، ثم ثار في وجهه في بعض رَكباته فقال:
فقال عبد الملك: إلى النار. فقال:
فقال عبد الملك: قد كان بعض ذاك، وأنا أستغفر الله.
وقال أبو عُبيدة: كان بين الحجَّاج وبين «العُدَيل بن فَرْخ» العجلي بعض الأمر، فتوعَّده الحجَّاج بالقتل، فقال العُديل:
ثم ظَفِر به الحجَّاج فقال له: يا عُدَيل، هل نجَّاك بساطك العريض؟ فقال: أيها الأمير، أنا الذي أقول فيك:
فقال له الحجاج: اربح نفسك، واحقن دمك، وإيَّاك وأختها؛ فقد كان الذي بيني وبين قتلك أقصَرَ من إبهام الحُبارى.
قال أبو الحسن: وقام الوليد بن عُتبة بن أبي سفيان خطيبًا بالمدينة، وكان والِيَها، يَنْعى معاوية ويدعو إلى بيعة يزيد، فلما رأى رَوح بن زِنباع إبطاءهم قال: أيها الناس، إنا لا ندعوكم إلى لخم وجُذام وكلب، ولكنا ندعوكم إلى قريش ومن جعل الله له هذا الأمر واختصَّه به، وهو يزيد بن معاوية، ونحن أبناء الطعن والطاعون وفضلات الموت، وعندنا إن أجبتم وأطعتم من المعونة والفائدة ما شئتم. فبايَع الناس.
قال: وخطب إبراهيم بن إسماعيل، من ولد المُغيرة المخزومي، فقال:
ثم قال:
ثم قال: والله إني لأُبغض القرشيَّ أن يكون فظًّا، يا عجبًا لقومٍ يُقال لهم: من أبوكم؟ فيقولون: أمُّنا من قريش. فتكلم رجل من عُرْض الناس وهو يخطب، فقال له غيره: صه؛ فإن الإمام يخطب. فقال: إنما أُمِرنا بالإنصات عند قراءة القرآن، لا عند ضُراط أحمِرة الوجين.
وقال آخر: سمعت «ابن هُبيرة» على هذه الأعواد وهو يقول في دعائه: اللهم إني أعوذ بك من عدوٍّ يَسري، ومن جليسٍ يفري، ومن صديقٍ يُطري.
قال أبو الحسن: كان «نافع بن علقمة» بن نضلة بن صفوان بن مُحرث، خال مروان، واليًا على مكة والمدينة، وكان شاهرًا سيفه لا يُغمده، وبلَغه أن فتًى من بني سهم يذكُره بكل قبيح، فلما أُتي به وأمر بضرب عنقه قال الفتى: لا تَعجلْ عليَّ، ودعني أتكلَّم. قال: أوَبِك كلام؟ قال: نعم وأزيد. يا نافع وُليت الحرمين تحكم في دمائنا وأموالنا، وعندك أربع عقائل من العرب، وبنيت ياقوتة بين الصفا والمروة — يعني داره — وأنت نافع بن علقمة بن نضلة بن صفوان بن محرث، أحسن الناس وجهًا، وأكرمهم حسبًا، وليس لنا من ذلك إلا التراب، فلم نحسدك على شيء منه ولم ننفسه عليك، ونفِست علينا أن نتكلم؟! فقال: تكلَّمْ حتى ينفكَّ فكَّاك.
علي بن مجاهد، عن جعد بن أبي الجعد، قال صعصعة بن صوحان: ما أعياني جوابُ أحدٍ ما أعياني جواب عثمان، دخلت عليه فقلت له: أُخرِجنا من ديارنا وأموالنا أن قلنا ربنا الله. قال: نحن الذين أخرجنا من ديارنا وأموالنا أن قلنا ربنا الله؛ فمنا من مات بأرض الحبشة، ومنا من مات بالمدينة.
وقال الحجَّاج على مِنبره: والله لألحُوَنَّكم لَحْو العصا، ولأعصبنَّكم عَصْب السَّلَمة، ولأضربنَّكم ضرب غرائب الإبل. يا أهل العراق، يا أهل الشقاق والنفاق، ومساوئ الأخلاق، إني سمعت تكبيرًا ليس بالتكبير الذي يُراد به الله في الترغيب، ولكنه التكبير الذي يُراد به الترهيب، وقد عرفت أنها عَجاجةٌ تحتها قصفُ فتنة. أيْ بَني اللكيعة، وعبيد العصا، وبني الإماء، والله لئن قرعت عصًا لأتركنَّكم كأمس الدابر.
مالك بن دينار قال: ربما سمعت الحجَّاج يخطب ويذكر ما صنع به أهل العراق وما صنع بهم، فيقع في نفسي أنهم يظلمونه وأنه صادق؛ لبيانه وحسن تخلُّصه بالحُجج.
وقسَّم الحجاج مالًا، فأعطى منه مالك بن دينار فقَبِل، وأراد أن يدفع منه إلى حبيبٍ أبي محمد فأبى أن يقبل منه شيئًا، ثم مر حبيب بمالك، وإذا هو يقسِّم ذلك المال، فقال له مالك: أبا محمد، لهذا قبِلناه. فقال له حبيب: دعني مما هناك، أسألك بالله، آلحجَّاج اليوم أحبُّ إليك أم قبل اليوم؟ قال: بل اليوم. فقال حبيب: فلا خير في شيء حبَّب إليك الحجَّاج.
ومر «غَيلان بن خَرَشة» الضبِّي مع «عبد الله بن عامر» على نهر عبد الله الذي يشقُّ البصرة، فقال عبد الله: ما أصلَحَ هذا النهرَ لأهل هذا المِصر! فقال غيلان: أجَل أيها الأمير، يعلِّم القوم فيه صِبيانهم السباحة، ويكون لشفاههم ومسيل مياههم، وتأتيهم فيه مِيرتهم. قالوا: ثم مر غيلان يُساير زيادًا على ذلك النهر، وكان قد عادى ابن عامر، فقال زياد: ما أضرَّ هذا النهرَ بأهل هذا المِصر! فقال غيلان: أجَل والله أيها الأمير، تنزُّ منه دُورهم، ويغرق فيه صِبيانهم، ومن أجله تَكثُر بعوضهم.
فالذين كرِهوا البيان إنما كرهوا مِثل هذا المذهب، فأما نفس حسن البيان فليس يذمُّه إلا من عجز عنه، ومن ذم البيان مدح العِي، وكفى بذلك جهلًا وخبالًا.
ولخالد بن صفوان في الجبن المأكول كلامٌ ذهب فيه شبيهًا بهذا المذهب.
ورجع طاوس عن مجلس محمد بن يوسف، وهو يومئذٍ والي اليمن، فقال: ما ظننت أن قول «سبحان الله» يكون معصية لله حتى كان اليوم، سمعت رجلًا أبلغ ابنَ يوسف عن رجل كلامًا، فقال له رجل في المجلس «سبحان الله»، كالمستعظِم لذلك الكلام، فغضب ابن يوسف.
قال أبو الحسن وغيره: دخل يزيد بن أبي مسلم على سليمان بن عبد الملك، وكان دميمًا، فلما رآه قال: على رجلٍ أجَرَّك رَسَنك وسلَّطك على المسلمين لعنةُ الله. فقال: يا أمير المؤمنين، إنك رأيتني والأمرُ عني مُدبِر، ولو رأيتني والأمر عليَّ مُقبِل لاستعظمت من أمري ما استصغرت. فقال سليمان: أفَتَرى الحجَّاج بلَغ قعر جهنم بعدُ؟ فقال: يا أمير المؤمنين، يجيء الحجَّاج يوم القيامة بين أبيك وأخيك، قابضًا على يمين أبيك وشمال أخيك، فضعه من النار حيث شئت.
وذكر يزيد بن المهلَّب يزيد بن أبي مُسلم بالعِفَّة عن الدينار والدرهم، وهمَّ أن يستكفيَه مهمًّا من أمره، فقال عمر بن عبد العزيز رحمه الله: ألا أدلُّك على من هو أزهد في الدينار والدرهم منه وهو شرُّ الخلق؟ قال: بلى. قال: إبليس.
وقال أُسيلِم بن الأحنف للوليد بن عبد الملك قبل أن يُستخلف: أصلح الله الأمير، إذا ظننت ظنًّا فلا تُحققه، وإذا سألت الرجال فسَلْهم عما تعلم، فإذا رأوا سرعة فهمك لما تَعلَم ظنُّوا بك ذلك فيما لا تعلم، ودُسَّ من يسأل لك عما لا تعلم.
وكان أُسيلم بن الأحنف الأسدي ذا بيانٍ وأدب وعقل وجاه، وهو الذي يقول فيه الشاعر:
وهذا الشعر من أشعار الحفظ والمذاكرة.
الهيثم بن عدي قال: قَدِمت وُفود العراق على سليمان بن عبد الملك بعدما استُخلف، فأمرهم بشتم الحجَّاج، فقاموا يشتمونه، فقال بعضهم: إن عدوَّ الله الحجَّاج كان عبدًا زبَّابًا، قَنوَّر ابن قَنوَّر، لا نسب له في العرب. قال سليمان: أيُّ شتمٍ هذا؟ إن عدوَّ الله الحجَّاج كتب إليَّ: إنما أنت نقطة من مِداد، فإن رأيت فيَّ ما رأى أبوك وأخوك كنتُ لك كما كنت لهما، وإلا فأنا الحجَّاج وأنت النقطة، فإن شئتُ محَوتُك وإن شئتُ أثبتُك. فالْعَنوه لعنه الله. فأقبل الناس يلعنونه، فقام ابن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري فقال: يا أمير المؤمنين، إنا نُخبرك عن عدو الله بعلم. قال: هات. قال: كان عدوُّ الله يتزيَّن تزيُّن المُومِسة، ويصعد المِنبر فيتكلم بكلام الأخيار، فإذا نزل عَمِل عَمَل الفراعنة، وأكذب في حديثه من الدجَّال. فقال سليمان لرجاء بن حَيوة: هذا وأبيك الشتم، لا ما تأتي به السفلة.
وعن عوانة قال: قطع ناس من عمرو بن تميم وحنظلة على الحجَّاج بن يوسف، فكتب إليهم: من الحجَّاج بن يوسف، أما بعد، فإنكم استخلصتم الفتنة، فلا عن حقٍّ تُقاتلون، ولا عن منكرٍ تنهوَن. وايم الله، إني لأهُمُّ أن يكون أولَ ما يَرِد عليكم من قِبلي خيلٌ تنسف الطارف والتالد، وتدع النساء أيامى، والأبناء يتامى، والديار خرابًا، والسواد بياضًا. فأيُّما رفقةٍ مرَّت بأهل ماء فأهل ذلك الماء ضامنون لها حتى تصير إلى الماء الذي يليه، تقدمةً مني إليكم، والسعيد من وُعظ بغيره. والسلام.
مَسلمة بن مُحارب قال، كان الحجَّاج يقول: أخطَبُ الناس صاحب العمامة السوداء بين أخصاص البصرة، إذا شاء خطب، وإذا شاء سكت.
يعني الحسن. يقول: إنه لم يُنصب نفسه للخطب.
ولما اجتمعت الخطباء عند معاوية في شأن يزيد وفيهم الأحنف، قام رجل من حِمير فقال: إنا لا نُطيق أفواه الكمال — يريد الجمال — عليهم المقال، وعلينا الفعال.
وهذا من الحِميري يدل على تشادُق خطباء نِزار.
سفيان بن عُيينة قال، قال ابن عبَّاس: إذا ترك العالم قول «لا أدري» أُصيبت مَقاتله. وقال عمر بن عبد العزيز رحمه الله: من قال «لا أدري» فقد أحرز نصف العلم. لأن الذي له على نفسه هذه القوة فقد دلَّنا على جودة التثبت، وكثرة الطلب، وقوة المُنة.
وقيل للمسيح ابن مريم صلوات الله عليه: من نُجالس؟ قال: من يزيد في عِلمكم مَنطقُه، وتُذكِّركم اللهَ رؤيتُه، ويرغِّبكم في الآخرة عمله. ومر المسيح بقوم يبكون فقال: ما لهؤلاء يبكون؟ قالوا: يخافون ذنوبهم. قال: اتركوها يُغفر لكم.
قال الوصافي: دخل الهيثم بن الأسود بن العُريان، وكان خطيبًا شاعرًا، على عبد الملك بن مروان فقال له: كيف نجدك؟ قال: أجدني قد ابيضَّ مني ما كنت أُحبُّ أن يَسودَّ، واسودَّ مني ما كنت أُحبُّ أن يَبيضَّ، واشتدَّ مني ما كنت أُحبُّ أن يلين، ولانَ مني ما كنت أُحبُّ أن يشتد. ثم أنشد:
وقالوا: مُروا الأحداث بالمِراء، والكهول بالفكر. وقال عبد الله بن الحسين: المِراء رائد الغضب؛ فأخزى الله عقلًا يأتيك به الغضب.
وقالوا: أربعة تشتدُّ معاشرتهم؛ الرجل المُتواني، والرجل العالم، والفرس المَرِح، والملك الشديد المملكة. وقال غازٍ أبو مجاهد يُعارضه: أربعة تشتدُّ مؤنتهم؛ النديم المُعربد، والجليس الأحمق، والمغنِّي التائه، والسفلة إذا نفروا.
وقال أبو شِمر الغسَّاني: أقبل عليَّ فلان باللحظ واللفظ، وما الكلام إلا زجر أو وعيد.
قال عُمير بن الحُباب، وروى ذلك عنه مِسعر: ما أغَرتُ على حي في الجاهلية أحزَمَ امرأةً ولا أعجز رجلًا من كلب، وأحزم رجلًا وأعجز امرأةً من تغلب. وقامت امرأة من تغلب إلى الجحَّاف بن حكيم — حين أوقع بالبشر فقتل الرجال وبقر بطون النساء — فقالت له: فضَّ الله فاك، وأصمَّك وأعماك، وأطال سُهادك، وأقلَّ رُقادك؛ فوالله إن قتلتَ إلا نساءً أسافلُهن دُميٌّ، وأعاليهن ثُديٌّ. فقال الجحَّاف لمن حوله: لولا أن تلد مِثلَها لخلَّيت سبيلها. فبلغ ذلك الحسن فقال: إنما الجحَّاف جذوة من نار جهنم.
وكان عامر بن الظَّرِب العَدواني حكيمًا، وكان خطيبًا رئيسًا، وهو القائل: يا معشر عدوان، إن الخير ألوفٌ عَزوف، ولن يُفارق صاحبه حتى يُفارقه، وإني لم أكن حكيمًا حتى اتبعت الحكماء، ولم أكُ سيِّدكم حتى تعبَّدت لكم.
وقال أعشى بني شيبان:
وقال رجل من ولد العبَّاس: ليس ينبغي للقُرشي أن يستغرق في شيء من العلم إلا علم الأخبار، فأما غير ذلك فالنُّتف والشذر من القول.
وقال آخر:
ومر رجل من قريش بفتًى من ولد عتَّاب بن أسيد وهو يقرأ كتاب سيبويه، فقال: أف لكم، عِلم المؤدِّبين وهِمة المُحتاجين! وقال ابن عتَّاب: يكون الرجل نحويًّا عَروضيًّا، وقسَّامًا فرضيًّا، وحسن الكتاب، جيِّد الحساب، حافظًا للقرآن، راوية للشعر، وهو يرضى أن يُعلِّم أولادنا بستِّين درهمًا. ولو أن رجلًا كان حسن البيان، حسن التخريج للمعاني، ليس عنده غير ذلك، لم يرضَ بألف درهم.
لأن النحوي الذي لا إمتاع عنده كالنجَّار الذي يُدعى ليعلِّق بابًا وهو أحذق الناس ثم يفرغ من تعليقه ذلك الباب، فيُقال له: انصرِف. وصاحب الإمتاع يُراد في الحالات كلها.
وقال عبد الله بن يزيد السُّفياني: عوِّد نفسك الصبر على جليس السوء؛ فإنه لا يكاد يُخطئك. وقال سهل بن عبد العزيز: من ثقل عليك بنفسه، وغمَّك في سؤاله، فألزِمْه أذنًا صمَّاء، وعينًا عمياء. سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، قال: كان أبو هريرة إذا استثقل رجلًا قال: اللهم اغفر له وأرِحْنا منه. وقال ابن أبي أميَّة:
وقال ابن عبَّاس: العلم أكثر من أن يُحصى، فخُذوا من كل شيء أحسَنَه.
المدائني، عن العبَّاس بن عامر، قال: خطب محمد بن الوليد بن عتبة إلى عمر بن عبد العزيز رحمه الله أخته، فقال: الحمد لله رب العزة والكبرياء، وصلَّى الله على محمدٍ خاتم الأنبياء. أما بعد، فقد أحسن بك ظنًّا من أودَعك حُرْمته، واختارك ولم يختَر عليك، وقد زوَّجْناك على ما في كتاب الله؛ إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان.
وخطب أعرابي وأعجله القول وكرِه أن تكون خطبته بلا تحميد ولا تمجيد، فقال: الحمد لله، غير مَلَال لذِكر الله، ولا إيثار غيره عليه. ثم ابتدأ القول في حاجته.
وسأل أعرابي ناسًا فقال: جعل الله حظكم في الخير، ولا جعل حظ السائل منكم عِذرةً صادقة.
وكتب إبراهيم بن سيابة إلى صديق له كثير المال، كثير الدَّخل، كثير النض، إما مُستسلفًا وإما سائلًا، فكتب إليه الرجل: العيال كثير، والدَّين ثقيل، والدَّخل قليل، والمال مكذوب عليه. فكتب إليه إبراهيم: إن كنت كاذبًا فجعلك الله صادقًا، وإن كنت محجوجًا فجعلك الله محذورًا.
وقال الشاعر:
وقال أعرابي: اللهم لا تُنزِلني ماء سوء فأكون امرأ سوء. وقال أعرابي: اللهم قِني عثرات الكرام. وسمع مُجاشع الرَّبعي رجلًا يقول: الشحيح أعذر من الظالم. فقال: أخزى الله شيئين خيرُهما الشُّح.
وأنشدنا أبو فروة:
وأنشد علي بن معاذ:
أبو معشر، قال: لما بلَغ عبدَ الله بن الزبير قتلُ عبد الملك بن مروان عمرو بن سعيد، قام خطيبًا فقال: إن أبا ذِبَّان قتل لطيم الشيطان، كذلك نولِّي بعض الظالمين بعضًا بما كانوا يكسبون.
ولما جلس عثمان بن عفان، رضي الله تعالى عنه، على المنبر قال: يا أيها الناس، إن الله قد فتح عليكم إفريقية، وقد بعث إليكم ابن أبي سرح عبدَ الله بن الزبير بالفتح. قم يا ابن الزبير. قال: فقمت وخطبت، فلما نزلت قال: يا أيها الناس، أنكحوا النساء على آبائهن وأخواتهن؛ فإني لم أرَ لأبي بكر الصدِّيق ولدًا أشبه به من هذا.
وقال الجرمي:
وذكر أبو العَيزار جماعة من الخوارج بالأدب والخطب:
ولما خطب «سفيان بن الأبرد» الأصم الكلبي، فبلغ في الترغيب والترهيب المبالغ، ورأى «عبد الله بن هلال اليشكري» أن ذلك قد فتَّ في أعضاد أصحابه، أنشأ يقول:
فت في عضدي: أي غرَّني وخوَّفني.
وقال أحد الخطباء الذين تكلَّموا عند الإسكندر ميتًا: كان أمسِ أنطَقَ منه اليوم، وهو اليوم أوعَظُ منه أمس. فأخذ أبو العتاهية هذا المعنى بعينه فقال:
ومن الأسجاع الحسنة قول الأعرابية لابنها حين خاصَمته إلى عامل الماء: أمَا كان بطني لك وعاءً؟ أمَا كان حجري لك فِناءً؟ أمَا كان ثديي لك سقاءً؟ فقال ابنها: أصبحتِ خطيبة، رضي الله تعالى عنك.
لأنها قد أتت على حاجتها بالكلام الوجيز المُتخير كما يبلغ ذلك الخطيب بخطبته.
وقال النَّمر بن تَولب:
وقال أبو عياد كاتب أبي خالد: ما جلس أحدٌ قط بين يديَّ إلا تَمثَّل لي أني سأجلس بين يدَيه.
قال الله عز وجل: وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا. ليس يريد بلاغة اللسان، وإن كان اللسان لا يبلغ من القلوب حيث يريد إلا بالبلاغة.
وكانت خطبة قريش في الجاهلية، يعني خطبة النساء: باسْمِك اللهم، ذكرت فلانة وفلان بها مشغوف. باسِمِك اللهم، لك ما سألت ولنا ما أعطيت.
ولما مات عبد الملك بن مروان صَعِد المِنبر الوليد ابنه، فحَمِد الله وأثنى عليه، ثم قال: لم أرَ مِثلها مُصيبةً، ولم أرَ مِثلها ثوابًا؛ موت أمير المؤمنين، والخلافة بعده. إنا لله وإنا إليه راجعون على المصيبة، والحمد لله على النعمة. انهضوا فبايِعوا على بركة الله، رحمكم الله. فقام إليه عبد الله بن همَّام فقال:
فبايَع الناس.
وقيل لعمرو بن العاص في مرضه الذي مات فيه: كيف تجدك؟ قال: أجدني أذوب ولا أثوب، وأجد نجوي أكثر من رُزئي، فما بقاء الشيخ على ذلك؟
وقيل لأعرابي كانت به أمراضٌ عِدَّة: كيف تجدك؟ قال: أما الذي يَعمِدني فحُصْر وأُسْر.
وقال مُقاتل: سمعت يزيد بن المهلَّب يخطب بواسط، فقال: يا أهل العراق، يا أهل السبق والسباق، ومَكارم الأخلاق، إن أهل الشام في أفواههم لقمةٌ دسِمة قد رُتبت لها الأشداق، وقاموا لها على ساق، وهم غير تاركيها لكم بالمِراء والجدال؛ فالْبَسوا لهم جلود النُّمور.