باب اللحن
بسم الله الرحمن الرحيم
قال أبو عثمان عمرو بن بحر: حدَّثنا عثَّام أبو يحيى، عن الأعمش، عن عِمارة بن عُمير، قال: كان أبو مَعمر يحدِّثنا فيلحن، يَتْبع ما سَمِع.
أبو الحسن قال: أوفد زيادٌ عُبيدَ الله بن زياد إلى معاوية، فكتب إليه معاوية: إن ابنك كما وصفت، ولكن قوِّم من لسانه. وكانت في عُبيد الله لُكنة؛ لأنه كان نشأ بالأساورة مع أمه مرجانة، وكان زياد تزوَّجها من شِيرويه الأسواري. وكان قال مرةً: افتحوا سيوفكم. يريد: سُلُّوا سيوفكم. فقال يزيد بن مُفرغ:
ولما كلَّمه سُويد بن منجوف في الهَثهات بن ثور، قال له: يا ابن البَظراء. فقال له سُويد: كذبتَ على نساء بني سَدوس. قال: اجلس على است الأرض. قال سُويد: ما كنت أحسب أن للأرض استًا.
قالوا: قال بِشر بن مروان — وعنده عمر بن عبد العزيز — لغلام له: ادْعُ لي صالحًا. فقال الغلام: يا صالحًا. فقال له بشر: ألقِ منها ألِف. فقال له عمر: وأنت فزِدْ في ألِفك ألِفًا.
وزعم يزيد مولى عَون قال: كان رجل بالبصرة له جارية تُسمَّى ظَمياء، فكان إذا دعاها قال: يا ضمياء. بالضاد. فقال له ابن المقفع: قل يا ظمياء. فناداها: يا ضمياء. فلما غيَّر عليه ابن المقفع مرتين أو ثلاثًا قال: هي جاريتي أو جاريتك؟
قال نصر بن سيَّار: لا تُسمِّ غلامك إلا باسمٍ يخفُّ على لسانك.
وكان محمد بن الجهم ولَّى المكِّيَّ صاحب النظَّام موضعًا من مواضع كسكر، وكان المكي لا يُحسن أن يسمِّيَ ذلك المكان ولا يتهجَّاه ولا يكتبه، وكان اسم ذلك المكان «شانَمَثنا».
وقيل لأبي حنيفة: ما تقول في رجلٍ أخذ صخرة فضرب بها رأس رجل فقتله، أتُقيده به؟ قال: لا، ولو ضرب رأسه بأبا قُبيس.
وقال يوسف بن خالد التيمي لعمرو بن عُبيد: ما تقول في دجاجة ذُبحت من قفائها؟ قال له عمرو: أحسِنْ. قال: من قفاؤها. قال: أحسِنْ. قال: من قفاءها. قال له: من عنَّاك هذا؟ قل من قفاها واسترِح. قال: وسمعت من يوسف بن خالد يقول: لا، حتى يشِجَّه. بكسر الشين. يريد: حتى يشُجَّه. بضم الشين. وكان يوسف يقول: هذا أحمر من هذا. يريد: هذا أشد حُمرةً من هذا.
وقال بِشر المريسي: قضى الله لكم الحوائج على أحسن الوجوه وأهنؤها. فقال قاسم التمَّار: هذا على قوله:
فصار احتجاج قاسم أطيبَ من لحن بِشر.
وقال مسلم بن سلَّام، حدَّثني أبان بن عثمان قال: كان زياد النَّبَطي شديد اللُّكنة، وكان نحويًّا. قال: وكان بخيلًا. دعا غلامه ثلاثًا، فلما أجابه قال: فمن لَدُن دَأَوتُك فقلت لَبَّي إلى أن أجبتني ما كنت تَصنَأ؟ يريد: من لَدُن دعوتُك إلى أن أجبتني ما كنت تصنع؟ قال: وكانت أم نُوح وبلال ابنَي جرير أعجمية. فقال لها: لا تتكلمي إذا كان عندنا رجال. فقالت يومًا: يا نوح، جُرْدَان دخل في عِجان أمك. وكان الجُرذ أكل من عجينها.
قال أبو الحسن: أُهدي إلى قيلٍ مولى زياد حِمارُ وحش، فقال لزياد: أهدَوا لنا هِمارَ وَهْش. قال: أيَّ شيء تقول وَيلَك؟ قال: أهدَوا إلينا أيْرًا. يريد عَيرًا. قال زياد: الثاني شر من الأول.
قال يحيى بن نوفل:
وقال المَيْساني في هجائه أهل المدينة:
علي بن معاذ قال: كتبت إلى فتًى كتابًا، فأجابني، فإذا عنوان الكتاب: إلى ذاك الذي كتب إليَّ. وقرأت على عنوان كتاب لأبي أميَّة الشَّمَّري: للموتِ أنا قبله. وكتب ابن المرادي إلى بعض ملوك بغداد: جُعلتُ فِداك برحمتِه.
وقال إبراهيم بن سيَّار: أنا لا أقول «متُّ قبلك»؛ لأني إذا قلت «مت قبلك» مات هو بعدي، ولكن أقول: مت بدَلَك.
وكتب عِقال بن شبَّة بن عِقال إلى زُهير بن المُسيب:
ولما كتب بَشير بن عُبيد الله على خاتَمه:
قرأه أبوه على خاتمه، قال: هذا أقبَحُ من الشرك.
وقال عبد الملك بن مروان: اللَّحن هُجنة على الشريف، والعُجب آفة الرأي. وكان يُقال: اللحن في المنطق أقبح من آثار الجُدري في الوجه.
وقال يحيى بن نوفل في خالد بن عبد الله القسري:
وزعم المدائني أن خالد بن عبد الله — وكان يُولَع بالتشديق — قال: إن كنتم رجبيُّون فإنا رمضانيُّون.
ولولا أن تلك العجائب قد صُححت على الوليد ما جوَّزت هذا على خالد.
قال: وكتب الحُصين بن الحُر كتابًا إلى عمر فلحن في حرف منه، فكتب إليه عمر: أن قنِّعْ كاتِبَك سوطًا.
وبلَغني عن كُثيِّر بن أحمد بن زُهير بن سيَّار أنه كان يُنشد بيت أبي دُلَف:
فسألته عن ذلك فحلف أنه إنما قال:
قال الله تبارك وتعالى: وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ. فاللحن في ذلك الموضع غير اللحن في ذلك الموضع.
وكان سليمان بن عبد الملك يقول: المُغيرة بن عبد الرحمن بن الحارث يُفخم اللحن كما يُفخم نافع بن جُبير الإعراب.
وقال الشاعر في نحو ذلك:
وقال خلف الأحمر:
وقال المَيْساني:
وقدَّم رجل من النحويين رجلًا إلى السلطان في دَين له عليه، فقال: أصلح الله الأمير، لي عليه درهمان. قال خصمه: لا والله أيها الأمير، إن هي إلا ثلاثة دراهم، لكنه لظهور الإعراب ترك من حقه درهمًا.
قال: خاصَم رجل إلى الشعبي أو إلى شُريح رجلًا فقال: إن هذا باعَني غلامًا فصيحًا صبيحًا. قال: هذا محمد بن عمر بن عطارد بن حاجب بن زرارة.
قال: مرَّ ماسرجويه الطبيب بجدِّ معاذ بن سعيد بن حميد الحِميري، فقال: يا ماسرجويه، إني أجد في حلقي بَحَحًا. قال: إنه عملُ بُلغَم. فلما جاوزه قال: أنا أُحسن أن أقول بَلغَم، ولكنه كلَّمني بالعربية فكلَّمته بالعربية.
وروى أبو الحسن أن الحجَّاج كان يقرأ: إنا من المجرمون المنتقمون. وقد زعم رُؤبة بن العجَّاج وأبو عمرو بن العلاء أنهما لم يرَيا قرويَّين أفصح من الحسن والحجاج. وغلط الحسن في حرفَين من القرآن، مثل قوله: ص والقرآن. والحرف الآخر: وما تنزَّلت به الشياطون.
أبو الحسن قال: كان سابقٌ الأعمى يقول: الخالق البارئ المصوَّر. فكان ابن جابان إذا لقيه قال: يا سابق، ما فعل الحرف الذي تُشرِك بالله فيه؟ قال: وقرأ: ولا تَنكحوا المشركين حتى يؤمنون. وقال ابن جابان: وإن آمنوا أيضًا لم نَنكِحهم.
وقال مَسلمة بن عبد الملك: إني لأُحبُّ أن أسأل هذا الشيخ. يعني عمرو بن مسلم. فما يمنعني منه إلا لحنه.
قال: وكان أيوب السختياني يقول: تعلَّموا النحو؛ فإنه جمال للوضيع، وتركه هُجنة للشريف.
وقال عمر: تعلَّموا النحو كما تَعلَّمون السنن والفرائض.
قال رجل للحسن: يا أبي سعيد. فقال: كسب الدوانيق شغَلك عن أن تقول يا أبا سعيد؟
قالوا: وأول لحن سُمِع بالبادية: هذه عصاتي. وأول لحن سُمِع بالعراق: حيِّ على الفلاح.
(١) باب من لَحْن البُلغاء
ومن اللحَّانين البُلغاء خالد بن عبد الله القَسْري، وخالد بن صَفوان الأهتمي، وعيسى بن المدوَّر.
وقال بعض النُّسَّاك: أعرَبْنا في كلامنا فما نَلحَن حرفًا، ولحَنَّا في أعمالنا فما نُعرِب حرفًا.
أخبرَنا الربيع بن عبد الرحمن السُّلَمي، قال: قلت لأعرابي: أتَهمِز إسرائيل؟ قال: إني إذًا لَرَجلُ سوء. قلت: فتجرُّ فلسطين؟ قال: إني إذًا لقَوي.
وأما «خالد بن الحارث» و«بِشر بن المفضَّل» الفقيهان، فإنهما كانا لا يلحنان.
وممن كان لا يلحن البتَّةَ حتى كأن لسانه لسان أعرابي فصيح: «أبو زيد» النحوي، و«أبو سعيد» المعلِّم.
قال خلف: قلت لأعرابي: أُلقي عليك بيتًا ساكنًا؟ قال: على نفسك فألْقِه.
وقال أبو الفضل العنبري لعلي بن بشير: إني التقطت كتابًا من الطريق فأُنبئت أن فيه شعرًا، أفتريده حتى آتيَك به؟ قال: نعم، إن كان مقيَّدًا. قال: والله ما أدري أمقيَّد هو أم مغلول.
الأصمعي قال: قيل لأعرابي: أتهمز الرمح؟ قال: نعم. قيل له: فقلها مهموزةً. فقالها مهموزة. قال: أتهمز التُّرس؟ قال: نعم. فلم يدع سيفًا ولا ترسًا إلا همزه، فقال له أخوه وهو يهزأ به: دعوا أخي؛ فإنه يهمز السلاح أجمع.
وقال بعضهم: ارتفع إلى زيادٍ رجل وأخوه في ميراث، فقال: إن أبونا مات، وإن أخينا وثب على مال أبانا فأكله. فقال زياد: الذي أضعتَ من لسانك أضَرُّ عليك مما أضعتَ من مالك. وأما القاضي فقال: فلا رحم الله أباك، ولا تنح عظم أخيك. قم في لعنة الله! وقال أبو شيبة قاضي واسط: أتيتمونا بعد أن أردنا أن نقم؟
قال أبو عُبيدة: أرسل ابنٌ لعِجل بن لُجيم فرسًا له في حلبة، فجاء سابقًا، فقال لأبيه: يا أبتِ، بأي شيء أسمِّيه؟ فقال: افقأ إحدى عينَيه وسمِّه الأعور.
وقال بشَّار:
وقال الراجز:
وقال الآخر:
وبسبب هذا يُدخلون في هذا المعنى قبائل اليمانية. وقال ابن أحمر:
وقال الكُميت:
فجعل الأراجيز، التي شبَّهها في لغطها والتفافها بصوت غليان القِدر، لأسلم دون غفار.
(٢) باب النَّوكى والمجانين
قالوا: ومن النوكى «مالك بن زيد مناة» بن تميم، الذي لما دخل على امرأته فرأت ما رأت به من الجفاء والجهل، وجلس في ناحية مُنقبضًا مُشتملًا، قالت: ضع عُلبتك. قال: يدي أحفظ لها. قالت: فاخلع نعلَيك. قال: رِجلاي أحفظ لهما. قالت: فضع شَمْلتك. قال: ظهري أولى بها. فلما رأت ذلك قامت فجلست إلى جانبه، فلما شم ريح الطِّيب وثب عليها.
ومن المجانين والمُوسوسين والنوكى «ابن فِنان»، و«صبَّاح المُوسوِس»، و«ريسموس اليوناني»، و«أبو حيَّة النُّميري»، و«أبو يَس الحاسب»، و«جُعيفران الشاعر»، و«جَرَنفَش»، ومنهم «سارية الليل»، ومنهم «رَيطة بنت كعب» بن سعد بن تيم بن مُرة، وهي التي نقضت غزلها أنكاثًا، فضرب الله تبارك وتعالى بها المثل، وهي التي قيل لها: خَرقاء وجدت صوفًا. ومنهم «دُغة»، و«جَهيزة»، و«شَولة»، و«ذراعة المعدِّيَّة»، ولكل واحد من هؤلاء قصةٌ سنذكُرها في موضعها إن شاء الله تعالى.
فأما «ريسموس» فكان من مُوسوِسي اليونانيين. قال له قائل: ما بال ريسموس يعلِّم الناس الشعر ولا يستطيع قوله؟ قال: مثله مثل المِسَن الذي يشحذ ولا يقطع. ورآه رجلٌ يأكل في السوق فقال: ما بال ريسموس يأكل في السوق؟ قال: إذا جاع في السوق أكل في السوق. وألحَّ عليه بالشتيمة رجل وهو ساكت، فقيل له: يشتمك مِثلُ هذا وأنت ساكت؟ قال: أرأيت إن نبحك كلبٌ أتنبحه، أو رمحك حمارٌ أترمحه؟ وكان إذا خرج في الفجر يريد الفُرات ألقى في دوَّارة بابه حجرًا حتى لا يُعانيَ دفع بابه إذا رجع. وكان كلما رجع إلى بابه وجد الحجر مرفوعًا والباب مُنصفقًا، فعَلِم أن أحدًا يأخذ الحجر من مكانه، فكمَن لصاحبه يومًا، فلما رآه قد أخذ الحجر قال: ما لك تأخذ ما ليس لك؟ قال: لم أعلم أنه لك. قال: فقد عَلِمت أنه ليس لك!
أما «جُعيفران» المُوسوِس الشاعر، فشَهِدت رجلًا أعطاه درهمًا وقال: قل شعرًا على الجيم، فأنشأ يقول:
وهي أبيات. وكان يتشيَّع، قال له قائل: أتشتم فاطمة وتأخذ درهمًا؟ قال: لا، بل أشتم عائشة وآخذ نصف درهم. وهو الذي يقول:
وهو الذي يقول في قوم لاطة:
وأما «أبو يس» الحاسب فإن عقله ذهب بسبب تفكُّره في مسألة، فلما جُن كان يهذي بأنه سيصير ملكًا، وقد أُلهِم ما يحدُث في الدنيا من الملاحم. وكان أبو نواس والرَّقاشي يقولان على لسانه أشعارًا، على مذاهب أشعار ابن عقب الليثي، ويُروِّيانها أبا يس، إذا حفظها لم يشكَّ أنه هو الذي قالها، فمن تلك الأشعار قول أبي نواس:
والبصريُّون يزعمون أن أبا يس كان أحسب الناس.
أما «أبو حيَّة النُّميري» فإنه أجَنُّ من جُعيفران، وكان أشعر الناس، وهو الذي يقول:
وهو الذي يقول:
وحدَّثني أبو المنجوف قال: قال أبو حية: عنَّ لي ظبيٌ فرمَيته، فراغَ عن سهمي، فعارَضه والله السهم، ثم راغ فراوَغه حتى صرعه ببعض الجِنارات. وقال: والله رميت ظَبْية، فلما نفذ السهم ذكرت بالظبية حبيبةً لي، فشددت وراء السهم حتى قبضت على قُذَذه، وكان يكلِّم العُمَّار، ويُخبر عن معاوضته للجن.
وأما «جرنفش» فإنه لما خلع الفرزدق لجام بَغلته، وأدنى رأسها من الماء، قال له جرنفش: نحِّ بغلتك، حلق الله ساقيك. قال: ولمَ عافاك الله؟ قال: لأنك كذوب المَخبرة، زاني الكمرة. قال أبو الحسن: وبلَغني أن الفرزدق لما أن قال له الجرنفش ما قال، نادى: يا بني سدوس. فلما اجتمعوا إليه قال: سوِّدوا الجرنفش عليكم؛ فإني لم أرَ فيكم أعقل منه.
ومن مجانين الكوفة «عينادة»، و«طاق البصل». حدَّثني صديق لي قال: قلت لعينادة: أيما أجن؛ أنت أو طاق البصل؟ قال: أنا شيء وطاق البصل شيء.
ومن مجانين الكوفة «بُهلول»، وكان يتشيع. قال له إسحاق بن الصبَّاح: أكثر الله في الشيعة مِثلك. قال: بل أكثر الله في المرجئة مِثلي، وأكثر في الشيعة مِثلك. وكان جيِّد القفاء، فربما مرَّ به من يحب العبث فيقفذه، فحشا قفاه خرءًا، وجلس على قارعة الطريق، فكلما قفذه إنسانٌ تركه حتى يجوز، ثم يصيح به: يا فتى، شُم يدك. فلم يعُد بعدها أحدٌ يقفذه. وكان يغنِّي بقيراط ويسكت بدانق. وكانت بالكوفة امرأةٌ رَعناء يُقال لها «مُجيبة»، فقفذ بُهلولًا فتًى كانت مُجيبة أرضعته، فقال له بُهلول: كيف لا تكون أرعن وقد أرضعتَك مُجيبة؟ فوالله لقد كانت تزقُّ لي الفرخ فأرى الرُّعونة في طيرانه.
حدَّثني حُجر بن عبد الجبَّار، قال: مر «موسى بن أبي ردقاء» فناداه «صبَّاح» الموسوس: يا ابن أبي الردقاء، أسْمنتَ بِرْذَونك، وأهزلت دينك. أما والله إن أمامك لعقبة لا يجوزها إلا المُخِف. فحبس موسى بِرْذَونه وقال: من هذا؟ فقيل له: هذا صبَّاح الموسوس. فقال: ما هو بمُوسوس، هذا نذير.
قال أبو الحسن: دعا بعض السلاطين مجنونَين ليُحركهما فيضحك مما يجيء منهما، فلما أسمعاه وأسمعهما غَضِب ودعا بالسيف، فقال أحدهما لصاحبه: كنَّا مجنونين فصِرنا ثلاثة.
وقال عمر بن عثمان: شيَّعت عبد العزيز بن عبد الملك المخزومي وهو قاضي مكة إلى منزله، وبباب المسجد مجنونةٌ تصفِّق وتقول:
فقال: يا أبا حفص، أتُراها تعني قاضيَ مكة؟
وتذاكروا اللُّثْغ، فقال قوم: أحسَنُ اللَّثغ ما كان على السين، وهو أن يصير ثاءً. وقال آخرون: على الراء، وهو أن يصير غينًا. فقال «مجنون البكرات»: أنا أيضًا ألثغ، إذا أردت أن أقول شرائط، قلت: رشيط.
وبعث عُبيد الله بن مروان عم الوليد إلى الوليد بقطيفةٍ حمراء، فكتب إليه الوليد: قد وصلت إليَّ القطيفة، وأنت يا عَمُّ أحمق أحمق.
وقال محمد بن بلال لوكيله زيد: اشترِ لي طِيبًا سيرافيًّا. قال: تريده سِيرافي، أو سَيْرافي سِيَرافي؟
وقال محمد بن الجهم للمكي: أراك مُستبصرًا في اعتقاد الجزء الذي لا يتجزأ، فينبغي أن يكون عندك حقًّا حقًّا. قال: أما أن يكون عندي حقًّا حقًّا فلا، ولكنه عندي حق.
ودخل أبو طالب صاحب الطعام على «هاشمية» جارية حمدونة بنت الرشيد — على أن يشتريَ طعامًا من طعامها في بعض البيادر — فقال لها: إني قد رأيت متاعك. قالت هاشمية: قل طعامك. قال: وقد أدخلت يدي فيه، فإذا متاعك قد خمَّ وحميَ وصار مِثل الجيفة. قالت: يا أبا طالب، ألست قد قبلت الشعير؟ فأعطِنا ما شئت وإن وجدته فاسدًا. ودخل أبو طالب على المأمون فقال: كان أبوك يا أبا خيرًا لنا منك، وأنت يا أبا ليس تعدنا وليس تبعث إلينا، ونحن يا أبا تُجَّارك وجيرانك. والمأمون في كل ذلك يتبسم.
قيل للمُثنَّى بن يزيد بن عمر بن هُبيرة وهو على اليمامة: إن ها هنا مجنونًا له نوادر. فأتَوه به، فقال: ما هجاء النشَّاش؟ قال: الفلَج القادي. فغضب ابن هبيرة وقال: ما جئتموني به إلا عمدًا، ما هذا بمجنون!
والنشاش: يومٌ كان لقيس على حنيفة. والفلج: يومٌ كان لحنيفة على قيس.
وأنشدوا:
وقال:
وقال:
(٣) باب في العِي
قال جعفر بن أخت واصل: كتب رجل إلى صديق له: بلَغني أن في بُستانك آسًا يهمُّني، فهَبْ لي منه أمرًا من أمر الله عظيمًا.
وقال أبو عبد الملك، وهو الذي كان يُقال له عناق: كان عيَّاش وثُمامةُ حيٌّ كان يعظِّمني تعظيمًا ليس في الدنيا مِثله، فلما مات ثُمامة صار ليس يعظِّمني تعظيمًا ليس في الدنيا مثله. وقال له عياش بن القاسم: بأي شيء تزعمون أن أبا علي الأسواري أفضل من سلَّام أبي المُنذر؟ قال: لأنه لما مات سلَّام أبو المنذر ذهب أبو علي في جنازته، فلما مات أبو علي لم يذهب سلَّام في جنازته. وكان يقول: فيك عشر خِصال من الشر، أما الثانية والرابعة كذا، وأما السابعة كذا، وأما العاشرة كذا.
قال: قلنا للفَقْعسي: كيف ثناؤك على حمدان بن حبيب؟ فقال: هو والله عندي الكذا الكذا.
وقال الخُرداذي: آجَرك الله، وعظَّم أجركم، وأجَركم. فقيل له في ذلك فقال: هذا كما قال عثمان بن الحكم: بارك الله لكم، وبارك الله عليكم، وبارك الله فيكم. قالوا له: ويلك، إن هذا لا يُشبِه ذلك. وكتب إلى بعض الأمراء: أبقاك الله، وأطال بقاءك، ومد في عمرك.
وكان أبو إدريس السمَّان يقول: وأنت فلا صبَّحك الله إلا بالخير. ويقول: وأنت فلا حيَّا الله وجهك إلا بالسلام، وأنتم فلا بيَّتكم الله إلا بالخير.
ومرَّ ابن أبي علقمة، فصاح به الصِّبيان، فهرب منهم، وتلقَّاه شيخ وعليه ضفيرتان، فقال له: يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ.
وقال المهلَّب لرجل من بني مِلكان، أحد بني عدي: متى أنت؟ قال: أيام «عُتيبة بن الحارث بن شهاب». وأقبل على رجل من الأزد فقال له: متى أنت؟ فقال: أكلت من حبوة رسول الله ﷺ عامَين. قال: أطعمك الله لحمك.
وأنشدني المُعَيطي:
وخطب والي اليمامة فقال: إن الله لا يقارُّ عباده على المعاصي، وقد أهلك الله أمَّةً عظيمة في ناقةٍ ما كانت تُساوي مائتَي درهم. فسُمِّي «مقوِّم ناقة الله».
وهؤلاء من الجُفاة والأعراب المحرمين، وأصحاب العجرفيَّة، ومَن قلَّ فقهه في الدين، إذا خطبوا على المنابر فكأنهم في طباع أولئك المجانين.
وضربت بنو مازن الحُتات بن يزيد المُجاشعي، فجاءت جماعة منهم فيهم غالب أبو الفرزدق، فقال: يا قوم، كونوا كما قال الله: لا يعجز القوم إذا تعاوَنوا.
وتزعم بنو تميم أن صَبِرة بن شَيمان قال في حرب مسعود والأحنف: إن جاء حُتات جئت، وإن جاء الأحنف جئت، وإن جاء حارثة جئت، وإن جاءوا جئنا، وإن لم يجيئوا لم نجئ. وهذا باطل، وقد سمِعنا لصبرة كلامًا لا ينبغي أن يكون صاحب ذلك الكلام يقول هذا الكلام.
ولما سمع الأحنف فِتيان بني تميم يضحكون من قول العَرَندس:
قال: أتضحكون؟ أمَا والله إن فيه لمعنى سوء.
وكان قبيصة يقول: رأيت غرفةً فوق البيت، ورأى جرادًا يطير فقال: لا يَهولنَّكم ما ترَون؛ فإن عامَّتها موتى. وإنه أول ما جاء الجراد قبَّل جرادةً ووضعها على عينَيه، على أنها من الباكورة.
وهذه الأشياء ولَّدها «الهَيثم بن عدي» عند صنيع «داود بن يزيد» في أمر تلك المرأة ما صنع.
قال أبو الحسن: وتغدَّى «أبو السرايا» عند سليمان بن عبد الملك، وهو يومئذٍ وليُّ عهد، وقُدَّامه جَدْي، فقال: كُلْ من كُليته؛ فإنه يزيد في الدماغ. فقال: لو كان هذا هكذا لكان رأس الأمير مِثل رأس البغل.
قال أبو كعب: كنَّا عند «عيَّاش بن القاسم» ومعنا «سَيفوَيه القاصُّ»، فأُتينا بفالوذجةٍ حارَّة، فابتلع سيفويه منها لُقمةً فغُشِي عليه من شدة حرها، فلما أفاق قال: مات لي ثلاثة بنينَ ما دخل جوفي عليهم من الحُرقة ما دخل جوفي من حُرقة هذه اللقمة.
سعيد بن مالك قال: جالَسني رجلٌ فقير لا يكلِّمني ساعةً، ثم قال لي: جلستَ قطُّ على رأس تنُّور فخَرِيت فيه آمنًا مطمئنًّا؟ قلت: لا. قال: فإنك لم تعرف شيئًا من النعيم قط.
وقال هشام بن عبد الملك ذات يوم لجلسائه: أيُّ شيءٍ ألَذ؟ قال له الأبرش بن حسَّان: أأصابك جرَبٌ قطُّ فحكَكتَه؟ قال: ما لك! أجرَب اللهُ جِلدك، ولا فرَّج الله عنك. وكان آنس الناس به.
ومن غرائب الحُمق: المذهب الذي ذهب إليه الكُميت بن زيد في مدح النبي ﷺ، حيث يقول:
فمن رأى شاعرًا مدح النبي ﷺ فاعترض عليه واحد من جميع أصناف الناس حتى يزعم أن ناسًا يعيبونه ويثلبونه ويعنِّفونه؟ ولقد مدح النبي ﷺ، فما زاد على قوله:
يعني قبر النبي ﷺ، ويثرب يعني المدينة. وهذا شعرٌ يصلح في عامة الناس.
وكتب مَسلمة بن عبد الملك إلى يزيد بن المهلب: إنك والله ما أنت بصاحب هذا الأمر، صاحب هذا الأمر مغمور وموتور، وأنت مشهورٌ غير موتور. فقال له رجل من الأزد يُقال له عثمان بن المفضَّل: قدِّمِ ابنك مخلَّدًا حتى يُقتَل فتصير موتورًا.
وقال: جاء ابنٌ لجُديع بن علي — وكان ابن خال يزيد بن المهلَّب — فقال ليزيد: زوِّجني بعض ولدك. فقال له عثمان بن المفضل: زوِّجه ابنك مخلدًا؛ فإنه إنما طلب بعض الولد ولم يستثنِ شيئًا.
ومن الحمقاء كُثيِّر عَزَّة. ومن حُمْقه أنه دخل على عبد العزيز بن مروان، فمدحه بمديحٍ استجاده، فقال له: سَلْني حوائجك. فقال: تجعلني في مكان ابن زمانة. قال: ويلك، ذاك رجلٌ كاتب وأنت شاعر! فلما خرج ولم ينَل شيئًا قال:
قال أبو الحسن، قال «طارق»، قال «ابن جابان»: لقي رجل رجلًا ومعه كلبان، فقال: هَبْ لي أحدهما. قال: أيهما تريد؟ قال: الأسود. قال: الأسود أحَبُّ إليَّ من الأبيض. قال: فهَبْ لي الأبيض. قال: الأبيض أحَبُّ إليَّ من كِليهما.
وقال رجل لرجل: بكم تبيع الشاة؟ قال: أخذتها بستة، وهي خير من سبعة، وقد أعطيت بها ثمانية، فإن كانت حاجتك بتسعة فزِنْ عشرة.
قال أبو الحسن، قال «طارق بن المبارك»: دخل رجل على بلال فكساه ثوبَين، فقال: كساني الأمير ثوبَين، فاتَّزرتُ بالآخَر، وارتديت بالآخَر. وقال: مرِض فتًى عندنا فقال له عمه: أيَّ شيء تشتهي؟ قال: رأس كبشَين. قال: لا يكون. قال: فرأسَي كبش. طارقٌ قال: وقع بين جارٍ لنا وجارٍ له يُكنى أبا عيسى كلام، فقال: اللهم خذ مني لأبي عيسى. قالوا: أتدعو الله على نفسك؟ قال: فخد لأبي عيسى مني.
أبو زكريا العَجلاني قال: دخل عمرو بن سعيد على معاوية وهو ثقيل، فقال: كيف أصبحتَ يا أمير المؤمنين؟ قال: أصبحت صالحًا. قال: أصبحت عَينُك غائرة، ولونك كاسفًا، وأنفك ذابلًا، فاعهد عهدك ولا تُخدَعن عن نفسك.
وكان أصحاب رسول الله ﷺ يقولون: كونوا بُلهًا كالحمام.
وقال قائل: حماقة صاحبي عليَّ أشَدُّ ضررًا منها عليه.
وقالوا: شرَد بعيرٌ لهَبنَّقة القَيسي — وبجنونه يُضرَب المثل — فقال: مَن جاء به فله بعيران. فقيل له: أتجعل في بعيرٍ بعيرَين؟ فقال: إنكم لا تعرفون فرحة الوجدان.
وهبنَّقة هو يزيد بن ثروان، أحد بني قيس بن ثعلبة، وكُنيته أبو نافع. قال الشاعر:
ولما خلع قتيبة بن مسلم سليمان بن عبد الملك بخراسان، قام خطيبًا فقال: يا أهل خُراسان، أتدرون من وليُّكم؟ إنما وليُّكم يزيد بن ثروان. كنَّى به عن هبنَّقة؛ وذلك أن هبنقة كان يُحسِن من إبله إلى السِّمان ويدع المهازيل، ويقول: إنما أُكرمُ من أكرم الله، وأُهين من أهان الله. وكذلك كان سليمان يُعطي الأغنياء ولا يُعطي الفقراء، ويقول: أُصلح ما أصلح الله، وأُفسد ما أفسد الله.
وقال الفرزدق: ما عيِيتُ بجوابِ أحدٍ قطُّ ما عيِيتُ بجواب مجنون بدَير هرقل، دخلت إليه فإذا هو مشدود إلى أسطوانة، فقلت: بلَغني أنك حاسب. قال: ألقِ عليَّ ما شئت. فقلت: أمسِكْ معك خمسة وجُلِدتَها. قال: نعم. قلت: أمسِكْ أربعة وجُلِدتَها. قال: نعم. فقلت: كم معك؟ قال: تسعة وجُلِدتَها مرتَين.
وكان زُريق الفزاري يمرُّ بالليل وهو شاربٌ فيَشتمُ أهل المجلس، فلما أن كان بالغداة عاتَبوه، قال: نعم، زَنَّيت أمهاتكم، فماذا عليكم؟
وخطب يومًا عتَّاب بن ورقاء فقال: هذا كما قال الله تبارك وتعالى: إنما يتفاضل الناس بأعمالهم، وكل ما هو آتٍ قريب. قالوا له: إن هذا ليس من كتاب الله. قال: ما ظننت إلا أنه من كتاب الله.
وخطب عدي بن زياد الإيادي فقال: أقول كما قال العبد الصالح: مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ. قالوا له: ليس هذا من قولِ عبدٍ صالح، إنما هو من قول فرعون. قال: من قاله فقد أحسن. وقال أعرابي:
وكان عبد الملك بن مروان أول خليفة من بني أمية منع الناس من الكلام عند الخلفاء، وتقدَّم فيه وتوعَّد عليه، وقال: إن جامعة عمرو بن سعيد بن العاص عندي، وإني والله لا يقول أحدكم هكذا إلا قلت به هكذا. وفي خطبة له أخرى: إني والله ما أنا بالخليفة المستضعَف — وهو يعني عثمان بن عفان — ولا أنا بالخليفة المُداهن — يعني معاوية — ولا أنا بالخليفة المأبون. يعني يزيد بن معاوية.
قال أبو إسحاق: والله لولا نَسبُك من هذا المستضعَف، وسببك من هذا المُداهن، لكنتَ منها أبعَدَ من العَيُّوق. والله ما أخذتَها من جهة الميراث، ولا من جهة السابقة، ولا من جهة القرابة، ولا تدَّعي شورى ولا وصية.
قال أبو الحسن: دخل كَردَم السدوسي على بلال بن أبي بُردة، فدعاه إلى الغداء، فقال: قد أكلت. قال: وما أكلت؟ قال: قليلَ رزٍّ فأكثرت منه. ودخل كردم الذرَّاع أرض قوم يذرِّعها، فلما انتهى إلى زنَقة منها لم يُحسِن تذريعها، قال: هذه ليست لكم. قالوا: هي لنا ميراث، وما نازَعَنا فيها إنسانٌ قط. قال: لا والله ما هي لكم. قالوا: فحصِّل لنا حساب ما لا نشكُّ فيه. قال: عشرين في عشرين مائتين. قالوا: من أجل هذا الحساب صارت الزنقة ليست لنا.
ودخل عُكابة بن نُميلة النُّميري دار بلال بن أبي بردة، فرأى ثورًا مُجللًا، فقال: ما أفرَهَه من بغل لولا أن حوافره مشقوقة.
ومن النَّوكى، وممن ربما عدُّوه في المجانين، «ابن فِنان» الأزدي، وضرب به المثلَ ابنُ ضبٍّ العَتَكي في قوله لجُديع بن علي، خال يزيد بن المهلب، حيث قال:
وقال آخر يهجو امرأته بأنها مِضياعٌ خرقاء:
الفلوشكي قال: قلت لأعرابي: أيَّ شيءٍ تقرأ في صلاتك؟ قال: أُمَّ الكتاب، ونِسبة الرب، وهِجاء أبي لهب.
وكان الفلوشكي البكرادي أجنَّ الناس وأعيا الخلق لسانًا، وكان شديد القمار، شديد اللعب بالودع. قال ابن عم له: وقفتُ على بقيَّة تَمْر في بَيدَر لي، فأردت أن أعرفه بالحَزْر، ومعنا قومٌ يُجيدون الخَرْص، وقد قالوا فيها واختلفوا، فهجم علينا الفلوشكي فقلت له: كم تَحزُر هذا التَّمر؟ قال: أنا لا أعرف الأكرار وحساب القُفْزان، ولكنْ عندي مِرجلٌ أطبخ فيه تمرَ نبيذي، وهو يسع مكُّوكَين، وهذا التمر يكون فيه مائتَين وستِّين مِرجلًا، فلا والله إنْ أخطأ بقفيزٍ واحد.
قال المهلب، والأزد حوله: أرأيتم قول الشاعر:
وإلى جَنْب غَيلان بن خرَشة شيخٌ من الأزد، فقال له: قل: هو ابن الفحل. فقالها، فقال المهلب: ويلكم، ما جالستم الناس؟
وأنشد بعض أصحابنا:
قال الهيثم: ومن النَّوكى «عُبيد الله بن الحُر»، وكُنيته «أبو الأبرش».
وكان، فيما زعموا، ابن السعيد الجوهري يقول: صلَّى الله تبارك وتعالى على محمد ﷺ.
قال أبو الحسن: صَعِد عدي بن أرطاة المِنبر، فلما رأى جماعة الناس حَصِر فقال: الحمد لله الذي يُطعِم هؤلاء ويسقيهم.
قالوا: وصعِد عثمان بن عفان، رضي الله تعالى عنه، المنبر فأُرتِج عليه، فقال: إن أبا بكر وعمر كانا يُعِدَّان لهذا المقام مقالًا، وأنتم إلى إمامٍ عادل أحوَجُ منكم إلى إمامٍ خطيب.
قالوا لزياد الأعجم: لِمَ لا تهجو جريرًا؟ قال: أليس الذي يقول:
قالوا: بلى. قال: ليس بيني وبين هذا عمل.
قال أبو الحسن: خطب مُصعب بن حيَّان أخو مُقاتل بن حيَّان خطبة نكاح، فحَصِر فقال: لقِّنوا موتاكم قول لا إله إلا الله. فقالت أم الجارية: عجَّل الله موتك! ألهذا دعَوناك؟
وخطب أمير المؤمنين الموالي — وهكذا لقبُه — خطبة نكاح، فحَصِر، فقال: اللهم إنا نحمدك ونستعينك ولا نشكرك.
وقال مولًى لخالد بن صفوان: زوِّجني أمَتَك فلانة. قال: قد زوَّجتُكها. قال: أفأُدخِل الحيَّ حتى يحضروا الخِطبة؟ فقال: أدخلهم. فلما دخلوا ابتدأ خالد فقال: أما بعد، فإن الله أجَلُّ وأعَزُّ مِن أن يُذكَر في نكاح هذين الكلبَين، وقد زوَّجْنا هذه الفاعلة من هذا ابن الفاعلة.
وقال إبراهيم النخعي لمنصور بن المعتمر: سَلْ مسألة الحمقى، واحفظ حِفظ الأكياس.
ودخل كُثيِّر عَزَّة — وكان مُحمَّقًا، ويُكنى أبا صخر — على يزيد بن عبد الملك، فقال: يا أمير المؤمنين، ما يعني الشمَّاخ بن ضِرار بقوله:
قال يزيد: وما يضرُّ أميرَ المؤمنين ألا يعرف ما عنى هذا الأعرابي الجِلف؟ واستحمقه وأخرجه.
وكان عامر بن كُريز يُحمَّق، قال عوانة: قال عامر لأمِّه: يا أمَّه، مسِستُ اليوم بُرْد العاص بن وائل السهمي. فقالت: ثَكلتْك أمُّك! رجل بين عبد المطلب بن هاشم وبين عبد شمس بن عبد مناف يفرح أن تُصيب يده بُرْد رجل من بني سهم؟
ولما حَصِر عبد الله بن عامر على منبر البصرة فشقَّ ذلك عليه، قال له زياد: أيها الأمير، إنك إن أقمت عامَّةَ من ترى أصابه أكثر مما أصابك.
وقيل لرجل من الوجوه: قم فاصعد المنبر وتكلَّمْ. فلما صعِد حصِر وقال: الحمد لله الذي يرزق هؤلاء. وبقي ساكتًا، فأنزلوه. وصعِد آخَر، فلما استوى قائمًا وقابَل بوجهه وجوه الناس، وقعت عينه على صَلعة رجل، فقال: اللهم الْعَن هذه الصَّلعة.
وقيل لوازعٍ اليَشكُري: قم فاصعد المِنبر وتكلَّمْ. فلما رأى جَمْع الناس قال: لولا أن امرأتي، لعنها الله، حمَلَتني على إتيان الجمعة اليوم ما جمَّعت، وأنا أُشهدكم أنها مني طالق ثلاثًا.
ولذلك قال الشاعر:
ودخلت على أنس بن أبي شيخ، وإذا رأسه على مِرفقه والحجَّام يأخذ من شعره، فقلت له: ما يحملك على هذا؟ قال: الكسل. قلت: فإن لقمان قال لابنه: إيَّاك والكسل، وإيَّاك والضجر؛ فإنك إذا كسِلتَ لم تؤدِّ حقًّا، وإذا ضجِرت لم تصبر على حق. قال: ذاك والله أنه لم يعرف لذة الكسولة.
وقيل لبحر بن الأحنف: ما يمنعك أن تكون مِثل أبيك؟ قال: الكسل.
وقال الآخر:
وذكر آخَر الكَيسَ في معاتبته لبني أخيه، حين يقول:
وقال بعضهم: عيادة النَّوكى الجلوس فوق القَدْر، والمجيء في غير وقت.
وعاد رجل رقبةَ بن الحُر، فنعى رجالًا اعتلُّوا مِثل عِلَّته، فنعى بذلك إليه نفسه، فقال له رقبة: إذا دخلتَ على المرضى فلا تَنعَ إليهم الموتى، وإذا خرجتَ من عندنا فلا تعُد إلينا.
وسأل معاوية ابنَ الكوَّاء عن أهل الكوفة، فقال: أبحَثُ الناس عن صغيرة، وأترَكُهم لكبيرة.
وسئل شَريك عن أبي حنيفة فقال: أعلَمُ الناس بما لا يكون، وأجهَلُ الناس بما يكون.
وسأل معاوية دَغفلًا النسَّابة عن اليمن، فقال: سيِّد وأنوَك.
وجُن أعرابي من أعراب المربد، ورماه الصِّبيان، فرُجم، فقالوا له: أمَا كنت وقورًا حليمًا؟ فقال: بلى بأبي أنتم وأمي، والله ما استُحمقت إلا قريبًا. وكان أول جنونه من عبث الناس به. ورمى إنسانًا فشجَّه، فتعلَّق به وهو لا يعرفه، وضمَّه إلى الوالي، فقال له الوالي: ولِمَ رمَيت هذا وشجَجته؟ قال: أنا لم أرمِه، هو دخل تحت رميتي.
وسايَر سعيد بن سَلم موسى أمير المؤمنين، والحَربة في يد عبد الله بن مالك، وكانت الريح تَسْفي التراب الذي تُثيره دابَّةُ عبد الله بن مالك في وجه موسى، وعبد الله لا يشعر بذلك، وموسى يَحِيد عن سَنن التراب، وعبد الله فيما بين ذلك يلحظ موضع مسير موسى، فيتكلف أن يسير على مُحاذاته، وإذا حاذاه ناله ذلك التراب، فلما طال ذلك عليه أقبل على سعيد بن سلم فقال: ألا ترى ما نَلقى من هذا المائق في مَسيرنا هذا؟ قال: والله يا أمير المؤمنين ما قصَّر في الاجتهاد، ولكنه حُرِم التوفيق.
(٤) واجبات الملوك والأمراء
قال زياد: وقرأت مِثل كُتُب الربيع بن زياد الحارثي، ما كتب إليَّ إلا في اجترار مَنفعة أو دفع مَضرَّة، وما كان في مَوكبي قطُّ فتقدَّم عِنانُ دابَّته عِنانَ دابَّتي، ولا مسَّت رُكبتُه رُكبتي، ولا شاورت الناس قطُّ في أمر إلا سبقهم إلى الرأي فيه.
كان على شُرَط زياد عبدُ الله بن الحُصين صاحب مقبرة بني حصين، والجعد بن قيس النمري صاحب طاق الجعد، وكانا يتعاقبان مجلس صاحب الشرطة، فإذا كان يوم حَمْل الحَربة سارا بين يدَيه معًا، فجرى بينهما كلام وهما يسيران بين يدَيه، فكان صوت الجعد أرفع، وصوت عبد الله أخفض، فقال زياد لصاحب حربته: تناوَلِ الحَربة من يد الجعد ومُرْه بالانصراف إلى منزله.
وعدا رجل من أهل العسكر بين يدَي المأمون، فلما انقضى كلامه قال له بعض من يسير بقربه: يقول لك أمير المؤمنين: اركب. قال المأمون: لا يُقال لمِثل هذا اركب، إنما يقال لمِثل هذا: انصرِف.
وكان الفضل بن الربيع يقول: مُساءلة الملوك عن أحوالهم من تحيَّة النَّوكى، فإذا أردت أن تقول: كيف أصبح الأمير؟ فقُل: صبَّح الله الأمير بالكرامة. فإذا أردت أن تقول: كيف يجد الأمير نفسه؟ فقُل: أنزَل الله على الأمير الشفاء والرحمة. والمُساءلة توجِب الجواب، فإن لم يُجِبك اشتدَّ عليك، وإن أجابك اشتدَّ عليه.
وقال محمد بن الجهم: دخلت على المأمون فقال لي: ما زال أمير المؤمنين إليك مُشتاقًا. فلم أدرِ ما جواب هذه الكلمة بعينها، وأخذت لا أقصِّر فيما قدرت عليه من الدعاء ثم الثناء.
قال أبو الحسن، قال ابن جابان، قال المهدي: كان شَبيب بن شَيبة يُسايرني في طريق خراسان فيتقدَّمني بصدر دابَّته، فقال لي يومًا: ينبغي لمن سايَر خليفةً أن يكون بالموضع الذي إذا أراد الخليفة أن يسأله عن شيء لا يلتفت إليه، ويكون من ناحية إن التفت لم تستقبله الشمس. قال: فبينما نحن كذلك إذ انتهينا إلى مخاضة، فأقحمت دابَّتي، ولم يقِف واتبعني، فملأ ثيابي ماءً وطينًا، فقلت: يا أبا مَعمر، ليس هذا في الكتاب.
(٥) رجعٌ إلى النَّوكى
قال الهيثم بن عدي: كنت قائمًا إلى حُميد بن قَحطبة وهو على بِرذَون، فتفاجَّ البِرذَون ليبول، فقال لي: تنحَّ لا يُهريق عليك البِرذَون الماء.
وجاء رجل إلى محمد بن حرب الهلالي بقوم فقال: إن هؤلاء الفُسَّاق ما زالوا في مسيس هذه الفاجرة. قال: ما ظننت أنه بلَغ من حُرمة الفواجر ما ينبغي أن يُكنَّى عن الفجور بهن.
وقلت لرجل من الحُسَّاب: كيف صار البرذَون المُتحصن إلى البَغلة أحرص منه على الرَّمَكة، والرَّمَكة أشكَلُ بطبعه؟ قال: بلَغني أن البغلة أطيب خلوةً.
وقال صديق لنا: بعث رجلٌ وكيله إلى رجل من الوجوه يقتضيه مالًا له عليه، فرجع إليه مضروبًا، فقال: ما بالك ويلك؟ قال: سبَّك فسبَبتُه فضربني. قال: وبأي شيء سبَّني؟ قال: قال: هَنُ الحمار في حِرِ أمِّ مَن أرسلك. قال: دعني من افترائه عليَّ، أنت كيف جعلت لأيْر الحمار من الحُرمة ما لم تجعله لحِرِ أمِّي؟ فهلَّا قلت: أير الحمار في هنِ أمِّ من أرسلك؟
أبو الحسن قال: كان رجل من ولد عبد الرحمن بن سَمُرة أراد الوثوب بالشام، فحُمِل إلى المهدي، فخلَّى سبيله وأكرمه وقرَّب مجلسه، فقال له يومًا: أنشِدْني قصيدة زهير التي أولها «لمن الديار بِقُنة الحَجر» وهي التي على الراء:
فأنشده، فقال المهدي: ذهب والله من يقول مِثل هذا. قال السَّمري: وذهب والله من يُقال فيه مِثل هذا. فغضب المهدي واستجهله، ونحَّاه ولم يُعاقبه، واستحمقه الناس.
ولما دخل خالد بن طُليق على المهدي مع خصومه وأنشد قول شاعرهم:
فغضِب المهدي وقال: أحمق. فأنشد خالد فقال:
فسكن عند ذلك المهدي. وقال بشَّار:
قالوا: ومن النَّوكى «أبو الربيع العامري»، واسمه عبد الله، وكان وليَّ بعض منابر اليمامة، وفيه يقول الشاعر:
قالوا: ومن النوكى «ربيعة بن عِسْل»، أحد بني عمرو بن يربوع، وأخوه «صبيع بن عِسل». وفد ربيعة على معاوية، فقال معاوية: ما حاجتك؟ قال: زوِّجني ابنتك. قال: اسقوا ابن عِسل عسلًا. فأعاد عليه، فأعاد عليه العسل ثلاثًا، فتركه وقد كاد تنقدُّ بطنه. قال: فاستعمِلني على خُراسان. قال: زيادٌ أعلم بثغوره. قال: فاستعمِلني على شُرطة البصرة. قال: زيادٌ أعلم بشُرطته. قال: فاكسني قطيفة. أو قال: هَبْ لي مائة ألف جذع لداري. قال: وأين دارك؟ قال: بالبصرة. قال: كم ذرعها؟ قال: فرسخان في فرسخَين. قال: فدارك في البصرة أو البصرة في دارك؟
قال عوانة: استعمل معاوية رجلًا من كلب، فذكر يومًا المجوس وعنده الناس، فقال: لعن الله المجوس، ينكحون أمهاتهم، والله لو أُعطيت مائة ألف درهم ما نكحت أمي. فبلَغ ذلك معاوية فقال: قاتَله الله، أترَونه لو زاده على مائة ألف فعل؟ فعزله.
وقال أبو الأحوص الرياحي:
الهيثم، عن الضحَّاك بن رُمَل قال: بيْنا «معاوية بن مروان» واقف بدمشق ينتظر عبد الملك على باب طحَّان، وحمار له يدور بالرَّحى وفي عنقه جُلجُل، إذ قال للطحَّان: لِمَ جعلتَ في عنق هذا الحمار هذا الجلجل؟ قال: ربما أدركتني سآمة أو نَعسة، فإذا لم أسمع صوت الجلجل علِمت أنه قد قام فصِحتُ به. قال معاوية: أفرأيت إن قام ثم قال برأسه هكذا وهكذا — وجعل يُحرك رأسه يَمنةً ويَسرة — وما يُدريك أنت أنه قائم؟ فقال الطحَّان: ومن لي بحمار بعقل مِثل عقل الأمير؟
ومعاوية بن مروان هذا هو الذي قال لأبي امرأته: ملأتْنا ابنتك البارحةَ بالدم؟ قال: إنها من نسوةٍ يَخبَأن ذلك لأزواجهنَّ.
وصعِد يوسف بن عمر المِنبر، فحمِد الله وأثنى عليه، ثم قال: قد قتل الله زيدًا ونصر بن سيَّار. يريد نصر بن خُزيمة.
وقال علي الأسواري: عمر بن الخطاب معلَّقٌ بشعرة. قلت: وما صيَّره إلى ذلك؟ قال: لِما صنَع بنصر بن سيَّار. يريد نصر بن الحجَّاج بن عِلاط.
وقالوا: أحبَّ الرشيد أن ينظر إلى أبي شُعيب القلَّال كيف يعمل القِلال، فأدخلوه القصر وأتَوه بكل ما يحتاج إليه من آلة العمل، فبينا هو يعمل إذا هو بالرشيد قائمٌ فوق رأسه، فلما رآه نهض قائمًا، فقال له الرشيد: دونك ما دُعيتَ له؛ فإني لم آتِك لتقوم إليَّ، وإنما أتيتك لتعمل بين يديَّ. قال: وأنا لم آتِك ليسوء أدبي، وإنما أتيتك لأزداد بك في كثرة صوابي. فقال له الرشيد: إنما تعرَّضتَ لي حين كسَدت سوقك. قال أبو شعيب: يا سيد الناس، وما كساد عملي في جلال وجهك؟ فضحِك الرشيد حتى غطَّى وجهه، ثم قال: والله ما رأيت أنطَقَ منه أولًا، ولا أعيا منه آخرًا، ينبغي لهذا أن يكون أعقل الناس أو أجنَّ الناس.
عبد الله بن شدَّاد قال: أرى داعيَ الموت لا يُقلِع، وأرى من مضى لا يرجع، ومن بقي فإليه يَنزع. ولا تزهدنَّ في معروف؛ فإن الدهر ذو صروف؛ فكم من راغب قد كان مرغوبًا إليه، وطالب قد كان مطلوبًا إليه، والزمان ذو ألوان، ومن يصحب الزمان يرَ الهوان.
الفرج بن فُضالة، عن يحيى بن سعيد، عن محمد بن علي، عن أبيه، عن النبي ﷺ، قال: «إذا فعلت أمَّتي خمس عشرة خصلةً حلَّ بها البلاء؛ إذا أكلوا الأموال دولًا، واتخذوا الأمانة مَغنمًا، والزكاة مَغرمًا، وأطاع الرجل زوجته، وعقَّ أمَّه، وبرَّ صديقه، وجفا أباه، وارتفعت الأصوات في المساجد، وأُكرِم الرجل مَخافة شره، وكان زعيم القوم أرذلهم، وإذا لُبِس الحرير، وشُرِبت الخمور، واتُّخذت القِيان والمعازف، ولعَن آخَر هذه الأمة أولها؛ فليرتقبوا بعد ذلك ثلاث خصال؛ ريحًا حمراء، ومسخًا، وخسفًا.»
الهيثم قال، أخبرنا الكلبي قال: كانت قريش تعدُّ أهل الجزالة في الرأي: العباس بن عبد المطلب، وأبا سفيان، وابنَيهما، وأميَّة بن خلَف.
قال: وقال ابن عباس: لم يكن في العرب أمرَد ولا أشيَب أشدَّ عقلًا من السائب بن الأقرع.
قال: حدَّثني الشَّعبي أن السائب شَهِد فتح مِهرجان قَذَق، ودخل منزل الهُرمُزان وفي داره ألف بيت، فطاف فيه، فإذا ظبيٌ من جِص في بيت منها مادٌّ يده، فقال: أُقسم بالله أنه يُشير إلى شيء، انظروا. فنظروا فاستخرجوا سفَط كَنز الهُرمزان، فإذا فيه ياقوت وزبرجد، فكتب فيه السائب إلى عمر، وأخذ منه فصًّا أخضر، وكتب إلى عمر: إن رأى أمير المؤمنين أن يهبَه لي فليفعل. فلما عرض عمر السفط على الهرمزان قال: فأين الفص الصغير؟ قال عمر: سألنيه صاحبنا فوهبته له. فقال: إن صاحبك بالجوهر لعالم.
أخبرنا مجالد، عن الشعبي قال، قال السائب لجميل بن بَصبَهَري: أخبِرني عن مكان من القُريَّة لا يَخرب حتى أقتطع ذلك المكان. قال: ما بين الماء إلى دار الإمارة. قال: فاختطَّ لثقيف في ذلك الموضع. قال الهيثم: بِتُّ عندهم ليلةً، فإذا ليلهم مِثل النهار.
أبو الحسن قال، قال عبد الرحمن بن خالد بن الوليد بن المُغيرة لمعاوية: أما والله لو كنَّا على السواء بمكة لعلِمت. قال معاوية: إذًا كنتُ أكون معاوية بن أبي سفيان منزلي الأبطح ينشقُّ عني سَيلُه، وكنتَ أنت عبد الرحمن بن خالد منزلُك أجياد، أعلاه مَدَرة، وأسفله عَذِرة.
وقال سُهيل بن عمرو: أشبه امرؤٌ بعضَ بَزِّه. فصار مثلًا. وقال مُحرز بن علقمة:
وقال بعضهم:
وقال الآخر:
وقال:
وقال الآخر:
وقال النابغة:
وقالت الخنساء:
وعد الأصمعي خِصالَ مَعدٍّ فقال:
وقال ابن نوفل يهجو:
قال أبو عثمان: وليس في الأرض أعجب من طَرَفة بن العبد وعبد يغوث؛ وذلك أنَّا إذا قِسنا جودة أشعارهما في وقت إحاطة الموت بهما لم تكُن دون سائر أشعارهما في حال الأمن والرفاهية.
أبو عُبيدة قال: حدَّثني أبو عبد الله الفزاري، عن مالك بن دينار قال: ما رأيت أحدًا أبيَنَ من الحجَّاج، إن كان لَيَرقى المِنبر فيذكُر إحسانه إلى أهل العراق وصَفْحه عنهم وإساءتهم إليه، حتى أقول في نفسي: إني لأحسبه صادقًا، وإني لأظنُّهم ظالمين له.
قال: وكانت العرب تخطب على رواحلها، وكذلك روى النبي ﷺ عن قُس بن ساعدة. قال: وأخبرني عبد الرحمن بن مهدي، عن مالك بن أنس قال: الوقوف على ظهر الدواب بعرفةَ سُنة، والقيام على الأقدام رُخصة. وجاء في الأثر: لا تجعلوا ظهور دوابكم مجالس.
ووقف الهيثم بن مُطهَّر الفأفاء على ظهر دابَّته على باب الخَيزُران ينتظر بعض من يخرج من عندها، فلما طال وقوفه بعث إليه عمر الكَلْواذي فقال: انزل عن ظهر دابتك. فلم يردَّ عليه شيئًا، فكرَّر الرسول إليه، فقال: إني رجلٌ أعرج، وإن خرج صاحبي من عند الخيزران في موكبه خِفتُ ألا أدركه. فبعث إليه: إن لم تنزل أنزلناك. فبعث إليه قال: هو حبيس في سبيل الله إن أنزلتني عنه إن أقضَمتُه شهرًا، فانظر أيهما خير له، أراحة ساعة أو جوع شهر؟ قالوا له: هذا الهيثم بن مطهَّر. قال: هذا شيطان.
وقال الزِّبرقان: أحَبُّ صِبياننا إلينا العريض الوَرِك، السَّبِط الغُرة، الطويل الغُرْلة، الأبله العَقول. وأبغَضُ صِبياننا إلينا الأُقَيعس الذَّكر، الذي كأنما ينظر من جُحر، وإذا سأله القوم عن أبيه هرَّ في وجوههم.
قال الهيثم: قال الأشعث: إذا كان الغلام سائل الغُرَّة، طويل الغُرلة، مُلتاث الإزْرة، كأن به لوثة، فما يُشَك في سؤدده.
قال أبو المِخَش: كان المِخَش أشدقَ خُرطُمانيًّا، سائلًا لُعابه، كأنما ينظر من قَلتَين، كأن تَرقُوته بُوانٌ أو خالفة، وكأن كاهله كِركِرة جمل، فقأ الله عينيَّ هاتَين إن كنتُ رأيت بعده ولا قبله مِثله.
وكان زيادٌ حول المنبر وبيوت الأموال والدواوين إلى الأزد، وصلَّى بهم، وخطب في مسجد حُدان، فقال عمرو بن العرندس:
وقال الأعرج:
وقال ابن مفرِّغ:
وقال:
وقال آخر:
وقال:
وقال آخر:
وقال محلِّم بن فِراس يرثي منصورًا وهمَّامًا ابنَي المِسجاح:
وقال خالد للقعقاع: أُنافرك على أيُّنا أطعَنُ بالرماح، وأطعم للسِّحاح، وأنزل بالبراح؟ قال: لا، بل على أيُّنا أفضل أبًا وجدًّا وعمًّا، وقديمًا وحديثًا. قال خالد: أعطيتَ يومًا من سأل، وأطعمتَ حولًا من أكل، وطعنتَ فارسًا طعنةً شككت فخذَيه بجنب الفرس؟ قال القعقاع، وأخرج نعلَين فقال: ربعَ أبي عليهما أربعين مِرباعًا لم تثكل فيهن تميمية ولدًا.
كان مالك بن الأخطل التغلبي — وبه كان يُكنى — أتى العراق فسمع شعر جرير والفرزدق، فلما قدِم على أبيه سأله عن شعرهما، فقال: وجدت جريرًا يغرف من بحر، ووجدت الفرزدق ينحت من صخر. فقال الأخطل: الذي يغرف من بحرٍ أشعرهما. وقال بعضهم:
وقال العُماني:
وقال العُماني:
وقال عُبيد في حديث علي بن أبي طالب، كرَّم الله تعالى وجهه، حين رأى فلانًا يخطب فقال: هذا الخطيب الشَّحشَح. قال: هو الماهر الماضي. قال الطِّرِمَّاح:
وقال ذو الرُّمَّة:
وقال بَلْعاء بن قيس:
وقال عبد الله بن مُصعب: وقف معاوية على امرأة من بني كنانة فقال لها: هل من قِرًى؟ قالت: نعم. قال: وما قِراك؟ قالت: عندي خبزٌ خمير، ولبنٌ فطير، وماءٌ نمير. وقال أُحَيحة:
وقال أبو ثُمامة الضبِّي:
وقال عُبيد بن أميَّة الضبِّي، واستبَّ هو والحارث بن شَيبة المُجاشعي عند النُّعمان، فقال:
وقال قيس بن الخطيم:
وهذا شبيه بقوله:
وقال أبو ثُمامة:
وقال الشمَّاخ:
ويُروى: تلافى بها حِلمي عن الجهلِ حاجزُ.
(٦) باب من الكلام المحذوف
ثم نرجع بعد ذلك إلى الكلام الأول.
هيثم، عن يونس، عن الحسن يرفعه، أن المهاجرين قالوا: يا رسول الله، إن الأنصار فضَلونا بأنهم آوَوا ونصروا، وفعلوا وفعلوا. قال النبي ﷺ: «أتعرفون ذاك لهم؟» قالوا: نعم. قال: «فإن ذاك.» ليس في الحديث غير هذا، يريد: إن ذاك شكر ومكافأة.
عبد الرحمن بن مهدي، عن سفيان، عن أبي هاشم القاسم بن كثير، عن قيس الخارجي أنه سمع عليًّا يقول: سبق رسول الله ﷺ، وصلَّى أبو بكر، وثلَّث عمر، وخبطتنا فتنة فما شاء الله. ليس في الحديث أكثر من هذا.
وقال النابغة:
وأنشد ابن الأعرابي:
إنه ليُخيَّل إليَّ أني لو كتبتُ إليك أن تُعطيَ رجلًا شاة، لكتبتَ إليَّ: أضأن أم ماعز؟ وإن كتبتُ إليك بأحدهما، كتبتَ إليَّ: أذَكَر أو أنثى؟ وإن كتبتُ إليك بأحدهما، كتبتَ إليَّ: صغير أم كبير؟ فإذا أتاك كتابي في مَظلمة فلا تُراجعني. والسلام.
وقال عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه: إني لأستعين بالرجل الذي فيه. ليس في الحديث غير هذا، ثم ابتدأ بالكلام فقال: ثم أكون على قفائه إذا كان أقوى من المؤمن الضعيف. وأراد هو قول الأسدي:
ولم يقل: فيه كذا وفيه كذا. وقال الراجز:
وقيل للمُنتجع بن نَبهان، أو لأبي مهديَّة: ما النَّضْناض؟ فأخرج طرف لسانه وحرَّكه. وقيل له: ما الدَّلَنظى؟ فزَحَر وتقاعَس وفرَّج ما بين مَنكِبَيه.
ومن الكلام كلامٌ يذهب السامع منه إلى معاني أهله، وإلى قصد صاحبه، كقول الله تبارك وتعالى: وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى. وقال: لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَا. وقال: وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ.
وسئل المفسِّر عن قوله: وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا، فقال: ليس فيها بكرة ولا عشي. وقال لنبيه ﷺ: فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ. قالوا: لم يشكَّ ولم يسأل.
وقال عمر، رضي الله تعالى عنه، في جواب كلام قد تقدَّم، وقول قد سلف منه: مُتْعتان كانتا على عهد رسول الله ﷺ أنا أنهى عنهما وأضرب عليهما. وهذا مِثل قائل لو قال: أتضربنا على الكلام في الصلاة وعلى التطبيق إذا ركعنا؟ فيقول: نعم، أشدَّ الضرب. إذا كان قد تقدَّم منه إعلامه إيَّاهم بحال الناسخ والمنسوخ.
وقد سأل رجل بلالًا مولى أبي بكر، رضي الله تعالى عنه — وقد أقبل من الحَلْبة — فقال له: من سبق؟ قال: سبق المقرَّبون. قال: إنما أسألك عن الخيل. قال: وأنا أجيبك عن الخير. فترك بلالٌ جواب لفظه إلى خيرٍ هو أنفع له.
حدَّثنا عبد الملك بن شيبان قال، حدَّثني يعقوب بن الفضل الهاشمي قال:
وقال ابن مسعود: إن طول الصلاة وقِصَر الخُطبة مَئنَّة من فِقه الرجل. مئنة كقولك: مَخلقة ومَجدرة ومَجرأة. قال الأصمعي: مئنة: علامة.
وقال عبد الله: عليكم بالعلم؛ فإن أحدكم لا يدري متى يُخيل إليه.
وجاء في الحديث: لا يُمنع فضل الماء ليُمنَع به فضل الكلأ. وقال أعرابي: اللهم لا تُنزلني ماء سوء فأكون امرأ سوء.
وقال بَلعاء بن قيس:
وقال آخر:
وقال آخر:
ولما رأى الفرزدق درست بن رباط الفُقيمي على المنبر، وكان أسود دميمًا قصيرًا، قال:
وقال:
وإنما كان يُعادي بني فُقيم لأنهم قتلوا أباه غالبًا.
ودخل عبد الله بن خازم على عُبيد الله بن زياد وهو يَخطِر في مِشيته، فقال للمُنذر بن الجارُود: حرِّكه. فقال: يا ابن خازم، إنك لتجرُّ ثوبك كما تجرُّ المرأة البغيُّ ذيلها. قال: أمَا والله إني مع ذلك لأنفُذ بالسَّريَّة، وأضرب هامة البطل المُشيح، ولو كنتَ وراء هذا الحائط لوضعت أكثرك شَعرًا. وقد كان قبض عطاءه فصبَّه بين أيديهم، ثم قال: لعنكِ الله من دراهم، والله ما تقومين بمؤنةِ خيلنا.
وقال علي بن أبي طالب كرَّم الله تعالى وجهه: خذ الحكمة أنَّى أتَتك؛ فإن الحكمة تكون في صدر المُنافق فتتلجلج في صدره حتى تخرج فتَسكُن إلى صاحبها.
وقال عمرو بن العاص لأهل الشام يوم صِفِّين: أقيموا صفوفكم مِثل قص الشارب، وأعيرونا جماجمكم ساعةً من النهار؛ فقد بلَغ الحق مَقطعه، فوإنما هو ظالم أو مظلوم.
وقال علي بن أبي طالب كرَّم الله تعالى وجهه يومئذٍ: عَضُّوا على النواجذ من الأضراس؛ فإنه أنبا للسيوف عن الهام.
وقال رجل: طِدْ رِجْلك إذا اعتقبتَ بالسيف والعصا، وأنت مخيَّر في رفعها ساعة المسالمة والموادعة. ولما أقاموا ابن قُميئة بين العقابين قال له أبوه: طِدْ رِجلَيك الأرض، وأصرَّ إصرار الفرس، واذكر أحاديث غد، وإيَّاك وذِكر الله في هذا الموضع فإنه من الفشل.
وقيل للحجَّاج: من أخطَبُ الناس؟ قال: صاحب العمامة السوداء بين أخصاص البصرة. يعني الحسن.
وقال الأحنف، قال عمر: تفقَّهوا قبل أن تسودوا. وقال عمر: احذر من فلتات الشباب كل ما أورثك النَّبز وأعلقك اللقب؛ فإنه إن يعظم بعدها شأنك يشتدَّ على ذلك ندمك.
(٧) كلام لعمر بن الخطاب
ولما بنى عُتبة بن غَزْوان وأصحابه بالبصرة بِناء اللَّبِن، كتب إليهم عمر: قد كنت أكره لكم ذلك، فإذا فعلتم ما فعلتم فعرِّضوا الحيطان، وارفعوا السَّمْك، وقارِبوا بين الخشب. ولما بلغه أنهم قد اتخذوا الضِّياع وعمَروا الأرض، كتب إليهم: لا تنهكوا وجه الأرض؛ فإن شحمتها فيه. وقال عمر: بِعِ الحيوان أحسن ما يكون في عينك. وقال: فرِّقوا بين المنايا، واجعلوا الرأس رأسين. وقال: املِكوا العجين؛ فإنه أحدُ الرَّيعَين. وقال: إذا اشتريت بعيرًا فاجعله ضخمًا؛ فإن أخطاك خُبْر لم يُخطئك سوق. وقال عمر: العمائم تيجان العرب. وقال: نِعْم المُستنَد الاحتماء.
وقال رسول الله ﷺ: الناس كالإبل، ترى المائة لا تجد فيها راحلة.
وأنشدوا:
وقال الراعي:
وقال الشاعر:
وقال آخر:
وقال المُثقِّب العَبدي في استماع الثور وتوجُّسه وجمع باله إذا أحسَّ بشيء من أسباب القانص، وذكر ناقة:
وقال بعض العبيد شعرًا يقع في ذِكر الخطباء وفي ذِكر أشداقهم وتشادُقهم:
وقال الأول:
وقال بعض العبيد وقد كان مفتوق اللهاة وشاعرًا:
وقال مؤرِّق العبد يتوعَّد مولاه:
وسأل رجلٌ عمر بن عبد العزيز عن الجمل وصِفِّين فقال: تلك دماءٌ كفَّ الله يدي عنها؛ فلا أُحبُّ أن أغمس لساني فيها.
ويقع في باب التطبيق قول الشاعر:
وقال عمرو بن هدَّاب: إنما كنا نعرف سؤدد مُسلم بن قُتيبة أنه كان يركب وحده ويرجع في خمسين.
وقال الأصمعي: دخل حبيب بن شَوذَب الأسدي على جعفر بن سليمان بالمدينة، فقال: أصلح الله الأمير، حبيب بن شوذب وادُّ الصدر، جميل الذِّكر، يكره الزيارة المُملَّة، والعُقدة المُنسِية. وفي الحديث: «زُرْ غِبًّا تَزدَد حُبًّا.»
وقال بعضهم، عن الثوري، عن محمد بن عَجلان، عن عِياض بن عبد الله قال: إن الدَّين مَجمع لكل هم؛ همٌّ بالليل وذُل بالنهار، وراية الله في أرضه؛ فإذا أراد الله أن يُذِل عبدًا جعله طوقًا في عنقه.
عمر بن ذر قال: الحمد لله الذي جعلنا من أمَّةٍ تُغفَر لهم السيئات، ولا تُقبَل من غيرهم الحسنات.
ابن أبي الزِّناد: كنا لا نكتب إلا سُنة، وكان الزُّهري يكتب كل شيء؛ فلما احتيج إليه عُرِف أنه أوعى الناس.
قال فيروز بن حُصين: إذا أراد الله أن يُزيل عن عبده نعمةً كان أول ما يغيِّر منه عقله.
وقيل لمحمد بن كعب القُرظي: ما علامة الخِذلان؟ قال: أن يستقبح الرجل ما كان عنده حسنًا، ويستحسن ما كان عنده قبيحًا.
وقال محمد بن حفص: كن إلى الاستماع أسرع منك إلى القول، ومن خطأ القول أشد حذرًا من خطأ السكوت.
وقال الحسن: إذا جالستَ العلماء فكُن على أن تسمع أحرَصَ منك على أن تقول، وتعلَّمْ حسن الاستماع كما تتعلم حسن القول، ولا تقطع على أحدٍ حديثه.
سُفيان بن عُيينة قال: كان يُقال: العالِم مِثل السِّراج، من مرَّ به اقتبس منه.
وقال الشاعر أبو دُهْمان الغلابي:
وقال الآخر:
وقال كعب الأحبار: قرأت في بعض ما أنزل الله على أنبيائه عليهم السلام: الهدية تفقأ عين الحكيم، وتُسفِّه عقل الحليم. زحم رجلٌ سالم بن عبد الله، فزحم سالمٌ الذي يليه، فقال له: يا شيخ، ما أحسبك إلا شيخ سوء. قال سالم: ما أحسبك أبعدت.
وسأل رجلٌ محمد بن عُمير بن عُطارد وعتَّاب بن وَرقاء في عشر دِيات، فقال محمد: عليَّ دية. فقال عتَّاب: الباقي عليَّ. فقال محمد: نِعْم العَون اليسار على المروءة.
وقال الأحنف:
وقال يزيد بن حُجيَّة، حين بلغه أن زياد بن خَصْفة تَبِعه ولم يلحق به:
قال آخر:
وتجرَّدت الحضرمية لزوجها ثم قالت: هل ترى في خلق الرحمن من تفاوُت؟ قال: أرى فُطورًا. وقال آخر: راودت امرأةٌ شيخًا واستهدفت له، وأبطأ عليه الانتشار فلامَته، فقال لها: إنك تفتحين بَيتًا، وأنا أنشر مَيتًا.
(٨) كتاب عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري
أما بعد، فإن للناس نُفرةً عن سلطانهم، فأعوذ بالله أن تُدركني وإيَّاك عَمياء مجهولة، وضغائن محمولة، وأهواءٌ متَّبَعة، ودنيا مؤثَرة، فأقِم الحدود ولو ساعةً من نهار. وإذا عَرَض لك أمران أحدهما لله والآخر للدنيا، فآثِر نصيبك من الآخرة على نصيبك من الدنيا؛ فإن الدنيا تنفد، والآخرة تبقى. وكن من خشية الله على وجل، وأخِف الفُساق واجعلهم يدًا يدًا، ورِجلًا رجلًا. وإذا كانت بين القبائل نائرةٌ وتداعَوا: يا آل فلان، فإنما تلك نجوى الشيطان، فاضربهم بالسيف حتى يفيئوا إلى أمر الله، وتكون دعواهم إلى الله وإلى الإمام. وقد بلَغ أميرَ المؤمنين أن ضبَّة تدعو: يا آل ضبة. وإني والله ما أعلم أن ضبة ساق الله بها خيرًا قط، ولا منع بها سوءًا قط، فإذا جاءك كتابي هذا فأنهكْهم عقوبةً حتى يَفرَقوا إن لم يفقهوا. وألصق بغَيلان بن خرشة من بينهم. وعُد مرضى المسلمين، واشهد جنائزهم، وافتح بابك، وباشِر أمرهم بنفسك. أنت امرؤ منهم، غير أن الله جعلك أثقلهم حِملًا. وقد بلَغ أميرَ المؤمنين أنه فشا لك ولأهل بيتك هيئةٌ في لباسك ومَطعمك ومَركبك ليس للمسلمين مِثلها؛ فإيَّاك يا عبد الله أن تكون بمنزلة البهيمة التي مرَّت بوادٍ خصيب، فلم يكن لها هِمَّة إلا السِّمن، وإنما حتفُها في السِّمن. واعلم أن للعامل مَردًّا إلى الله، فإذا زاغ العامل زاغت رعيَّته، وإنَّ أشقى الناس من شقِيَت به رعيَّته. والسلام.
عَوانة قال: قدِم علينا أعرابي من كلب، وكان يحدِّثنا الحديث فلا يكاد يقطعه، فقال له رجل: أمَا لحديثك هذا آخِر؟ فقال: إذا عجز وصَلْناه.
وقال معاوية ليونس الثقفي: اتقِ أن أطير بك طيرةً بطيئًا وُقوعُها. قال: أليس لي ولك المَرجع بعدُ إلى الله؟ قال: بلى، فأستغفر الله.
وقال الآخر:
وقال الآخر:
قالت امرأة الحُطيئة للحُطيئة، حين تحوَّل عن بني رياح إلى بني كُليب: بئس ما استبدلت من بني رياح بَعْر الكبش. لأنهم مُتفرقون، وكذلك بعر الكبش يقع مُتفرقًا.
(٩) كلام لعائشة أم المؤمنين في قتل عثمان
(١٠) بين زياد والحكم بن عمرو
حدَّثنا يزيد بن هارون قال، أخبرنا هشام بن حسان، عن الحسن، أن زيادًا بعث الحَكم بن عمرو على خراسان، فأصاب مَغنمًا، فكتب إليه زياد: إن أمير المؤمنين معاوية كتب إليَّ يأمرني أن أصطفيَ له كل صَفراء وبَيضاء، فإذا أتاك كتابي هذا فانظر ما كان من ذهب وفضة فلا تَقسِمه، واقسم ما سوى ذلك. فكتب إليه الحكم: إني وجدت كتاب الله قبل كتاب أمير المؤمنين، ووالله لو أن السموات والأرض كانتا رَتقًا على عبد فاتَّقى الله تعالى لجعل الله له منها مَخرجًا. والسلام.
ثم أمر المُنادي فنادى في الناس: أنِ اغدوا على غنائمكم. فغدَوا فقسَّمها بينهم.
وقال خالد بن صَفوان: ما رأينا أرضًا مِثل الأُبُلَّة أقرب مسافةً، ولا أطيب نُطفةً، ولا أوطأ مطيَّةً، ولا أربح لتاجر، ولا أخفى لعابد.
(١١) كلام بعض الأعراب
قال الكِسائي: لقيت أعرابيًّا فجعلت أسأله عن الحرف بعد الحرف، والشيء بعد الشيء أقرنه بغيره، فقال: تالله ما رأيت رجلًا أقدر على كلمة إلى جنب كلمة منها أشبه شيء بها، وأبعد شيء منها، منك. ووصف أعرابي رجلًا فقال: ذاك والله ممن ينفع سِلمه، ويتواصف حِلمه، ولا يُستمرأ ظُلمه. وقال آخر لخَصمه: لئن هملجتَ إلى الباطل، إنك لقطوف إلى الحق.
ورأى رَقَبة بن مَصقَلة العبدي جاريةً عند العطَّار، فقال له: ما تصنع هذه عندك؟ قال: أكيل لها حنَّاء. قال: أظنُّك والله تكيل لها كيلًا لا يأجرك الله عليه.
(١٢) كلام عمرو بن العاص لعبد الله بن عبَّاس
محمد بن سعيد، عن إبراهيم بن خُويطب قال، قال عمرو بن العاص لعبد الله بن عبَّاس: إن هذا الأمر الذي نحن وأنتم فيه ليس بأولِ أمرٍ قاده البلاء، وقد بلَغ الأمر بنا وبكم ما نرى، وما أبقت لنا هذه الحرب حياءً ولا صبرًا. ولسنا نقول: ليت الحرب عادت. ولكننا نقول: ليتها لم تكن كانت. فانظر فيما بقي بغير ما مضى؛ فإنك رأس هذا الأمر بعد علي، وإنما هو أميرٌ مُطاع، ومأمورٌ مُطيع، ومُشاورٌ مأمون، وأنت هو.
وقال عيسى بن طَلحة لعُروة بن الزُّبير حين ابتُلي برِجله فقطعها: يا أبا عبد الله، ذهب أهوَنُك علينا، وبقي أكثرك لنا.
قال أبو الحسن: خطب الحجَّاج يوم جمعة فأطال الخطبة، فقال رجل: إن الوقت لا ينتظرك، وإن الرب لا يَعذِرك. فحبسه، فأتاه أهل الرجل وكلَّموه فيه وقالوا: إنه مجنون. فقال: إن أقرَّ بالجنون خلَّيتُ سبيله. فقيل له: أقِرَّ بالجنون. قال: لا والله، لا أزعم أنه ابتلاني وقد عافاني.
(١٣) وصف الإبل
قالت أم هشام السَّلولية: ما ذكَر الناس مذكورًا خيرًا من الإبل؛ أحناه على أحدٍ بخير، إن حمَلت أثقلت، وإن مشَت أبعدت، وإن نُحرت أشبعت، وإن حُلبت أروَت.
(١٤) كتاب الحسن بن علي إلى زياد وردُّ زياد عليه
حدَّثني سليمان بن أحمد الخرشني قال، حدَّثني عبد الله بن محمد بن حبيب قال: طلب زياد رجلًا كان في الأمان الذي سأله الحسن بن علي لأصحابه، فكتب فيه الحسن رضي الله تعالى عنه إلى زياد:
من الحسن بن علي إلى زياد، أما بعد، فقد علِمتَ ما كنَّا أخذنا لأصحابنا، وقد ذكر لي فلانٌ أنك عرضت له، فأُحبُّ ألا تَعرِض له إلا بخير.
فلما أتاه الكتاب، ولم ينسب الحسن إلى أبي سفيان، غضِب فكتب:
من زياد بن أبي سفيان إلى الحسن، أما بعد، أتاني كتابك في فاسقٍ يؤوِيه الفُسَّاق من شِيعتك وشيعة أبيك، وايم الله لأطلبنَّهم ولو بين جِلدك ولحمك، وإن أحبَّ لحم إليَّ آكله للَحمٌ أنت منه.
(١٥) كتاب معاوية إلى زياد
فلما وصل الكتاب الحسن وجَّه به إلى معاوية، فلما قرأه معاوية غضِب وكتب:
من معاوية بن أبي سفيان إلى زياد بن أبي سفيان، أما بعد، فإن لك رأيَين؛ رأيًا من أبي سُفيان ورأيًا من سُمية، فأما رأيك من أبي سفيان فحِلم وحَزم، وأما رأيك من سُمية فكما يكون رأي مِثلها. وقد كتب إليَّ الحسن بن علي أنك عرَضت لصاحبه، فلا تَعرِض له؛ فإني لم أجعل لك إليه سبيلًا، وإن الحسن بن علي ممَّن لا يُرمى به الرَّجَوان. والعَجب من كتابك إليه لا تنسبه إلى أبيه، أفإلى أمه وكَلتَه، وهو ابن فاطمة بنت محمد ﷺ؟ فالآن حين اخترت له. والسلام.
(١٦) خطبة مُصعَب بن الزُّبير
قدِم مصعب بن الزبير العراق فصعِد المِنبر ثم قال:
وكتب محمد بن كعب: «القرظي». فقيل له: والأنصاري؟ قال: أكره أن أمُنَّ على الله بما لم أفعل.
(١٧) عمرو بن العاص وعبد الله بن عبَّاس
وقام عمرو بن العاص بالمَوسم، فأطرى مُعاوية وبني أميَّة، وتناوَل بني هاشم، ثم ذكر مَشاهده بصِفِّين، فقال ابن عباس: يا عمرو، إنك بِعتَ دينك من معاوية فأعطيته ما في يدك، ومنَّاك ما في يد غيره، فكان الذي أخذ منك فوق الذي أعطاك، وكان الذي أخذتَ منه دون ما أعطيته، وكلٌّ راضٍ بما أخذ وأعطى، فلما صارت مصر في يدك تتبَّعك فيها بالعزل والتنقُّص حتى لو أن نفسك فيها لألقيتها إليه، وذكرتَ مَشاهدك بصِفِّين فما ثقُلتْ علينا يومئذٍ وطأتُك، ولا نكأتنا فيها حربك، وإن كنتَ فيها لطويل اللسان، قصير السِّنان، آخِرَ الحرب إذا أقبلَت، وأوَّلَها إذا أدبرَت، لك يدان؛ يد لا تبسطها إلى خير، ويد لا تقبضها عن شر، ووجهان؛ وجهٌ مؤنِس، ووجه مُوحِش. ولَعَمري إن من باع دينه بدنيا غيره لحريٌّ أن يطول حزنه على ما باع واشترى. لك بيان وفيك خطل، ولك رأي وفيك نكد، ولك قدر وفيك حسد؛ فأصغر عيب فيك أعظم عيب في غيرك. فقال عمرو: أمَا والله ما في قريشٍ أحدٌ أثقل وطأةً عليَّ منك، ولا لأحد من قريش قدرٌ عندي مِثل قدرك.
(١٨) كلام عمرو بن عتبة
ورأى عمرو بن عُتبة بن أبي سفيان رجلًا يشتم رجلًا، وآخر يسمع له، فقال للمُستمع: نزِّه سمعك عن استماع الخَنا كما تنزِّه لسانك عن الكلام به؛ فإن السامع شريك القائل، وإنما نظر إلى شرِّ ما في وعائه فأفرغه في وعائك، ولو رُدَّت كلمة جاهل في فيه لسعد رادُّها كما شقِي قائلها.
(١٩) خصمان عند زياد
عوانة قال: اختصم إلى زيادٍ رجلان في حقٍّ كان لأحدهما على الآخر، فقال المدَّعي: أيها الأمير، إنه ليسطو عليَّ بخاصَّةٍ ذكَر أنها له منك. فقال زياد: صدق، وسأخبرك بمنفعتها له؛ إن يكن الحق له عليك أخذتك به، وإن يكن لك عليه حكمت عليه ثم قضيت عنه.
(٢٠) تأبين عائشة لأبي بكر الصدِّيق
ولما تُوفي أبو بكر، رضي الله تعالى عنه، قامت عائشة، رضي الله تعالى عنها، على قبره فقالت: نضَّر الله وجهك، وشكر لك صالح سعيك؛ فلقد كنت للدنيا مُذِلًّا بإدبارك عنها، وللآخرة مُعِزًّا بإقبالك عليها. وإن كان لأجَلَّ الأرزاء بعد رسول الله ﷺ رُزْؤك، وأكبر المصائب فقدُك. وإن كتاب الله ليعِد بجميل العزاء [فيك] حُسْن العِوض منك، فأنتجز من الله موعده فيك بالصبر عنك، وأستخلصه بالاستغفار لك.
(٢١) تأبين الأحنف بن قيس
وقامت فَرغانة بنت أوس بن حَجَر على قبر الأحنف بن قيس وهي على راحلة، فقالت: إنا لله وإنا إليه راجعون، [رحمك الله] أبا بحر من مِجنٍّ في جَنَن، ومُدرَج في كفن؛ فوالذي ابتلاني بفقدك، وبلَّغَنا يوم موتك، لقد عِشتَ حميدًا، ومتَّ فقيدًا. ولقد كنت عظيم الحِلم، فاضل السِّلم، رفيع العماد، وارِيَ الزِّناد، منيع الحريم، سليم الأديم. وإن كنت في المَحافل لشريفًا، وعلى الأرامل لعطوفًا، ومن الناس لقريبًا، وفيهم لغريبًا. وإن كنت لمُسوَّدًا، وإلى الخُلفاء لمُوفَدًا، وإن كانوا لقولك لمُستمِعين، ولرأيك لمتَّبِعين. ثم انصرفت.
(٢٢) وصف عمرو بن العاص لمعاوية
أبو الحسن قال، قال عمرو بن العاص: ما رأيت معاوية قطُّ متَّكئًا على يساره، واضعًا إحدى رِجلَيه على الأخرى، كاسرًا إحدى عينَيه، يقول للذي يُكلمه يا هناه، إلا رحمت الذي يُكلمه.
(٢٣) كلام لعمر بن الخطاب
وقال عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه: كونوا أوعية الكتاب، وينابيع العلم، وسلوا الله رِزق يوم بيوم، ولا يَضيركم ألا يُكثِر لكم.
(٢٤) بين معاوية وعائشة
وكتب معاوية إلى عائشة أنِ اكتبي إليَّ بشيءٍ سمعتِه من أبي القاسم ﷺ، فكتبت إليه: سمعت أبا القاسم ﷺ يقول: من عمل بما يُسخِط الله عادَ حامده من الناس له ذامًّا.
(٢٥) وصية عالم لابنه
أوصى بعض العلماء ابنه فقال: أوصيك بتقوى الله، وليَسَعك بيتك، واملِك عليك لسانك، وابكِ على خطيئتك.
(٢٦) فضل الشورى
بكر بن أبي بكر القرشي قال، قال أعرابي: ما غُبِنتُ قطُّ حتى يُغبَن قومي. قيل: وكيف ذلك؟ قال: لا أفعل شيئًا حتى أُشاورهم. قيل لرجل من عبس: ما أكثرَ صوابَكم! قال: نحن ألف رجل، وفينا حازم ونحن نُطيعه، فكأننا ألف حازم.
(٢٧) الحجَّاج أول مُجرٍ لنوع من السفن، وأول صانع للمَحامل
قال أبو الحسن: أول من أجرى في البحر السفن المُقيَّرة المسمَّرة، غير المخرَّزة والمدهونة، وغير ذوات الجآجئ، وكان أول من عمل المحامل: الحجاج. قال بعض رُجَّاز الأكرياء:
وقال آخر:
(٢٨) كلام بعض الأعراب
وقال أحمد بن المُعذَّل: أنشدني أعرابي من طي:
(٢٩) خطبة للحجَّاج
حدَّثني محمد بن يحيى بن علي، عن عبد الحميد، عن عبد الله بن أبي عُبيدة بن محمد بن عمَّار بن ياسر، قال: خرج الحجَّاج يريد العراق واليًا عليها في اثنَي عشر راكبًا على النجائب، حتى دخل الكوفة فجأةً حين انتشر النهار — وقد كان بِشر بن مروان بعث المهلَّب إلى الحرورية — فبدأ الحجَّاج بالمسجد فدخله، ثم صعِد المِنبر وهو متلثِّم بعمامةِ خزٍّ حَمراء، فقال: عليَّ بالناس. فحسِبوه وأصحابه خوارج، فهمُّوا به، حتى إذا اجتمع الناس في المسجد قام فكشف عن وجهه، ثم قال:
أمَا والله إني لأحتمل الشر بحمله، وأحذوه بنعله، وأجزيه بمِثله. وإني لأرى رءوسًا قد أينعَت وحان قِطافُها، وإني لصاحبها، وإني لأنظر إلى الدماء ترقرق بين العمائم واللِّحى، قد شمَّرَت عن ساقها فشمِّر.
ثم قال:
وقال أيضًا:
إني والله يا أهل العراق، والشِّقاق والنِّفاق، ومَساوئ الأخلاق، ما أُغمَز تَغْماز التِّين، ولا يُقعقَع لي بالشِّنان، ولقد فُرِرت عن ذكاء، وفُتِّشت عن تجربة، وجرَيت من الغاية. إن أمير المؤمنين كبَّ كِنانته ثم عجم عيدانها، فوجدني أمرَّها عُودًا، وأصلبها عمودًا، فوجَّهني إليكم؛ فإنكم طالما أوضَعتُم في الفتن، واضطجعتم في مَراقد الضلال، وسننتم سُنَن الغي. أمَا والله لألحُوَنَّكم لَحْو العصا، ولأعصبنَّكم عَصب السَّلمة، ولأضربنَّكم ضرب غرائب الإبل؛ فإنكم لَكأهلِ قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ فَأَذَاقَهَا اللهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ. إني والله لا أعِد إلا وفَيت، ولا أهُمُّ إلا أمضيت، ولا أخلُقُ إلا فرَيت، فإيَّاي وهذه الجماعات، وقال وقيل، وما تقول، وفيم أنتم وذاك. أمَا والله لتستقيمُنَّ على طريق الحق أو لأدعَنَّ لكل رجل منكم شغلًا في جسده. من وجدتُ بعد ثلاثة من بعثِ المهلَّب سفكت دمه وأنهبت ماله.
ثم دخل منزله.
(٣٠) كتاب الحجَّاج إلى قَطَري
بسم الله الرحمن الرحيم
سلام عليك. أما بعد، فإنك مرقتَ من الدين مُروق السهم من الرمِيَّة، قد علِمت حيث تجرثمت ذلك أنك عاصٍ لله ولوُلاة أمره، غير أنك أعرابي جِلف أميٌّ، تستطعم الكِسرة وتستشفي بالتَّمرة، والأمور عليك حسرة. خرجت لتنال شُبعة فلحِقَ بك طَغامٌ صَلُوا بمِثل ما صَلِيت به من العيش، يهزُّون الرماح، ويستنشون الرياح، على خوف وجهد من أمورهم، وما أصبحوا ينتظرون أعظم مما جهِلوا معرفته، ثم أهلكهم الله بتَرحتَين. والسلام.
(٣١) جواب قطري بن الفجاءة
من قطري بن الفجاءة إلى الحجَّاج بن يوسف، سلام على الهُداة من الوُلاة، الذين يرعَون حريم الله ويرهبون نِقَمه، فالحمد لله على ما أظهر من دينه، وأظلع به أهل السفالة، وهدى به من الضلالة، ونصر به عند استخفافك بحقه. كتبتَ إليَّ تذكُر أني أعرابي جِلف أميٌّ أستطعم الكِسرة وأستشفي بالتمرة. ولعَمري يا ابن أم الحجَّاج إنك لميِّت في جُبَّتك، مُطلخِمٌّ في طريقتك، واهٍ في وثيقتك، لا تعرف الله، ولا تجزع من خطيئتك، يئستَ واستيئَست من ربك، فالشيطان قرينك، لا تُجاذبه وثاقك، ولا تُنازعه خناقك. فالحمد لله الذي لو شاء أبرز لي صفحتك، وأوضح لي طلعتك؛ فوالذي نفس قَطَري بيده لعرفت أن مقارعة الأبطال، ليس كتصدير المقال، مع أني أرجو أن يدحض الله حُجتك، وأن يمنحني مُهجتك.
(٣٢) بين معاوية وعدي بن حاتم
خالد بن يزيد الطائي قال: كتب معاوية إلى عدي بن حاتم: حاجَيتُك ما لا يُنسى. يعني قتل عثمان. فذهب عدي بالكتاب إلى علي فقال: إن المرأة لا تنسى قاتل بِكرها، ولا أبا عُذرها. فكتب إليه عدي: إن ذلك مني كلَيلة شَيباء.
وقيل لقُتيبة: أين خرج بك هذا الخراج؟ قال: بين الرانفة والصَّفنة.
وقيل لرَقبة: ما بال القُراء أشد شيء نَهمةً وغُلمةً؟ قال: أما الغُلمة فإنهم لا يزنون، وأما النَّهمة فلأنهم يصومون. وعرض عليه رجلٌ الغداء، فقال له: يا هذا، إن أقسمت عليَّ وإلا فدَعني.
وقال مؤرِّق العجلي: ما تكلَّمت بكلمة في الغضب أندم عليها في الرضا، وقد سألت الله حاجةً منذ أربعين سنةً فما أجابني ولا يئست منها، ولا أتكلَّم إلا فيما يعنيني. قيل: مكتوب في حكمة داود عليه السلام: على العاقل أن يكون عالمًا بأهل زمانه، مالكًا للسانه، مُقبلًا على شانه. ولما قدِم الفرزدق الشام، قال له جرير وكان هناك: ما ظننت أنك تَقدَم بلدًا أنا فيه. قال الفرزدق: إني طالما خالفت رأي العَجَزة. وقال يونس بن حبيب: إذا قالوا غلب الشاعر فهو الغالب، وإذا قالوا مغلَّب فهو المغلوب. قال امرؤ القيس:
وقال بعضهم:
وقال قُتيبة بن مُسلم: إذا غزَوتم فأطيلوا الأظفار، وقصِّروا الشعور.
ونظر مخنَّث إلى شيخٍ قبيح الوجه في الطريق، فقال: ألمْ يَنهَكم سليمان بن داود عليهما السلام عن الخروج بالنهار؟
وعزَّى أعرابي ناسًا فقال: يرحم الله فلانًا، لقد كان كثير الإهالة، دسِم الأشداق. وقال الشاعر:
وقال أعرابي: رحم الله فلانًا، إن كان لضخم الكاهل. ثم جلس وسكت. وقال آخر: كان والله نقيَّ الأظفار، قليل الأسرار. وسارَّ رجل أعرابيًّا بحديث فقال: أفهمت؟ قال: بل نسيت.
(٣٣) هجاء واثلة السَّدوسي لعبد الملك بن المهلَّب
قال واثلة بن خليفة السدوسي يهجو عبد الملك بن المهلب:
(٣٤) رثاء بشَّار لعمر بن حفص
وقال بشَّارٌ الأعمى في عمر بن حَفص:
قال إسماعيل بن غزوان: الأصوات الحسنة والعقول الحِسان كثيرة، والبيان الجيِّد والجمال البارع قليل.
وذكر أبو الحارث صاحب مسجد ابن رغبان، فقال: إن حدَّثتَه سابَقك إلى ذلك الحديث، وإن سكتَّ عنه أخذ في التُّرَّهات.
وقال أبو وهب: أنا أستثقل الكلام كما يستثقل حُرَيثٌ السكوت. كما قال ابن شُبرُمة لإياس بن معاوية: شَكلي وشكلك لا يتَّفقان، أنت لا تشتهي أن تسكت، وأنا لا أشتهي أن أسمع.
وقال أبو مُقبل بن درست: إذا لم يكن المُستمِع أحرصَ على الاستماع من القائل على القول لم يبلغ القائل في منطقه، وكان النُّقصان الداخل على قوله بقدر الخَلَّة بالاستماع منه.
وقال ابن بشَّار البَرقي: كان عندنا واحدٌ يتكلم في البلاغة، فسمعته يقول: لو كنت أنا ليس أنا وأنا ابنُ مَن أنا منه، لكنت أنا أنا وأنا ابنُ مَن أنا منه، فكيف وأنا أنا وابن من أنا منه؟
وقالوا: ثلاث يُسرع إليهن الخلَف؛ الحريق، والتزويج، والحج.
قال المهلَّب: ليس شيءٌ أنمى من بقيَّة السيف. فوجد الناس تصديق قوله فيما نال ولده من السيف وصار فيهم من النماء.
وقال علي بن أبي طالب كرَّم الله تعالى وجهه: بقيَّة السيف أنمى عددًا، وأكثر ولدًا. ووجد الناس ذلك بالعيان، للذي صار إليه ولده من نهك السيف، وكثرة الذرء، وكرم النجل.
قال الله تباك وتعالى: وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ. وقال بعض الحكماء: قتلُ البعض إحياءٌ للجميع. وقال همَّام الرَّقاشي:
(٣٥) الحجَّاج وامرأةٌ خارجية
وقال الحجَّاج لامرأة من الخوارج: والله لأعُدَّنَّكم عدًّا، ولأحصُدنَّكم حصدًا. فقالت: أنت تحصد والله يزرع، فانظر أين قدرة المخلوق من قدرة الخالق.
ولم يظهر من عدد القتلى مِثل الذي ظهر في آل أبي طالب، وآل الزُّبير، وآل المهلَّب. وقال الشاعر في آل الزبير:
احترقت دار ثُمامة، فقالوا له: ما أسرعَ خلَفَ الحريق؟ قال: فأنا أستحرق الله. وقال ثُمامة: سمعت قاصًّا بعبَّادان يقول في دعائه: اللهم ارزقنا الشهادة وجميعَ المسلمين. قال: وتساقَط الذِّبَّان على وجهه فقال: الله أكبر، كثَّر الله بكم القبور. قال: وسمع أعرابي رجلًا يقرأ سورة براءة، فقال: ينبغي أن يكون هذا آخر القرآن. قيل له: ولِمَ؟ قال: رأيت عهودًا تُنبَذ. وقال أبو عبد العزيز: قال الغزَّال القاصُّ في قصصه: ليت الله لم يكُن خلقني وأنا الساعة أعوَر. فحكيت ذلك لأبي عتَّاب الجزَّار، فقال أبو عتَّاب: بئس ما قال! ودِدتُ والله الذي لا إله إلا هو أن الله لم يكن خلقني وأنِّي الساعة أعمى مقطوع اليدَين والرِّجلَين.
(٣٦) عمر والزِّبرِقان والحُطيئة
ولما استعدى الزِّبرقان على الحُطيئة فأمر عُمر بقطع لسانه، قال الزبرقان: نشَدتُك الله يا أمير المؤمنين ألا تقطعه، فإن كنت لا بد فاعلًا فلا تقطعه في بيت الزبرقان. قيل له: إنه لم يذهب هناك، إنما أراد أن يقطع لسانه عنك برغبة أو رهبة.
(٣٧) من كلام العرب
وتقول العرب: قتلت أرضٌ جاهلَها، وقتل أرضًا عالمُها. وتقول: ذبحني العطش، والمِسك الذبيح، وركِب بنو فلان الفلاةَ فقطع العطش أعناقهم. وتقول العرب: فلانٌ لسان القوم ونابُهم الذي يَفترُّون عنه، وهؤلاء أنفُ القوم وخراطيمهم، وبيان لسان الأرض يوم القيامة، وفلانٌ اصطلمَه الوادي، وفلانٌ عين البلد.
قال الأصمعي: قال رجل لأبي عمرو بن العلاء: أكرمك الله. قال: مُحدَثة. قال: وكان أبو عَون يقول: كيف أنت أصلحك الله؟
وكان الأصمعي يقول: قولهم: جُعلتُ فِداك، وجعلني الله فِداك، مُحدَث. وقد روى علماء البصريين أن الحسن لما سمع صراخًا في جنازة أم عبد الأعلى بن عبد الله بن عامر فالتفت، قال له عبد الأعلى: جُعلتُ فِداك، لا والله ما أمرت ولا شعرت. قال الأصمعي: صلَّى أعرابي فأطال الصلاة، وإلى جانبه ناس، فقالوا: ما أحسنَ صلاتَه! فقال: وأنا مع هذا صائم. قال الشاعر:
وقال طاهر بن الحسين لأبي عبد الله المَروَزي: منذ كم صِرت إلى العراق يا أبا عبد الله؟ قال: دخلت العراق منذ عشرين سنة، وأنا أصوم الدهر منذ ثلاثين سنة. قال: يا أبا عبد الله، سألناك عن مسألة فأجبتنا عن مسألتَين؟
(٣٨) بسم الله الرحمن الرحيم
قال عوانة: قال زياد بن أبيه: من سعادة الرجل أن يطول عمره، ويرى في عدوِّه ما يسرُّه. قال الباهلي: قيل لأعرابي: ما بال المراثي أجود أشعاركم؟ قال: لأنَّا نقول وأكبادنا تحترق. قال أبو الحسن: كانت بنو أميَّة لا تَقبَل الراوية إلا أن يكون راوية للمراثي. قيل: ولِمَ ذاك؟ قيل: لأنها تدل على مكارم الأخلاق.
(٣٩) عمر والشعر
وقال عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه: من خير صناعات العرب الأبيات يقدِّمها الرجل بين يدَي حاجته، يستنزل بها الكريم، ويستعطف بها اللئيم.
وقال شُعبة: كان سِماك بن حرب إذا كان له إلى الوالي حاجةٌ قال فيه أبياتًا ثم يسأله حاجته.
(٤٠) لصٌّ ينطق بالحكمة
قال أبو الحسن: كان شِظاظ لصًّا، فأغار على قوم من العرب فطرد نَعمَهم فساقها ليلته حتى أصبح، فقال رجل من أصحابه: لقد أصبحنا على قصدٍ من طريقنا. قال: إن المُحسِن مُعان.
(٤١) عبد الملك بن مروان وتعقُّله
وقال أبو الحسن: أربى غلامٌ من بني علي على عبد الملك، وعبد الملك يومئذٍ غلام، فقال له كَهْل من كهولهم لما رآه مُمسكًا عن جواب المُربِي عليه: لو شكوتَه إلى عمه انتقم لك منه. قال: أمسِكْ يا كَهْل؛ فإني لا أعُدُّ انتقام غيري انتقامًا. قال أبو الحسن: خاض جلساء عبد الملك يومًا في قتل عثمان، فقال رجل منهم: يا أمير المؤمنين، في أيِّ سِنِّك كنتَ يومئذٍ؟ قال: كنت دون المُحتلم. قال: فما بلَغ من حزنك عليه؟ قال: شغَلني الغضب له عن الحزن عليه.
وكان عمر بن الخطاب، رضي الله تعالى عنه، إذا اشترى رقيقًا قال: اللهم ارزقني أنصحهم حياءً وأطولهم عمرًا. وكان إذا استعمل رجلًا قال: إن العمل كِبر، فانظر كيف تخرج منه.
(٤٢) الكَرخي المتفقِّه
ومضى أبو عبد الله الكرخي إلى الرَّبَض، فجلس على بابه، ونفش لحيته، وادَّعى الفقه، فوقف عليه رجل فقال له: إني أدخلت إصبعي في أنفي فخرج عليها دم. فقال: احتجِم. قال: جلست طبيبًا أو فقيهًا؟ قالوا: بينا الشَّعبي جالسٌ في مجلسه وأصحابه يُناظرونه في الفقه، وإذا شيخ بقربة قد أقبل عليه بعد أن طال جلوسه، فقال له: إني أجد في قفايَ حكَّةً، أفترى لي أن أحتجم؟ قال الشعبي: الحمد لله الذي حوَّلَنا من الفقه إلى الحجامة. وذكر ناس رجلًا بكثرة الصوم وطول الصلاة وشدة الاجتهاد، فقال أعرابي كان شاهدًا لكلامهم: بئس الرجل هذا! أيظنُّ أن الله لا يرحمه حتى يعذِّب نفسه هذا التعذيب؟
وقال ابن عَون: أدركت ثلاثةً يتشدَّدون في السماع، وثلاثةً يتساهلون في المعاني؛ فأما الذين يتساهلون فالحَسن، والشَّعبي، والنَّخعي، وأما الذين يتشددون فمحمد بن سيرين، والقاسم بن محمد، ورجاء بن حَيْوة.
وقال رجل من أصحاب ابن لهيعة: ما رأيت أحسن أدبًا من عبد الله بن المُبارَك والمعافى بن عمران. قال أبو الحسن، حدَّثني عبد الأعلى قال: رأيت الطِّرِمَّاح مؤدِّبًا بالرَّي، فلم أرَ أحدًا آخَذ لعقول الرجال، ولا أجذب لأسماعهم إلى حديثه منه. ولقد رأيت الصِّبيان يخرجون من عنده كأنهم قد جالسوا العلماء.
وكان رجلٌ يبلُغه كلام الحسن البصري، فبيْنا الرجل يطوف بالبيت إذ سمع رجلًا يقول: عَجبًا لقوم أُمروا بالزاد ونُوديَ فيهم بالرحيل، وحُبِس أولهم على آخرهم! قال: فقلت في نفسي: هذا الحسن.
قال: وأربعة من قريشٍ كانوا رُواة الناس للأشعار، وعلماءهم بالأنساب والأخبار: مَخرمة بن نَوفل بن وُهيب بن عبد مناف بن زُهرة، وأبو الجهم بن حذيفة بن غانم بن عامر بن عبد الله بن عوف، وحُويطب بن عبد العُزَّى، وعَقيل بن أبي طالب.
وكان عقيل أكثرهم ذكرًا لمثالب الناس، فعادَوه لذلك، وقالوا فيه وحمَّقوه، وسمعت ذلك العامة منهم، فلا تزال تسمع الرجل يقول: قد سمعت الرجل يُحمِّقه. حتى ألَّف بعض الأعداء فيه الأحاديث، فمنها قولهم: ثلاثة حُمقاء كانوا إخوةَ ثلاثةٍ عُقلاء والأمُّ واحدة: علي وعَقيل، وأمهما فاطمة بنت أسد بن هاشم؛ وعُتبة ومعاوية ابنا أبي سفيان، وأمهما هند بنت عُتبة بن ربيعة؛ وعبد الملك ومعاوية ابنا مروان، وأمهما عائشة بنت معاوية بن المغيرة بن أبي العاص. فكيف وجعدة بن هبيرة يقول:
وقال قُدامة بن موسى بن عمر بن قُدامة بن مَظعون:
وقال حسَّان:
(٤٣) عقيل بن أبي طالب
وكان عَقيل رجلًا قد كفَّ بصره، وله بعدُ لسانه ونَسبه وأدبه وجوابه، فلما فضَل نُظراءه من العلماء بهذه الخصال صار لسانه بها أطول، وغاضَب عليًّا وأقام بالشام، فكان ذلك أيضًا أطلق للسان الباغي والحاسد فيه. وزعموا أنه قال له معاوية: هذا أبو يزيد، لولا أنه علِم أني خيرٌ له من أخيه لَمَا أقام عندنا وتركه. فقال له عقيل: أخي خيرٌ لي في ديني، وأنت خيرٌ لي في دُنياي. وقال له مرةً: أنت معنا يا أبا يزيد؟ قال: ويوم بدر كنت معكم.
وقال معاوية يومًا: يا أهل الشام، هل سمعتم قول الله تبارك وتعالى في كتابه: تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ؟ قالوا: نعم. قال: فإن أبا لهب عمه. فقال عقيل: فهل سمعتم قول الله عز وجل: وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ؟ قالوا: نعم. قال: فإنها عمته. قال معاوية: حسبُنا ما لقينا من أخيك.
وذكروا أن امرأة عقيل، وهي فاطمة بنت عتبة بن ربيعة، قالت: يا بني هاشم، لا يُحبُّكم قلبي أبدًا. أين أبي؟ أين عمي؟ أين أخي؟ كأن أعناقهم أباريق الفضة ترِد أُنُفهم قبل شِفاههم. قال لها عقيل: إذا دخلت جهنم فخُذي على شمالك.
وقيل لعمر رضي الله تعالى عنه: فلان لا يعرف الشر. قال: ذلك أجدَرُ أن يقع فيه. وسمع أعرابي رجلًا يقرأ: وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ * تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ. قالها بفتح الكاف، فقال الأعرابي: لا يكون. فقرأها عليه بضم الكاف وكسر الفاء، فقال الأعرابي: يكون.
(٤٤) تشابيه من الشعر
قال الشاعر:
وقال الآخر:
(٤٥) المنصور والشابُّ الهاشمي
حدَّثني إبراهيم بن السِّندي، عن أبيه قال: دخل شابٌّ من بني هاشم على المنصور، فسأله عن وفاة أبيه. قال: مرِض أبي رضي الله تعالى عنه يوم كذا، ومات رضي الله تعالى عنه يوم كذا، وترك رضي الله تعالى عنه من المال كذا ومن الولد كذا. فانتهره الربيع وقال: بين يدَي أمير المؤمنين تُوالي بالدعاء لأبيك؟ فقال الشاب: لا ألومك؛ لأنك لم تعرف حلاوة الآباء. قال: فما علِمنا أن المنصور ضحِك في مجلسه ضحكًا قطُّ افترَّ عن نواجذه إلا يومئذٍ.
(٤٦) آداب الملوك
وحدَّثني إبراهيم بن السِّندي، عن أبيه قال: دخل شابٌّ من بني هاشم على المنصور، فاستجلسه ذات يوم ودعا بغدائه، فقال للفتى: ادْنُه. فقال: قد تغدَّيت يا أمير المؤمنين. فكفَّ عنه الربيع حتى ظننَّا أنه لم يَفطِن لخطابه، فلما نهض للخروج أمهله، فلما كان من وراء السِّتر دفع في قفاه، فلما رأى ذلك الحُجَّاب منه دفعوا في قفاه حتى أخرجوه من الدار، فدخل رجال من عمومة الفتى فشكَوا الربيع إلى المنصور، فقال المنصور: إن الربيع لا يُقدِم على مِثل هذا إلا وفي يدَيه حُجة، فإن شئتم أغضيتم على ما فيها، وإن شئتم سألته وأنتم تسمعون. قالوا: فاسأله. ودعا الربيع وقصُّوا قِصَّته، فقال الربيع: هذا الفتى كان يسلِّم من بعيد وينصرف، فاستدناه أمير المؤمنين حتى سلَّم عليه من قريب، ثم أمره بالجلوس، ثم تبذَّل بين يدَيه وأكل، ثم دعاه إلى طعام ليأكل معه من مائدته، فبلَغ به الجهل بفضيلة المَرتبة التي صيَّره فيها إلى أن قال حين دعاه إلى غذائه: قد تغدَّيت. وإذًا ليس عنده لمن تغدَّى مع أمير المؤمنين إلا سدُّ خَلَّة الجوع، ومِثل هذا لا يقوِّمه القول دون الفعل.
حدَّثني إبراهيم بن السِّندي، عن أبيه قال: والله إني لواقفٌ على رأس الرشيد، والفضل بن الربيع واقف في الأيسر، والحسن اللؤلئيُّ يُسائله ويحدِّثه عن أمور، وكان آخر ما سأله عن بيع أمهات الأولاد، فلولا أني ذكرت أن سلطان ما وراء السِّتر للحاجب، وسلطان الدار لصاحب الحرس، وأن سلطاني إنما هو على من خرج من حدود الدار، لقد كنت أخذت بضَبعه وأقمتُه، فلما أن صِرنا وراء الستر قلت له والفضلُ يسمع: أمَا والله لو كان هذا منك في مسايرة أو موقف لعلِمتَ أن للخلافة رجالًا يصونونها عن مجلسك.
وحدَّثني إبراهيم بن السِّندي قال: بيْنا الحسن اللؤلئيُّ في بعض الليالي بالرَّقَّة يحدِّث المأمون — والمأمون يومئذٍ أمير — إذ نعس المأمون، فقال له اللؤلئيُّ: نِمتَ أيها الأمير؟ ففتح المأمون عينَيه وقال: سُوقيٌّ والله، خذ يا غلام بيده. قال: وكنَّا يومًا عند زياد بن محمد بن منصور بن زياد — وقد هيَّأ لنا الفضل بن محمد طعامًا، ومعنا في المجلس خادم وكان لا يُتَّهم — فجاء رسول الفضل إلى زياد فقال: يقول لك أخوك: قد أدرك طعامنا فتحوَّلوا. ومعنا في المجلس إبراهيم النظَّام، وأحمد بن يوسف، وقُطرُب النحوي، في رجال من أدباء الناس وعلمائهم، فما منَّا أحدٌ فَطِن لخطأ الرسول، فأقبل عليه مبشِّر الخادم، فقال: يا ابن اللَّخناء، تقف على رأس سيدك فتستفتح الكلام كما يستفتحه الرجل من عُرْض الناس؟ ألا تقول: يا سيدي، يقول لك أخوك: ترى أن تصير إلينا بإخوانك فقد تهيَّأ أمرنا؟
وابتعت خادمًا كان قد خدم أهل الثروة واليسار وأشباه الملوك، فمرَّ به خادم من معارفه ممن قد خدم الملوك فقال: إن الأديب — وإن لم يكن ملكًا — فقد يجب على الخادم أن يخدمه خِدمة الملوك، فانظر أن تخدمه خدمةً تامَّة. قلت له: وما الخدمة التامة؟ قال: الخدمة التامة أن تقوم في دارك لبعض الأمر وبينك وبين النعل مَمشى خمس خُطًى، فلا يدعك أن تمشي إليها، ولكن يأخذها ويُدنيها منك. ومن كان يضع النعل اليُسرى قُدَّام الرِّجل اليمنى فلا ينبغي لمِثل هذا أن يدخل دار ملِك ولا أديب. ومن الخدمة التامة أن يكون إذا رأى متَّكئًا يحتاج إلى مخدَّة ألا ينتظر أمرك، ويتعاهد ليقة الدواة قبل أن تأمره أن يصبَّ فيها ماءً أو سوادًا، وينفُض عنها الغبار قبل أن يأتيَك بها، وإن رأى بين يدَيك قِرطاسًا على طيِّه قطع رأسه ووضعه بين يدَيك على كِسره، وأشباه ذلك.
ولما كلَّم عُروة بن مسعود الثقفي رسول الله ﷺ، كان في ذلك ربما مسَّ لحية النبي ﷺ، فقال له المُغيرة بن شُعبة: نحِّ يدك عن لحية رسول الله ﷺ قبل ألا ترجع إليك يدك. فقال عُروة: يا غُدَر، وهل غسلت رأسك من غَدرتك إلا بالأمس؟
ونادى رجال من وفد بني تميم النبيَّ ﷺ باسمه من وراء الحُجرات، فقال الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ. وقال الله عز وجل ذِكره: لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا. وقال ابن هَرْمة أو غيره:
(٤٧) شيء من نوادر الأعراب
قال أبو الحسن: بيْنا هشام يسيرُ ومعه أعرابي إذ انتهى إلى ميل عليه كتاب، فقال للأعرابي: انظر أيُّ ميلٍ هذا؟ فنظر ثم رجع إليه فقال: عليه مِحجن وحلقة، وثلاثةٌ كأطْباء الكَلبة، ورأسٌ كأنه رأس قَطاة. فعرفه هشام بصورة الهجاء ولم يعرفه الأعرابي، وكان عليه «خمسة». وهي من نوادر الأعراب.
وقال أعرابي: رأيت هذا قد تناوَل حجرًا فالتفَّ بهذا، وحجز الناس بينهم، وإذا هذا يستدمي.
(٤٨) كلام في الشَّيب
وقال بعضهم: الشيب نذير الآخرة. وقال قيس بن عاصم: الشيب خِطام المنيَّة. وقال آخر: الشيب توءَم الموت. وقال الحكيم: شَيب الشعر موت الشعر، وموت الشعر عِلَّة موت البشر. وقال المعتمر بن سليمان: الشَّيب أول مراحل الموت. وقال السَّهمي: الشَّيب تمهيد الحِمام. وقال العتَّابي: الشيب تاريخ الكتاب. وقال النَّمري: الشيب عُنوان الكِبَر. وقال عَدي بن زيد العِبادي:
وقال الآخر:
(٤٩) كلمات لأشعب
وقال رجل لأشعب: ما شكرتَ معروفي عندك. قال: لأن معروفك جاء من عند غير مُحتسِب، فوقع إلى غير شاكر. وخفَّف أشعَبُ الصلاةَ مرةً، فقال له بعض أهل المسجد: خفَّفتَ صلاتك جدًّا. فقال: لأنه لم يُخالطها رياء.
(٥٠) كلام بعض المتكلِّمين من الخُطباء
الحمد لله كما هو أهله، والسلام على أنبيائه المقرَّبين الطيِّبين. أخي، لا تغترنَّ بطول السلامة مع تضييع الشكر، ولا تُعمِلن نعمة الله في معصيته؛ فإن أقل ما يجب لمُهدِيها ألا يجعلها ذريعةً في مخالفته. واعلم أن النِّعم نَوافر، ولقلَّما أقشعت نافرة فرجعت في نِصابها، فاستدعِ شاردها بالتوبة، واستدِم الراهن منها بكرم الجوار، واستفتِح باب المزيد بحسن التوكُّل، ولا تحسب أن سُبوغ سِتر نِعَم الله عليك غير مُتقلص عما قريب إذا لم ترجُ لله وقارًا. وإني لأخشى أن يأتيَك أمر الله بَغتةً أو لإملاء؛ فهو أولى مغبَّةً وأثبت في الحُجَّة. ولَأن لا تعلم ولا تعمل خيرٌ من أن تعلم ولا تعمل. إن الجاهل العامل لم يؤتَ من سوء نية، ولا استخفاف بربوبية، وليس كمن قهرته الحُجة، وأعرب له الحق مُفصِحًا عن نفسه، فآثَر الغفلة، والخسيس من الشهوة، على الله تبارك وتعالى، فأسمحت نفسه عن الجنة، وأسلمها لأبد العقوبة. فاستشِر عقلك، وراجع نفسك، وادرس نِعَم الله عليك، وتذكَّر إحسانه إليك؛ فإنه مَجلبة للحياء، ومَردعة للشهوة، ومَشحذة على الطاعة؛ فقد أظلَّ البلاء أو كأنْ قد. فكفكِف عنك غَرْب شؤبوبه، وجوائح سطواته، بسرعة النزع، وطول التضرُّع.
ثلاثٌ هي أسرع في العقل من النار في يَبيس العَرفج؛ إهمال الفكرة، وطول التمنِّي، والاستغراب في الضحك. إن الله لم يخلق النار عبثًا، ولا الجنة هملًا، ولا الإنسان سُدًى؛ فاعترِف رِق العبودية، وعجز البشرية؛ فكلُّ زائدٍ ناقص، وكلُّ قرينٍ مُفارق، وكلُّ غنيٍّ مُحتاج، وإن عصفت به الخُيلاء، وأبطره العُجب، وصال على الأقران؛ فإنه مُذالٌ مدبَّر، ومقهورٌ ميسَّر. إن جاع سخِط المحنة، وإن شبِع بطِر النعمة. تُرضيه اللمحة فيستشري مَرحًا، وتُغضبه الكلمة فيستطير شَفقًا، حتى تنفسخ لذلك مُنَّته، وتنتقض مَريرته، وتضطرب فريصته، وتنتشر عليه حُجته. ولَلعَجب من لبيبٍ تُوبقه الحياطة، ويَسلَم مع الإضاعة، ويؤتى من الثقة، ولا يشعر بالعاقبة؛ إن أهمل عمِي، وإن علِم نسِي؛ كيف لم يتَّخذ الحق مَعقِلًا يُنجيه، والتوكُّل ذائدًا يحميه؛ أعمِيَ عن الدلائل وعن وضوح الحجة، أم آثَر الخسيس على الآجل النفيس؟ وكيف توجد هذه الصفة مع صحة العقيدة واعتدال الفطرة؟ وكيف يُشير رائد العقل بإيثار القليل الفاني على الكثير الباقي؟
وما أظن الذي أقعدك عن تناول الحظ مع قُرب مَجناه — حتى صار لا يَثنيك زجرُ الوعيد، ولا يقدح في عزَماتك فَوتُ الجنة، وحتى ثقلت على سمعك الموعظة، ونأت عن قلبك العِبرة — إلا طول مجاورة التقصير، واعتياد الراحة، والأُنس بالهُوَينى، وإيثار الأخف، وإلف قرين السوء؛ فاذكُر الموت وأدِم الفكرة فيه؛ فإن من لم يعتبر بما رأى لا يعتبر بما لا يرى. وإن كان ما يوجد بالعيان من مواقع العِبرة لا يكشف لك عن قبيح ما أنت عليه، وهُجنة ما أصبحت فيه — من إيثار باطلك على حق الله، واختيار الوهن على القوة، والتفريط على الحزم، والإشفاق على الدُّون، واصطناع العار، والتعرُّض للمَقت، وبسط لسان العائب — فمُستنبَطات الغيب أحرى بالعجز عن تحريكك ونقلك عن سوء العادة التي آثَرتها على ربك، فاستحي للُبِّك، واستبقِ ما أفضل الخِذلانُ من قوَّتك، قبل أن يستوليَ عليه الطبع، ويشتدَّ عليه العجز. أوَما علِمتَ أن المعصية تُثمر المَذلَّة، وتفلُّ غَرب اللسان مع السلاطة؟ بل ما علِمت أن المُستشعر بذلِّ الخطيئة، المُخرِج نفسه من كنَف العصمة، المتحلِّيَ بدنس الفاحشة، قطِفُ الثناء، زَمِر المروءة، قَصيُّ المجلس، لا يُشاوَر وهو ذو بَزلاء، ولا يُصدَّر وهو جميل الرُّواء؛ يُسالم من كان يسطو عليه، ويَضرَع لمن كان يرغب إليه؛ يَجذَل بحاله المُبغِض الشانئ، ويُثلَب بقُربه القريب الداني، غامض الشخص، ضئيل الصوت، نَزْر الكلام، مُتلجلج الحُجة، يتوقَّع الإسكات عند كل كلمة، وهو يرى فضل مزيَّته، وصريح لُبه، وحسن فضيلته، ولكن قطعه سوء ما جنى على نفسه، ولو لم تطَّلع عليه عيون الخليقة لهجت العقول بإدهانه؟ وكيف يمتنع من سقوط القدر وظن المُتفرِّس، مَن عرِيَ من حِلية التقوى، وسُلِب طائع الهدى؟ ولو لم يتغشَّه ثوب سريرته، وقبيح ما احتجن إليه من مخالفة ربه، لأضرعته الحُجة، ولفسخه وهَن الخطيئة، ولقطعه العلم بقبيح ما قارَف، عن اقتدار ذوي الطهارة في الكلام، وإدلال أهل البراءة في النداء. وهذه حال الخاطئ في عاجل الدنيا؛ فإذا كان يوم الجزاء الأكبر فهو عانٍ لا يُفَك، وأسيرٌ لا يُفادى، وعاريةٌ لا تؤدَّى؛ فاحذر عادة العجز، وإلف الفُكاهة، وحُب الكفاية، وقلة الاكتراث للخطيئة، والتأسُّف على الفائت منها، وضعف الندم في أعقابها.
أخي، أنعى إليك القاسي؛ فإنه ميت وإن كان مُتحركًا، وأعمى وإن كان رائيًا؛ فاحذر القسوة فإنها رأس الخطايا، وأمارة الطَّبَع، وهي الشَّوهاء العاقر، والداهية العُقام، وأراكٌ تركض في حبائلها، وتستقبس من شرَرها. ولا بأس أن يعظ المقصِّر ما لم يكن هاذيًا، ولن يهلك امرؤٌ عرف قَدرَه. ورُبَّ حاملِ علم إلى من هو أعلم منه. علَّمنا الله وإيَّاكم ما فيه نجاتنا، وأعاننا وإيَّاكم على تأدية ما كُلِّفْنا. والسلام.
قال: وقلت لحباب: إنك تكذب في الحديث، فقال: وما عليك إذا كان الذي أزيد فيه أحسن منه، فوالله ما ينفعك صِدقه، ولا يضرُّك كذبه، وما يدور الأمر إلا على لفظٍ جيِّد ومعنًى حسن، ولكنك والله لو أردت ذلك لتلجلج لسانك، وذهب كلامك.
(٥١) نوادر لبعض الأعراب
قال أبو الحسن: سمع أعرابي رجلًا يقول: أشهد أن محمدًا رسولَ الله. قال: يفعل ماذا؟ وكان يُقال: أول العلم الصمت، والثاني الاستماع، والثالث الحفظ، والرابع العمل به، والخامس نشره.
(٥٢) واعظ بين يدَي المهدي
قال: ودخل على المهدي صالحُ بن عبد الجليل، فسأله أن يأذن له في الكلام، فقال: تكلَّم. فقال: إنَّا لما سَهُل علينا ما توعَّر على غيرنا من الوصول إليك، قُمنا مقام الأداء عنهم وعن رسول الله ﷺ بإظهار ما في أعناقنا من فريضة الأمر والنهي عند انقطاع عذر الكتمان في التقيَّة، ولا سيَّما حين اتَّسمتَ بميسم التواضع، ووعدتَ الله وحمَلة كتابه إيثار الحق على ما سواه، فجمَعنا وإيَّاك مشهدٌ من مشاهد التمحيص، ليتم مؤدِّينا على موعود الأداء عنهم، وقابلنا على موعود القبول، أو يردَّنا تمحيص الله إيانا في اختلاف السر والعلانية، ويحلِّينا بحِلية الكاذبين؛ فقد كان أصحاب رسول الله ﷺ يقولون: من حجب الله عنه العلم عذَّبه على الجهل. وأشَدُّ منه عذابًا من أقبل إليه العلم وأدبر عنه. ومن أهدى الله إليه علمًا فلم يعمل به فقد رغب عن هدية الله وقصَّر بها، فاقبل ما أهدى الله إليك من ألسنتنا قبولَ تحقيقٍ وعمل، لا قبولًا فيه سُمعة ورياء؛ فإنه لا يُخلفك منَّا إعلام لما تجهل، أو مواطأة على ما تعلم، أو تذكير لك من غفلة؛ فقد وطَّن الله تبارك وتعالى نبيَّه ﷺ على نزولها تعزيةً عما فات، وتحصينًا من التمادي، ودلالةً على المخرج، فقال: وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ. فأطلِعِ الله على قلبك بما يُنور الله به القلوب من إيثار الحق ومنابذة الأهواء؛ فإنك إن لم تفعل ذلك يُرى أثرك وأثر الله عليك فيه. ولا حول ولا قوة إلا بالله.
(٥٣) تعزية معاوية عن سنٍّ سقطت له
قال: ودخل رجل على معاوية وقد سقطت أسنانه، فقال: يا أمير المؤمنين، إن الأعضاء يرث بعضها بعضًا؛ فالحمد لله الذي جعلك وارثها ولم يجعلها وارثتك.
(٥٤) تأبين عمر بن عبد العزيز لولده
وحدَّثنا إسماعيل بن عُليَّة قال: حدَّثنا زياد بن حسَّان أنه شهِد عمر بن عبد العزيز حين دفن ابنه عبد الملك، فلما سُوِّي عليه قبره بالأرض، وجعلوا على قبره خشبتَين من زيتون، إحداهما عند رأسه، والأخرى عند رِجلَيه، ثم جعل قبره بينه وبين القِبلة، واستوى قائمًا وأحاط به الناس، قال: رحِمك الله يا بُني؛ فقد كنت بَرًّا بأبيك، وما زِلتُ مُذ وهبك الله لي بك مسرورًا، ولا والله ما كنت قط مسرورًا بك ولا أرجى لحظي من الله فيك منذ وضعتك في الموضع الذي صيَّرك الله إليه، فغفر الله لك ذنبك، وجازاك بأحسن عملك، وتجاوَز عن سيئاتك، ورحِم الله كل شافع يشفع لك بخير من شاهد وغائب، رضينا بقضاء الله، وسلَّمنا لأمره؛ فالحمد لله رب العالمين.
ثم انصرف.
(٥٥) حديث عمرو بن معاوية
وحدَّثني محمد بن عبيد بن عمر قال، أخبرني طارق بن المبارك عن أبيه قال، قال لي عمرو بن معاوية بن عُتبة: جاءت هذه الدولة وأنا حديث السن، كثير العِيال، منتشر الأموال؛ فكنت لا أكون في قبيلة إلا شُهشر أمري، فلما رأيت ذلك عزمت على أن أفديَ حُرَمي بنفسي. قال المبارك: فأرسل إليَّ أنْ وافِني عند باب الأمير سليمان بن عبد الملك. قال: فأتيته فإذا عليه طيلسانٌ أبيض مُطبَق، وسراويل وَشْي مسدولة. قال: فقلت: يا سبحان الله، ما تصنع الحداثة بأهلها؟ إن هذا ليس من لباس هذا اليوم. قال: لا والله، لكن ليس عندي ثوب إلا أشهى ما ترى. قال: فأعطيته طيلساني وأخذت طيلسانه، ولويت سراويله إلى ركبتَيه. قال: فدخل ثم خرج إليَّ مسرورًا. قال: فقلت له: حدِّثنا ما جرى بينك وبين الأمير. قال: دخلت عليه، ولم يرَني قبل ذلك، فقلت: أصلح الله الأمير، لفَظني البلاء إليك، ودلَّني فضلك عليك، فإما قبِلتَني غانمًا، وإما ردَدتَني سالمًا. قال: من أنت؟ أعرفك؟ قال: فانتسبت له، فقال: اقعد فتكلَّمْ غانمًا سالمًا. ثم أقبل عليَّ فقال: حاجتَك يا ابن أخي؟ قال: فقلت: إن الحُرَم اللاتي أنت أقرب الناس إليهن معنا، وأولى الناس لهن بعدنا، قد خِفنَ بخوفنا، ومن خاف خيف عليه. قال: فوالله ما أجابني إلا بدموعه. فقال: يا ابن أخي، يحقن الله دمك، ويحفظ حُرَمك، ويوفِّر عليك مالك. ولو أمكنني ذلك في جميع قومك لفعلت. قال: فقلت: أكون مُتواريًا أو ظاهرًا؟ فقال: كن مُتواريًا كظاهر. فكنت والله أكتب إليه كما يكتب الرجل إلى أبيه وعمه. قال: فلما فرغ من الحديث رددت إليه طيلسانه، فقال: مهلًا، إن ثيابنا إذا فارقتنا لم ترجع إلينا.
(٥٦) بعض أحاديث النوكى
ومن أحاديث النوكى حُدِّثت عن أبي سعيد الرفاعي أنه سئل عن الدنيا والدايسة، فقال: أما الدنيا فهذه التي أنتم فيها، وأما الدايسة فهي دارٌ بائنة من هذه الدار، لم يسمع أهلها بهذه الدار ولا بشيء من أمرها، إلا أنه قد صحَّ عندنا أن بيوتهم من قِثَّاء، وسقوفهم من قِثاء، وأنعامهم من قِثاء، وهم في أنفسهم من قِثاء، وقِثاؤهم أيضًا من قِثاء. قالوا له: يا أبا سعيد، زعمتَ أن أهل تلك الدار لم يسمعوا بهذه الدار ولا بشيء من أمرها، وكذلك نحن لهم، وأراك تُخبرنا عنهم بأخبارٍ كثيرة. قال: فمن ثَمة أعجب زيادةً.
قالوا: ذمَّ رجل عند الأحنف الكَمْأة بالسمن، فقال: رُبَّ مَلوم لا ذنب له.
عبد الله بن مسلم، عن شيبة بن عِقالٍ أن رجلًا قال في مجلس عُبيد الله بن زياد: ما أطيَبُ الأشياء؟ فقال رجل: ما شيءٌ أطيب من تمرة برسيان، كأنها من آذان النوكى علَّيتَها بزُبدة. وقال أوس بن حارثة لابن عامر:
يعني بوزيره عبد الله بن عُمير الليثي، وكان أخاه لأمه، أمهما دجاجة بنت أسماء السُّلَمية.
وقال ابن مُناذر في خالد بن عبد الله بن طليق الخُزاعي، وكان المهدي استقضاه وعزل عُبيد الله بن الحسن العَنبري:
وقال أيضًا:
وقال:
وقال:
وقال زُهرة:
وقال آخر:
وقال آخر:
غيره:
وقال النابغة:
والعرب تقول: أخزى الله الرأيَ الدَّبَري.
وقالوا: وجَّه الحجَّاج إلى مطهَّر بن عمَّار بن ياسر عبدَ الرحمن بن سُليم الكلبي، فلما كان بحُلوان أتبَعه الحجَّاج مَددًا، وعجَّل عليه بالكتاب مع تُحَيت الغلط — وإنما قيل له ذلك لكثرة غلطه — فمرَّ تُحَيتٌ بالمدد وهم يُعرِضون بخانِقِين، فلما قدِم على عبد الرحمن قال له: أين تركت مددنا؟ قال: تركتهم يُخنَقون بعارِضِين. قال: أوَيُعرَضون بخانِقِين؟ قال: نعم، اللهم لا تُخانقْ في بارِكين. ولما ذهب يجلس ضرط، وكان عبد الرحمن أراد أن يقول: ألا تَغدَّى؟ فقال: ألا تَضرِط؟ قال: قد فعلتُ أصلحك الله. قال: ما هذا أردت. قال: صدقت، ولكن الأمير غلط كما غلطنا. فقال: أنا غلطت من فمي، وغلط هو من استه.
(٥٧) باب من البَلَه الذي يُعترى من قِبل العبادة وترك التعرُّض للتجارب
وهو كما قال أبو وائل: أسمعكم تقولون: الدانق والقيراط، فأيُّما أكثر؟ قالوا: وكان عامر بن عبد الله بن الزبير في المسجد، وكان قد أخذ عطاءه، فقام إلى منزله ونسِيَه، فلما صار في منزله وذكره بعث رسولًا ليأتيَه به، فقال له: وأين تجد ذلك المال؟ قال: سبحان الله، أوَيأخذ أحدٌ ما ليس له؟ أبو الحسن قال، قال سعيد بن عبد الرحمن الزُّبيري: سُرقتْ نعل عامر بن عبد الله الزُّبيري فلم يتَّخذ نعلًا حتى مات. وقال: أكره أن أتَّخذ نعلًا فلعلَّ رجلًا أن يسرقها فيأثم.
وقالوا: إن الخلفاء والأئمَّة أفضل من الرعيَّة، وعامة الحُكام أفضل من المحكوم عليهم ولهم؛ لأنهم أفقه في الدين، وأقوَم بالحقوق، وأرَدُّ على المسلمين، وعِلمهم بهذا أفضل من عبادة العُبَّاد، ولأن نفع ذلك لا يعدو قِمم رءوسهم، ونفع هؤلاء يخصُّ ويعُم. والعبادة لا تُدلِّه ولا تُورث البَلَه إلا لمن آثَر الوحدة وترك معاملة الناس ومجالسة أهل المعرفة، فمن هُنالك صاروا بُلهًا، حتى صار لا يجيء من أعبدهم حاكم ولا إمام. وما أحسن ما قال أيوب السختياني حيث يقول: في أصحابي من أرجو دعوته ولا أقبل شهادته، فإذا لم يُجَز في الشهادة كان من أن يكون حاكمًا أبعد.
وقال الشاعر:
ومن غير هذا الباب قوله:
وقال علي بن أبي طالب كرَّم الله تعالى وجهه: من أفضلِ العبادة الصمتُ وانتظار الفرَج.
وقال الشاعر:
وقال الفرزدق:
وقال أعرابي:
وقال آخر:
وقال غيره:
وقال آخر:
وقال آخر:
وقال آخر:
وقال الهُذلي:
وقال جرير بن الخطَفى:
وقال إسحاق بن حسَّان بن قُوهي:
وقال آخر:
وقال آخر:
وقال آخر:
وقال آخر:
وقال آخر:
وأشعَرُ منه عَبْدة بن الطبيب، حيث يقول في قيس بن عاصم:
وقال امرؤ القيس في شبيه بهذا المعنى:
وقال آخر:
وقال مَعْن بن أوس:
وقال ركَّاض:
وقال آخر:
وقال آخر:
وقال أبو الأسود الدؤلي:
وقال آخر:
وقال آخر:
وقال آخر:
وقال آخر:
وقال آخر:
وقال الخُزَيمي:
وأنشد ابن الأعرابي:
وأنشدنا:
وقال بعض ظُرفاء الأعراب:
وهذا من شكل قوله:
وقال بعض المُحدَثين:
وقالت الخنساء:
وقال آخر:
وقال آخر:
وقال آخر:
وقال:
وقال آخر:
وقال عَديُّ بن زيد:
وقال التُّوت اليماني — ويُروى التُّوب بالباء، والتُّوت هو الصواب — وهو المعروف بتُوَيت، فكبَّره هنا:
وقال آخر:
وقال محمد بن بِشر:
وقال بعض الأعراب:
وقال آخر:
وقال أُحَيحة بن الجُلاح:
وقال أحيحة أيضًا:
وقال آخر:
وقال آخر:
وقال العبَّاس بن الأحنف:
وقال بعض سُفهاء الأعراب:
وقال آخر:
وقال عُطارد:
وقال طُريح بن إسماعيل في الوليد بن يزيد بن عبد الملك:
وقال آخر:
وقال آخر:
كما قال الأحنف: رُبَّ ملومٍ لا ذنب له. وقال ابن المقفع:
وقال سعيد بن عبد الرحمن بن حسَّان بن ثابت الأنصاري: