هذا كتاب العصا
الحمد لله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وصلَّى الله تعالى على محمدٍ خاصَّة، وعلى أنبيائه عامَّة.
هذا أبقاك الله تعالى الجزء الثالث من القول في «البيان والتبيين»، وما شابَه ذلك من غُرَر الأحاديث، وشاكَله من عيون الخُطب، ومن الفِقَر المستحسَنة، والنُّتَف المتخيَّرة، والمقطَّعات المستخرَجة، وبعض ما يجوز في ذلك من أشعار المذاكرة، والجوابات المنتخَبة.
وقال الكُميت:
وقال الأول:
وقال الأول:
وقال الحُطيئة في إضجاع القِسِي:
وقال لَبِيد بن ربيعة في خدِّ وجه الأرض بالقِسِي والعِصِي:
ومِثله:
ومِثله:
وقال لَبِيد بن ربيعة في ذِكر القِسِي:
وقال كُثيِّر، في الإسلام:
وقال أبو عُبيدة: سأل معاوية شيخًا من بقايا العرب: أي العرب رأيتَه أضخم شأنًا؟ قال: حِصن بن حُذيفة، رأيته مُتوكئًا على قوسه يَقسِم في الحليفَين أسد وغطفان.
وقال لبيد بن ربيعة في الإشارة:
فذكر عصا الخطباء كما ترى. وقال الآخر في حمل القناة:
وقال جرير الخطَفى في حمل القناة:
قالوا: وهذا مِثل قول أبي المُجيب الرَّبَعي حيث يقول: لا تزال تحفظ أخاك حتى يأخذ القناة؛ فعند ذلك يفضحك أو يمدحك. يقول: إذا قام يخطب فقد قام المقام الذي لا بد من أن يخرج منه مذمومًا أو محمودًا. وقال عبد الله بن رؤبة: سأل رجلٌ رؤبة عن أخطب بني تميم، فقال: خِداش بن بشر بن لبيد بن خالد. يعني البَعيث الشاعر، وإنما قيل له البعيث لقوله:
وقال أبو اليقظان: كانوا يقولون: أخطَبُ بني تميم البعيثُ إذا أخذ القناة فهزَّها ثم اعتمد بها على الأرض ثم رفعها. قال يونس: لعَمْري لئن كان مغلَّبًا في الشعر لقد كان غلَب في الخُطب.
وإذا قالوا غلَبَ فهو الغالب، وإذا قالوا مُغلَّب فهو المغلوب.
وفي حديث النبي ﷺ أنه جاء البقيع ومعه مِخصَرة، فجلس فنكت بها الأرض، ثم رفع رأسه فقال: «ما من نفسٍ منفوسة إلا وقد كُتِب مكانها من الجنة أو النار.» وهو من حديث أبي عبد الرحمن السُّلَمي.
ومما يدلُّك على استحسانهم شأن المِخصرة حديث عبد الله بن أُنيس ذي المخصرة، وهو صاحب ليلة الجُهَني، وكان النبي ﷺ أعطاه مخصرة، فقال: «تلقاني بها في الجنة.» وهو مُهاجرٌ عَقَبي أنصاري، وهو ذو المِخصرة في الجنة.
(١) مَطاعن الشعوبية على العرب بشأن العصا
وقالت الشُّعوبية ومن يتعصَّب للعجمية: القضيب للإيقاع، والقناة للقار، والعصا للقتال، والقوس للرَّمي، وليس بين الكلام وبين العصا سبب، ولا بينه وبين القوس نَسب. وهما إلى أن يشغلا العقل، ويصرفا الخواطر، ويعترضا الذهن، أشبَه. وليس في حملها ما يشحذ الذهن، ولا في الإشارة بها ما يجلب اللفظ. وقد زعم أصحاب الغناء أن المغنِّيَ إذا ضرب على غنائه قصَّر عن المغنِّي الذي لا يضرب على غنائه. وحمل العصا بأخلاق الفدَّادين أشبه، وهو بجُفاة الأعراب وعُنجُهيَّة أهل البدو، ومزاولة إقامة الإبل على الطُّرق، أشكَل، وبه أشبَه.
قالوا: والخطابة شيءٌ في جميع الأمم، وبكل الأجيال إليه أعظم الحاجة، حتى إن الزنج — مع الغثارة، ومع فرط الغباوة، ومع كلال الحد، وغِلظ الحس، وفساد المزاج — لتُطيل الخُطب، وتفوق في ذلك جميع العجم، وإن كانت معانيها أجفى وأغلظ، وألفاظها أخطأ وأجهل. وقد علمنا أن أخطبَ الناس الفُرس، وأخطب الفُرس أهل فارس؛ وأعذبَهم كلامًا، وأسهلهم مَخرجًا، وأحسنهم ولاءً، وأشدُّهم فيه تحنُّكًا، أهل مَرو؛ وأفصحَهم بالفارسية الدَّريَّة، وباللغة الفَهلوية، أهل قصبة الأهواز. فأما نَغْمة الهِربِذ ونغمة الموبذان فلصاحب تفسير الزمزمة. قالوا: ومن أحبَّ أن يبلُغ في صناعة البلاغة، ويعرف الغريب، ويتبحَّر في اللغة، فليقرأ كتاب «كاروَند». ومن احتاج إلى العقل والأدب، والعلم بالمراتب والعِبَر والمَثُلات، والألفاظ الكريمة، والمعاني الشريفة، فلينظر إلى سِيَر الملوك.
فهذه الفُرس ورسائلها وخُطبها، وألفاظها ومعانيها، وهذه يونان ورسائلها وخُطبها، وعِللها وحِكمها، وهذه كُتبها في المنطق التي قد جعلتها الحكماء بها تعرف السقم من الصحة، والخطأ من الصواب، وهذه كُتُب الهند في حِكمها وأسرارها، وسِيَرها وعِللها؛ فمن قرأ هذه الكتب عرف غَوْر تلك العقول، وغرائب تلك الحِكم، وعرف أين البيان والبلاغة، وأين تكاملت تلك الصناعة؛ فكيف سقط على جميع الأمم من المعروفين بتدقيق المعاني، وتخيُّر الألفاظ، وتمييز الأمور، أن يُشيروا بالقنا والعِصِي، والقُضبان والقِسِي؟ كلا، ولكنكم كنتم رُعاة بين الإبل والغنم، فحملتم القنا في الحضر بفضل عادتكم لحملها في السفر، وحملتموها في المدر بفضل عادتكم لحملها في الوبر، وحملتموها في السِّلم بفضل عادتكم لحملها في الحرب. ولطول اعتيادكم لمخاطبة الإبل جفا كلامكم، وغلظت مخارج أصواتكم، حتى كأنكم إنما تُخاطبون الصُّمَّان إذا كلَّمتم الجُلساء. وإنما كان جُل قتالكم بالعِصِي؛ ولذلك فخر الأعشى على سائر العرب فقال:
وقال الآخر:
وقال جَندَل الطُّهَوي:
وقال آخر:
وقال آخر:
(٢) مطاعن الشعوبة على العرب بشأن آلات الحرب
ويدل على ذلك أيضًا قول الحارث بن ضِرار:
وقال أميَّة بن الأشكر:
(٣) رد الجاحظ على الشعوبية
قلنا: ليس لكم فيما ذكرتم في هذه الأشعار دليل على أن العرب لا تُقاتل بالليل، وقد يُقاتل بالليل والنهار من تَحُول دون ماله المُدُن وهَول الليل، وربما تحاجز الفريقان وإن كان كل واحد منها يرى البَيات، ويرى أن يُقاتل إذا بيَّتوه، وهذا كثير. والدليل على أنهم كانوا يُقاتلون بالليل قول سعد بن مالك في قتل كعب بن مُزَيقِيا الملِك الغسَّاني:
وقال بِشر بن أبي خازم:
يقول: شرِبوا اللبن الرائب فسكِروا منه، وهو اللبن الذي قد أُخرجت زبدته.
وقال عِياضٌ السِّندي:
وقال آخر:
وقال عياضٌ السِّندي:
وقال أوس بن حجر:
وقال خَمْخامٌ السَّدوسي:
وأما قولهم: لا يعرفون الكمين، فقد قال أبو قيس بن الأسلت:
وأما ذِكرهم للرُّكُب، فقد أجمعوا على أن الرُّكُب كانت قديمة، إلا أن رُكُب الحديد لم تكن في العرب إلا أيام الأزارقة، وكانت العرب لا تعوِّد أنفُسها إذا أرادت الركوب أن تضع أرجلها في الرُّكُب، وإنما كانت تنزو نزوًا. وقال عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه: لا تخور قُوًى ما كان صاحبها ينزو ويَنزِع.
يقول: أي لا تنتكث قوته ما دام ينزع في القوس، وينزو في السرج، من غير أن يستعين بركاب.
وقال عمر: الراحة عُقلة، وإيَّاكم والسِّمنة فإنها عقلة.
ولهذه العلة قُتل خالد بن سعيد بن العاص حين غشِيَه العدو وأراد الركوب ولم يجد من يحمله.
ولذلك قال عمر حين رأى المهاجرين والأنصار لما أخصبوا، وهمَّ كثير منهم بمقاربة عيش العجم: تَمَعدَدوا واخشوشِنوا، واقطعوا الرُّكُب، وانزوا على الخيل نزوًا. وقال: احفَوا وانتعِلوا؛ فإنكم لا تدرون متى تكون الجَفلة.
وكانت العرب لا تدع اتخاذ الرِّكاب للرَّحل، فكيف تدع الرِّكاب للسَّرج؟ ولكنهم كانوا وإن اتخذوا الرُّكب فإنهم لا يستعملونها إلا عند ما لا بد منه؛ كراهيةَ أن يتَّكلوا على بعض ما يُورثهم الاسترخاء والتفتُّخ، ويُضاهئون أصحاب الترفُّه والنعمة. قال الأصمعي: قال العُمري: كان عمر بن الخطاب، رضي الله تعالى عنه، يأخذ بيده اليمنى أذن فرسه اليسرى، ثم يجمع جراميزه ويثب، فكأنما خُلِق على ظهر فرسه. وفعل مِثلَ ذلك الوليدُ بن يزيد وهو يومئذٍ وليُّ عهد هشام، ثم أقبل على مَسلمة بن هشام فقال له: أبوك يُحسِن مِثل هذا؟ فقال مَسلمة: لأبي مائة عبد يُحسِنون مِثل هذا. فقال الناس: لم يُنصِفه في الجواب.
وزعم رجال من مَشيختنا أنه لم يقُم أحد من ولد العبَّاس بالمُلك إلا وهو جامع لأسباب الفروسية.
وأما ما ذكروا في شأن رِماح العرب فليس الأمر في ذلك على ما يتوهَّمون. وللرماح طبقات؛ فمنها «النَّيزك»، ومنها «المربوع»، ومنها «المخموس»، ومنها «التام»، ومنها «الخَطِل» وهو الذي يضطرب في يد صاحبه لإفراط طوله، فإذا أراد الرجل أن يُخبِر عن شدة أسْر صاحبه ذكره، كما ذكر مُتمِّم بن نُوَيرة أخاه مالكًا فقال: كان يخرج في الليلة الصِّنَّبرة، عليه الشَّملة الفلوت، بين المزادتَين النضوحَين، على الجمل الثَّفال، مُعتقَل الرمح الخَطِل. قالوا له: وأبيك إن هذا لهو الجَلد. ولا يحمل الرمحَ الخَطِل منهم إلا الشديدُ الأيد، والمُدلُّ بفضل قوَّته عليه، الذي إذا رآه الفارس في تلك الهيئة هابه وحاد عنه، فإن شد عليه كان أشد لاستخدامه له. والحال الأخرى أن يخرجوا في الطلب بعقب الفارَّة، فربما شد على الفارس المُولي فيفوته بأن يكون رمحه مربوعًا أو مخموسًا، وعند ذلك يستعملون النيازك، والنيزك أقصر الرماح. وإذا كان الفارس الهارب يفوت الفارس الطالب زجَّه بالنيزك، وربما هاب مخالطته فيستعمل الزج دون الطعن، صنيع ذؤاب الأسدي بعُتيبة بن الحارث بن شهاب. وقال الشاعر:
وقال آخر:
وقال آخر:
وهم قومٌ الغارات فيهم كثيرة، وبقدر كثرة الغارات كَثُر فيهم الطلب. والفارس ربما زاد في طول رمحه ليُخبر عن فضل قوته، ويُخبر عن قِصَر سيفه ليُخبر عن فضل نجدته. قال كعب بن مالك:
وقال آخر:
وقال رجل من بني تميم بن نُمير:
وقال حُميد بن ثور الهلالي:
وقال آخر:
وأما ما ذكروا من اتخاذ الزج لسافلة الرمح، والسِّان لعاليته، فقد ذكروا أن رجلًا قتل أخوَين في نَقاب — تقول العرب: لقيته سقابًا ونقابًا؛ أي مواجهة — أحدهما بعالية الرمح والآخر بسافلته، وقدِم في ذلك راكب من قِبَل بني مروان على قتادة يستثبت الخبر، فأثبته له من قِبَله. وقال الآخر:
وقد وصفوا السيوف أيضًا بالطول، فقال عُمارة بن عُقيل:
وجملة القول إنَّا لا نعرف الخُطب إلا للعرب والفُرس.
وأما الهند فإنما لهم معانٍ مدوَّنة، وكُتبٌ مجلَّدة، لا تُضاف إلى رجلٍ معروف، ولا إلى عالمٍ موصوف، وإنما هي كُتبٌ متوارثة، وآداب على وجه الدهر سائرةٌ مذكورة.
ولليونانيين فلسفة وصناعة منطق. وكان صاحب المنطق نفسه بَكيء اللسان، غير موصوف بالبيان، مع عِلمه بتمييز الكلام وتفصيله ومعانيه، وبخصائصه. وهم يزعمون أن جالينوس كان أنطق الناس، ولم يذكروه بالخطابة، ولا بهذا الجنس من البلاغة.
وفي الفُرس خُطباء، إلا أن كل كلام للفُرس، وكل معنًى للعجم، فإنما هو عن طول فكرة، وعن اجتهاد وخلوة، وعن مشاورة ومعاونة، وعن طول التفكر ودراسة الكتب، وحكاية الثاني عِلم الأول، وزيادة الثالث في علم الثاني، حتى اجتمعت ثمار تلك الفِكَر عند آخرهم.
وكل شيء للعرب فإنما هو بديهة وارتجال، وكأنه إلهام، وليست هناك مُعاناة ولا مكابدة، ولا إجالة فكر ولا استعانة، وإنما هو أن يصرف وَهمَه إلى الكلام، وإلى رجز يوم الخِصام، أو حين أن يَمتَح على رأس بئر، أو يحدُوَ ببعير، أو عند المقارعة أو المناقلة، أو عند صراع أو في حرب، فما هو إلا أن يصرف وهمه إلى جملة المذهب، وإلى العمود الذي إليه يقصد، فتأتيَه المعاني أرسالًا، وتنثال عليه الألفاظ انثيالًا، ثم لا يقيِّده على نفسه، ولا يدرِّسه أحدًا من ولده.
وكانوا أمِّيِّين لا يكتبون، ومطبوعين لا يتكلَّفون، وكان الكلام الجيِّد عندهم أظهر وأكثر، وهم عليه أقدر وأقهر. وكل واحد في نفسه أنطق، ومكانه من البيان أرفع. وخطباؤهم أوجز، والكلام عليهم أسهل. وهو عليهم أيسر من أن يفتقروا إلى تحفُّظ أو يحتاجوا إلى تدارُس. وليس هم كمن حفِظ عِلم غيره، واحتذى على كلام من كان قبله، فلم يحفظوا إلا ما علِق بقلوبهم، والْتَحم بصدورهم، واتَّصل بعقولهم، من غير تكلُّف ولا قصد، ولا تحفُّظ ولا طلب. وإن شيئًا الذي في أيدينا جزءٌ منه لبِالمِقدار الذي لا يعلمه إلا من أحاط بقطر السحاب، وعد التراب، وهو الله الذي يُحيط بما كان، والعالِم بما سيكون.
ونحن، أبقاك الله، إذا ادَّعينا للعرب أصناف البلاغة من القصيد والأرجاز، ومن المنثور والأسجاع، ومن المزدوج وما لا يزدوج، فمعنا العلم على أن ذلك لهم شاهدٌ صادق من الديباجة الكريمة، والرَّونق العجيب، والسَّبك والنَّحت الذي لا يستطيع أشعر الناس اليوم، ولا أرفعهم في البيان، أن يقول في مِثل ذلك إلا في اليسير، والنَّبذ القليل.
ونحن لا نستطيع أن نعلم أن الرسائل التي في أيدي الناس للفُرس أنها صحيحةٌ غير مصنوعة، وقديمة غير مولَّدة، إذا كان مِثل ابن المقفع وسهل بن هارون وأبي عُبيد الله وعبد الحميد وغيلان وفلان وفلان لا يستطيعون أن يولِّدوا مِثل تلك الرسائل، ويصنعوا مثل تلك السِّيَر.
وأخرى؛ أنك متى أخذت بيَد الشعوبي فأدخلته بلاد الأعراب الخُلَّص، ومَعدِن الفصاحة التامة، ووقَفتَه على شاعرٍ مُفلق، أو خطيبٍ مِصقع، علِم أن الذي قلت هو الحق، وأبصر الشاهد عيانًا، فهذا فرق ما بيننا وبينهم.
فتفهَّم عني، فهَّمك الله، ما أنا قائل في هذا، واعلم أنك لم ترَ قومًا قطُّ أشقى من هؤلاء الشعوبية، ولا أعدى على دينه، ولا أشد استهلاكًا لعِرضه، ولا أطول نصَبًا، ولا أقل غُنمًا، من أهل هذه النِّحلة. وقد شفى الصدورَ منهم طولُ جثوم الحسد على أكبادهم، وتوقُّد نار الشنآن في قلوبهم، وغليان تلك المَراجل الفائرة، وتسعُّر تلك النيران المضطرمة. ولو عرفوا أخلاق كل مِلَّة، وزِيَّ كل لُغة، وعِللهم في اختلاف إشاراتهم وآلاتهم، وشمائلهم وهيئاتهم، وما علة كل شيء من ذلك، ولِمَ اختلقوه ولِمَ تكلَّفوه؛ لأراحوا أنفُسهم، ولخفَّت مؤنتهم على من خالطهم.
والدليل على أن أخذ العصا مأخوذ من أصلٍ كريم، ومن مَعدِن شريف، ومن المواضع التي لا يعيبها إلا جاهل، ولا يعترض عليها إلا مُعاند، اتخاذُ سليمان بن داود، صلوات الله تعالى وسلامه على نبينا وعليه، العصا لخطبته وموعظته، ولمقاماته وطول صلاته، ولطول التلاوة والانتصاب، فجعلها لتلك الخصال جامعة. قال الله عز وجل وقولُه الحق: فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ. والمِنسأة هي العصا. وقال أبو طالب حين قام بذم الرجل الذي ضرب زميله بالعصا فقتله حين تخاصما في حبل وتجاذبا:
وقال آخر:
قال أبو عثمان: وإنما بدأنا بذِكر سليمان، على نبينا وعليه الصلاة والسلام، لأنه من أنبياء العجم، والشعوبية إليهم أميَل، وعلى فضائلهم أحرص، ولِما أعطاهم الله أكثر وصفًا وذِكرًا. وقد جمع الله لموسى بن عِمران في عصاه من البُرهانات العِظام، والعلامات الجِسام، ما عسى أن يفيء ذلك بعلامات عِدَّة من المُرسَلين، وجماعة من النبيِّين. قال الله تبارك وتعالى فيما يذكُر في عصاه: إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا، إلى قوله: وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى. فلذلك قال الحسن بن هانئ في شأن خصيب وأهل مصر حين اضطربوا عليه:
ألمْ ترَ أن السَّحرة لم يتكلفوا تغليط الناس والتمويه عليهم إلا بالعصا، ولا عارضهم موسى إلا بعصاه؟ وقال الله عز وجل: وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ * حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ * قَالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ. وقال الله عز وجل: قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ * قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ * وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ * فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ. ألا ترى أنهم لما سحروا أعيُن الناس واسترهبوهم بالعِصي والحبال، لم يجعل الله للحبال من الفضيلة في إعطاء البرهان ما جعل للعصا، وقدرة الله على تصريف الحبال في الوجوه كقدرته على تصريف العصا؟
وقالت الحكماء: إنما تُبنى المدائن على الماء والكلأ والمُحتطَب.
فجمع بقوله: أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا النجم والشجر، والمِلح واليقطين، والبقل والعشب؛ فذكر ما يقوم على ساق وما يتفنن وما يتسطح، وكل ذلك مَرعى، ثم قال على النسق: مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ. فجمع بين الشجر والماء والكلأ والماعون كله؛ لأن المِلح لا يكون إلا بالماء، ولا تكون النار إلا من الشجر. وقال الله تبارك وتعالى: الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ. وقال: أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ * أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ * نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ. والمَرخ والعَفار، والسَّواس والعراجين، وجميع عيدان النار، وكل عُود يُقدح على طول الاحتكاك، فهو غنيٌّ بنفسه، بالغ للمُقوي وغير المُقوي. وحجر المرو يحتاج إلى قرَّاعة الحديد، وهما يحتاجان إلى العُطبة ثم إلى الحطب، والعيدان هي القادحة، وهي المُورية، وهي الحطب. قال الله عز وجل: الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ * وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ. والماعون: الماء والنار والكلأ. وقال الأسدي:
وإنما وصف خِصب الوادي، ولُدونة عيدانه، ورطوبة الورق. وهذا خلاف قوله:
وذكَر الله عز وجل النخلة فجعلها شجرة، فقال: أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ. وذكَر رسول الله ﷺ حُرمة الحرم، فقال: «لا يُختلى خلاها، ولا يُعضَد شجرها.» وقال الله عز وجل: وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ. وتقول العرب: ليس شيءٌ أدفأ من شجرة، ولا أظلَّ من شجرة. ولم يكلِّم الله موسى إلا من شجرة، وجعل أكثر آياته في عصاه، وهي من الشجرة. ولم يمتحن الله عز وجل صبر آدم وحوَّاء، إذ هما أصل هذا الخلق وأوله، إلا بشجرة؛ ولذلك قال: وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ. وجعل بيعة الرضوان تحت شجرة، وقال: وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ. وسِدرة المُنتهى التي عندها جنة المأوى شجرة، وشجرة سُرَّ تحتها سبعون نبيًّا لا تُعبَل ولا تُسرَف. وحين اجتهد إبليس في الاحتيال لآدم وحوَّاء، عليهما السلام، لم يصرف الحيلة إلا إلى الشجرة، وقال: هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى.
وفيما ضُرب من الأمثال بالعصا قالوا: قال جميل بن بَصبَهَري حين شكا إليه الدهاقين شر الحجَّاج: أخبِروني، أين مولده؟ قالوا: الحجاز. قال: ضعيفٌ مُعجَب. قال: فمَنشؤه؟ قالوا: الشام. قال: ذاك شر. ثم قال: ما أحسنَ حالَكم إن لم تُبتلَوا معه بكاتب منكم — يعني من أهل بابل — فابتُلوا بزاذان فرُّوخ الأعور. ثم ضرب لهم مثلًا فقال: إن فأسًا ليس فيه عودٌ أُلقي بين الشجر، فقال بعض الشجر لبعض: ما أُلقي هذا ها هنا لخير. فقالت شجرةٌ عاديَّة: إن لم يدخل في است هذا منكن عودٌ فلا تخَفنَه. وقال يزيد بن مفرِّغ:
قالوا: أخذه من الفلَتان الفَهمي حيث قال:
وقال مالك بن الرَّيب:
وقال بشَّار:
وقال آخر:
ومما يدخل في باب الانتفاع بالعصا أن عامر بن الظَّرِب العَدْواني حكَم العرب في الجاهلية، لما أسنَّ واعتراه النسيان أمر بِنتَه أن تقرع بالعصا إذا هو فَهَّ عن الحكم، وجار عن القصد، وكانت من حكيمات بنات العرب، حتى جاوزت في ذلك مِقدار صُحْر بنت لُقمان، وهند بنت الخُس، وخمعة بنت حابس بن مَليل الإياديين. وكان يُقال لعامرٍ ذو الحِلم؛ ولذلك قال الحارث بن وَعْلة:
وقال المُتلمِّس:
وقال الفرزدق بن غالب:
ومن ذلك حديث سعيد بن مالك بن ضُبَيعة بن قيس بن ثعلبة، واعتزم الملك على قتل أخيه إن هو لم يُصِب ضميره، فقال له سعيد: أبَيتَ اللعن، أتدعُني حتى أقرع بهذه العصا أختها؟ فقال له الملك: وما عِلمه بما تقول العصا؟ فقرع بها وأشار بها مرةً ثم رفعها ثم وضعها، ففهِم المعنى، فأخبره ونجا من القتل.
وذِكر العصا يجري عندهم في معانٍ كثيرة، تقول العرب: العصا من العُصيَّة، والأفعى بنت حيَّة. تريد أن الأمر الكبير يحدث عن الأمر الصغير. ويُقال: طارت عصا فلان شِققًا. وقال الأسدي:
يُقال: فلانٌ شقَّ عصا المسلمين. ولا يُقال: شق ثوبًا ولا غير ذلك مما يقع عليه اسم الشق. وقال العتَّابي في مديح بعض الخُلفاء:
وقال المُضرِّس الأسدي:
وقال المضرِّس أيضًا:
يُقال لبني أسد: عبيد العصا. يعنى أنهم كانوا ينقادون لكل من حالفوا من الرؤساء. قال بِشر بن أبي خازم:
وتُسمِّي العرب كل صغير الرأس «العصا». وكان عمر بن هُبَيرة صغير الرأس. قال سويد:
وقال آخر:
والدليل على أنهم كانوا يتَّخذون المَخاصر في مجالسهم كما يتَّخذون القنا والقِسيَّ في المحافل، قول الشاعر في بعض الخُلفاء:
وقال الآخر:
وقال الأنصاري:
وحدَّثني بعض أصحابنا قال: كنَّا مُنقطِعين إلى رجل من كِبار أهل العسكر، وكان لُبثُنا عنده يطول، فقال بعضنا: إن رأيت أن تجعل لنا أمارة إذا ظهرت لنا حفِظنا عنك ولم نُتعبك بالقعود؛ فقد قال أصحاب معاوية لمعاوية مِثل الذي قلنا لك. فقال: أمارة ذلك أن أقول: إذا شئتم. وقيل ليزيد مِثل ذلك فقال: إذا قلت: على بركة الله. وقيل لعبد الملك مِثل ذلك فقال: إذا ألقيت الخيزرانة من يدي. قالوا: فأي شيء تجعل لنا أصلحك الله؟ قال: إذا قلت: يا غلام، الغداء.
وفي الحديث أن رجلًا ألحَّ على النبي ﷺ في طلب بعض المَغنم وبيده مِخصرة، فدفعه بها، فقال: يا رسول الله، أقِصَّني. فلما كشف النبي ﷺ له عن بطنه احتضنه وقبَّل بطنه.
وفي تثبيت شأن العِصي وتعظيم أمرها، والطعن على ذم حاملها، قالوا: كانت لعبد الله بن مسعود عشر خِصال؛ أولها السواد، وهو سِرار النبي ﷺ، فقال ﷺ: «إذنُك عليَّ أن يُرفع الحِجاب، وتسمع سوادي.» وكان معه مِسواك النبي ﷺ، وكانت معه عصاه.
ودخل عمر بن سعد على عمر بن الخطاب حين رجع إليه من عمل حمص — وليس معه إلا جراب وإداوة وقصعة وعصاه — فقال له عمر: ما الذي أرى بك، من سوء الحال أم تصنُّع؟ قال: وما الذي تراني؟ أوَلست صحيح البدن، معي الدنيا بحذافيرها؟ قال: وما معك من الدنيا؟ قال: معي جِرابي أحمل فيه زادي، ومعي قَصعتي أغسل فيها ثوبي، ومعي إداوتي أحمل فيها مائي لشرابي، ومعي عصاي إن لقيت عدوًّا قاتلته، وإن لقيت حيةً قتلتها، وما بقي من الدنيا تبع لِما معي.
وقال الهيثم بن عدي عن الشَّرقي بن القَطامي، وسأله سائل عن قول الشاعر:
قال: أليس المُحلَّات الدلوَ والمِقدحة والقِربة والفأس؟ قال: فأين أنت عن العصا؟ والصُّفن خير من الدلو أجمع. وقال النَّمِر بن تَولب:
وأما العصا فلو شئت أن أشغل مَجلسي كله بخصالها لفعلت.
وقال الحجاج: والله لأعصبنَّكم عصب السَّلمة، ولأضربنكم ضرب غرائب الإبل. وذلك لأن الأشجار تُعصَب أغصانها ثم تُخبَط بالعِصي لسقوط الورق وهشيم العيدان. ودخل أبو مجلز على قُتيبة بخُراسان، وهو يضرب رجالًا بالعِصي، فقال: أيها الأمير، إن الله قد جعل لكل شيء قدْرًا، ووقَّت فيه وقتًا؛ فالعِصي للأنعام والبهائم، والسوط للحدود والتعزير، والدِّرَّة للأدب، والسيف لقتال العدو والقوَد.
ثم قال الشرقي: دعنا من هذا. خرجتُ من المَوصل وأنا أريد الرِّقَّة مُستخفيًا، وأنا شابٌّ خفيف الحال، فصحِبني من أهل الجزيرة فتًى ما رأيت بعده مِثله، فذكر أنه تغلبي من ولد عمرو بن كلثوم، ومعه مِزود وركوة وعصًا، فرأيته لا يُفارقها، وطالت ملازمته لها، فكِدتُ من الغيظ عليه أرمي بها في بعض الأودية. فكنا نمشي فإذا أصبنا دوابَّ ركِبْناها، وإذا لم نُصِب الدواب مشَينا. فقلت له في شأن عصاه، فقال لي: إن موسى بن عِمران، صلوات الله وسلامه على نبينا وعليه، حين آنَس من جانب الطور نارًا، وأراد الاقتباس لأهله منها، لم يأتِ النار من مِقدار تلك المسافة القليلة إلا ومعه عصاه، فلما صار بالوادي المقدَّس من البُقعة المباركة قيل له: ألقِ عصاك واخلع نعلَيك. فرمى نعلَيه راغبًا عنهما، حين نزَّه الله ذلك الموضع عن الجلد غير الذكي، وجعل الله جِماع أمره من أعاجيبه وبرهاناته في عصاه، ثم كلَّمه من جوف شجرة، ولم يكلمه من جوف إنسان ولا جان.
قال الشرقي: إنه ليُكثر من ذلك وإني لأضحك مُتهاونًا بما يقول، فلما برَزنا على حمارَينا تخلَّف المُكاري، فكان حماره يمشي فإذا تلكَّأ أكرهه بالعصا، وكان حماري لا ينساق، وأعلم أنه ليس في يدي شيء يُكرهه، فسبقني الفتى إلى المنزل فاستراح وأراح، ولم أقدر على البراح، حتى وافاني المُكاري، فقلت: هذه واحدة. فلما أردنا الخروج من الغد لم نقدر على شيءٍ نركبه، فكنَّا نمشي، فإذا أعيا توكَّأ على العصا، وربما أحضر ووضع العصا على وجه الأرض فاعتمد عليها ومر كأنه سهمٌ والح، حتى انتهَينا إلى المنزل وقد تفسَّختُ من الكَلال، وإذا فيه فضلٌ كثير، فقلت: هذه ثانية. فلما كان في اليوم الثالث، ونحن نمشي في أرضٍ ذات أخاقيق وصدوع، إذ هجمنا على حيَّة مُنكَرة فساورتنا، فلم تكن عندي حيلة إلا خذلانه وإسلامه إليها والهرب منها، فضربها بالعصا فثقلت، فلما بهشت له ورفعت صدرها ضربها حتى وقذها، ثم ضربها حتى قتلها، قلت: هذه ثالثة، وهي أعظمهن. فلما خرجنا في اليوم الرابع، قرمت والله إلى اللحم، وأنا هاربٌ مُعدم، إذا أرنب قد اعترضت، فحذفها، فما شعرت والله إلا وهي معلَّقة، وأدركنا ذكاتها، فقلت: هذه رابعة. وأقبلت عليه فقلت له: لو أن عندنا نارًا لمَا أخَّرت أكلها إلى المنزل. قال: فإن عندك نارًا. فأخرج عُويدًا من مِزوده ثم حكَّه بالعصا فأورت إيراءً المَرخُ والعَفار عنده لا شيء، ثم جمع ما قدر عليه من الغثاء والحشيش، وأوقد ناره، وألقى الأرنب في جوفها. فأخرجناها وقد لزق بها من الرماد والتراب ما نغصها إلي، فعلَّقها بيده اليسرى ثم ضرب بالعصا على جُنوبها وأعراضها ضربًا رقيقًا حتى انتثر كل شيء عليها، فأكلناها وسكن القرم وطابت النفس، فقلت: هذه خامسة. ثم إنا نزلنا ببعض الخانات، وإذا البيوت مَلأى روثًا وترابًا، ونزلنا بعقب جند وخراب مُتقدم، فلم نجد موضعًا نظل فيه، فنظر إلى حديدة مِسحاة مطروحة في الدار، فأخذها فجعل العصا نِصابًا لها، ثم قام فجرف جميع ذلك الرَّوث والتراب، وجرَد الأرض بها جردًا حتى ظهر بياضها، وطابت ريحها، فقلت: هذه سادسة. وعلى أي حال لم تَطِب نفسي أن أضع طعامي وثيابي على تلك الأرض، فنزع والله العصا من حديدة المِسحاة فوتدها في الحائط، وعلَّق ثيابي عليها، فقلت: هذه سابعة. فلما صِرتُ إلى مَفرِق الطُّرق وأردت مفارقته، قال لي: لو عدلت معي فبِتَّ عندي كنت قد قضيت حق الصحبة، والمنزل قريب. فعدلت معه، فأدخلني في منزلٍ يتَّصل ببيعة. قال: فما زال يحدِّثني ويُطرفني ويُلطفني الليل كله، فلما كان السَّحَر أخذ خشبةً ثم أخرج تلك العصا بعينها فقرعها بها، فإذا ناقوس ليس في الدنيا مِثله، وإذا هو أحذق الناس بضربه، فقلت له: وَيلَك، أمَا أنت مسلم؟ وأنت رجل من العرب من ولد عمرو بن كلثوم؟ قال: بلى. قلت: فلِمَ تضرب بالناقوس؟ قال: جُعلت فِداك، إن أبي نصراني، وهو صاحب البِيعة، وهو شيخٌ ضعيف، فإذا شهِدته برَرته بالكفاية. وإذا هو شيطانٌ مارد، وإذا أظرف الناس كلهم وأكثرهم أدبًا وطلبًا. فخبَّرته بالذي أحصَيته من خصال العصا بعد أن كنت همَمت أن أرميَ بها، فقال: والله لو حدَّثتك عن مناقب نفع العصا إلى الصبح لمَا استنفدتها.
ومن جُمَل القول في العصا وما يجوز فيها من المنافع والمرافق، تفسير شعر غَنيَّة الأعرابية في شأن ابنها؛ وذلك أنها كان لها ابنٌ شديد العَرامة، كثير التلفُّت إلى الناس، مع ضعف أسْر ودِقَّة عظم؛ فواثَب مرةً فتًى من الأعراب، فقطع الفتى أنفه، وأخذت غنيَّة دِية أنفه فحسُنت حالها بعد فقر مُدقِع؛ ثم واثَب آخر فقطع أذنه فأخذت الدية، فزادت دية أذنه في المال وحُسن الحال؛ ثم واثب بعد ذلك آخر فقطع شفته، فلما رأت ما قد صار عندها من الإبل والغنم والمتاع والكسب بجوارح ابنها حَسُن رأيها فيه، فذكرته في أرجوزة لها تقول فيها:
فقيل لابن الأعرابي: ما تفاريق العصا؟ قال: العصا تُقطَّع ساجورًا، وتُقطَّع عصا الساجور فتصير أوتادًا، ويُفرَّق الوتِد فتصير كل قطعة شِظاظًا، فإن كان رأس الشِّظاظ كالفُلكة صار للبُختي مِهارًا، وهو العُود الذي يُدخَل في أنف البُختي، وإذا فُرِّق المِهار جاءت منه توادٍ.
والسواجير تكون للكلاب والأسرى من الناس. وقال النبي ﷺ: «يؤتى بناس من ها هنا يُقادون إلى حظوظهم بالسواجير.»
وإذا كانت قناةً فكل شِقَّة منها قوس بندق. قال: فإن فُرِّقت الشِّقَّة صارت سهامًا، فإن فُرِّقت السهام صارت حِظاءً، وهي سِهامٌ صِغار. قال الطرماح: كحِظاء الغلام. والواحدة حظوة وسروة. فإن فُرِّقت الحظاء صارت مَغازل، فإن فُرِّق المِغزل شَعَب به الشَّعَّاب أقداحه المصدوعة المشقوقة، على أنه لا يجد لها أصلح منها. وقال الشاعر:
فإذا كانت العصا صحيحةً سالمة ففيها من المنافع الكبار والمرافق الأوساط والصغار ما لا يُحصيه أحد، وإذا فُرِّقت ففيها مِثل الذي ذكرنا وأكثر، فأي شيء يبلُغ في المرفق والمرد مبلغ العصا؟ وفي قول موسى على نبينا وعليه السلام وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى دليلٌ على كثرة المرافق فيها؛ لأنه لم يقُل: ولي فيها مأربةٌ أخرى. والمآرب كثيرة؛ فالذي ذكَرنا قبل هذا داخل في تلك المآرب.
ولا نعرف شِعرًا يُشبِه معنى شعر غنيَّة لا يُغادر منه شيئًا، ولكن زعم بعض أصحابنا أن أعرابيَّين ظريفَين من شياطين الأعراب حطمَتْهما السَّنة، فانحدرا إلى العراق، واسم أحدهما «حيدان»، فبيْنا هما يتماشيان في السوق فإذا فارس قد أوطأ دابَّته رِجل حيدان فقطع إصبعًا من أصابعه، فتعلَّقا به حتى أخذا منه أرش الإصبع — وكانا جائعين مقرورين — فحين صار المال في أيديهما قصدا لبعض الكرابج فابتاعا من الطعام ما اشتهيا، فلما أكل صاحب حيدان فشبِع أنشأ يقول:
وهذا الشعر وشعر غنية من المظرف الناصع الذي سمعت به، وظرف الأعراب لا يقوم له شيء.
وناسٌ كثير لا يستعملون في القتال إلا العصا، منهم الزنج؛ قنبلة، كنجوبة؛ والنمل والكلاب؛ وتكفو وتنبو؛ على ذلك يعتمدون في حروبهم. ومنهم النَّبَط، ولهم بها ثقافة وشدة وغلبة، وأثقف ما تكون الأكراد إذا قاتلت بالعِصي، وقتال المخارجات كلها بالعِصي، ولهم هناك ثقافة ومنظرٌ حسن، ولقتالهم منزلة بين السلامة والعطب.
وإذا كان الراعي جَلدًا قويًّا عليها قالوا: صُلْب العصا. ولذلك قال الراجز:
وقال الآخر في معنى الراعي:
وقال حُميد بن ثَور:
ويُكتَب مع قوله:
وقال آخر:
ويقولون: فلان ضعيف العصا، إذا كان لا يستعمل عصاه؛ ولذلك قال البَعيث:
وقال الآخر:
وقال الآخر:
ويقال: ضُرِب فلانٌ ضرب غرائب الإبل. وهي تُضرب عند الهرب، وعند الخِلاط، وعند الحوض، أشد الضرب. وقال الحارث بن صخر:
وقال الآخر:
وقال ابن أحمر:
وقال الآخر:
وتكون العصا مِحراثًا، وتكون مِخصرة، وتكون المِخصرة قضيب حبرة وعود ساجور، ثم تكون تَودية. وُيقال للرجل إذا كانت فيه أُبنة: فلانٌ يَخبأ العصا. وقال الشاعر:
وفي الأمثال: تحذفه بالقول كما تحذف الأرنب بالعصا. وقال إياس بن قتادة العَبشمي:
قال ابن كُناسة في شرط الراعي على صاحب الإبل: ليس لك أن تذكُر أمي بخير ولا شر، ولك حذفي بالعصا عند غضبك، أصبتَ أم أخطأت، ولي مَقعدي من النار، وموضع يدي من الحارِّ والقار، كان العتبي يحدِّث في هذا بحديثين: أحدهما قوله عن الأعرابي: وكان إذا خرست والقار. كان العُتبي يحدِّث في هذا بحديثَين؛ أحدهما قوله عن الأعرابي: وكان إذا خرست الألسُن عن الرأي حذف بالصواب كما تحذف الأرنب بالعصا. وأما الحديث الآخر فذكر أن قومًا أضلوا الطريق، فاستأجروا أعرابيًّا يدلهم على الطريق، فقال: إني والله لا قومًا أضلُّوا الطريق، فاستأجروا أعرابيًّا يدلُّهم على الطريق، فقال: إني والله لا أخرج معكم حتى أشرط لكم وأشرط عليكم. قالوا: فهاتِ ما لك. قال: يدي مع أيديكم في الحارِّ والقار، ولي موضعي من النار موسَّع عليَّ ما فيه، وذِكر والدي عليكم محرَّم. قالوا: فهذا لك، فما لنا عليك إن أذنبت؟ قال: إعراضة لا تؤدي إلى تعب وعتب، وهجرة لا تمنع من مجامعة السُّفرة. قالوا: فإن لم تعتب؟ قال: فحذفة بالعصا أخطأت أم أصابت. وهذان الحديثان لم أسمعهما من عالِم، وإنما قرأتهما في بعض الكُتب من المُستحدَثين.
ولأهل المدينة عِصيٌّ في رءوسها عُجَر لا تكاد أكفُّهم تُفارقها إذا خرجوا إلى ضِياعهم ومتنزهاتهم، ولهم فيها أحاديث حسنة وأخبار طيِّبة.
وقالوا: تغمض الناقة عينها كي تركب العصا إلى الحوض. وهو في معنى قول أبي النجم:
وهذا مِثل قول الهُذلي:
وقال حُميد بن ثَور الهِلالي:
يقال: رجل كالقناة، وفرس كالقناة. وقال الشاعر:
وجاء في الحديث: أجدبت الأرض على عهد عمر، رضي الله تعالى عنه، حتى ألقت الرِّعاء العِصي، وعُطِّلت النَّعَم، وكُسِر العظم، فقال كعب: يا أمير المؤمنين، إن بني إسرائيل كانوا إذا أصابتهم السَّنة استسقَوا بعُصبة الأنبياء. فكان ذلك سبب استسقائه بالعبَّاس بن عبد المطلب.
وساوَرَت حيَّة أعرابيًّا فضربها بعصاه وسَلِم منها، فقال:
وقال الآخر:
وقال الحجَّاج بن يوسف لأنس بن مالك: والله لأقلعنَّك قَلْع الصمغة، ولأعصبنَّك عَصْب السَّلمة، ولأجرِّدنَّك تجريد الضب. وقال عمر رضي الله تعالى عنه لأبي مريم الحنفي: والله لا أحبك حتى تحب الأرض الدم المسفوح.
لأن الأرض لا تقبل الدم، فإذا جف الدم تقلَّع جُلَبًا.
ولقد أسرف المتلمِّس حيث يقول:
وأشَدُّ سَرفًا منه قول أبي بكر الشَّيباني، قال: كنت أسيرًا مع بني عم لي من بني شيبان، وفينا من مَوالينا جماعة في أيدي التغالبة، فضربوا أعناق بني عمي وأعناق الموالي على وَهدة من الأرض، فكنت والذي لا إله إلا هو أرى دم العربي ينماز من دم الموالي حتى أرى بياض الأرض بينهما، فإذا كان هجينًا قام فوقه ولم يعتزل. وأنشد الأصمعي:
وقال العبَّاس بن مِرداس:
وقال الفرزدق بن غالب:
وقال الأسدي:
وقال جرير بن عطيَّة:
وقالوا في مديح العصا نفسها مع الأغصان وكرم جوهر العِصي والقِسي:
وقال المؤمَّل بن أُمَيل:
وقال آخر:
وقال الآخر:
وقال الآخر:
وقال آخر في امرأةٍ رآها في شارة وبِزَّة، فظنَّ بها جمالًا، فلما سفرت إذا هي غول، فقال:
وقال النبي ﷺ: «يؤتى بقوم من هنا يُقادون إلى حظوظهم في السواجير.» والساجور يُسمَّى «الزَّمَّارة». قالوا: وفي الحديث: فأُتيَ الحجَّاج بسعيد بن جُبير وفي عنقه زمَّارة. وقال بعض المسجَّنين:
المسمعان: القيدان. وسمَّى الغل الذي في عنقه زمارة. وأما قول الوليد:
فالزمارة ها هنا المِزمار. وقال أيضًا صاحب الزمارة في صفة السجن:
المسمعان ها هنا أحدهما قيده، والآخر صاحب الجرس.
أخبرني الكلابي قال: قاتلت بنو عم لي بعضهم بعضًا، فجعل بعضهم ينضمُّ إلى بعض لواذًا مني، وليس لي في ذلك هِجِّير إلا قولي:
فلما طلبوا القِصاص، قلت: دونكم يا بني عمي حقَّكم؛ فنحن اللحم وأنتم الشَّفرة، إن وهبتم شكرتُ، وإن اعتقلتم عقلت، وإن اقتصصتم صبرت.
قال: سألت يونس عن قوله: نَسْيًا مَنْسِيًّا. قال: تقول العرب إذا ارتحلوا عن المنزل ينزلونه: انظروا إلى أنسائكم. وهي العصا، والقَدَح، والشِّظاظ، والحبل. قال: فقلت: إني ظننت أن هذه الأشياء لا ينساها أربابها إلا لأنها أهوَن المتاع عليهم. قال: ليس ذلك كذلك، والمتاع الجافي يذكِّر بنفسه، وصغار المتاع تذهب عنها العيون، وإنما تذهب نفوس العامَّة إلى حِفظ كل شيء ثمين وإن صغُر جسمه، ولا يقفون على أقدار فوت الماعون عند الحاجة وفقد المحلات في الأسفار. وقال يونس: المنسيُّ ما تَقادم العهد به ونُسي حينًا لهوانه، ولم تكن مريم لتضرب المثل في هذا الموضع بالأشياء النفيسة التي الحاجة إليها أعظم من الحاجة إلى الشيء الثمين في الأسواق. وقال الأشهب بن رُميلة أو نَهشَل بن حري:
وكان فرس الأخنس بن شهاب يُسمَّى «العصا»، والأخنس «فارس العصا». وكان لجَذيمة الأبرش فَرسٌ يُقال لها «العصا». ولبني جعفر بن كلاب «شحمة» و«الغدير» و«العصا»؛ فشحمة فرس جزء بن خالد، والعصا فرس عوف بن الأحوص، والغدير فرس شُريح بن الأحوص، و«العصا» أيضًا فرس شبيب بن كعب الطائي. وقال بعضهم أو بعض خطبائهم:
والرجل يتمنَّى إذا لم تكُن له قوة وهو يجد مس العجز، فيقول: لو كان في العصا سير. وكذلك قال حبيب بن أوس:
وإذا لم يجعل المُسافر في عصاه سيرًا سقطت من يده إذا نعس.
وسئل عن قوله: وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى. قال: لست أحيط بجميع مآرب موسى عليه السلام، ولكني سأنبئكم جُملًا تدخل في باب الحاجة إلى العصا؛ من ذلك أنها تُحمَل للحيَّة، والعقرب، والذئب، والفحل الهائج، ولعير العانة في زمن هيج الفحول، وكذلك فحول الجحور في المروج، ويتوكَّأ عليها الكبير الدانف، والسقيم المُدنف، والأقطع الرِّجل، والأعرج، فإنها تقوم مقام رجل أخرى. وقال أعرابيٌّ مقطوع الرِّجل:
كأنه يكره أن ينفض عنها الرماد بعصًا، فيستدل على أنه قد أنضج خبزته. يصفه بالبخل.
ولخبط الشجر، وللفَيج وللمُكاري، فإنهما يتَّخذان المخاصر؛ فإذا طال الشَّوط وبعدت الغاية استعانا في حُضْرهما وهَرولتهما في أضعاف ذلك بالاعتماد على وجه الأرض. وهي تعدِّل من ميل المفلوج، وتقيم من ارتعاش المُبرسَم، ويتَّخذها الراعي لغنمه، وكل راكب لمَركبه، ويُدخل عصاه في عُروة المِزود، ويُمسك بيده الطرف الآخر، وربما كان أحد طرفَيها بيد رجل والطرف الآخر بيد صاحبه وعليها حِملٌ ثقيل. وتكون إن شئت وتِدًا في حائط، وإن شئت ركَزتها في الفضاء وجعلتها قِبلة، وإن شئت جعلتها مِظلة، وإن جعلت فيها زُجًّا كانت عَنَزة، وإن زِدت فيها شيئًا كانت عُكَّازًا، وإن زدت فيها شيئًا كانت مِطردًا، وإن زدت فيها شيئًا كانت رمحًا. والعصا تكون سوطًا وسلاحًا.
وكان رسول الله ﷺ يخطب بالقضيب، وكفى بذلك دليلًا على عِظم غَنائها وشرف حالها؛ وعلى ذلك الخُلفاء وكُبراء العرب من الخطباء.
وقد كان مروان بن محمد حين أُحيطَ به دفع البُرد والقضيب إلى خادم، وأمره أن يدفنهما في بعض تلك الرمال، ودفع إليه بنتًا له وأمره أن يضرب عنقها، فلما أُخِذ الخادم في الأسرى قال: إن قتلتموني ضاع ميراث النبي ﷺ، فأمَّنوه على أن يُسلِّم ذلك لهم.
وقال في صفة قناة:
وقال آخر:
ومما يجوز في العصا قول الشاعر:
وقال عبَّاس بن مِرداس:
وقال آخر:
وقال نُصَيب الأسود:
وقال آخر:
وقال الآخر:
وقال الآخر:
وليس هذا مِثل قول لقيط بن زُرارة:
وقال صالح بن عبد القُدُّوس:
وقال شِبل بن معبد البَجَلي:
وقال أوس بن حجر:
وقال الرَّقاشي في صفة القناة التي تُبرى منها القِسي:
وقال محمد بن يسير:
ذهب إلى قوله:
وهذا مِثل قوله:
وهذا مِثل قوله:
ومِثل قوله:
وإذا طال قيام الخطيب صار فيه انحناء وجَنأ. وقال الأسدي:
وعلى هذا قال الشمَّاخ بن ضِرار:
وقال العُماني:
وقال أميَّة بن الأشكر:
قال: والرجل إذا لم يكن معه عصًا فهو «باهل»، و«ناقة باهل وباهلة» إذا كانت بغير صِرار. وقال الراجز:
احتجنا إلى أن نذكُر ارتفاق بعض الشعراء من العُرجان بالعِصي عند ذكر العصا وتصرُّفها في المنافع، والذي نحن ذاكِروه من ذلك في هذا الموضع قليل من كثير مما ذكرناه في كتاب «العرجان»، فإن أردتموه فهو هناك موجود إن شاء الله تعالى.
قالوا: ولما شاع هجاء الحَكَم بن عبدل الأسدي لمحمد بن حسَّان بن سعد وغيره من الوُلاة والوجوه، هابَه أهل الكوفة، واتَّقى لسانَه الصغيرُ والكبير. وكان الحَكم أعرج لا تُفارقه عصاه، فترك الوقوف بأبوابهم، وصار يكتب على عصاه حاجته ويبعث بها مع رسوله فلا يُحبس له رسول، ولا يؤخَّر لقراءة الكتاب، ثم تأتيه الحاجة على أكثر مما قدَّر، وأوفر مما أمَّل؛ فقال يحيى بن نَوفل:
وأما قول بِشر بن أبي خازم:
وإنما يعني أنهم كانوا عُرجانًا، فأرجلهم كعصي الطلح، وعصي الطلح معوَجَّة، وكذلك قال مَعْدان الأعمى في قصيدته الطويلة التي وصف فيها الغالية والرافضة والتميمية والزيدية:
وقال بعض العُرجان ممن جعل العصا رِجلًا:
وقال رجل من بني عِجل:
وقال أبو ضبَّة في رِجله:
وقال أعرابي من بني تميم:
قال: ودخل الحكَم بن عبدل الأسدي وهو أعرج على عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب، وهو أعرج، وكان صاحب شُرَطه أعرج، فقال ابن عبدل:
ومما يدلك على أن للعصا مَوقعًا منهم، وأنها تدور مع أكثر أمورهم، قول مزرِّد بن ضِرار:
ويقولون: اعتصى بالسيف، إذا جعل السيف عصًا، وإنما اشتقوا للسيف اسمًا من العصا لأن عامَّة المواضع التي تصلح فيها السيوف تصلح فيها العصي، وليس كل موضع تصلح فيه العصا يصلح فيه السيف. وقال الآخر:
وقال عمرو بن الإطنابة:
وقال عمرو بن مُحرز:
وقال الفرزدق بن غالب بن صَعصَعة:
يقال: عَصِيَ بالسيف واعتصى به.
قال العُريان بن الأسود في ابن له مات:
وكتب عمرو بن العاص إلى عمر بن الخطاب، رضي الله تعالى عنه: إن البحر خَلقٌ عظيم، يركبه خَلقٌ صغير، كأنهم دود على عود. وقال واثلة السدوسي:
وأنشد الأصمعي:
وقال جرير:
وقال الراعي:
وقال أعرابي للحُطيئة: ما عندك يا راعي الغنم؟ قال: عَجْراء من سَلَم. قال: إني ضيف. قال: للضِّيفان أعددتُها. وقال الشمَّاخ بن ضِرار:
وقال امرؤ القيس:
وقال علي بن الغدير:
وقال الآخر:
وقال مِسكين الدارمي:
حَباب بن موسى، عن مُجالد، عن الشعبي، عن جرير بن قيس قال: قدِمتُ المدائن بعدما ضُرِب علي بن أبي طالب، كرَّم الله تعالى وجهه، فلقِيَني ابن السوداء، وهو ابن حرب، فقال لي: ما الخبر؟ فقلت: ضُرِب أمير المؤمنين ضربةً يموت الرجل من أيسَرَ منها، ويعيش من أشد منها. قال: لو جئتمونا بدماغه في مائة صرَّة لعلِمنا أنه لا يموت حتى يذودكم بعصاه. وقال الله تبارك وتعالى:وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ. وقال الشاعر:
وقال أبو العتاهية:
وقال الآخر:
وقال عُروة بن الورد:
وأنشد:
وقال لبيد:
وقال آخر:
وقال الآخر:
وقال جرير:
وقال جرير في هجائه بني حنيفة:
وقال سلامة بن جَندَل:
ويُقال للخطاب إذا كان مرغوبًا فيه كريمًا: ذاك الفحل الذي لا يُقرع أنفه؛ لأن الفحل اللئيم إذا هبَّ على الناقة الكريمة ضربوا وجهه بالعصا. وقال الآخر:
وممن أضافوه إلى عصاه داودُ مَلكِينَ اليَشكُري، وقد كان وليَ شُرطة البصرة.
وجاء في الحديث أن أبا بكر رضي الله تعالى عنه أفاض من جَمْع وهو يَحرش بعيره بمِحجَنه. وقال الأصمعي: المِحجَن: العصا المعوجَّة. وفي الحديث المرفوع «أنه طاف بالبيت يستلم الأركان بمِحجَنه ثم يجذبه إليه». يريد بذلك تحريكه.
وقال الراعي:
والعصا أيضًا فرس شَبيب بن كُرَيب الطائي.
أبو الحسن، عن علي بن سليمان قال: كان شبيب بن كُريب الطائي يُصيب الطريق في خلافة علي بن أبي طالب، كرَّم الله تعالى وجهه، فبعث إليه أحمر بن شميط العِجلي وأخاه في فوارس، فهرب شبيب وقال:
وقال النجاشي لأم كثير ابنة الصَّلت:
وقال عوف بن الخَرِع:
وقال رجل من مُحارب يرثي ابنه:
وقال حاجب [بن] زرارة: والله ما القعقاع برَطبٍ فيُعصَر، ولا يابس فيُكسَر.
وقال حمَّاد عَجرد:
وقال أيضًا:
وقال آخر:
وقال المؤمِّل بن أُمَيل:
وقالت ليلى الأخيليَّة:
انظر، أبقاك الله، في كم فن تصرَّف فيه ذِكر العصا من أبواب المنافع والمرافق، وفي كم وجه صرَّفه الشعراء وضُرِب به المثل، ونحن لو تركنا الاحتجاج لمخاصر البُلغاء، وعِصي الخُطباء، لم نجد بدًّا من الاحتجاج لجِلَّة المُرسَلين، وكبار النبيِّين؛ لأن الشعوبية قد طعنت في جملة هذا المذهب على قضيب النبي ﷺ وعنَزته، وعلى عصاه ومِخصرته، وعلى عصا موسى؛ لأن موسى عليه السلام قد كان اتَّخذها من قبل أن يعلم ما عند الله فيها، وإلى ما يكون صيُّور أمرها. ألا ترى أنه لما قال الله عز وجل: وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى، قال: هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى. وبعد ذلك قال: قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى * فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى. ومن يستطع أن يدَّعيَ الإحاطة بما فيها من مآرب موسى إلا بالتقريب وذكر ما خطر على البال؟ وقد كانت العصا لا تُفارق يد سليمان بن داود عليهما السلام؛ في مقاماته، ولا صلواته، ولا في موته، ولا في أيام حياته، حتى جعل الله تسليط الأرَضة عليها وسليمان ميت، وهو معتمد عليها، من الآيات عند من كان لا يعلم أن الجن لم تكن تعلم إلا ما تعلم الإنس.
وبالناس، حفِظك الله، أعظم الحاجة إلى أن يكون لكل جنس منهم سيما، ولكل صنف منهم حِلية وسِمة يتعارفون بها. قال الفرزدق:
وقال الآخر:
وأنشد أبو عُبيدة:
وذكر بعض الأعراب ضروبًا من الوسم، فقال:
وقال الله تبارك وتعالى: سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ. وكما خالفوا بين الأسماء للتعارف. وقال الله عز وجل: وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ.
وقال آخر:
وإذا بلَغت الإبل ألفًا فقئوا عين الفحل، فإن زادت فقئوا العين الأخرى؛ فذلك «المفقَّأ» و«المعمَّى». وقال شاعرهم:
وقال آخر:
وقال الآخر:
وإذا كان الفحل من الإبل كريمًا قالوا «فَحِيل»، وإذا كان الفحل من النخل كريمًا قالوا «فُحَّال». وقال الراعي:
وكان الكاهن لا يلبس المصبَّغ، والعرَّاف لا يدع تذييل قميصه وسحب رِدائه، والحَكم لا يُفارق الوبر، وكان لحرائر النساء زي، ولكل مملوك زي، ولذوات الرايات زي. وكان الزبرقان يصبغ عمامته بصُفرة، وذكره الشاعر فقال:
وكان أبو أُحيحة سعيد بن العاص إذا اعتمَّ لم يعتمَّ معه أحد، هكذا في الشعر، ولعل ذلك أن يكون مقصورًا في بني عبد شمس. وقال أبو قيس بن الأسلت:
وقال غَيلان بن خرَشة للأحنف: يا أبا بحر، ما بقاء ما فيه العرب؟ قال: إذا تقلَّدوا السيوف، وشدُّوا العمائم، واستجادوا النِّعال، ولم تأخذهم حميَّة الأوغاد. قال: وما حمية الأوغاد؟ قال: أن يعدُّوا التواهب ذُلًّا. وقال الأحنف: استجيدوا النِّعال؛ فإنها خلاخل الرجال. والعرب تُسمِّي السيوف بحمائلها «أردِية». وقال علي بن أبي طالب، رضي الله تعالى عنه، قولًا أحسن من هذا، قال: تمام جمال المرأة في خُفِّها، وتمام جمال الرجل في لِمَّته. ومما يؤكد ذلك قول مجنون بني عامر:
وقال الكِناني:
ولذلك قيل لسعيد بن العاصي «ذو العصابة». وقد قال القائل:
وقال عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه: العمائم تيجان العرب.
وقيل لأعرابي: إنك لتُكثِر لُبْس العمامة؟ قال: إن شيئًا فيه السمع والبصر لجديرٌ أن يوقى من القُر.
وكان من عادة فُرسان العرب في المواسم والجموع، وفي أسواق العرب، كأيام «عُكاظ» و«ذي المَجاز» وما أشبه ذلك، التقنُّع، إلا ما كان من أبي سليط طريف بن تميم، أحد بني عمرو بن جندب؛ فإنه كان لا يتقنع ولا يُبالي أن يُثبت عينه جميع فُرسان العرب. وكانوا يكرهون أن يُعرفوا، فلا يكون لفُرسانِ عدوِّهم همٌّ غيرهم، ولما أقبل «حَميصة الشيباني» يتأمل طريفًا، قال طريف:
فكان هذا من شأنهم، وربما مع ذلك أعلم الفارس منهم نفسه بسيما، كان حمزة يوم بدر مُعلَمًا بريشة نعامة حمراء، وكان الزبير مُعلَمًا بعمامةٍ صفراء؛ ولذلك قال درهم بن زيد:
وقال الآخر:
وقال آخر:
قالوا: وكان «مصعب بن الزبير» يتعمَّم العقداء، وهو أن يعقد العمامة في القفاء.
وكان «محمد بن سعد بن أبي وقَّاص» الذي قتله الحجَّاج يعتمُّ المَيلاء.
وقال الفرزدق:
وقال شَمعلة بن أخضر الضبِّي:
وأنشد:
وأنشد:
ولذِكر العمائم مواضع. قال زيد بن كَثوة العَنبري:
لأن العمامة ربما جعلوها لواءً، ألا ترى أن «الأحنف بن قيس» يوم «مسعود بن عمرو» حين عقد ﻟ «عبس بن طلق» اللواء، إنما نزع عمامته من رأسه فعقدها له.
وربما شدُّوا بالعمائم أوساطهم عند المجهدة، وإذا طالت العقبة؛ ولذلك قال شاعرهم:
وقال الفرزدق:
وقال آخر:
العرب تَلهَج بذِكر النِّعال، والفُرس تَلهَج بذِكر الخِفاف. وفي الحديث المأثور أن أصحاب رسول الله ﷺ كانوا ينهَون نساءهم عن لبس الخفاف الحُمْر والصُّفر، ويقولون: هو من زينة نساء آل فرعون.
وأما قول شاعرهم:
فلم يُرِد صفة النعل، وإنما أراد أنهم إذا اخضرَّت الأرض وأخصبوا طغَوا وبغَوا، كما قال الآخر:
ومِثل قوله:
وأما قول الآخر:
فلم يذهب إلى مدح النِّعال في أنفُسها، وإنما ذهب إلى سباطة أرجُلهم وأقدامهم، ونفي الجعودة والقِصَر عنهم. وقال النابغة:
قال: وبنو الحارث بن سدوس لم ترتبط حِمارًا قط، ولم تلبس نعلًا قط إذا نَقِبت، وقد قال قائلهم:
وهم رهط «خالد بن معمَّر»، يقول فيه شاعرهم:
وقائلهم يقول:
وكان عمر، رضي الله تعالى عنه، جعل رياسة بكر ﻟ «مَجزأة بن ثَور»، فلما استُشهد مجزأة جعلها أبو موسى لخالد بن المعمر، ثم ردَّها عثمان على «شقيق بن مجزأة» بن ثور، فلما خرج أهل البصرة إلى صِفِّين تنازع شقيق وخالدٌ الرياسة، فصيَّرها عند ذلك علي إلى حُضَين بن المُنذر، فرضي كل واحد منهما، وكان يخاف أن يصيرها إلى خصمه، فسكنت بكر، وعرف الناس صحة تدبير علي رضي الله تعالى عنه في ذلك. وأما قول الآخر:
فقال يونس: كانوا لا يأكلون الأدمغة، ولا ينتعلون إلا بالسِّبت.
وقال كُثيِّر:
وقال عُتيبة بن الحارث، وهو ابن فَسوة:
وإذا مدح الشاعر النعل بالجودة فقد بدأ بمدح لابسها قبل أن يمدحها.
قال الله تبارك وتعالى لموسى على نبينا وعليه السلام: فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى.
وقال بعض المفسِّرين: كان من جلدٍ غير ذكي. وقال الزبيري: ليس كما قال، بل أعلمه حق المقام الشريف، والمدخل الكريم. ألا ترى أن الناس إذا دخلوا إلى الملوك ينزعون نعالهم خارجًا؟ قال: وحدَّثنا سلَّام بن مِسكين قال: ما رأيت الحسن إلا وفي رِجلَيه النعل، رأيته على فِراشه وهي في رِجلَيه، وفي مسجده وهو يصلِّي وهي في رِجلَيه. وكان بكر بن عبد الله تكون نعله بين يدَيه، فإذا نهض إلى الصلاة لبسها. ورُوي ذلك عن عمرو بن عُبيد، وهاشم الأوقص، وحوشب، وكلاب، وعن جماعة من أصحاب الحسن.
وكان الحسن يقول: ما أعجب قومًا يرَون أن رسول الله ﷺ صلَّى في نَعلَيه، فلما انفتل من الصلاة علِم أنه قد كان وطئ على كذا وكذا، وأشباهًا لهذا الحديث، ثم لا نرى أحدًا منهم يصلِّي مُنتعِلًا.
وأما قوله:
فإن النساء ذوات المصائب إذا قعدن في المناحات كنَّ يضربن صدورهن بالنِّعال.
وقال محمد بن يسير:
وقال خلَف الأحمر:
وقال كُثيِّر:
وقال بشَّار:
ولما قال علي بن أبي طالب، رضي الله تعالى عنه، لصَعصعة بن صُوحان في المُنذر بن الجارود ما قال، قال صعصعة: يا أمير المؤمنين، لئن قلت ذاك إنه لنظَّار في عِطفَيه، تفَّال في شِراكَيه، تُعجِبه حُمرة بُردَيه.
وذم رجلٌ ابن التوءم فقال: رأيته مشحَّم النعل، دَرِن الجَورب، مغضَّن الخُف، دقيق الجِرِبَّان.
وقال الهيثم: يمينٌ لا يحلف بها الأعرابي أبدًا، أن يقول: لا أورَدَ الله لك صادرًا، ولا أصدر لك واردًا، ولا حطَطتَ رَحلَك، ولا خلعت نعلك.
وقال آخر:
(٤) ثم رجع الكلام إلى القول في العصا
قال ابن عبَّاس، رضي الله تعالى عنهما، في تعظيم شأن عصا موسى على نبينا وعليه السلام: الدابَّة ينشقُّ عنها الصفا، معها عصا موسى وخاتم سليمان؛ تمسح المؤمن بالعصا، وتختم الكافر بالخاتم.
وجعل الله تبارك وتعالى أكبر آداب النبي ﷺ في السواك، وحضَّ عليه ﷺ، والمِسواك لا يكون إلا عصًا.
وقال أبو الوجيه: قُضبان المساويك البَشام، والضَّرو، والعَتم، والأراك، والعُرجون، والجريد، والإسحِل.
وقد يلبس الناس الخِفاف والقلانس في الصيف كما يلبسونها في الشتاء إذا دخلوا على الخلفاء وعلى الأمراء، وعلى السادة والعُظماء؛ لأن ذلك أشبه بالاحتفال، وبالتعظيم والإجلال، وأبعد من التبذُّل والاسترسال، وأجدر أن يفصلوا بين مواضع أُنْسهم في منازلهم ومواضع انقباضهم.
وللخلفاء عِمة، وللفقهاء عمة، وللبغَّالين عمة، وللأعراب عمة، وللصوص عمة، وللأبناء عمة، وللروم والنصارى عمة، ولأصحاب التشاجي عمة.
ولكل قوم زِي؛ فللقضاة زي، ولأصحاب القضاة زي، وللشُّرَط زي، وللكُتَّاب زي، ولكُتَّاب الجند زي؛ ومن زيِّهم أن يركبوا الحمير وإن كانت الهماليج لهم مُعرِضة.
وأصحاب السلطان ومن دخل الدار على مراتب؛ فمنهم من يلبس المبطَّنة، ومنهم من يلبس الدُّرَّاعة، ومنهم من يلبس القباء، ومنهم من يلبس البازبكند، ويعلِّق الخنجر، ويأخذ الجُرز، ويتَّخذ الجُمَّة.
وزي مجالس الخلفاء في الصيف القطن، وفي الشتاء فُرُش الصوف. وترى أن ذلك أجزل وأكمل وأفخم وأقبل؛ ولذلك وضعت ملوك العجم على رءوسها التِّيجان، وجلست على الأسِرَّة، وظاهرت بين الفُرُش. وهل يملأ عيونَ الأعداء، ويُرعب قلوبَ المُخالفين، ويحشو صدورَ العوام إفراط التعظيم، وتعظيم شأن السلطان، والزيادة في الأقدار، إلا الآلات؟ وهل دواؤهم إلا في التهويل عليهم؟ وهل يُصلحهم إلا إخافتك إيَّاهم؟ وهل ينقادون لِما فيه الحظ لهم، ويُسلِّمون بالطاعة التي فيها صلاح أمورهم، إلا بتدبيرٍ يجمع المحبة والمهابة؟
وكانت الشُّعراء تلبس الوَشي والمقطَّعات والأردِية السُّود، وكل ثوب مشهَّر، وقد كان عندنا منذ نحو من خمسين سنةً شاعرٌ يتزيَّا بزيِّ الماضين، وكان له بُرْد أسود يلبسه في الصيف والشتاء، فهجاه بعض الطِّياب من الشعراء، فقال في قصيدة له:
وكان لجِرِبَّان قميص بشَّار الأعمى وجُبَّته لَبِنتان، فكان إذا أراد نزع شيء منهما أطلق الأزرار فسقطت الثياب على الأرض، ولم ينزع قميصه من جهة رأسه قط. و«قدوَيه العدوي الشحَّاجي» لم يلبس قميصًا قط، وهو اليوم حي، وهو شيخهم. وسعيد بن العاص الجواد الخطيب لم ينزع قميصه قط. فقدويه الشحَّاجي ضد سعيد بن العاص الأموي.
وقال الحطيئة:
وكان شديد السواد نحيفًا.
ومن شأن المُتكلمين أن يُشيروا بأيديهم وأعناقهم وحواجبهم، فإذا أشاروا بالعصا فكأنهم قد وصلوا بأيديهم أيديًا أُخَر. ويدلُّك على ذلك قول الأنصاري حيث يقول:
وقال الكُميت بن زيد:
وأيضًا إن حَمْل العصا والمِخصرة دليل على التأهُّب للخطبة، والتهيُّؤ للإطناب والإطالة، وذلك شيءٌ خاص في خطباء العرب، ومقصور عليهم، ومنسوب إليهم، حتى إنهم ليذهبون في حوائجهم والمخاصرُ في أيديهم؛ اتقاءً وتوقعًا لبعض ما يوجِب حملها والإشارة بها.
وعلى ذلك المعنى أشار النساء بالمآلي وهن قيام في المناحات؛ وعلى ذلك المثال: ضربن الصدور بالنِّعال.
وإنما يكون العجز والذِّلَّة في دخول الخلل والنقص على الجوارح، فأما الزيادة فيها فالصواب فيه، وهل ذلك إلا كتعظيم كُور العمامة، واتخاذ القضاة القلانس العظام في حمارَّة القَيظ، واتخاذ الخلفاء العمائم على القلانس؟ فإن كانت القلانس مكشوفةً زادوا في طولها وحدَّة رءوسها حتى تكون فوق قلانس جميع الأمة، وكذلك القناع؛ لأنه أهيب.
وعلى ذلك المعنى كان يتقنَّع «العبَّاس بن محمد» و«عبد الملك بن صالح»، و«العبَّاس بن موسى» وأشباههم. و«سليمان بن أبي جعفر»، و«عيسى بن جعفر»، و«إسحاق بن عيسى»، و«محمد بن سليمان»، ثم «الفضل بن الربيع» و«السندي بن شاهك» وأشباههما من الموالي؛ لأن ذلك أهيَب في الصدور، وأجَلُّ في العيون. والمتقنِّع أروَع من الحاسر؛ لأنه إذا لم يُفارقه الحِجاب وإن كان ظاهرًا في الطرق، وكان أشبه بملاينة العوام وسياسة الرعية. وطرح القِناع ملابسة وابتذال، ومؤانسة ومقاربة.
والدليل على صواب هذا العمل من بني هاشم، ومن صنائعهم ورجال دعوتهم، وأنهم قد علِموا حاجة الناس إلى أن يهابوهم، وأن ذلك هو صلاح شأنهم، أن رسول الله ﷺ كان أكثر الناس قناعًا.
والدليل على أن ذلك كان في الأسلاف المتبوعين، أنَّا نجد رؤساء جميع أهل المِلل وأرباب النِّحل على ذلك؛ ولذلك اتَّخذوا في الحروب الرايات والأعلام، وإنما ذلك كله خِرَق سُود وحُمْر وصُفر وبِيض. وجعلوا اللواء علامةً للعَقد، والعَلَم في الحروب مرجعًا لصاحب الجولة. وقد علِموا أنها وإن كانت خِرقًا على عِصيٍّ أن ذلك أهيَبُ في القلوب، وأهوَل في الصدور، وأعظم في العيون؛ ولذلك أجمعت الأمم رجالها ونساؤها على إطالة الشعور؛ لأن ذا الجُمَّة أضخم هامةً، وأطول قامة، والكاسي أفخم من العاري. ولولا أن حلق الرأس طاعة وعبادة، وتواضع وخضوع، وكذلك السعي ورمي الجِمار، لمَا فعلوا ذلك. وفي الحديث أنه لا يفتح عمُّوريةَ إلا رجالٌ ثيابهم ثياب الرُّهبان، وشعورهم شعور النساء. وكل ما زادوه في الأبدان، ووصلوه في الجوارح، فهو زيادة في تعظيم تلك الأبدان.
والعِصي والمَخاصر — مع الذي عددناه، ومع الذي ذكرناه، ونريد ذِكره من خِصال منافعها — كله بابٌ واحد في المعنى.
والمغنِّي قد يوقِّع بالقضيب على أوزان الأغاني، والمُتكلم قد يُشير برأسه ويده على أقسام كلامه وتقطيعه، ففرَّقوا ضروب الحركات على ضروب الألفاظ وضروب المعاني، ولو قُبضت يده ومنع حركة رأسه لذهب ثُلُثا كلامه.
وقال عبد الملك بن مروان: لو ألقيت الخَيزُرانة من يدي لذهب شطر كلامي.
وأراد معاوية سحبان وائل على الكلام، وقد كان اقتضبه اقتضابًا، فلم ينطق حتى أتَوه بمِخصرة فرطَلها بيده فلم تُعجِبه، حتى أتَوه بمِخصرته من بيته. والمثل المضروب بعصا الأعرج، يقولون: أقرَبُ من عصا الأعرج. ويضربون المثل بعصا النَّهدي. وقال علقمة في صفة فرس أنثى:
ويضربون المثل برُمَيح أبي سعد، وكان أبو سعدٍ أعرج، وفَد في وفْدِ عَدوان. قال ذو الإصبع العَدواني:
قال عبَّاس بن مِرداس:
وقال آخر:
ويقولون: لو كان في العصا سير! ويقولون: ما هو إلا أُبْنة عصًا، وعُقدة رِشا. ويقولون: أخرج عوده كعصا البقَّار، وأخرج عوده كعصا الحادي.
وكان أبو العتاهية أهدى إلى أمير المؤمنين المأمون عصا نَبْع، وعصا شريان، وعصا آبنوس، وعصًا أخرى كريمة العِيدان، شريفة الأغصان، وأرديةً قطرية، ورِكاءً يمانية، ونِعالًا سِبتية، فقَبِل من ذلك عصًا واحدة وردَّ الباقي. وبعث إليه مرةً أخرى بنعل وكتب إليه:
فقبِلها.
الكلبي عن أبي صالح، عن ابن عبَّاس، أن الشجرة التي نُودي منها موسى على نبينا وعليه السلام هي عَوسج، وأنه نُودي من جَوف العَوسج، وأن عصاه كانت من آس الجنة، وأنها كانت من العود الذي في وسط الورقة، فكان طولها طول موسى عليه السلام. وقالوا: من العُلَّيق.
وقال آخر:
وأنشد الأصمعي عن بعض الأعراب:
وقال إسحاق بن سُويد:
وقال الآخر:
ومما يجوز أيضًا في العصا قول أبي الشيص:
ومن هذا الباب قول عبد الله بن جُدعان:
ويقولون للمستوطِن في البلد والمُستطيب للمكان: قد ألقى عصاه. وقال زُهير بن أبي سُلمى:
وهذه الأبيات التي رواها له الجاحظ قالها يوم قتل مجمع بن مزاحم اليربوعي أخاه عبد يغوث بن الصمة، وكان نازلًا بين أظهُر بني الصارد.