الأستاذ يعود إلى المدينة
(١)
هبط من الترام، في منحنى شارع رأس التين، والتقائه بصفر باشا. مضى — يعرف طريقه — إلى مجموعة الرجال الذين يملئون قصعات الأسمنت المخلوط، والنساء اللائي يحملنها فوق سقالات خشبية إلى الأدوار العليا، قبالة مسجد سيدي عبد الرحمن.
كان أقرب إلى القِصر والامتلاء. أخفى البالطو الكاكي نوعية ثيابه، واكتسى حذاؤه بتراب الطريق. خلا وجهه من تعبير محدد، وخلا كذلك من حقيقة عمره، وإن دعا — في مجمله — إلى الاحترام والتوقير.
أطال الوقوف أمام المشهد، كأنه اكتفى بمتابعة ما يجري. تطلَّع إليه الرجال — والنساء — بنظرات جانبية في انشغالهم بملء القصعات، وإفراغها في الطابق الأعلى. كان الجو أميل إلى الحرارة، فنزع البالطو وأسنده إلى ساعده.
اتجه — دون اختيار — إلى أحد الرجال الذين راحوا يملئون القصعات الفارغة بالأسمنت المخلوط. سأل — في اهتمام — عن موعد بداية العمل.
قال الرجل، وهو يطمئن بالكوريك إلى امتلاء القصعة: نحن نعمل منذ سنوات قليلة … لكن البداية ترجع إلى زمان طويل.
– وهؤلاء الرجال … والنساء كذلك … هل هم حديثو العهد بالعمل؟
– أقدمنا — وأكبرنا في الوقت نفسه — عمله الملاحظة … الملاحظة … يسبقنا بسنوات.
(٢)
مضت أزمان، دون أن يغادر مكانه. يرقب الرجال والنساء، يملئون قصعات الأسمنت المخلوط، يصعدون بها إلى الطوابق العليا، تعود القصعات فارغة، فتملأ من جديد.
ألقى بالبالطو كيفما اتفق على تل رملي مجاور. بدا منشغلًا ومهمومًا بما يجري أمامه. إذا زايل مكانه، فلتناول الطعام، أو لقضاء الحاجة في دورة المياه الملحقة بمسجد سيدي عبد الرحمن. أصبح – بتوالي الأيام – جزءًا ثابتًا من حركة المكان. ألِف رؤيته المارة والمطلون من النوافذ والشرفات، وأصحاب الدكاكين القريبة.
كانت تصرفاته أميل إلى العفوية والبساطة. ولم يكن في نظراته ما يدعو إلى الريبة أو الخوف. كانت عيناه تلتمعان ببريق هادئ كأنه الطهر، وربما القداسة. أجاب الفواعلية على أسئلته. رووا عن إدفو وأصفون المطاعنة وأبنود والنخيل والسواقي والكباري والجسور والشمس اللاهبة والليل الغطيس وأيام التحاريق والمساخيط وابن عروس وسيرة عنترة وسيف بن ذي يزن والهلالية والثأر والجبل والمطاريد وقطار الصعيد. شاركهم أغنياتهم وأحاديث الراحة من العمل. ارتاد بهم عوامل جديدة — استهوتهم — في آيات القرآن وأحاديث الرسول والحكم البليغة. دعَوه — أحيانًا — إلى الغداء، فلبى ببساطة طيبة. غابت — بدفء المودة — نظرات النساء الخجلى أمام نظراته الحانية.
لم يحادثهم عن حياته ولا من أين أتى، فحاولوا التخمين: لدرايته بمواعيد الأنواء وأحوال البحر والصيادين، نسبوه إلى الإسكندرية. فلما تداخلت في أحاديثه تعبيرات الفلاحين، ظنوه من الدلتا. وبدا ملمًّا بالحياة في الصعيد، فحسبوه من أبنائه.
بدأت الأحاديث، تشابكت، امتدت. سأل وناقش وتعرف حتى إلى المشكلات الصغيرة والطارئة. ظلت — وحدها — حياته الخاصة في الجانب الرمادي. ثار التخمين: من الزي واللهجة ومعرفة الأشياء. بدت الجزيرة مرتعًا للأحاجي والألغاز والأساطير. تهامسوا، فاكتفى الخيال بعد حين بما انتهى إليه. ألِفوا اقترابه بالملامح الظاهرة: ودود، سهل العشرة، طيب القلب. اختلفت حياتهم بعد مجيئه عما كانت عليه. شيء ما أضافه واستمتعوا به. زاد إقبالهم على العمل — لغير باعث محدد — وتلونت أغنياتهم بالفرحة، وتداخلت في أحاديثهم كلمات عن الأمل والمستقبل.
(٣)
بعد أن تناول الجميع طعام الغداء، وهمُّوا بالعودة إلى العمل، طالبهم بالوقوف في الرصيف المواجه صفًّا واحدًا.
أشار إلى سلسبيل — صغرى النساء — فاقتربت. لم يعد في العلاقة موضع لحذر. تفحص — في إشفاق وجهها الشاحب، وندبتَي الجُديري اللتين تركتا أثرًا واضحًا في خدها الأيمن.
نزع الحزام القماشي الذي كانت تحيط به خصرها. عالجت أصابعه أزرار الثوب إلى نهايته أسفل الظهر. ثم عاونها — في صمت — فنضَّت ثيابها، بدت بشرة الجسد العاري مناقضة تمامًا للسُّمرة التي لوحت بها الشمس وجهها وساعديها، وتألق الضياء في الأفق الشرقي.
لم يكن اختياره لها وليد اللحظة ولا مصادفة. أتاح له توالي الأيام أن يناقش ويسأل ويجيب. أبوها من قنا، وأمها من المنصورة. تعدد أزواجها، ماتوا أو طلقوا، وأنجبت أبناء كثيرين. تسبق الجميع في العمل، وهي — في الأعم — آخر المغادرين. ملاحة الوجه، وخفة الدم، واتساع العينين في ظل أهداب طويلة … جعل الشحوب — بتأثير الفقر والإرهاق — مقبولًا ولطيفًا … دورها في النقاش مداه الإجابة على أسئلة الأستاذ والآخرين، وإن غلب عليها — لاحظ الجميع — شرود دائم.
ساعد المرأة على التمدد في دكة عم أيوب الخفير. دعا أول طابور الرجال إلى عناق سلسبيل. تابع الأمر بكلمات مشجعة واهتمام.
نهض الرجل، فدعا الآخرين بالتتابع. بدا الجسد الذابل كأنه يدخل حياة جديدة. اتسعت الحدقتان، وذوى الإرهاق، وسرت النضرة في الوجه الشاحب، وحلَّقت أسراب النورس في امتداد الساحل، وتعالت — مصادفةً — زغاريد في شارع خلفي، وتناهى صرير عجلات الترام في انحناءةٍ الطريق كأنه الغناء، وتناغم صياح الديكة وصفافير البواخر في الميناء الغربية ونسائم الربيع تلامس رءوس النخيل في طريق الكورنيش، وزادت دقات الدفوف من إيقاعها في حلقات الأذكار ورقصات أبي الغيط وانعتاق الجان — في حفلات الزار — من الأجساد التي هدتها العلل.
(٤)
لم يحاول أن يزايل وقفته إلا لضرورة، ومجموعة الرجال واصلت إملاء القصعات، وإفراغها في همة ملحوظة، والبروز المتنامي في بطن سلسبيل لم يمنعها من حمل القصعة إلى الطابق الأعلى.
(٥)
حان الميلاد.
رفض — في استنكار — أن يستدعوا الطبيب. طلب مقصًّا وماءً ساخنًا ومناشف وأغطية. خلا بها في كشك عم أيوب، وعالج الأمر بمهارة، أكدها صمت المرأة، فلم تصرخ كعادة النساء.
(٦)
حمل الوليد على يديه في سعادة واضحة. تأكد من دثاره بالقرب من صدره، وأودع الجميع نظرة عميقة … ومضى إلى زحام شارع الميدان.