الطوفان
في مواجهة شاطئ الأنفوشي، في الساحة الترابية الواسعة بين شارعَي خير الله بك والبوريني، ظهر المخلوق الغريب فجأة، جثة هائلة، غامضة الملامح والتفاصيل، أضخم مما اعتادت الأعين أن تراه، وأضخم مما رواه الجد السخاوي في حكاياته المثيرة عن أعاجيب الكائنات. مد الساقين في استرخاء، وأسند الرأس إلى ما بين الساقين، وتطلع — بنظرة ساهمة — إلى اللاشيء أمامه.
قالت رواية: إنه اختار تلك اللحظات التي تعقب صلاة الفجر، يعمق سواد الليل بصورة قاطعة، قبل أن يتسلل — في داخله — نور الصباح، لحظات يعمق فيها كل شيء، حتى الحاجة إلى النوم. سعى من مكانه في أعماق البحر، إلى هذه الساحة المقابلة لورش المراكب، فأخذ مكانه، يخلو من أثر لحياة، لولا عينيه اللتين تتحركان تحت أهداب مسترخية، أميل إلى التهيؤ للنعاس.
صحا الناس في الأنفوشي على المخلوق الغريب، يطالع أنظارهم ودهشتهم — وخوفهم أيضًا — من كل الأمكنة. حتى أول صاعدة إلى سطح بيتها في مساكن خفر السواحل، أطلقت صرختها الداهشة، فهرع الجميع لمعرفة ما حدث، واختفت هياكل السفن وراء المئات الذين احتشدوا على الرصيف، وفوق سور الكورنيش، يتطلعون ويسألون ويناقشون ويحاولون التخمين.
•••
أفسح العساكر — بصعوبة — طريقًا لعالم الأحياء المائية، الذي رضخ — لخطورة الحدث وضيق الوقت — فركب سيارة البوكس.
هدأت خطواته حين انتهت به لمة الأجساد المتلاحقة إلى فراغ يتوسط معظمه المخلوق الغريب. دس في جيب معطفه الأبيض معدات — من الواضح أنه كان ينوي استخدامها — وعدل نظارته الطبية فوق أنفه، وتطلع إلى المخلوق في اهتمام واضح.
همس الضابط المرافق في أذنه مشجعًا: اقترب يا سعادة البك!
اضطرب لصوت الضابط، وليس للملاحظة. كان قد استغرق تمامًا في المشهد المثير أمامه. هذا المخلوق الغريب الذي يصعب تبين أن كان ينتمي إلى البحر أو إلى الأرض، أو أنه طائر من تلك التي أشار إليها الجد السخاوي في حكاياته.
تساءل الضابط: هل هو حوت؟
أجاب العالم في حسم: لا … هاتان العينان لكائن بشري!
– الجثة نفسها ليست لمخلوق مما نعرفه … ليست حوتًا أو فيلًا أو طائرًا كبير الحجم … ولعلها شيء يجمع بين ذلك كله!
مال العالم إلى الخلف في قرار مفاجئ: إني أعرف في الأحياء المائية وحدها!
•••
تزايد الناس، وإن لم يقتربوا، فبلغوا عشرات الألوف. سدت منافذ الشوارع والأزقة، من سراي رأس التين إلى انحناءة الترام في طريق الكورنيش. تساند عشرات السفن الصغيرة، والكبيرة، وقف فوقها، وتسلق أشرعتها وصواريها، مئات الأعين المتطلعة إلى الجسد الذي بدا — في هموده — أنه لا يعنيه ما حوله.
محروس الصغير — ابن المعلم متولي العباسي — وحده تشجع، فقذف المخلوق بقطعة حجر، ارتدَّت إلى الأرض أمامه، ولم يبدُ أنه قد أحس بها.
قال طبيب استدعته الشرطة: لماذا لا نعطيه مخدرًا يساوي حجمه، ثم نعيده إلى موضعه في البحر؟!
رافق رأيه بخطوات مهرولة إلى دكان عم محمد حلاق الصحة القريب. أفسح له الطريق عشرات من الذين وجدوا في الفكرة ما يستحق التنفيذ.
حمل كل ما في الدكان من حقن مخدرة، وبسمل وحوقل وتشهد، واقترب واقترب — محاذرًا — من الجسد، شجعته الاستكانة التي تلقى بها المخلوق غرس الحقنة الأولى، إلى إتباعها بحقن مخدرة أخرى، تالية.
طال الانتظار، فلم يبدُ أن المخلوق تأثر بالحقن المخدرة. ظل في جلسته الهادئة يعلن عن صحوه — وحياته — بعينين ساجيتين، تنظران إلى أمام في سكون هادئ.
فلما توالت الأعوام، دون أن يبارح المخلوق مكانه، قرر المحافظ الجديد للمدينة — حرصًا على مكانتها السياحية — أن يستعين بالقوات المسلحة، فتقضي عليه تمامًا.
ارتدَّت — بين دهشة الناس وفزعهم — عشرات القذائف الصاروخية، دون أن تحدث في جسده أثرًا حقيقيًّا، وإن أكد كثيرون — من الذين أتيح لهم المتابعة عن بعد — أنه بدأ يتململ في جلسته.
•••
أعلنت القوات المسلحة عجز وسائلها عن القضاء على المخلوق الغريب، أو حتى محاولة إعادته إلى البحر الذي لا بد أنه أتى منه … ولبث المخلوق في موضعه هادئًا، ساجي العينين. وتشجع الناس، فاقتربوا منه. وتحوَّل — بمضي الأعوام — إلى مظلة يحتمون بها، وعقدوا الصفقات، وقضوا الأمسيات، وبالوا وغاطوا وتمخطوا، ومارسوا الحب.
وفي تلك الأيام التي بدا فيها المخلوق جزءًا ثابتًا من حركة الحياة حوله، انتفض — فجأة — فسعى إلى الشاطئ المقابل، ونفض الماء حوله، فأغرق كل شيء.