القرار
بعد أن جاوزت الطابق الأول، قررت أن أصعد الدرجات ثانية. نقرت على باب الشقة التي كنت ألتقي بأصحابها — أحيانًا — عند دخولي البيت، أو مغادرته: رجل وامرأة وثلاثة أبناء، أعمارهم بين العاشرة والخامسة عشرة. لا أعرف عن حياتهم شيئًا، وإن شغلني تمامًا ذلك النقاش الذي كان يدور — في غالبية الليالي — بين الزوجين، يمتد فيبدو كالشجار، يتداخل بتهديدات الرجل، وبكاء المرأة، وصراخ الأطفال. أقرر أن أتدخل، ثم أقلع عن قراري، امتثالًا لتقاليد الحياة اليومية، بعدم التدخل — ولو بالنظر — في شئون الآخرين.
طالت وقفتي — في الحقيقة — أمام الباب. كان ينبغي أن أتصرف على أي نحو: إما أن أضغط الجرس، أو أغادر المدخل الضيق. ربما انفتح الباب — فجأة – فلا أجد من الكلمات ما يسعفني في تبرير وقفتي.
قررت — من قبيل التأدب — أن أنقر الباب. لم يعد إلا أن يطالعني الزوج أو الزوجة أو أحد الأبناء، وجهًا لوجه هذه المرة، وليس بإحناء الرأس، والتساند إلى الحائط، مراعاة — لازمة — لقواعد الجيرة.
•••
طالعني وجه الزوجة التي طالما أفسحت لها طريق الصعود والنزول مكتفيًا من أسلوب الحياة العصرية بهزة الرأس. لاحظت — لأول مرة — هذه الشامة على خدها الأيمن، فأضافت إلى جمالها المؤكد.
قلت لنظرتها المتسائلة: إني جاركم … أسكن الطابق الأعلى.
قالت في هدوئها الباسم: أعرف!
– لماذا لا يزورني الأبناء … فأساعد على التخلص من أعباء الدروس الخصوصية؟
التمعت عيناها بنظرة دهشة واضحة: تعينهم على المذاكرة بنفسك؟!
– وما المانع؟ … لو أني تزوجت، فلعلي كنت أنجبت مثلهم.
أبدى إخوتي — في البداية — دهشتهم لموافقتي على أن أقيم في بيت شقيقتي عواطف. لي طبيعتي التي تفضِّل الصمت، وتميل للانطواء. هز أخي الأكبر عطية يده في عدم تصديق: لن تحتمل شقاوة أطفالها يومًا واحدًا.
أمَّن الأوسط علاء على رأيه: لن تجد مكانًا للقراءة أو لحفظ كتبك.
واصلت ترتيب ثيابي في الحقيبة. أختي عواطف تحتاج إلى رعايتي. مهم أن يكون في البيت رجل، صوته، أنفاسه، آراؤه، وتذكرت حالنا بعد وفاة أبي. فاجأتني عواطف بعرض الانتقال إلى بيتها، في اليوم التالي لسفر سامي — زوجها — إلى الكويت. أهملت تأكيد عطية بأن عالمي الذي لن أغادره، حجرتي الخاصة في بيت العائلة. قلبت الأمر فتغلب الإشفاق في النهاية. ظلت مكتبتي في بيت العائلة، وإن شغلتني صداقتي للأولاد، طبيعتهم التي لم أكن تعرفت إليها من قبل، مذاكرتهم، أسئلتهم الساذجة والغريبة والمحيرة. حتى ثيابهم وحاجياتهم الشخصية كنت أحرص على شرائها بنفسي … بدت عواطف مطمئنة، تغادر الشقة — في زيارات — إلى البيت الكبير، تنزل الأسواق، يزورها — وتزور — الجارات، تهمل سؤال الأطفال عن المذاكرة، ترد على ملاحظاتهم وأسئلتهم وما يطلبون، بجملة تكاد لا تتغير: كلم خالك!
فاجأني عطية — يومًا — بالسؤال: ألا تنوي الزواج؟ كأنه دلني على طريق لم يعد السير فيها مما يشغل بالي. امتص الأطفال كل فراغ وقتي، أمسوا اللحظة والمستقبل والذكريات التي تخلو لها النفس بين الآخرين. وكنت أرجئ إجازتي السنوية لنهاية العام الدراسي، فأشرف على مذاكرتهم.
حين قال حمادة ما قاله، لم أصدق سمعي. الصغير الذي ربيته، أطعمته بيدي، أشرفت على ارتدائه ثيابه ونومه ومذاكرته، يطوح بأصابعه في غضب: لقد كبرت … وأرفض أن يتدخل في حياتي أحد.
لاحظت عواطف حزني الصامت: معلهش يا عاصم … فقد عاد أبوهم!
بدت الحياة سخيفة وبلا معنى. كرهت الليل والنهار والطريق والأحاديث والنظرات والاعتذار. اختلطت المرئيات، وعانيت صدود النفس، وإن ثابرت على البحث، حتى وجدت هذه الشقة المطلة على مسجد سيدي علي تمراز.
•••
عندما غادرت البيت، لم يكن في نيتي أن أفعل ما فعلته، ولم أقدِّر أن تنتهي الأمور على نحو محدد. لي طبيعتي المسرفة في الإشفاق والتعاطف والمشاركة، أرضى ويزول الغضب لمجرد البسمة أو الاعتذار، أو التبرير الذي يخلو من المنطق. مع ذلك، فقد قررت — منذ نقلت الأثاث من شقة عواطف في محرم بك إلى هذه الشقة — أن أحيط نفسي بأسوار العزلة، لا أُزار ولا أزور، ولا أخالط — إلا لضرورة — هؤلاء الذين ينبغي أن أفتح لهم باب شقتي، كالبواب والزبال ومحصل النور وما أشبه. أذكر أني وقفت بجسدي في طريق زوجة البواب، لما حاولت المواءمة بين دخول الشقة، والتأكيد بأن كرة طفل الشقة العلوية قد استقرت في بلكونة شقتي المطلة على الشارع الخلفي، واستأذنت كشاف النور في أن أترك له — على الباب — كل شهر بطاقة برقم العداد، واستبدلت مفتاحًا صغيرًا وعينًا سحرية بالمفتاح ذي «الفتحة»، فلا أتيح للجيران فرصة التلصص.
كان قراري حاسمًا، بأن تغيب تفصيلات حياتي الخاصة عن الأصدقاء. ولم يكن لي – في الحقيقة — أصدقاء بالمعنى الذي تعارف عليه الناس. أحادث الزملاء في العمل، أتبادل حوارًا مع الجالس قبالتي في ترام رقم ٤، يزورني إخوتي وأولاد أعمامي وأولاد أخوالي، فلا أغادر جلستي أمام ترابيزة السفرة في الصالة التي تتوسط الغرف الثلاث، أكتفي بالهمهمة، وربما الملاحظة البسيطة، والموافقة — أحيانًا — على تأكيداتهم بأن الشقة تحتاج إلى اليد التي ترعى وتنظف، فلماذا لا تفكر في الزواج؟ … وكنت — فيما أطالعه — معجبًا بروبنسون كروزو في جزيرته العجيبة، كيف استطاع أن يواصل الحياة دون أنيس، فيما عدا تلك الحيوانات التي أخضعها لخدمته.
لكن اللحظة التي جاءت مغايرة لكل ما سبق، وبداية للآتي، شملتني بسرها الغامض، صحوت على تأثيرها المفاجئ عقب أذان الفجر في المسجد القريب، كأنها حلم أو هاجس أو جزء من حركة الطريق، البسملات والحوقلات والخطوات التي تسعى لأداء الصلاة، كأنها تلك الأصوات التي تدعوك، وأنت بين اليقظة والنوم … ترد النداء، فتفاجأ بخلو المكان، تعود بالأمر إلى الغيبيات والأرواح والأسرار التي لا قبل لنا بفهمها. كأنه تأكيد باقتراب الرحيل، لا مرض ولا شبهة مرض … أكد الطبيب — لما عرضت نفسي عليه — صحة الجسد ومتانته. نصح بأقراص مهدئة، لمجرد المساعدة — كما قال — في النوم، وطرد المخاوف … لكن الخاطر، الهاجس، التحذير، الأمر … تناهى مع الأصوات التالية لأذان الفجر، توضحت تفصيلاته في سمعي جيدًا. بدا لي الصوت حقيقة يصعب مقاومته، انصعت لها بكل خضوعي وإرادتي، فقررت أن أضع حدًّا فاصلًا بين الحالي والآتي، بين صورة حياتي الثابتة وما ينبغي أن تكون. أتخذ القرار نفسه، دون أن أخلو إلى نفسي، وأقلب الأمر، وأقارن، وأطرح السؤال: لماذا؟ كأن قوة في داخلي، أصاخت السمع للصوت الآمر، فبدت ملبية طائعة.
•••
التقيت — وأنا جالس وحدي، أو في ظل الصوت الآمر، أو مع الآخرين — بأصدقاء طفولتي. لم تغادرهم ملامح التاسعة والثانية عشرة. شوارع محرم بك ومنشه وجرين والرصافة وترعة المحمودية ومكتبة البلدية تختلف عن الصورة التي ألفتها الآن، وإن كانت غير واضحة المعالم، كأنها تنبثق عن ضباب، فيغيب الكثير الكثير من الملامح والتفصيلات. قلت للولد حسن القناوي: كان فيه واحد صعيدي … قاطعني: الصعايدة أسياد البلد! … وحدثني أنور الملطاوي عن السفاح الذي يترصد لضحاياه في أشجار الطريق المطلة على المحمودية، رآه رؤية العين، قبل أن تلقي الشرطة القبض عليه. وأطلت نفوسة — كأنها البدر – من شباك شقتها في شارع جعفر. بدوا غرباء عن الناس الذين ألتقي بهم، اختلط الأشخاص والتصرفات والأحداث فلم أتبين — أحيانًا — ماذا جرى، ولا من الذي كنت أخاطبه.
•••
مع أن زوجة البواب هي التي اقترحت أن أستعين بفاطمة — بعد أن لاحظت، ربما وهي تناولني من الباب ما تحتاجه شقتي من النظافة والترتيب — فإني قررت أن يتولى الأمر إخوتي أو أقاربي، مهملًا — في الحقيقة — ملاحظاتهم القاسية، مكتفيًا بجلستي على ترابيزة الصالة، فلا أرفع رأسي إلا بإيماءة، أو للرد المقتضب على ملاحظة، أو للتطلع بنظرة، أحرص — ما أمكن — أن تكون بلا معنى.
– أين فاطمة التي حدثتِني عنها؟
– تريدها فعلًا؟!
في هدوء حاسم: نعم.
– إنها تنظف بخمسة جنيهات شقة الطابق الأخير.
– فلتأتِ مرة واحدة … وبأجر مضاعف.
وأتت فاطمة: فلاحة في نحو العشرين، شاطرة ومؤدبة وترضي إرادتي القديمة باحترام صمتي … لكنني — بتلك القوة الغامضة المسيطرة — ناوشتها، سألت وناقشت، بادلتها الدعابة أحيانًا، تعرفت إلى ظروف الزوج الذي أقعده الشلل لسقوط السقالة على ظهره، والطفلين اللذين تحرص أن يتما التعليم إلى النهاية. أهديتها — في أول مرة — ساعة قديمة للزوج المقعد. قدمت لها — فيما بعد — طعامًا وثيابًا وأغطية. قررت أن أضاعف لها الأجر، فيصبح راتبًا شهريًّا.
•••
أغفلت نظرة الدهشة التي طالعني بها المعلم شاكر بائع الهريسة أسفل البيت المقابل.
قاطع إشارتي إلى الطابق الذي أسكنه: جار عزيز.
– أتابع سخطك الدائم على غرامات أشغال الطريق.
– ما ذنبي لأدفع ثمن إهمال الزبال؟!
– لدي اقتراح بوسعي أن أنفذه لو وافق عليه الجيران من أصحاب الدكاكين.
قال الرجل في امتنان واضح: نحن في حاجة إلى مجهودات جارنا العزيز.
•••
لحقت بي زوجة البواب قبل أن أبلغ الطابق الأول. سبقت كلماتها التماعة في العينين، وخطوط الفرحة دوائر على جانبَي الوجه. تحدثت عن طبيب الطابق الأول الذي دفعت له — في غيابه — قيمة إيصال النور، ونجاح أطفال الطابق الثاني في امتحان الفترة، وعذوبة أدائي لأذان المغرب في مسجد سيدي علي تمراز، وفتح الشرفة المطلة على شارع رأس التين، ومتابعتي صيد «المياس» — ساعة العصر — في الميناء الشرقية، والمارة والباعة في ميدان الخمسة فوانيس.
قلت، وأنا أطمئن إلى موضع المفتاح.
– تصلحين مخبرًا!
•••
أرهفت سمعي جيدًا. بدا الصوت المميز غائبًا في أصوات ما بعد أذان الفجر. قمت من فراشي، وفتحت النافذة، وحاولت التأكد. طلت الأصوات في تناقضها وتآلفها — المحدد، فلا يبين الصوت الهامس عن نفسه.
تكرر — في الأيام التالية — ترقبي، وإنصاتي المرهف … لكن الصوت — الذي أعرفه جيدًا — كان قد اختفى.
•••
قررت أن أحيا.