كلمة المترجمة
تقول إحدى الأساطير الإغريقية القديمة إن البشرَ في الأصل كانوا مخلوقاتٍ كرويةَ الشكل. لها رأسٌ واحدٌ، به وجهان، وجسد واحد بأربع أقدام وأيادٍ. شعر ذلك المخلوقُ بالتفوُّق، فتطلَّع لمكانة الآلهة. الأمر الذي أغضب «زيوس»، كبيرَ الآلهة، فقرَّر عقابَ المتمرد بشقِّه نصفين، لإضعاف قوَّته. ثم طلب إلى «أبولو»، إلهِ الشمس والشفاء، إعادةَ تسوية كلِّ نصف على النحو الحالي: المرأة، الرجل. من يومها، تاق كلُّ نصف إلى شطره الآخر، وراح يبحث عنه ليُعانقَه، فيستعيدَا اكتمالَهما الأزليَّ، وتضامَّهما الروحيَّ، صانعَين في توحُّدِهما ذلك الكائن الخرافي الأول. وصدَّق الفيلسوف أفلاطون أن هذا هو سبب ظهور الحب، الذي يُعيدنا إلى نشأتنا الأولى.
كانت تلك إحدى شطحات العقلِ الإنسانيِّ القديم في محاولته لتفسيرِ سرِّ الانجذابِ الأبديِّ بين الرجل والمرأة.
في هذا الكتاب الجميل «لماذا نحبُّ؟»، قدَّمَت لنا عالمةُ الأنثروبولوجي الأمريكية «هيلين فيشر» قراءةً علمية وجدانية سيكولوجية لمدونة الحب البشري. الكيمياء التي تتبدَّل في المخ الإنساني لحظةَ الوقوع في الحب. الدوافع الكامنة التي تدفعنا للغيرة والتملُّك والغضب إن هجرَنا الحبيبُ، ذلك الغضب الذي قد يتحوَّل إلى كراهية أحيانًا. فنتعلَّم عبر الكتاب أن «الكراهية»، ليست نقيضَ الحب، بل صورة من صِوَره. إنما عكس الحب هو اللامبالاة والنسيان التام. يتطرَّق الكتابُ كذلك إلى الحب عند الحيوان. وهل الإنسانُ ما هو إلا حيوانٌ كرَّمه اللهُ بالعقل والعلم والمنطق والتطوُّر؟
ينقسم الكتابُ إلى قسمين متداخلين: قسمٌ طبيٌّ علميٌّ تشريحيٌّ، وقسمٌ فلسفيٌّ أدبيٌّ وجدانيٌّ وتاريخيٌّ. لهذا لَزِم أن يُترجمَ الكتابَ مترجمان، لا واحد. تحمَّس للفصول الطبية (٣-٤-٥-٨) د. أيمن حامد، وهو طبيبٌ وباحثٌ نفسيٌّ. وكانت من نصيبي الفصول الأخرى (١-٢-٦-٧-٩)، ذات الطابع الأدبي، وكذلك مقدمة المؤلفة والمقاطع الشعرية بالكتاب.
نتعرف في هذا الكتاب على تلك الغريزة التي تدفع الإنسان للوقوع في «شَرَك» الحب. الحب الذي منحنا أشهرَ الأوبرات، والمسرحيات، والروايات، والقصائد الماسَّة للمشاعر، والمقطوعات الموسيقية الآسرة، وكذلك أبدع القطع النحتية واللوحات، مثلما ألهمنا الأساطير، والحكايات الخرافية. وهكذا جمَّل الحبُّ العالَمَ، وغمرَ معظمَ البشر بالبهجة الهائلة والفرح.
على أن الحبَّ حين يُهانُ أو يُستخَفُّ به، بوسعه أن يجلبَ أشدَّ ألوانِ العذاب النفسي والجسدي ضراوةً. الغضبُ المُنذِر، المطاردة، القتل، الانتحار، الإحباط العميق. في هذا الكتاب قد نجد إجابةً لسؤال شكسبير الخالد: «ما الحب؟»
سنتعرف على أشهر قصص الحب في التاريخ: قيس وليلى، روميو وجولييت، باريس وهيلين، أورفيوس ويوريديس، آبيلارد وإليوز، ترويلاش وكريسيدا، تريستان وإيسلوت. وآلاف قصائد العشق، والأغنيات، والحكايات التي عبرت القرونَ في أوروبا القديمة مثلما عبرَتها في الشرق الأوسط، واليابان، والصين، والهند، وكل المجتمعات التي تركَت مخطوطات مكتوبة.
سنتعرف على الحاجة الهائلة للوحدة العاطفية بوصفها إحدى خصائص العاشق التي حاول فلاسفةُ الإغريق التعبيرَ عنها عام ٤١٦ قبل الميلاد، في الحفل الذي أُقيم على شرف أفلاطون. في تلك الأمسية اجتمعَت أعظمُ عقول أثينا على مأدبة الغداء في منزل أغاثون. وفيما كانوا متكئين على أرائكهم، اقترح أحد الضيوف أن يقوموا بتسلية أنفسهم بمناقشة موضوع العشق: كل ضيف من الحضور يأخذ دوره ليصفَ إلهَ الحب.
بعضهم وصف ذلك الكائن الفائق بأنه الأكثر «قِدَمًا» والأعلى «شرفًا» أو الأقل «حصافة» بين جميع الآلهة. وأقرَّ آخرون بأن إله الحب «شابٌّ»، أو «حساس»، أو «قوي»، أو «طيب»، أو «ماكر» أو غير ذلك. فيما أقرَّ «سقراط» بأن ربَّ الحب يسكن في «دولة الحاجة»، أي الاحتياج إلى الكمال. وأنت عزيزي القارئ، كيف تصفُ «إله الحب»؟
أرجو أن يجيب هذا الكتاب على شيء من خيوط تلك الشرنقة المعقدة التي لم يَنجُ بشريٌّ من حبائلها: شرنقة الحب.
واللهُ والخيرُ والجمالُ والحبُّ بين البشر، من وراء القصد.