إلى القارئ
«ما الحبُّ؟» يتساءلُ شكسبير متأمِّلًا. لم يكن الشاعرُ الكبير أولَ مَن تساءل. أتصوَّر أن أسلافنا تأملوا ذلك السؤال قبل ملايين السنين وهم متحلِّقون حول لهيب النار في خيامهم، أو بينما يرقدون على الأرض يرقبون النجوم.
في هذا الكتاب، أحاول أن أُجيبَ عن هذا السؤال الذي يبدو ظاهريًّا دون إجابة. أمورٌ عدَّة حفَّزتني على ذلك. فقد أحببتُ وربحتُ، وأحببتُ وخسرت؛ أنا بكل تأكيد جرَّبت بهجة الحب الرومانسي وكذلك عرفتُ أوجاعَه. وفوق هذا فإني أومِنُ أن تلك العاطفة الجامحة هي حجر الأساس في حياة الإنسان الاجتماعية؛ ذاك أن الإنسان من بني البشر، الذي عاش في أيِّ زمان ومكان، لا بد قد جرَّب مشاعر النشوة التي يجلبها الحبُّ الرومانسي مثلما جرَّب انكساراتِه. وربما الأكثر أهمية في الأمر، هو أن فهمًا أوضح لتلك الظاهرة العنيفة قد يساعد الناس على أن يجدوا طريقهم نحو هذه العاطفة النبيلة.
وهكذا، في عام ١٩٩٦م بدأتُ عملَ استقصاء متعدد المحاور، في محاولةٍ لكشف لغز الألغاز: تجربة «الوقوع في الحب». لماذا نحبُّ. لماذا نختار مَن نختارهم بالتحديد؟ كيف يختلفُ الرجال عن النساء في مشاعر الحب الرومانسي. الحب من أول نظرة. الحب والشهوة. الحب والزواج. حب الحيوانات. كيف ينشأ الحبُّ وكيف يتطوَّر. الحب والكراهية. المخ أثناء حال الحب. كانت تلك هي المحاور الأساسية لهذا الكتاب. وبالطبع أرجو أن نجنيَ بعض الحكمة التي تُعلِّمنا كيف نسيطر على تلك النيران الخطرة الخبيئة التي تضطرم في القلوب.
الحبُّ الرومانسيُّ، كما أتصوَّر، هو أحد الخيوط الأوليَّة الثلاثة في شبكة المخ، ذاك الذي يتطور لتوجيه عمليات التزاوج والتناسل. الشهوة، والنزعة للإشباع الجنسي، كانت دائمًا تنطلق لتوجِّه أسلافَنا للبحث عن التوحُّدِ الجسديِّ مع أيِّ شريك تقريبًا. الحبُّ الرومانسيُّ، والبهجة والهوس «للوقوع في الحب»، مكَّنَتهم من أن يُكثِّفوا غزَلَهم وتودُّدَهم لشخص واحد في كل مرة، ومن ثَم ادِّخار فترات ومواقيت التزاوج الثمينة وطاقته. على مدار الزمن، كان اتصال الذكر بالأنثى، والشعور بالهدوء، والسلام، والأمن، الذي يشعر به المرء مع علاقة التزاوج الطويلة المدى، يتطور لتوجيه أجدادنا ليحبوا شركاءَهم مدة طويلة تكفي لتربية صغارهما معًا.
باختصار، يتجذَّر الحب الرومانسي بعمق في كيمياء المخ البشري ومعماره.
ولكن ما الذي بالفعل يُنتج ذاك الذي يُسمَّى: الحب؟
في هذا الجزء المهم من بحثي الاستقصائي، كنتُ محظوظة؛ إذ انضمَّ إليَّ زميلان موهوبان على نحوٍ استثنائي؛ د. لوسي ل براون، أستاذة طب الأعصاب بجامعة ألبرت آينشتين الطبية، ود. آرثر آرون، باحث علم النفس بكلية نيويورك، ستوني برووك. وفيما بعد، ديبرا ماشيك، مرشح بدرجة دكتوراه في علم النفس بجامعة ساني ستروني بروك، جريج سترومج، خريج آخر من جامعة ساني، قسم السيكولوجي، ود. هايفنج لي، أستاذ الطب الإشعاعي بجامعة ساني ستوني برووك، جميع الأشخاص الموهوبين أولئك، كلٌّ لَعِب دورَه الشديد الأهمية لمدة تفوق السنواتِ الستَّ، قمنا بإجراء عمليات مسح على أمخاخ أكثر من أربعين رجلًا وامرأة وقعوا في الحب على نحو عنيف، ملتقطين ما يُناهز ١٤٤ صورة لنشاط المخ لدى كلٍّ منهم. نصف عدد مشاركينا من الرجال والنساء، كان غرامهم متبادلًا فيما بينهم وبين أحبَّتِهم؛ والبقية كانت فئة مرفوضة من قِبَل أولئك الذين عشقوهم بعنف. كان هدفنا أن نسجِّلَ نطاق المشاعر المتزامن مع «الوقوع في الحب».
كانت النتائج صاعقة. وجدنا فروقًا في النوع قد تُساعد في تفسير لماذا يستجيب الرجالُ بحساسية وعاطفة عالية للمثيرات البصرية، ولماذا تستطيع النساء تذكُّرَ تفاصيل العلاقة. اكتشفنا المسارات التي عبْرَها يتغير، مع الوقت، المخُّ الواقع في الحب. استطعنا إثباتَ مناطق معينة بالمخ تغدو نشطةً حينما نشعرُ بالرغبة الرومانسية، ومعلومات قد تقترح طرقًا جديدة للحفاظ على الحب في علاقات طويلة الأمد. ووصلتُ للاعتقاد بأن الحيوانات تشعر بشكل من أشكال الانجذاب الرومانسي بين بعضها البعض. اكتشافاتنا ألقَت ضوءًا جديدًا على السلوك التهديدي التوعُّدي وجرائم العشق الأخرى. والآن أفهم أكثر لماذا نشعر بالإحباط الشديد والغضب حينما نرفض، وكذلك بعض طرائق استحثاث المخ ليخففَ وطأة العذاب ويُهدِّئَه.
الأكثر أهميةً، هو أن نتائجنا قد غيَّرَت من اعتقاداتي حول الجوهر الأصلي للحب الرومانسي. بدأتُ أرى تلك العاطفة بوصفها غريزة إنسانية أساسية مثل شهوة الطعام والشراب المُلحَّة، وغريزة الأمومة، إن هي إلا احتياج سيكولوجي، وإلحاحٌ عميق، وغريزة تدفعنا لأن نتودَّد لكي نفوزَ بشريك التزاوج الخاص.
تلك الغريزة التي تدفع الإنسان للوقوع في الحب أنتجَت بعضَ أشهر الأوبرات الإنسانية، والمسرحيات، والروايات، وأكثر القصائد مسًّا للمشاعر والمقطوعات الموسيقية الآسرة، وكذلك أبدع القطع النحتية واللوحات التشكيلية في العالم، وأيضًا مهرجاناتنا المبهجة، والأساطير، والحكايات الخرافية. وهكذا جمَّل الحبُّ العالمَ وغمر معظمَ البشر بالبهجة الهائلة والفرح. على أن الحبَّ حين يُهانُ أو يُستخفُّ به بوسعه أن يجلبَ أشدَّ ألوان العذاب النفسي والجسدي ضراوةً. الغضب المنذر، القتل، الانتحار، الإحباط العميق من رفض الحب، وشيوع معدلات الطلاق والزنا العالية في المجتمعات حول العالم. آن الأوان لكي نتأملَ بجديَّة سؤال شكسبير: «ما الحبُّ؟»
آمل أن يكون هذا الكتاب مفيدًا لكم، كما كانت كتابتُه مفيدةً بالنسبة لي، خلال رقصتنا المتبادلة الخالدة مع تلك القوة الهائلة: غريزة الوقوع في الهوى.