شهوة الحب الجامحة
كم من الرجال والنساء أحبُّوا بعضهم البعض في كل الحِقَب والعصور التي سبقَتك وسبقَتني؟ كم من أحلامهم قد تحقَّقَت؛ وما قدرُ ما أُهدِر من عواطفهم وهواهم؟ عادةً وأنا أمشي أو أجلس لأتأمل، أتساءل عن كلِّ علاقات الحب الممزقة للقلوب تلك التي امتصَّها هذا الكوكب. ولحسن الحظ، ترك لنا الرجال والنساء حول العالم كمًّا هائلًا من الأدلة التي تُشير إلى حيواتهم العاطفية.
روميو وجولييت، باريس وهيلين، أورفيوس ويوريديس، آبيلارد وإليوز، ترويلاش وكريسيدا، تريستان وإيسلوت: آلاف قصائد العشق، والأغنيات، والحكايات عبرتِ القرون في أوروبا القديمة مثلما عبرَتها في الشرق الأوسط، واليابان، والصين، والهند، وكل المجتمعات التي تركت لنا مخطوطاتٍ مكتوبة.
خلال قراءة القصائد، والأغاني، وقصص الشعوب حول العالم، وصلتُ للإيمان بأن طاقة الحب الرومانسي مضفورةٌ في نسيج المخ البشري. وأن الحبَّ الرومانسي تجربةٌ بشرية كونية.
(١) دراسة الحب
بعد ذلك، لكي أُرضيَ نفسي بأن تلك الخصائص للولهِ الرومانسي إنما هي كونية، توسَّلتُها بوصفها ركائز للاستطلاع الذي صممتُه حول الحب الرومانسي. وبمساعدة ميشيل كريستياني، ثم طالب بالدراسات العليا بجامعة روتجريس، وكذلك د. ماركيو هاساجوا ود. توشيكازو هاساجوا بجامعة طوكيو، قمتُ بتوزيع هذا المسح بين الرجال والنساء في جامعة روتجريس في نيوجيرسي وفي جامعة طوكيو وحولهما.
بدأ التصويتُ على النحو التالي: «هذا الاستطلاع هو حول «الوقوع في الحب»، الشعور بأن تكون مُتيَّمًا، أن تكون عاشقًا، أو أن تكون منجذبًا رومانسيًّا للغاية نحو شخص ما.»
«إن لم تكن حاليًّا «واقعًا في الحب» مع شخص ما، بل وقعت في غرام شخص ما في الماضي، فرجاءً أجب عن الأسئلة حول الشخص الذي في المُخيِّلة.» ثم سُئل المشاركون أسئلةً ديموغرافيةً، مع تغطية الشرائح العُمرية المختلفة، والخلفيات الاقتصادية، والعقائدية، والعِرقية، والميول الجنسية، والحالة الاجتماعية. وأيضًا طرحتُ عليهم أسئلةً حول علاقاتهم العاطفية. كان من بين الأسئلة: «ما المدة التي استغرقتها واقعًا في الحب؟» «ما النسبة المئوية من اليوم كان هذا الشخص يشغل أفكارك؟» و«هل تشعر أحيانًا أن مشاعرك خارج حدود سيطرتك؟»
ثم اكتمل جسدُ الاستطلاع (راجع الملاحق). يحتوي على خمس وأربعين عبارة، مثل: «يكون لديَّ طاقةٌ أكبر حينما أكون مع …» «قلبي يسابقني حينما أسمع صوتًا … في الهاتف.» و«حينما أكون في الفصل، العمل يسرح عقلي مع …» «قمتُ بصوغ تلك الأسئلة لكي تعكسَ الخصائص التي تتقاطع أكثر مع الحب الرومانسي.» كان مطلوبًا من الموضوعات أن تحدِّد إلى أيِّ مدى تتفق مع كل تساؤل على مقياس سبع نقاط تتدرج من: «عدم الموافقة القصوى» وحتى: «الموافقة القصوى». غطَّت الاستطلاع مجموعة من ٤٣٧ أمريكيًّا، و٤٠٢ ياباني. ثم قام خبراء الإحصاء «ماك جريجور سوزوكي وطوني أوليفا» بترتيب كلِّ تلك البيانات ليقدِّما لنا تحليلًا إحصائيًّا.
كانت النتائج مدهشةً. العُمر، والنوع، والميول الجنسية، والانتماء الديني، والانتماء العِرقي: ليس من بين تلك التباينات الإنسانية ما صنع اختلافًا كثيرًا في الاستجابة أو النتائج.
على سبيل المثال، الناس من الجماعات العمرية المختلفة أجابوا بغير اختلافات إحصائية واضحة على ٨٢٪ من الأسئلة. الناس فوق سنِّ الخامسة والأربعين سجَّلوا أنهم عاطفيون مع أحبَّائهم مثل أولئك الذين كانت أعمارهم تحت الخامسة والعشرين. الطبيعيون والمثليون جنسيًّا أعطوا استجاباتٍ مماثلة في ٨٦٪ من الأسئلة. في ٨٧٪ من الأسئلة، أجاب الرجال والنساء الأمريكان على نحوٍ متماثل لدرجة كبيرة: كانت هناك اختلافات طفيفة في النوع. الأمريكان «البيض» و«الآخرون» أجابوا على نحوٍ متشابه على ٨٢٪ من الأسئلة: ولم يلعب العِرق تقريبًا أيَّ دور في التأجج العاطفي. ولم يختلف الكاثوليك والبروتوستانت كثيرًا في ٨٩٪ من الإجابات: الانتماء الكَنَسي لم يكن عاملًا ذا بال. وبينما أظهرَت تلك الجماعات اختلافاتٍ في «التميُّز الإحصائي» بالنسبة لاستجاباتهم، كانت عادة واحدة من تلك الجماعات ذات استجابة أكثر قليلًا من الأخرى.
الاختلافات العظمى كانت بين الأمريكان واليابانيِّين. في معظم الأسئلة الثلاثة والأربعين التي أظهرَت التباينات الواضحة إحصائيًّا، عبَّرَت جنسية بعينها عن العشق الرومانتيكي على نحوٍ أعظم من الجنسيات الأخرى إلى حدٍّ ما. بينما الاثنا عشر سؤالًا التي تُظهر الاختلافاتِ الدراماتيكية، بدَت جميعها كأنما تُقدِّم أكثر، تفسيرات ثقافية واضحة. على سبيل المثال، فقط ٢٤٪ من الأمريكان وافقوا على عبارة: «حينما أتكلم مع … عادةً ما أخشى أن أقولَ الكلمة الخطأ.» بينما وافقت النسبة الضخمة ٦٥٪ من اليابانيِّين على هذا الاعتراف. أظن أن ذلك التباين الخاص حادثٌ؛ لأن اليابانيِّين الشباب عادةً ما يكون لديهم علاقات أقل، وأكثر رسميةً مع الجنس الآخر، مقارنةً بما لدى الأمريكان. وهكذا، وباعتبار أن كلَّ الأمور مأخوذة في الاعتبار، فإن داخل هذين المجتمعَين الشديدَي الاختلاف، كان الرجال والنساء متشابهين في مشاعرهم فيما يخص الحب الرومانسي.
وأكثر من ذلك، فإن هذا السحر يزور كلًّا منَّا على النحو نفسه وبالطريقة نفسها.
(٢) «المعنى الخاص»
قبل أن تنموَ العلاقة لتتحول إلى عشق رومانسي، ربما تجد نفسَك منجذبًا إلى أشخاص مختلفين، تُركِّز اهتمامك على أحدهم، ثم أحدٍ غيره. ولكن في الأخير تبدأ في تركيزِ وَلَعِك وغرامِك على شخص واحد فقط. إميلي ديكنسون أسمَت هذا العالَمَ الخاصَّ ﺑ «ملكوتك الخاص».
ترتبط هذه الظاهرة بعدم مقدرة الإنسان على الشعور بالعشق الرومانسي مع أكثر من شخص واحد في فترة واحدة. خلال استقصاءاتي، قال ٧٩٪ من الرجال و٨٧٪ من النساء إنهم/إنهن لا يمكنَّ أن يخرجوا لموعد غرامي حينما يكون المحبوب/ﺔ غير متاح.
(٣) الاهتمام المُركَّز
الشخص المأسور بالحب يُركِّز تقريبًا كلَّ اهتمامه على المحبوب، حتى ولو أوقع الضرر بكل شيء وكل شخص حوله، بما في ذلك العمل، الأسرة، والأصدقاء. أورتيجا واي جاسيت، الفيلسوف الإسباني، أسمَى هذه الحال: «الحالة الفائقة من اليقظة والتركيز، تلك التي تحدث في الإنسان العادي». هذا التركيز الموجَّه لبؤرة بعينها هو إحدى سمات الحب الرومانتيكي.
الرجال والنساء المفتتنون أيضًا يركزون على الأحداث كافة، والأغنيات، والخطابات، وكل الأشياء الصغيرة الأخرى التي تشاركوا فيها مع أحبَّتِهم. اللحظة التي توقَّف فيها في الحديقة ليُريَها بُرعمَ الربيع؛ المساء الذي قذفَت فيه إليه بحبَّات الليمون وهو يُعِدُّ العصائر: «إلى حبيبي مالك مشاعري»، كل تلك اللحظات العفوية العارضة تتنفس. ٧٣٪ من الرجال و٨٥٪ من النساء يتذكَّرون تلك الأمور الصغيرة التي فعلها عشَّاقُهم أو قالوها. و٨٣٪ من الرجال و٩٠٪ من النساء يستدعون تلك الحكايات الثمينة في عيون أذهانهم وهم يتذكرون أعزَّتَهم.
(٤) تعظيم شأن الحبيب
المفتون يبدأ أيضًا في تعظيم، أو حتى تهويل شأن كلِّ السمات البسيطة في المحبوب. تحت وطأة الضغط، تقريبًا كل العشاق بوسعهم أن يسردوا كلَّ الأشياء التي لا يحبُّونها في أحبَّتِهم. لكنهم يطرحون تلك المُدركات جانبًا أو يُقنعون أنفسهم بأن تلك العيوبَ ملامحُ تفرُّد وجاذبية. «هكذا يُدير العشاق أسبابَ عاطفتهم/لكي يحبوا نساءَهم لدرجة عشق نقاط ضعفهن.» هكذا تأمل موليير. حقًّا. بل إن البعض يعبدون محبوباتهم بسبب عيوبهن.
النماذج التي اخترناها من الأمريكان واليابانيِّين تعكس بالتأكيد «تأثير العدسة الوردية» تلك. حوالي ٦٥٪ من الرجال، و٥٥٪ من النساء في الاستطلاع وافقوا على عبارة: «… لديه/لديها بعض العيوب، لكن تلك العيوب بالفعل لا تُزعجني.» و٦٤٪ من الرجال و٦١٪ من النساء أجمعوا على عبارة: «أحبُّ كلَّ شيء في …»
لَكَم نخادعُ أنفسَنا حين نحبُّ. كان شوسر على حقٍّ حين قال: «الحبُّ أعمى.»
(٥) «التفكير المُقْتحِم»
واحدٌ من الأعراض الرئيسية في الحب الرومانسي هو التفكير الاستحواذي المُفرِط في المحبوب. معروفٌ لدى علماء النفس باسم «التفكير المُقتحِم». فأنت ببساطة لا تستطيع أن تُخرجَ حبيبك من رأسك.
لسوء الحظ، كان بارزيفول حاملًا رمحه المسنون — رمز الفروسية والتحدي. وسرعان ما لاحظه فارسان كانَا يعسكران في مرج قريب مع الملك آرثر، فركضَا نحوه ليبارزاه. ليس قبل أن يغطيَ أتباع بارزيفول قطرات الدم بوشاح أصفر، ثم أفاق من غيبوبة العشق، فامتشق سلاحه، وتأهَّب للمعركة المميتة.
كم كان ميلتون ذكيًّا في «الفردوس المفقود»، حين جعل حواء تقول لآدم: «باستحواذك لي، أنسى الوقتَ كلَّه.»
(٦) لهيبُ العاطفة
من بين اﻟ ٨٣٩ من الأمريكان واليابانيِّين الذين شاركوا في استطلاعي حول الحب الرومانسي، كان ٨٠٪ من الرجال و٧٩٪ من النساء موافقين على العبارة: «حينما أتأكد أن … مُغرمٌ بي، أشعر أنني أخَفُّ وزنًا من الهواء.»
ليس من سمة مشتركة تُشير إلى «الوقوع في الحب» تجمع بين المضروبين بالعشق غير ذلك الطوفان من العواطف الجامحة التي تنساب بجبروت داخل العقل. البعضُ يُصبح خجلًا لدرجة موجعة أو مرتبكًا في حضور محبوبه. والبعض يصير شاحبًا. والبعضُ يتورَّد وجهُه نضارةً. والبعض يرتجف. والبعضُ يتلعثم. والبعض يتصبَّب عرَقًا. والبعض ترتعشُ ركبتاه، أو يشعر بالدوار، أو يُصاب باضطراب في المعدة. والبعضُ سجَّل تسارعًا في التنفس. والعديد سجَّل شعورًا باضطرام اللهيب في القلب.
العشاقُ يمتشقون طيارات ورقية مفعمة بالبهجة وشديدة السرعة عالية التحليق، حتى إن الكثيرين منهم يجدون من العسير عليهم أن يأكلوا طعامهم أو يناموا ليلهم.
(٧) الطاقةُ العنيفة
المغنُّون، المنشدون، الشعراء، كُتَّاب المسرح، الروائيون: رجالًا ونساء ظلوا يغنُّون لقرون عن هذه الكيمياء الحاثَّة للطاقة، وكذلك عن التلعثم والارتباك والعصبية، القلب الخافق، وفقدان التنفس وكل تلك الأعراض التي تُصاحب العشق الرومانسي. ولكن من بين كلِّ أولئك الذين ناقشوا ذلك الصخبَ الفيزيقي، لم يبرع في التصوير أحدٌ مثلما فعل أندريا كابلانوس، أو أندريا القس، الفرنسي المثقَّف ابن عقد ١١٨٠، الذي اقترب من البلاط العالي الملكي، وكتب: «في فنون العشق النبيل»، إحدى أعظم كلاسيكيات الأدب على مرِّ الزمان.
أثناء القرن الذي عاش فيه بدأت تقاليدُ العشق في البلاط الملكي في الظهور بفرنسا. تقاليد وبروتوكولات بدأت تصكُّ قوانين التواصل بين الحبيب والحبيبة. العاشق غالبًا ما يكون شاعر تروبادور، رفيع الثقافة والتعليم، موسيقيًّا، مُغنيًا، غالبًا من سلالة الفرسان. محبوبته، في أحوال كثيرة، تكون سيدة متزوجة من أحد نبلاء عائلات أوروبا المرموقة. أولئك التروبادور يبدءون في تأليف، ثم إنشاد أبيات شعرية متأججة الغرام لكي يتغزل في سيدة البيت ويتعبد في محرابها.
سماتٌ أساسية للعشق لم تتغير مطلقًا تقريبًا منذ آلاف السنين.
(٨) المزاج يتأرجح: من النشوة إلى الإحباط
الشعورُ بالحب يحلِّق عاليًا ويهبط من حالق. إذا غمر المحبوبُ عاشقَه بالاهتمام، إذا هاتفَه بانتظام، أو أرسل إليه إيميلات عاطفية، أو شاركه وجبة طعام أو لحظة مرح ذات أصيل أو ذات مساء، إذن يُشرق العالمُ بالحبور. أما لو بدَا المعشوق غير مبال، كأن يأتيَ متأخرًا دائمًا، أو لا يأتي أبدًا، لو أخفق في الرد على الإيميلات، أو الهاتف، أو الخطابات، أو إن أرسل أيَّ إشارات سلبية، يبدأ العاشق في الشعور بالإحباط. مثل هذا العاشق الكسول الخامل، المحبط، يظل مكتئبًا إلى أن ينجحَ في اجتذاب انتباه محبوبه، فيهدأ القلبُ الواجفُ المضطرب، وتتجدد الحيوية.
العشق الرومانتيكي بوسعه أن يُنتجَ مزاجًا متأرجحًا يتغير من النقيض للنقيض. من حال الابتهاج القصوى حينما يكون الحبُّ في ذروته، إلى الإحباط أو حتى الغضب والهياج حينما يتمُّ تجاهلُ المشاعر أو رفضها. كما وصفه الكاتب السويسري هنري فريدريك إميل: «كلما أحبَّ الرجلُ أكثر، عانى أكثر.» أهالي التاميل في جنوب الهند وضعوا تسميةً لهذه الحال المضطربة. سمَّوا تلك الحال من الاضطراب العاطفي: ماياكام، بما يعني حال الخَدَر، الدوار، الخداع والوهم.
لم يُدهشني أن ٧٢٪ من الرجال و٧٧٪ من النساء في استطلاعي لم يوافقوا على الجملة: «تصرفات … لم تؤثر أبدًا على اتزاني العاطفي.» بينما ٦٨٪ من الرجال و٥٦٪ من النساء أيَّدوا العبارة: «حالتي العاطفية تتوقف على ما يشعر به … تجاهي.»
(٩) الحنين إلى التوحُّد العاطفي
الحاجة الهائلة للوحدة العاطفية بوصفها إحدى خصائص العاشق التي عُبِّر عنها بخلود في السمبوزيوم، حفل الغداء، المقام في أثينا على شرف أفلاطون عام ٤١٦ ق.م. في هذه الأمسية الاحتفالية اجتمع رسميًّا بعضٌ من أعظم العقول الإغريقية الكلاسيكية على مأدبة الغداء في منزل أغاثون. وفيما كانوا متكئين على أرائكهم، اقترح أحد الضيوف أن يقوموا بتسلية أنفسهم بمناقشة موضوعات لها علاقة بالعشق: كل ضيف من الحضور يأخذ دوره ليصفَ إلهَ الحب ويمجِّدَه.
«دولة الحاجة». ربما ليس من عبارة في كل تاريخ الأدب قد قبضت على جوهر الحب الرومانتيكي العاطفي مثل تلك: «الحاجة». في استطلاعي، وافق ٨٦٪ من الرجال، و٨٤٪ من النساء على عبارة: «أتمنَّى بعمق أن يكون… منجذبًا/منجذبة إليَّ مثلما أنا منجذبٌ إليه/إليها.»
تلك الرغبة العارمة في الذوبان والتوحُّد مع المحبوب، تُحلل وتُفنِّد مجمل الأدب العالمي.
قبض الروائي جويسن كارول أوتس بحيوية على حالة الانصهار المبهج تلك قائلًا: «إذا ما التفت الناسُ إلينا فجأة فسوف نرتجف ونرتد للوراء/الجِلد المبتل سوف يرتعد/وأخيرًا/سوف يتمزق عن شخصين؟»
(١٠) البحث عن دليل
حينما لا يعرف العاشق إن كان محبوبُه يقدِّر حبَّه ويبادله إياه، يصبح فائق الحساسية للعلامات والإشارات التي يُرسلها الحبيبُ المعبود. كما كتب روبرت جريفز: «الإصغاءُ إلى دقَّة الباب، انتظارُ إشارة.» في استطلاعي سجل ٧٩٪ من الرجال و٨٣٪ من النساء أنهم حينما كانوا في حال انجذاب شديدة إلى شخص ما، كانوا يفحصون بدقة تصرفات المحبوب، باحثين عن دلائل وإشارات تَشِي بشعورِ أحبَّتِهم تجاههم. وقال ٦٢٪ من الرجال و٥١٪ من النساء إنهم كانوا يبحثون عن معانٍ مختلفة لكلماتِ أحبَّتِهم وإشاراتهم وتغيرات ملامحهم.
(١١) تغيير الأولويات
العديد من المفتونين يُغيِّرون أيضًا من أسلوب ملبسهم، أسلوب معيشتهم، عاداتهم، وأحيانًا قِيَمهم لكي يفوزوا بالحبيب. اهتمامٌ مفاجئ بلعبة الجولف، دروس رقصة التانجو، جمع الأنتيكات والتُّحَف، قصة شعر جديدة، موسيقى موزار بدلًا من موسيقى الريف الغربي، أو حتى الانتقال إلى مدينة جديدة أو البدء في عمل جديد: الرجال والنساء المضروبون بالهوى يتبنَّون كلَّ سبل الاهتمامات الجديدة، والمعتقدات، وأساليب الحياة المختلفة، إرضاءً لأحبَّتِهم.
العشاق يُعيدون ترتيب حيواتهم لكي تتوافق مع أحبَّتِهم.
(١٢) الاعتمادية العاطفية
ولأن العاشق دائمًا ما يكون معتمدًا على المحبوب، فإنه دائمًا ما يعاني من «اضطراب الانقسام» حينما يكون بعيدًا عن حبيبه.
العشاق ليسوا إلا عرائس ماريونيت تتدلَّى من خيوط يحملها آخرون.
(١٣) التقمُّصُ العاطفيُّ
كنتيجة لما سبق، يشعر العشاق بتقمُّص عاطفي هائل نحو المحبوب. في استطلاعي، وافق ٦٤٪ من الرجال و٧٦٪ من النساء على العبارة: «أشعر بالفرح حينما يكون/تكون … سعيدًا/سعيدة، وحزينة حينما يكون حزينًا.»
(١٤) الفجيعةُ تُؤجِّج الهوى
في تلك الدراما كان هناك مالك أرض حاد المزاج، جريجوري ستيبانوفيتش سميرنوف، يزور بيت أرملة شابة ليستردَّ بعضَ مال كان زوجُها الراحل قد اقترضه منه. رفضت المرأة دفع كوبيك واحد. إنها في فترة حداد، قالت تفسِّر له، وسرعان ما راحت تصرخ في وجهه: «لستُ في مزاجٍ نفسيٍّ يسمح لي بالاهتمام بشئون المال.» أشعل هذا غضبَ سميرنوف ضد كل النساء، فراح ينعتهن ﺑ المنافقات، المرائيات، الزائفات، الثرثارات، الفضائحيات، الحقودات، طويلات اللسان، الكاذبات، الحقيرات، التافهات، قاسيات القلب، وغير المنطقيات. «برررر»، هكذا دمدم: «أنا أرتجفُ في معطفي المصنوع من الفراء». فورة غضبه أشعل بدوره فورةَ غضبها، فبدأ كلاهما يكيلان لبعضهما البعض الإهانات والشتائم. وسرعان ما طلب المبارزة. تملَّكَتها شهوة أن تصنع ثقبًا في رأسه، أحضرت الأرملة مسدسَين كانا يخصَّان زوجَها الميت، ثم أخد كلٌّ منهما موقعَه.
وبينما أخذت الضغينة تنمو بينهما، بدأ ينمو كذلك الاحترامُ المتبادل – ثم الانجذاب. وفجأة هتف سميرنوف: «الآن هذه هي المرأة! أُدركُ الآن! المرأة الحقيقية! ليست نحَّابةً شكَّاءةً واهنةً هشَّة، إنما هي كرةٌ من اللهيب، صاروخ، كتلة بارود! من العار قتلها!» بعد دقيقة أعلنَ لها حبَّه الأبدي وسألها أن تكون زوجته. وبينما كان خدمها يتدافعون داخل غرفة المعيشة للدفاع عن سيدتهم بالفئوس، والبلطات، ومذرَّات القمح، فوجئوا بالعاشقَين منصهرَين في عناق محموم.
تلك العلاقة الشاذة بين الفجيعة وحرارة الغرام يمكن رصدها لدى كلِّ العشاق المأزومين سيِّئي الحظ في أساطير العالم التاريخية العظمى. تُغذِّي الصعوباتُ الهوى على نحو ما، أو آخر، كأنما العشاق يسعَون نحو العسير من الصعاب.
خمسة وستون بالمائة من الرجال و٧٣٪ من النساء في استطلاعي وافقوا على عبارة: «لن أكفَّ أبدًا عن حب … حتى حينما تسوء الأحوال جدًّا.» ووافق ٧٥٪ من الرجال و٧٧٪ من النساء على عبارة: «حينما تتراجع علاقتي مع … أحاول بكل قوتي أن أُعيدَ الأمور إلى نصابها.»
إحدى أكثر النتائج غير المتوقعة في استطلاعي كان تقريبًا يشير إلى دور الفجيعة في الحب. المثليون جنسيًّا، من الرجال اللوطيِّين والنساء السحاقيات، كانوا دائمًا يسجلون اضطرابًا أكبر وقلقًا عاطفيًّا أكثر من الطبيعيين. أولئك الأشخاص يُعذَّبون أكثر بالسُّهاد والأرق، وفقدان الشهية، والتوق للتوحد العاطفي مع المحبوب. وأظن أن هذا الألم النفسي يحدث، ولو جزئيًّا، بسبب الحواجز الاجتماعية التي بالتأكيد تُواجه العشاق المثليِّين.
أولئك الذين أجابوا استطلاعي وهم يفكِّرون في الحبيب السابق بدَوا أيضًا يعانون من الهشاشة العاطفية. لقد عانوا كذلك من أوقات عصبية دون طعام أو نوم. كانوا خجولين أو أفظاظًا مع عشَّاقهم القدامى. لقد عانوا أكثر من «التفكير المقتحِم» وكذلك من تقلبات المزاج المتأرجح. وسجَّلوا تسارعًا في خفقان القلب في لحظات التفكير في لهيبهم القديم. أظن أن كثيرًا من أولئك المستجيبين قد تمَّ رفضُهم من أحبَّتهم، وأن تلك الفجيعة الموجعة قد ألهبَت تأججهم العاطفي.
مثل زورقٍ في بحرٍ متلاطم الأمواج، يركب الرجال والنساء أمواجَ الكآبة العاتية وأمواج البهجة. إذا تزوجت مَن تحب بشخص آخر، أو تزوج مَن تحبِّين بأخرى، إذا كان أو كانت تعيش في بلد بعيد وراء البحار، إذا كنت تتكلم لغة مختلفة، أو كنت تنتمي إلى عِرق مختلف، أو حتى كنتَ قادمًا من منطقة أخرى من المدينة، كل تلك العقبات قد تؤجج العاطفة الرومانتيكية.
يقول ديكينز في هذا: «الحب يعلو إلى قمة نموه الخصب مع الفراق وتحت وطأة المصاعب القصوى.» للأسف هذا حقيقي.
(١٥) الرجاء والأمل
«قل إنني ربما أعيش في الرجاء.» هكذا توسَّل بيروس لأندروماخي في دراما «راسين» حول الحب والموت. لماذا يستمر العشاق في الأمل، حتى حينما يكون نرْد الحياة ضدهم على نحو قاس؟ معظمهم لا يزال محتفظًا بالأمل في أن تعودَ علاقاتُهم الموءودة للحياة من جديد، بعد مرور سنوات من انتهائها على نحوٍ مرير. الرجاء سمةٌ غالبةٌ أخرى من سمات الحب الرومانتيكي.
أظن أن ذاك الميل للرجاء مزروعٌ في مخ الإنسان البشري منذ الحقب السحيقة. لهذا كان أجدادنا على نحوٍ عنيد يطاردون أقرانهم حتى انتهاء آخر لمحةٍ ممكنة من الرجاء.
(١٦) الاتصال الجنسي
الشِّعر في كلِّ أنحاء العالم يشهد على العشَّاق وعلى تَوْقِهم العنيف للتواصل الجنسي مع المحبوب، سمة أساسية أخرى من سمات الحب الرومانتيكي.
ليس من العبث أن نجد دائمًا مشاعر الرومانسية مجدولة ومضفورة بالتَّوق الجنسي. ومع هذا، إن كان العشق قد تطور عبر الزمن مع أجدادنا لكي يدفعَهم أن يركزوا طاقة عشقهم على شخص «واحد» بعينه، على الأقل حتى يكتملَ التخصيب، (كما سأوضح في فصل لاحق)، إلا أن الحب الرومانسي لا بد أن يقترنَ بالرغبة الجنسية.
تُكرِّس نتائجُ استطلاعي تلك الظاهرة. ٧٣٪ من الرجال و٦٥٪ من النساء يحلمون آناء الليل وأطراف النهار بممارسة الحب مع عشَّاقهم.
(١٧) الحصرية الجنسية
يشتهي العشاق كذلك الحصرية الجنسية. لا يحبون أن تُلطَّخ علاقاتهم «المقدسة» بالغرباء. حينما يرغب شخصٌ ما أن يشارك صديقةً في الفراش، فإنه لا يعبأ كثيرًا ما إذا كان لرفيقة الفراش تلك رفيق آخر أم لا. ولكن ما إن يقع الرجلُ أو المرأة في الحب ويبدأ في التوق للتوحد العاطفي مع محبوبه، فإنه يطلب الإخلاص الجسدي الحصري من حبيبه.
تعكس العديد من قصص الحب العالمية تلك الحصرية الجنسية، مثلما تعكس رغبةَ العشاق في الحفاظ على إخلاصِ أحبَّتِهم. على سبيل المثال، حينما تم إقصاؤه عن حبيبته إيزيولت الجميلة، أحبَّ ترستان امرأة أخرى لها الاسم نفسه، فقط لأن تلك المرأة تحمل نفس لقب حبيبته نفسه. ولكن ترستان لم يستطع أن يُجبرَ نفسه على إتمام عملية الزواج على النحو الكامل. وفي الملحمة العربية، حينما خُطبت ليلى وتم زفافها إلى رجل آخر غير حبيبها المجنون قيس، كانت ليلى كذلك تتهرب من فراش الزوجية. وحوالي ٨٠٪ من الرجال و٨٨٪ من النساء في استطلاعي وافقوا على العبارة: «الولاء الجسدي أمرٌ شديد الأهمية حينما نقع في الحب.»
ولكن يتزامن مع هذا الدافع لتأكيد الولاء الجنسي أثناء فترة الغزل، ظهورُ ضيف غير مرغوب فيه، إنه وحش شكسبير أخضر العينين: الغيرة.
(١٨) الغيرة: «رفيقة الحب»
(١٩) التوحُّد العاطفي ينتصر على التوحد الجنسي
ولكن حتى الرغبة في تبادل الممارسة الجنسية والتوق للإخلاص الجنسي تظلان أقل أهمية بالنسبة للعاشق من الحنين للتوحد العاطفي مع المحبوب. الرجل أو المرأة الواقعان في الحب يودُّ كلٌّ منهما أن يهاتفَه المحبوب ليقول له: «أنا أحبُّك»، أو أن يأتيَها بالزهور أو أي هدية رمزية، أو أن يدعوَها لمباراة رياضية أو للمسرح، أن يضاحكَها ويحتضنَها، وأن يغمرَها بالاهتمام. يتحرَّق العاشق شوقًا لأن ينالَ اهتمامَ حبيبه. هذا التوق العاطفي يفوق بمراحل الرغبة في مجرد الإشباع الجنسي.
خمسة وسبعون بالمائة من الرجال و٨٣٪ من النساء في استطلاعي وافقوا على عبارة: «أن أعرف أنَّ … واقعٌ في غرامي أهم كثيرًا من أن أمارس معه/معها الجنس.»
(٢٠) الحب اللاإرادي، غير المُسيطَر عليه
كم من العشَّاق وقعوا في شَرَك تلك القوة المغناطيسية؟
بلايين، ربما.
الرجال والنساء المعاصرون يشعرون أيضًا بذلك العجز الذي يصاحب تجاربهم. ستون بالمائة من الرجال و٧٠٪ من النساء في استطلاعي، وافقوا على عبارة: «الوقوع في الحب لم يكن بالفعل اختيارًا؛ إنه وحسب قد ضربنا.»
(٢١) حالةٌ عابرة
ولكن، كما أن الحب يأتي دون دعوة، بوسعه أيضًا أن يتبخَّر. وكما غنَّت فايوليتا، في أوبرا فيردي التراجيدية «لا ترافياتا»: «دَعْنا نعيش للبهجة وحدَنا، طالما الحبُّ، مثل الزهور، سرعان ما يذبل.»
لأيِّ أمدٍ يستمر سحرُ الحب؟
على أن هذه النيران في القلب تميل إلى أن تخبوَ إذا ما انخرط العشاق في حال الاستقرار اليومي في المتع؛ حيث يتم إحلاله في منطقة أخرى من المخ: التواصل، الشعور بالسكون والتوحد مع المحبوب.
(٢٢) الصور المتعددة للحب
بالطبع، بوسع الحب الرومانتيكي أن يتخذ أشكالًا عدَّةً. بوسعك أن تستيقظ وحيدًا في منتصف الليل تغمرك مشاعر اليأس والإحباط. ثم تأتيك مهاتفة أو إيميل من حبيبتك في الصباح فتبدأ آمالُك في الانتعاش. ثم تقابل حبيبتَك على العشاء فتتكلم وتضحك فتتحول فورةُ مشاعرك إلى حال من الأمن والسلام. بعد العشاء تقفزان على فراشك معًا في كتاب، وسرعان ما تغمرك الرغبة الجنسية. ثم في الصباح تختفي حبيبتك وقد نسيَت أن تقول لك: إلى اللقاء، ثم تُخلف معك موعدَها القادم أو تُخطئ وتناديك باسم آخر، فتدخل في اليأس والقنوط والكآبة من جديد.
«يا لَها من مطاردة للفرح وسعي محموم نحو ما لا يأتي! يا لَه من صراع من أجل ما يهرب! يا لَها من لعبة الرق والمزمار! يا لَها من فورة البهجة المتوحشة؟» هكذا كان يعرف جون كيتس بوضوح أن الحبَّ الرومانسيَّ ما هو إلا ثورة اضطراب جُماعها دوافعُ متباينةٌ على نحوٍ وحشيٍّ ومشاعر مختلطة من حالات ذهنية لا حصر لها. العطف والحنان، الفرح، الرغبة، الخوف، القلق، الشك، الغيرة، الترقب، الارتباك، عدم الارتياح، الخجل: في أية لحظة يمكن لهذا التليسكوب من المشاعر أن ينزاح، ثم يعاود الانزياح من جديد لزاوية جديدة.