المغناطيسية الحيوانية
بينما عواصفُ فبراير الثلجية تدثِّر مروج هوكايدو باليابان، وفي غمرة الشتاء الأبيض، يوجه الثعلبُ الأحمر الذكر بصرَه صوبَ أنثى الثعلب. يحدِّق فيها بتركيز، يتتبَّعُها بهوس. يتوقف حينما تسكن، ينحني ويلعق ويقضم برفقٍ وجهَها، ثم يبدأ في التقافز جوارها في مرح وهي تركض. ثم تنبثق من بوله رائحةٌ مميزةٌ على الجليد. إنه وقتُ التزاوج. وما إن تنتشر تلك الروائح على الصقيع الهش، يبدأ الرفيقان في التودُّد والترافق والتزاوج لحوالي أسبوعين. ثم يبدآن في نَشْر روائحهما في الغابات والحقول ويحفران الجحورَ العديدة حيث سيربِّيان صغارهما.
طاقةٌ مفرطة، تركيزٌ يقظٌ على الشريك، مطاردة عنيدة، ثم فائض من اللعق الحنون والقضم المدلل الرفيق المداعب، يمنحها كلُّ ثعلب لأنثاه. كلُّ تلك الأمور تستدعي في ذاكرتنا مشاهدَ الحب الرومانسي بين البشر. وما الثعالب إلا فصيلٌ من الثدييات التي تُظهر سمات الحب الرومانسي في عالم الحيوان.
في بداية موسم التناسل أو سباقات التزاوج، يختار الكثيرون شركاءَ معينين، ثم يركزون انتباهَهم على هذا الشريك «الخاص»، غالبًا على نحوٍ حصريٍّ دونًا عن بقية الحيوانات من حولهم. يوفر كلَّ طاقته لمطاردة «تلك» الأنثى، وتوفر الأنثى طاقتَها لمطاردة «ذاك» الذكر. يُباغت، يُقبِّل، يلعق، يقضم، يدسُّ خطمه ويشمُّ، يربِّت، يجرُّها بقوة، أو يطارد بمرح تلك الشريكة المُختارة. البعض يغني. البعض يصهل. البعض يُصدر صوتًا حادًّا كالصرير، أو ينعق بصوت أجش، أو ينهق، أو ينبح. البعض يرقص. البعض يختال في مشيته. البعض يتبختر. البعض يلاحق ويطارد. والمعظم يلعب. على الأراضي العشبية في سيرينجيتي الأفريقية، في أدغال الأمازون، المنطقة المتجمدة من القطب الشمالي، تُظهر الكائنات الضخمة والضئيلة طاقاتٍ مفرطةً هائلة في مغازلة الإناث. الفجيعة تُؤجج سعيَهم المحموم نحو الشريك — تمامًا مثلما تُشعل العوائقُ المشاعرَ لدى الإنسان. والبعض يصبح استحواذيًّا غيورًا نحو رفيق ما، ضد مُغازل آخر حتى تمرَّ فترة الإخصاب والتناسل.
حالات الغزل تلك شبيهة ببعض الخصائص في العشق الرومانسي لدى البشر. لهذا أعتقد أن الحيوانات تحب. معظم الكائنات ربما تشعر بتلك المغناطيسية لثوانٍ معدودة فقط؛ البعض الآخر ربما يظل مفتونًا لساعات، لأيام، أو لأسابيع. لكن الحيوانات تشعر بنوع ما من الانجذاب لحيوانات «بعينها». العديد بوسعه حتى أن يقع في الحب من النظرة الأولى. من تلك «الجاذبية الحيوانية» أعتقد أن الحبَّ الرومانسي لدى البشر قد انبثق بكل تأكيد.
(١) الجاذبية الحيوانية
يعد داروين من العلماء القلائل الذين اتفقوا على أن الحيوانات تشعر بالحب فيما بينها. علماء التاريخ الطبيعي وعلماء الحيوان عادة يصفون الغضب والخوف لدى الكائنات الأخرى. يشاهدون مرح الحيوان فيعتقدون أنه يشعر بالبهجة. يصفون حالات التعبير عن المفاجأة، الخوف والهرب، الفضول، والنفور. حتى إنهم سجلوا لحظات الخضوع العاطفي والغيرة. لكن العلماء نادرًا ما قالوا إن الحيوانات تقع في الحب، حتى ولو وصفوا مشاهد الغزل بين الحيوانات تلك المليئة بإشارات للسلوك الذي يسلكه الإنسان في حالات عشقه الرومانتيكي.
الأفيال الأفريقية مثالٌ جيد. تأتي أنثى الفيل الأفريقي في فترة الدورة الذروية (أو الحرارة) في حوالي خمسة أيام متعاقبة في أيِّ وقت خلال العام. إذا حدث وحملت نتيجة تزاوج في تلك الفترة، تنتهي رغبتُها الجنسية طوال فترة حملها الاثنَي وعشرين شهرًا وخلال عامَي الحضانة التاليَين. معظمها لا تتزاوج ثانية خلال الأربعة أعوام التالية. لهذا تبقى تلك الإناث مرافقة لأزواجها حصريًّا. الإناث تفضِّل البعض، وترفض الآخرين. ولأنثى الفيل معجبون كثيرون لتختار من بينهم. تهجر ذكور الأفيال جماعة الميلاد الأمومية بمجرد البلوغ (الذي يحدث بين عمر العاشرة والثانية عشرة) لكي يتجولوا مع ذكور آخرين في تجمعات ذكورية صغيرة. ولكن ليس بعد الثلاثين من عمره يصل الفيل إلى حال العنفوان الذكري.
حالة الهياج الذكري لدى الأفيال تعتبر إعلانًا عن الرغبة الجنسية. إذا كنت تظن أن النساء في تنورات قصيرة ضيقة، وبلوزات منخفضة دون أكمام، وأحذية بكعوب عالية يتباهين برغباتهن الإيروتيكية، فإنك لا بد أن ترى ذكور الفيلة. إذا ما دخل الذكر في حال الهياج الجنسي، تلك التي تستمر شهرين أو ثلاثة كل عام، فإنه يبدأ في إفراز سائل لزج من الغدة التي تقع في منتصف المسافة بين العين والأذن في كل جانب. ويدر البول باستمرار. يصبح غلاف عضوه الذكري سميكًا مغلفًا برغوة ذات اخضرار وبياض. ثم يفرز رائحة لاذعة جدًّا حتى يكون بوسع الإناث أن يشممنَ رائحته قبل رؤيته. وما إن يقترب من قطيع الإناث حتى يشرع في التبختر والغزل، ويبدأ هياجه الجنسي في الاشتعال. الرأس مرفوع عاليًا، الذقن منثنية، الأذنان تتماوجان بقوة، الخرطوم يرتفع لأعلى ويُصدر صوتًا خفيضًا يعبر عن الثقة بالنفس، فيما يتقدم بخطوات واسعة.
تجد إناث الفيلة كل تلك الإفرازات، ورائحة الذكورة تلك، و«مشية العنفوان الجنسي» هذه، جاذبةً على نحو هائل. تنجذب الإناثُ اللواتي في دورتهن الشبقية مثلما تنجذب الفتيات لنجوم الروك. هكذا كانت «تيا». خلال السنوات العديدة التي تتبعت فيها عالمة العلوم الطبيعية «سينثيا موس» جماعات التيا الأمومية في الأفيال الأفريقية المنتشرة عبر حدائق أمبوسيلس القومية في كينيا، شاهدت العديد من الإناث يخترن شركاءَهن على نهج «تيا».
لا تُظهر «تيا» أيَّ اهتمام بالذكور الشباب الصغار الذين يتزاحمون حولها حينما تبدأ فترة دورتها الشبقية. تمشي بعيدًا حين يحاول الذكور أن يعرقلوا حركتها فوق الأعشاب. لأن حجم إناث الفيلة حوالي نصف حجم الذكور، فإن المدربات فقط يمكنهن الإفلات أو المراوغة، تقريبًا من أيِّ ذكر يرغبن في تجنبه. هذا بالضبط ما تفعله «تيا». ولكن حينما ترى تيا ذكرًا هائلًا، أو مسيطرًا، ذكرًا كبيرًا في ضخامة العنفوان الشبقي، تغيِّر «تيا» رأيها.
تريد «تيا» الفيل الضخم الهائج لحظة تشاهده يختال في مشيته، بينما يتقاطر الاستحلابُ من أُذُنَيه، وشلال البول من بين ساقَيه، والرغوة تخرج رذاذًا من عضوه الذكري. نفحة واحدة من روائح هذا الفحل تجعل الذكور الصغار يمضون إلى حال سبيلهم. وليس «تيا» طبعًا. تنظر تيا إلى الفيل الفحل، فترفع أُذُنَيها عاليًا في وضع شبقي. ثم تبدأ هي الأخرى في المُضيِّ بعيدًا. ولكن عكس ما تفعل مع معجبيها من الذكور الشباب، تبدأ تيا في النظر من فوق كتفَيها وهي تمضي بعيدًا، ترمق بين الحين والحين لترى إن كان فحلها الفيل يتبعها. وبالفعل يكون. وهكذا تبدأ المطاردة الشبقية.
الآن تبدأ رقصة الطبيعة الأبدية. حينما يُمسك الفيل الفحل بأنثاه تيا، ينبثق العضو الذكري ذو الأربع أقدام طولًا على نحو التقريب، من الغمد العميق الرمادي. ثم يضع رقبة خرطومه الطويل على ظهرها. تتوقف؛ تقف ساكنة، تعود للخلف نحوه لتشتبكَ به، دون حراك، وسيقانها منفرجة. يعتلي الذكر بحيوية، ثم يوجِّه عضلة قضيبه القوي بكل قواه، ليُغرقَه في فرجها. يقفان معًا لحوالي خمس وأربعين ثانية قبل أن يهبط الذكر. وينسحب. ويتدفق ما تبقى من السائل المنوي في التراب. تدور تيا لتقف جواره. وعلى نحو متكرر تطلق صوتها الخفيض نحوه، ثم تمسح رأسها في كتفه.
هل يمكن أن يكون حبًّا؟ افتتانًا مؤقتًا؟ عاطفة قصيرة الأمد؟ تيا والفيل الفحل القبيح كلاهما ركَّز انتباهه بالكليَّة على الآخر. كلاهما أظهر طاقةً مفرطة. لا أحدَ منهما عاد يأكل أو ينام بانتظام كما تفعل الأفيال. وكلاهما يلمس و«يتكلم» في حوار بصوت «فِيَلي» خفيض وعذب وطويل. تيا كانت تبدو، وإن على نحو مؤقت عابر، مأخوذةً على نحو كامل ومنجذبة نحو ذلك الذَّكر الفحل القوي الفخور المختال المتين جسديًّا.
الحب بين القنادس يحيَا على نحو أقل إمكانية على الملاحظة. ولكن تلك الكائنات تُظهر أيضًا إشاراتٍ للانجذاب المفرط في أوقات المغازلة والتزاوج. خذ أسماك «سكيبر» مثلًا. سمكة «سكيبر» تنمو في بحيرة الزنابق في حديقة ولاية هاريمان، نيويورك، تحت رعاية أبيه، «المفتش العام»، وأمِّه «الزنبقة».
تعيش القنادسُ في مجموعات عائلية صغيرة. تعمل وتمرح في الليل. وتبقى الصغارُ مع أبوَيها لعامين تقريبًا قبل أن تبدأ في المشي بتعثُّر في إحدى الليالي الربيعية لتبحث عن وليف ثم بناء أسرة والاستقلال بمسكن منفرد. أسماك سكيبر تفعل الشيءَ ذاتَه؛ يرحل الذكر مع شقيقته، لوريل، في إحدى أمسيات أبريل المقمرة. الإخصاب مشترك بين القنادس، وفي ذلك المساء يتحرك الشقيقان إلى وادٍ قريبٍ ليُشيِّدا سدًّا وبحيرة. وسرعان ما ترتفع المياه. تبدأ الحشرات في الفقس مجتذبةً الضفادع، والطيور شمعية الأجنحة، وملك العصافير. وتبيضُ الأسماك، إيذانًا بدقِّ جرس الطعام للنباتات الأفريقية الجائعة. أشجار الصفصاف، شجر الحور، والسوسن الأصفر المنتشرة على طول الضفاف. يستقر داخلها سكيبر ولوريل. ولكن للأسف، في إحدى الليالي، تخفق لوريل في العودة من رحلة البحث عن طعامها بين أشجار القيقب، والبلوط، والصنوبر التي تكسو الوادي؛ فترقد ميتةً على الطريق المجاور.
في الأمسيات التالية يعود سكيبر إلى بحيرة الزنبق. وطوال الصيف يساعد سكيبر أبوَيه على تشييدِ السدِّ الخاص بهم، وتعميق القنوات وتنظيفها، وتجميع الزنابق، والمرح مع الصغار الجدد. الشجيرات العنبية والأعشاب التي تنمو في المناطق المعتدلة والباردة ذات الأزهار الصفراء والبيضاء. ولكن ما إن تتحول الأوراق إلى اللونَين الأحمر والذهبي، يرحل سكيبر مجددًا عائدًا إلى بحيرته المهجورة. وعلى نحوٍ حذرٍ يبدأ في إعادة بناء سدِّه المتهدم. وبحذر يبدأ في دفع الطمي نحو الشاطئ، ثم ينظمه على هيئة أهرامات، بعدها يبدأ في نثر تلك التلال بزيت عطري يُفرزه من غدَّتِه الشرجية وزيوت نباتية من فتحاته التناسلية. عبر تلك الإعلانات اللاذعة يأمل بطريقته القندسية أن يُغريَ «زوجته» ويجتذبَها.
الطبيعة تؤدي دورَها. بعد ليالٍ قليلة، شاهدَت عالمة التاريخ الطبيعي هوب رايدن سكيبر على ضوء القمر. ظهر فجأة من المياه الصاعدة متبوعًا بقندسة أنثى صغيرة بُنيَّة اللون. يتلامس الاثنان من أنفَيهما، ثم يسبحان معًا، يجمعان العصيَّ ليملآ سدَّ الأحجار. وكمعظم القنادس، يلتصق القندس بعروسه السمراء على نحوٍ مختلس في موات الليل، ثم يترافقان مدى العمر – أشهر طوال قبل أن تصلَ الأنثى لدورتها الشبقية الجديدة.
فبإحدى أمسيات أبريل، يُكمِل زوجَا القندس زواجَهما. سكيبر وعروسه الصغيرة يطلعان من البحيرة المضاءة بنور القمر يحملان العصية ذاتها بين أسنانهما. يتشقلبان مرة ومرات فوق بعضهما في تلذُّذ بدَا لرايدن كأنما يلعبان. يغطسان ويُجدِّفان ويُثرثران معًا بأصوات عذبة تُشبه الصوتَ البشريَّ تقريبًا. كأنما لا يمكن فصلهما. لا بد أنهما تزاوجا تحت الماء؛ لأن عروس سكيبر الصغيرة، مع بدايات أغسطس، تَلِد صغيرَين سمينَين.
مثل الفيلة، تُنفق القنادس طاقةً هائلة في الغزل. مثل الأفيال، يركِّز القندس كلَّ اهتمامه على رفيق «خاص» بعينه. مثل الأفيال، تتلامس القنادس بأنوفها على نحوٍ عاطفي وتلعب وتتغازل في حنوٍّ، لدرجة أنني أجرؤ لأقول: «إنه الحب.»
(٢) الجنون والبهجة
ثمة العديدُ والعديد من أوصاف الجاذبية بين الحيوانات من المستحيل سردُها جميعها. قرأت عن حيوات العشق بين عدة مئات من فصائل الحيوان، وفي كل مجتمع حيواني، يُظهر الذكور والإناث خصالًا من الغزل تُعد مكونات مركزية من العشق الرومانسي بين البشر.
(٣) الهياج العصبي
غزلُ الحيوانات أيضًا عصبيٌّ وقلقٌ. الأولاد المراهقون مزعجون فيما يخص المواعيد الغرامية، يشبهون قردة البابون الأفريقية في السافانا، كما أوضحت عالمة الحيوان التي تدرس الرتب الحيوانية من القرَدَة والإنسان، «بارب سماتس». لسنوات، تتبَّعت سماتس تلك الحيوانات خلال روتينها اليومي في أراضي كينيا العشبية وكتبت وصفًا مؤثرًا في الغزل بين تاليا وألكسندر.
بدأت الحكاية حينما وصلت تاليا، اليافعة، قمةَ دورتها الشبقية. لشهور ظلَّت تتجنَّب ألكسندر، مراهق آخر كان قد انضم لجماعة قردة بابون قبل شهور قليلة. ولكن مبكرًا في ذلك المساء، جلست تاليا وألكسندر يفصل بينهما متران عند حافة الجرف الصخري الشاهق حيث يتجمع أعضاء الجماعة للنوم. لاحظت سماتس:
وبقيت تاليا مع ألكسندر حتى الفجر ساكنين.
(٤) فقدان الشهية
ذكر الفيل الشمالي في حال الغزل، يفقد تقريبًا نصفَ وزنه. وبينما يقترب موسم التزاوج ذو الأشهر الثلاثة، تظهر الذكور على طول ساحل كاليفورنيا لتطالب بأنصبة من الشاطئ. تتعارك بشراسة لتؤمِّن أنصبتها؛ لدرجة أن أمواج حدود الشاطئ تتحول للون الأحمر بفعل الدماء المُراقة. لماذا كل هذا الهياج؟ لأن الإناث سرعان ما تَصِل لتحمل صغارها ثم تعود إلى دورتها الشبقية — سريعًا. الذكور الذين يحوزون أفضل القطع من الحيازة المكانية سوف يمارسون الجنس مع أضخم الحيوانات من الإناث. لذلك فالذكور لا تقبل مبارحة مقاطعاتها دون حماية ولو لساعة واحدة. حتى إن الطعام، النوم: تلك الأساسيات تفقد أهميتها، في تلك الأثناء.
القردة من فصيل إنسان الغاب أيضًا تفقد شهيتَها النهمة للطعام. تلك الحيوانات التي تُشبهنا تسكن الأعالي في أشجار أدغال بورنيو وسومطرة، نحو ستين قدمًا فوق سطح الأرض. حينما ينضج الذكَر يتغضَّن خدَّاه إعلانًا عن وصوله مرحلة البلوغ، فيبدأ في تعليم وحماية مقاطعة كبيرة مليئة بأشجار الثمار. إناث عديدة يشيِّدن مناطق صغيرة للسكن ضمن مساحة الأرض التي حازها. كل صباح يوقظ الذكَر المجاورة السكنية بخليط من الدمدمة متبوعةً بزئير كالخوار لكي يُعلنَ عن مكانه، وجاهزيته للجنس. وعندئذٍ، حينما تدخل إحدى الإناث في دورتها النزوية، يبدأ الذكَرُ في تتبُّعها بإصرار عبر متابعة آثارها على أوراق الشجر. تبقى الأنثى قابلة للإخصاب لحوالي خمسة أيام فقط. فإن حملت أثناء تلك النوبة الغزلية فلن تعاود الدخول في الدورة الشبقية لأكثر من سبع سنوات. لذلك على الذكَر أن يظلَّ جوارها باستمرار طوال فترة سخونتها، وفي الوقت نفسه يحارب المنافسين من الذكور. وما يجعل الأمور أسوأ، أن ذكَر إنسان الغاب يبلغ ضعف حجم الأنثى؛ لذلك يتحرك أبطأ كثيرًا منها ويأكل أكثر كثيرًا. ومن ثَم فعلى الذكَر أن يُفوِّت الوجبات لكي يسايرَ خفَّةَ حركةِ رفيقتِه الرشيقة.
أظن أن كيمياء المخ في حال الجاذبية العاطفية قد تغلَّبَت على احتياج هذا الذكَر للطعام.
(٥) المثابرة والإصرار
الحيوانات أيضًا متشبِّثة مثابرة؛ فمعظمها لديه فُرَص قليلة في الحياة للانتصار على غرمائهم المنافسين، والتزاوج بالشركاء المتاحين، والتناسل. لهذا يُثابرون.
هذا الإصرار، الذي يمكن رصده في العديد من المخلوقات — من الفراشات إلى وحيد القرن — هو صكُّ دمغة في الحب الرومانتيكي لدى الإنسان.
(٦) العاطفة
معظم الحيوانات المُغازِلة تُظهر أيضًا علاماتِ الرقَّة والحنو، أكثر السمات سحرًا في الحب الرومانسي بين البشر.
ذكَرُ الدُّبِّ الرمادي المخطط يتقرَّب بأنفه من خصر أنثاه ويتنفَّس في أُذُنِها، وينشج بحنوٍّ لكي تقبِّلَه. ذكرُ الزراف يحكُّ رأسه في عنق أنثاه وجزعها. إناث النمور تقرص ذكورها، ويعضضْنَ برقَّة أعناقهم ووجوههم وهنَّ يمسحْنَ أجسادهن في أجسادهم. أزواج الخنازير البحرية تسبح معًا، أحيانًا فوق بعضها البعض، أو تحت بعضها البعض. ولكنهما دائمًا مترادفان، وهما يضربان الماء، ويتلامسان، ويتعانقان، و«يُقبِّلان» بعضهما البعض. التشيمبانزي يعانق، يُربِّت، ويُقبِّل أحدهما الآخر في الأفخاذ والبطون. إنها حتى تعرف كيف تُقبِّل «القُبلة الفرنسية» العميقة؛ حيث يُدخل أحدهما في فم الآخر لسانَه ذا الأهداب المخملية. حتى ذكور الصراصير تضرب إناثَها بقرون استشعارها.
(٧) حب الجراء الصغيرة
في كتابها الشهير: «الحياة السرية للكلاب»، أقرَّت إليزابيث مارشال توماس أن الكلاب تُبدي عواطفَ رومانتيكية عميقة نحو رفقائها. وصلَت إلى هذه الخلاصة بعد دقائق من تقديمها «ميشا»، كلب الهاسكي السيبيري الوسيم، إلى «ماريا» الكلبة الصغيرة الجميلة التي تخصُّ ابنتها. وكانت من الفصيلة نفسها. استقبلَت إليزابيث الكلب ميشا في بيتها حينما ذهب أصحابُه إلى رحلة طويلة في أوروبا.
(٨) الحيوانات انتقائية
الطاقة المفرطة؛ التركيز الموجَّه لمُثير واحد بعينه من أجل مطاردة ومغازلة هذا الشريك «الخاص»؛ فقدان الشهية، المثابرة والإصرار، الضرب الحنون، التقبيل، اللعق، الاحتضان والتلامس، واللعب الإيروتيكي العابث: كلُّها سماتٌ لافتةٌ للنظر من سمات الحب الرومانسي بين بني البشر. سمِّها ما شئت، إلا أن العديد من الكائنات تقع في الجاذبية الغرامية.
على أن الحيوانات انتقائيةٌ، تُجيد الاختيار.
من بين كلِّ الخصائص التي تميِّز الحب البشري من تلك التي تُظهرها الكائنات الأخرى، ربما ليس أكثرَ جلاءً من تلك الاختيارية. ففي حين لا يمكنني أنا أو أنت أن نقفزَ في الفراش مع أيِّ شخص يحاول الإثارة، كذلك ليس من كائن فوق هذا الكوكب يقبلَ أن يُهدِر ثمين الوقت أو الطاقة في التزاوج من دون اختيار ورغبة حقَّة. فالحيواناتُ ترفض بعضَها في حين تقبل البعض الآخر.
من بين فصيل التشيمبانزي العادي الذي ظلَّت تدرسه عالمةُ الحيوان والتراتب التطوري بين القردة والإنسان، بروفيسور «جين جودال» على مدى أربعين عامًا في تنزانيا، كانت القردة «فلو» هي الأكثر شعبية. حينما دخلَت دورتها الشبقية عام ١٩٨٣م، كانت تُتبَع في أيِّ مكان تذهب إليه بقطيع من الذكور قوامه ١٤ قردًا يافعًا، كانوا راغبين أيضًا في الدخول مباشرة في خيمة جودال فقط لكي يكونوا على مقربة من تلك الأنثى المفضَّلة «فيفي»، ابنة «فلو»، كانت أيضًا مطاردةً من الذكور — أكثر كثيرًا من صديقتها، بوم. للتشيمبانزي تفضيلاته وانتقاءاته.
الأسود، قردة البابون الأفريقية والآسيوية، الذئاب، الخفافيش، وربما حتى الفراشات، جميعها تميِّز بين المغازلين، فتصرُّ على تجنُّب مرافقة البعض، وتُثابر من أجل التركيز على التزاوج وتركيز طاقتها الرومانتيكية مع البعض الآخر.
«جميع» الحيوانات انتقائية. للحق، فإن تلك التفضيلية شائعةٌ جدًّا في الطبيعة حتى إن أدبيات الحيوان تستخدم مصطلحاتٍ عديدةً في وصفها، بما في ذلك: «تفضيلات التزاوج»، «انتقائية ما قبل الجنس»، «التفضيلية الفردية»، «الاختيار الجنسي»، و«اختيار الشريك».
انتقائيٌّ هو الحيوان، ذاك أن معظم الحيوانات تعبر بجلاء وبسرعة، عن تفضيلاتها.
(٩) الحب من النظرة الأولى
أظهرَت فيوليت كلَّ عواطف الحب نحوه منذ اللحظة الأولى.
وسلوكُها شائع في الطبيعة، لسبب مهم: معظم إناث الكائنات الحية لديها موسمُ إخصاب أو دورة حيوية أخرى معينة تلك التي تنضج فيها سيكولوجيًّا. لديهن فقط دقائق قليلة، ساعات، أيام، أو أسابيع، للتزاوج والحمل، ثم ينشرْنَ فصيلهن وجيناتهن الوراثية. ليس بوسعهن أن يُهدرْنَ الأشهر في مراجعة السيرة الذاتية لكلِّ مغازل على حدة. ثم إن طقس الغزل قد يكون شديد الخطورة؛ فعملية الجماع تضع الحيوان في وضعِ تسويةِ نزاع دائمة، الحيوانات المفترسة والمتنافسة بوسعها أن تهاجم. على قدرٍ متساوٍ، يستهلك التزاوجُ وقتًا كبيرًا بقدر ما يستهلك الطاقة. لهذا فإن الانجذابَ الفوريَّ يُمكِّن الذكور والإناث في فصائل عدة من تركيز طاقة التزاوج الغالية على شريك مخصوص ليبدءوا من فورهم عمليات التزاوج والإخصاب على وجه السرعة.
الحب من النظرة الأولى هو أحد أعمال الطبيعة.
(١٠) الحب من الرائحة الأولى
يسألني الناس إن كانت رائحةُ شخص ما دافعًا للجاذبية الفورية. مؤكدًا أن العديد من الحيوانات تنجذب فورًا لرائحة شركاء معينين للتزاوج. لكنني أشك في أن الحب من الرائحة الأولى يحدث بين البشر – لسبب بيولوجي.
أجدادنا من الحيوانات العليا منذ قديم الزمان عاشَت في أعالي الأشجار لمدة ٣٠ مليون عام على الأقل. لكي تتجنب السقوط على الأرض وكذا لكي تنتقيَ الثمار الناضجة، كانت تحتاج إلى نظرٍ حادٍّ، أكثر من احتياجها لحاسة شم قوية. وكنتيجة لذلك، كان للقردة ولإنسان الغاب حاسة شم منخفضة نسبيًّا. والمنطقة الأكبر من المخ كانت مخصصة لاستقبال المُحثَّات البصرية. نحن البشر نمتلك هذه المَلَكات. وتلك الشبكة البصرية متصلة على نحوٍ فائق الدقة مع بقية الحواس ومع شبكة مشاعرنا وأفكارنا. في الحقيقة، بوصفنا من فصيل الحيوانات العليا، فإننا نجمِّع ٨٠٪ من معارفنا عن العالم من حولنا عن طريق عيوننا. وهذا دون شكٍّ السببُ وراء أن العديد من علاقات الحب الرومانسي عبر الإنترنت تخفق حينما يلتقي الأحبة وجهًا لوجه. المحثَّات البصرية شديدة الأهمية للرومانسيات.
لهذا أشك في أن العديد من البشر يقعون في الهوى حين يلتقطون بأنوفهم عبيرَ مغازليهم في حفل ما. ولكنني أعتقد أنه بمجرد أن يصبح الرفيق حميمًا — وله مكانة عزيزة — تصبح رائحتُه، أو رائحتُها، مثيرةً للشهوة. أعرف نساء كثيرات يحببْنَ أن ينمْنَ وهنَّ يرتدينَ قمصان عشاقهن؛ لأنهن يحببْنَ البرفانَ المشعَّ منها، على سبيل المثال.
والأدب الغربي مليءٌ بشخوص ذكورية حثَّهم عبيرُ مناديل حبيباتهم أو قفَّازاتهن. وبصرف النظر عمَّن الذي يضغط زنادَ الجاذبية، فإن تلك المغناطيسية بوسعها أن تكون لحظية. حينما يكون الإنسان أو الكائن الحي جاهزًا نفسيًّا وجسديًّا ويظهر الشريك المناسب نسبيًّا أمامه، فإن أبسط المحثَّات قد تُشعل نار الانجذاب.
وهكذا تصبح معظم الحيوانات مستحقة على نحو هائل لجوائزها.
(١١) التملُّكية
«أنتِ نفسك — روحك — أستعطفُكِ أن تهبيها لي جميعها/لا تحرميني من ذرَّة واحدة منها، وإلا سوف أموت.» كان كيتس يريد أن يمتلكَ كلَّ ذرَّة من حبيبته. الكثير من المخلوقات تُشاركه النزعةَ ذاتَها. بعض الطيور والثدييات قد تقاتل حتى الموت كي تتملَّكَ حبيبَها على نحوٍ حصري.
أقرباؤنا الأقرب لنا نحن البشر، التشيمبانزي، بوسعه أيضًا أن يكون تملُّكيًّا على نحو هائل، حتى وإن كان عديمَ التمييز في اختيار علاقاته الحميمة بحكم الطبيعة. في ذروتها الشبقية تزور الأنثى عادةً ذكرًا واحدًا، ثم واحدًا آخر، أحيانًا تتزاوج من عشرة ذكور في اليوم. بهدوء وبرود ينتظرون دورهم، إلا أن التشيمبانزي يكون تملكيًّا للغاية. بينما تنمو عواطفه، يحاول ترسيخ شراكة حصرية مع أنثى بعينها.
هكذا كان «ساتان»، التشيمبانزي الذي كان يعيش في محمية شلال جومبي، في تنزانيا. كتبَت جين جودال عن علاقة ساتان قصيرة الأمد مع «ميف». كانت ميف لتوِّها قد دخلت في ذروتها «الساخنة» وعرف كلُّ الذكور ذلك. بدأ النهارُ صاخبًا وهي تتنقل من ذكر إلى آخر بينما تستعرض ردفَيها وتتزاوج مع كلٍّ منهم. ولكن النهار انسحب، وواحد إثرَ واحد راح كلُّ ذكَرٍ يجرُّ قدمَيه نحو الشجيرات ليأكل أو ليستريح. انتظر ساتان حتى مضى آخرُ المعجبين. حينئذٍ، وبينما ميف تُوقظ نفسَها لكي تتبعَهم، وثب ساتان أمامها في طريق الغابة وراح يتمشَّى عفويًّا في الاتجاه الذي لم يسلكه الذكور الآخرون. ثم بدأ ينظر من فوق كتفه ليرى إن كانت تَتْبعه. وبالفعل كانت.
عادة ما تمكث أنثى التشيمبانزي أثناء ذورتها الجنسية في التجمع لكي تتزاوجَ تقريبًا مع جميع الذكور. وإذا ما انجذبَت إلى معجب ما، فربما تُرافق هذا المعجب «الخاص» نحو المحيط الخارجي للمنطقة التي يقطنونها، لتبقى معه من ثلاثة أيام إلى حوالي ثلاثة أشهر. تُطلق جودال على هذا الترافق المؤقت مصطلح: «الخروج إلى رحلة السفاري».
(١٢) حراسةُ الرفيق
الرجال والنساء الذين شاركوا في استطلاعي (الذي ناقشناه في الفصل الأول) أيضًا أظهروا ذلك الميلَ نحو حماية الرفيق، خصوصًا الرجال. الرجال أكثر كثيرًا من النساء أبدَوا رفضًا للعبارة: «من الجيد ألَّا أكونَ في تواصل مع … لعدة أيام حتى يتأجج الشوقُ من جديد. هذا لأن المرأة بوجهٍ عامٍّ يكون لديها أصدقاء أكثر، علاقات أكثر، وشائج أسرية أكثر، ومسئوليات أكثر خارج نطاق علاقة الحب. لكن الرجال أيضًا ربما يكونون منساقين في لا وعيهم نحو حراسة الوعاء الذي يحمل بذورهم.»
تمامًا مثل طائر الجبال الأزرق، فإن البشر استحواذيون.
ميل الإنسان للمطاردة، أو حتى قتل عاشق شريد على الأغلب جاء من ذلك الميل لدى الحيوان لحراسة الرفيق.
(١٣) طلب الزواج الهجومي
كلُّ تلك المعلومات قادَتني للإيمان بأن الحيوانات، الصغيرة والكبيرة، لديها دافعٌ بيولوجي للتفضيل، ولامتلاك رفيق مخصوص للتزاوج، ثمة كيمياء للجاذبية الحيوانية. وتلك الكيمياء هي المادة البيولوجية الخام للحب البشري الرومانسي.
ولكن أي مواد المخ الكيميائية هي المسئولة عن ذلك؟
ثمة محفِّزان طبيعيان وثيقَا الصلة في مخ الكائنات الثديية يبدو أنهما يلعبان دورَي دوبامين ونوريبينفراين. كلُّ الطيور والثدييات لديها أشكال متشابهة من الدوبامين والنوريبينفراين، عطفًا على تراكيب متماثلة في المخ تنتج وتستجيب لهذه «الغريزة العلوية»، على الرغم من أن تراكيب تلك الأمخاخ ودوائرها الكهربية تختلف من فصيل إلى آخر.
يبدو أن مفتاح اللعبة فيما يخص الانجذاب الحيواني يكمن في الدوبامين.
قادَتني تلك البيانات للشك في أن الدوبامين و/أو النوريبينفراين يلعب دورًا في الجاذبية الحيوانية.
دون شك ثمة مواد كيميائية أكثر متورطة في العملية؛ فبينما تبحث الأفيال، والثعالب، والسناجب، والعديد من الحيوانات الأخرى بدقة عن فُرَص تزاوجها، فإنها من الواجب أن تميِّز الألوان، الأشكال، الأحجام، وتُنصت للنغمات العذبة، وتتذكَّر نجاحات الماضي وكوارثه، وتستنشقُ، تتلمَّس، تتذوق، لكي تجمعَ معلوماتٍ حول الزوج المحتمل.
تتناغم العديدُ من الأنظمة الكيميائية دون شكٍّ في سلسلة من التفاعلات، لكي تُشعلَ المشاعر التي تُولد الجاذبية الحيوانية.
لكن الحيوانات تحبُّ. تيا، الثور الهائج، سكيبر، ميشا، ماريا، فيوليت، تاليا، ألكسندر، ميف، ساتان، وتقريبًا كلُّ الثدييات الأخرى والطيور على هذا الكوكب، شعروا بانجذاب لشركاء آخرين مخصوصين. حينما يُصيبهم الافتتان المؤقت، تستجيب تلك المخلوقات للنغمة الكونية، نعيق، نقيق، نُباح، رفرفة أجنحة، زقزقة، تبختر واختيال، تشمُّم، تربيت، مداعبة، اقتران — عشق — نحو ذاك الشريك المفضل.
حينما تتطور كيمياء المخ أول الأمر لدى الحيوانات في حال الانجذاب لا أحد يعرف. أظن أن الحيوانات الأولية حينما كانت تركض تحت أقدام الديناصورات، فإن تلك الثدييات البدائية المشابهة للبشر كانت تُطوِّر شبكة مخيَّة بسيطة لكي تدفعَها لأن تُميِّز بين المغازلين لتُفضِّل واحدًا دون الآخرين. بهذا التطور الحيوي، مضَوا قُدُمًا نحو التكاثر، ناشرين تلك الكيمياء في المخلوقات السابحة، الطائرة، الزاحفة، الواثبة، النطاطة، الراكضة، المتأرجحة، بما في ذلك الأسلاف من إنسان الغاب والبشر.
هل يمكن أيضًا لهذين العنصرين أن يلعبَا دورًا في الحب البشري؟ لكي نفهمَ كيمياء تلك «الرقصة الخالدة»، قررتُ أن أنظر داخل المخ البشري.