كيمياء الحب
كما تعلم فأنا أومن أن الحب الرومانسي هو شعور إنساني عالمي تُنتجه موادُّ كيميائية خاصة وشبكات معينة بالمخ. ولكن ما هي بالتحديد؟ عزمتُ على إلقاء بعض الضوء على هذا السحر الذي يجعل القديس مجنونًا. لهذا بدأتُ مشروعًا متعددَ الأجزاء في عام ١٩٩٦م لجمع المعلومات العلمية عن كيمياء المخ وروابطه أثناء الحب الرومانسي، وأدَّعي أن العديد من المواد الكيميائية يجب أن تكون متداخلة بشكل أو بآخر. ولكنني ركزتُ أبحاثي على مادتَي الدوبامين والنوريبينفراين، ومن ثم المادة المرتبطة بهما وهي السيروتونين.
لقد اهتممتُ بطبيعة هذه المواد الكيميائية لسببين: أولهما انجذاب الحيوانات لشريك محدد يرتبط بارتفاع مواد الدوبامين و/أو النوربينفيراين بالمخ، والسبب الثاني والأهم هو أن هذه المواد الثلاث تُنتج العديد من الأحاسيس في الهيام الرومانسي الإنساني.
(١) الدوبامين اللذيذ
كما يوضح ارتفاع الدوبامين لماذا يصبح المبتلون بالحب من الرجال والنساء في حالة اعتمادية على علاقتهم العاطفية، ولماذا يتشوقون لحالة التوحد العاطفي مع المحبوب؟
كذلك فإن الاشتياق لممارسة الجنس مع المحب قد يكون مرتبطًا بشكل غير مباشر بارتفاع الدوبامين، حيث إن زيادته بالمخ تعمل غالبًا على رفع معدلات التيستيستيرون وهو هرمون الرغبة الجنسية لدى الإنسان.
(٢) النوريبنفراين
النوريبنفراين هي مادة مشتقة من الدوبامين، وربما يكون مساهمًا في اضطراب المحبين، ويتعدد تأثيرُه على حسب المنطقة التي ينشط بها في المخ، ومع هذا فإن زيادة مستويات هذه المادة المنشطة على وجه العموم، تُثير البهجة، والطاقة الزائدة، والأرق، وفقدان الشهية، وكلُّها من خصائص الحب الرومانسي.
(٣) السيروتونين
أحدُ أعراض الحب الرومانسي اللافتة للنظر هو التفكير المستمر بالمحبوب؛ فالمحبون لا يستطيعون إيقاف أفكارهم المتلاحقة عنه، ويا لَلعجب، فهذا الجانب بمفرده قويٌّ للغاية، لدرجة أنني استعملتُه بصفته سؤالًا محوريًّا للعاطفة الرومانسية؛ فأي شخص يذكر لي أنه يحب شخصًا آخر، أسأله مباشرة «كم نسبة الساعات التي تقضيها مستيقظًا تفكر في هذا المحبوب؟»
والعديد منهم يردُّ «فوق ٩٠٪ والبعض الآخر يعترف بخجل أنهم لا يتوقفون أبدًا عن التفكير فيها أو فيه.»
(٤) الفرضيات الفاعلة
بالاعتماد على خصائص هذه المواد الكيميائية الثلاثة بالمخ. الدوبامين والنوريبنفراين والسيروتونين، فلقد بدأت باعتبار أن لهم دورًا فاعلًا في عاطفة الحب الرومانسي لدى الإنسان. إن مشاعر البهجة، وقلة النوم، وفقدان الشهية للطعام، وكذلك الطاقة المنبعثة لدى المحبين، وتركيز الانتباه على المحبوب، والدوافع المنقادة، والسلوك المتوجه نحو الهدف، واعتبار المحبوب لا مثيل له، وزيادة عواطف المحب في مواجهة المحن، كل ذلك قد يكون نتيجة زيادة مستويات الدوبامين والنوريبنفراين بشكل جزئي بالمخ. وأن الاستغراق القهري بالتفكير في هذا المحبوب ربما يكون نتيجة انخفاض مستوى السيروتونين بالمخ كذلك. والآن إلى المحاذير:
تتعقد هذه النظرية بالعديد من الحقائق: إن جرعات مختلفة من هذه المواد الكيميائية تؤثر بشكل مختلف، كما أن هذه المواد تؤثر بشكل مختلف حسب اختلاف الجزء الموجودة به بالمخ، وكذلك تتفاعل كلٌّ منها بشكل مختلف مع المواد الأخرى حسب اختلاف الظروف، كما أنها تتناغم مع العديد من أجهزة الجسم الأخرى ودوائر المخ، وتؤسس ردود فعل معقدة. علاوة على كل ذلك فإن الحب الرومانسي المشبوب بالعاطفة يتبدَّى هو الآخر بأشكال متعددة بدءًا من الانتشاء النقي مع تبادل المحبة انتهاءً بشعور الخواء، واليأس وأحيانًا الهياج حين يحبط حبه.
وبدون شكٍّ تختلف هذه الكيميائيات في تركيزاتها وامتزاجاتها؛ حيث تتأثر بالمد والجزر في هذه العلاقة.
وعلى الرغم من كلِّ هذا فإن الارتباط الواضح بين خصائص الحب الرومانسي وتأثير هذه المواد الثلاث في المخ يقودني إلى هذه الفرضية: إن اندلاع نار الحب بالدماغ ينتج عن ارتفاع مستوى الدوبامين و/أو والنوريبنفراين أو كليهما، مع نقص مستوى السيروتونين. هذه المواد الكيميائية تشكِّل العمود الفقري للحب الرومانسي، والانفعالي، والوسواسي.
(٥) التصوير الإشعاعي للمخ في حالة الحب
احتجتُ بعد ذلك أن أجد مناطق المخ المنخرطة فيما قاله هوميروس «دفقات اللهفة النابضة» فأنا أعلم أن الدوبامين والنوريبنفراين والسيروتونين أكثر وجودًا في بعض مناطق المخ عن الأخرى. فإذا استطعت أن أبرهنَ أيَّ مناطق المخ تُصبح نشطة حين يشعر الفردُ بالانفجار الرومانسي، فسوف يؤكد هذا أيَّ المواد الكيميائية الأولية منخرطة في ذلك. إنه وقت الشروع في تنظيم بحث لتصوير أمخاخ المفتونين بالحب من الرجال والنساء.
مع عالم الأعصاب جريج سيمبسون، ثم في كلية طب ألبرت أينشتاين طورت منهجًا للعمل؛ فسوف نجمع المعلومات عن نشاط المخ في عينة مرضى الحب وهم يمارسون مهمتَين: النظر إلى صورة محبوبته/محبوبها، ثم النظر في صورة محايدة لأحد المعارف الذين لا يحمل لهم مشاعر إيجابية أو سلبية. وفوق كلِّ ذلك سوف نستعمل التصوير بطريقة الرنين المغناطيسي الوظيفي لأخذ صور للمخ، ومن الجدير بالذكر أن هذا الجهاز يقيس تدفقَ الدم في المخ وهو يعتمد على مبدأ بسيط: أن خلايا المخ النشطة تمتصُّ كمية دماء أكثر من أجزاء المخ الساكنة، وذلك من أجل جمع أكبر قدر من الأكسجين اللازم لوظيفتها. وباستعمال هذا الجهاز فأنا لست بحاجة لحقن أفراد العينة بأيِّ صبغات ملونة أو اقتحام أجسادهم بأيِّ وسيلة أخرى، وبدون ألم، هكذا يبدو لي، ثم نحلل معلوماتنا نستطيع أن نقارن نشاط المخ الذي يحدث حين ينظر الشخص لصورة محبوبته بنشاطه حين ينظر لصورة محايدة.
بداية موفقة على حسب ما نعتقد؛ ففي عام ١٩٩٦م قمنا بفحص أربعة أفراد، شابَّين وشابَّتَين في مقتبل العمر جميعهم في حالة حب جنوني. والنتائج كانت مشجعة، ولكن زملائي في العمل انسحبوا من التجربة نتيجة التزامات وظيفية أخرى، ولحسن الحظ كنت قد دعوت لوسي براون، عالمة الأعصاب البارعة بكلية ألبرت أينشتاين كي تؤوِّلَ نتائج المسح بالأشعة وهي المهمة المعقدة تكنولوجيًّا، والملتهمة للوقت، والمتطلبة للمهارات العقلية الخاصة.
مع مرور الوقت انضم إلينا «أرت أرون» الباحث النفسي الموهوب بجامعة نيويورك في ستوني بروك، وكذلك الموهوبة «ديب ماشيك» طالبة الدراسات العليا في قسم علم النفس بصني ستوني بروك.
كان لي اهتمامٌ واحد بشأن تصميم التجربة، فكما تتذكر، فإن المحبين لديهم أوقات صعبة حينما لا يفكرون في أحبائهم، فكنت خائفة من مشاعرهم المحبة الفياضة، والتي تتولد من نظرهم لصورة المحبوب أن تلوث أفكارهم السلبية حينما ينظرون للصورة المحايدة، وحينما ناقشتُ هذا الأمر مع ديب وأرت، اقترحَا «مهمة تشتيت» وهي طريقة نفسية معروفة تُستعمل كي تغسلَ المخ من أيِّ مشاعر. وقد اتفقنا على واحدة من هذه الطرق؛ فما بين النظر لصورة المحبوب والصورة المحايدة لأحد المعارف المملِّين، سوف يخضع المفحوص لرقم طويل (مثل ٨٤٢١) على شاشة، ويطلب منه أن يخصمَ منه تسلسل سبعة، والمغزى أن ينظف رأسه من المشاعر الفياضة ما بين التعرض لصورة المحبوب والأخرى لأحد المحايدين. جرِّبْها وسوف تشعر بأنك غير سعيد بالمرة. اختر رقمًا أكبر وركِّز حقًّا بطرح سبعة من كل رقم (بطرح ٧ من ٨٤٢١ ستكون النتيجة ٨٤١٤ ثم ٨٤٠٧، ٨٤٠٠ … إلخ) وهي طريقة تصلح لتفريغ الشحنات العاطفية بسرعة من خلال الكفاح من أجل العد الصحيح.
قبل أن نبدأ بفحص أمخاخ أخرى لرجال ونساء أصيبوا بالحب، كنا نريد رغم ذلك التأكد من شيء واحد: أن صورة المحبوب سوف تُثير حقًّا مشاعرَ الحب الرومانسية أكثر من أي شيء آخر (أو ظاهرة أخرى) للمحبوب باعتبارها رائحة معينة، أغنية أو خطابًا عاطفيًّا أو ذكرى معينة.
(٦) جهاز قياس الحب
قام «أرت» و«ديب» زملاء المشروع بطلب العون من الرجال والنساء الذين وقعوا في الحب، وذلك في نشرة أخبار قسم علم النفس في صني ستون بروك، بدأ الإعلان بعناوين عريضة:
«هل وقعت حديثًا في الحب بجنون؟» وكانت كلمتا «بجنون» و«حديثًا» هما مفتاحَا الإعلان، وناشدنا المحبين الغارقين في الحب إلى درجة المعاناة في النوم وتناول الطعام. وقد تواصل فعلًا مع «ديب» العديدُ من المتطوعين، ثم وصلوا فعلًا لقسم علم النفس بستوني بروك، وقامت «ديب» باختيار هؤلاء التي ارتأت أنهم في حالة حب حقيقي، وأعطتهم عدة استبيانات صُمِّمَت للاستبصار بشخصياتهم، ومشاعرهم عمَّن يحبونه، ومدة وقوة علاقة حبِّهم. ثم طلبَت من كلٍّ منهم العودة للمعمل بعد أسبوع حاملين معهم العناصر التي تجعلهم يشعرون بالحب الرومانسي تجاه هذا الشخص الذي يهيمون به. وعادوا بعد أسبوع ومعهم صور، وخطابات، وبريد إلكتروني، كروت أعياد الميلاد، شرائط موسيقى، عطور، ومذكرات كُتبَت على أوراق، وبعض الملاحظات عن المناسبات المتوقعة في المستقبل، وحملوا هذه الأشياء كباقات الزهور. وخضع كلُّ مفحوص للاستعدادات الخاصة بالتجربة، وذكرَت لكلٍّ منهم أن هذه الأسلاك الملصقة بالدماغ سوف تقيس موجات المخ الكهرومغناطيسية أثناء التجربة.
قامت «ديب» بلصق ثلاثة أقطاب كهربائية بمناطق مختلفة بفروة الرأس، وتوصيل ذلك برسام المخ الكهربائي، وأفهمتهم بأن هذه الأسلاك سوف تسجل موجات المخ أثناء التجربة. وفي الحقيقة لم يكن هذا صحيحًا؛ فالجهاز لم يعمل بعد، ولكننا آملنا أن هذا الخداع سوف يحفِّز كلَّ متطوع على الأمانة. جلس كلُّ مشارك أمام شاشة حاسب آلي (كمبيوتر) يعرض أيقونة تُشبه مقياس حرارة قائمًا ويعطي الشخصَ نفسَه عدادًا دائريًّا يدويًّا مدرجًا من صفر إلى ثلاثين درجة. وبتدوير هذا القرص الزنبركي فإن المفحوص يرفع «الزئبق» في مقياس الحرارة بالكمبيوتر، وعندما يترك هذا القرص يعود الزئبق إلى الصفر مرة أخرى. وقد أسمينا استجابات هذا الجهاز المبني على الكمبيوتر، على سبيل المزاح مقياس حرارة الحب أو ترمومتر الحب.
بدأت التجربة، وفي البداية سيرى المفحوص صورةَ محبوبته/محبوبها، ثم صورة محايدة لشخص آخر من الجنس نفسه أو صورة من الطبيعة. ثانيًا يقرأ كل مفحوص خطابًا عاطفيًّا من محبوبته ثم يقرأ بعدها قطعة من كتاب إحصائي. ثالثًا يشمُّ كلٌّ منهم عطرًا يذكِّره بالمحبوب ثم بعدها يشمُّ ماء ممزوجًا بقليل من الكحول. رابعًا يطلب من المفحوص أن يستعيدَ التفكير في لحظات مدهشة مع محبوبة ثم يطلب منه أن يستعيدَ ذكريات أحداث أخرى رتيبة كآخر مرة غسل فيها شعرَه. خامسًا، سماعُ كلٍّ منهم أغنية صاحبته مع حبيب القلب، ثم أغنية غنَّاها في عرض للأطفال بالتليفزيون الأمريكي (شارع سمسم). أخيرًا، يطلب من كلِّ مفحوص أن يتخيل حدثًا مستقبليًّا مبهجًا مع حبيبته، ثم حدثًا رتيبًا بعدها كغسيل الأسنان مثلًا. وكل مهمة محددة يعقبها «مهمة تشتيت» أي طرح ٧ أعداد من رقم كبير كما ذكرنا من قبل.
(٧) الصور تحفِّز الحب
(٨) التجربة
«هل وقعت توًّا في الحب بجنون؟» لقد استخدمنا هذا السطر مرة أخرى حينما قمنا بإعلان جديد في نشرة أخبار علم النفس في مبنى صني ستون برووك، ولكن في هذه المرة طلبنا من الرجال والنساء المرحِّبين بالأمر الاستلقاء في جهاز طويل، مظلم، وضيق، ومزعج بينما نحن نصور أو نمسح أمخاخهم إشعاعيًّا.
وبحثنا، مرة أخرى عن أولئك الذين وقعوا في الحب بجنون في الأسابيع الأخيرة أو خلال الشهور القليلة الماضية، حيث مشاعرهم الرومانسية طازجة، خصبة، غير مسيطر عليها ومشبوبة.
هنا قمت بمقابلة كلِّ مرشح، لمُدَد تفوق الساعتين في بعض الأحيان، وكان سؤالي الأول هو نفسه تقريبًا لكلٍّ منهم «كم بقيَ لك في حالة الحب هذه؟» والسؤال الثاني كان هو الأهم «كم نسبة ما تقضيه بالنهار والليل تفكر في حبيبك؟» لأن التفكير الوسواسي مكونٌ مركزي في العاطفة الرومانسية، وقد قمتُ باختبار هؤلاء المشاركين الذين يفكرون في أحبائهم معظم أوقات استيقاظهم. كذلك بحثتُ عن الرجال والنساء الذين يضحكون أكثر أو يتنهدون أكثر من الطبيعي أثناء المقابلة، وهؤلاء الذين يستدعون من ذاكرتهم دقائق التفصيلات عن أحبائهم، الذين أظهروا حنينًا حقيقيًّا — وبالضرورة اشتياق — لمحبوبهم.
إذا أظهر المفحوص المحتمل هذا الأمر أو العلامات الأخرى للعاطفة الرومانسية، دعوته/دعوتها للمشاركة، وحصلنا منه على صورتين: واحدة للمحبوب والأخرى لشخص محايد عاطفيًّا. وكان الأخير على وجه العموم أحد الذين يعرفهم سريعًا في المدرسة الثانوية أو الكلية. ثم حددنا وقتًا كي نضعَ كلًّا منهم على جهاز الأشعة المغناطيسية للمخ.
(٩) إجراءات المسح الإشعاعي للمخ
بمناقشات متعمقة عن ماذا سيحدث لهم عندما يتم فحصهم بجهاز أشعة الرنين المغناطيسي الوظيفي، بدأتُ أُخبر كلَّ مشارك بأنني قد خضتُ هذه التجربة بنفسي ثلاث مرات قبل ذلك، وشرحتُ لهم أنني أخشى — إلى حدٍّ ما — الأماكنَ المغلقة، ولكني كنت بحاجة إلى خوض التجربة قبل أن أدخل الآخرين فيه. ووصفتُ ماذا سيحدث داخل الجهاز دقيقة بدقيقة، وطمأنتُ كلًّا منهم أنه لا مفاجآت. ذلك لأني أحتاج ثقة هؤلاء الرجال والنساء بي، وبدون هذه الثقة سوف تنتهي التجربة بقياس مشاعر الشك أو الهلع التي ستنتج من تأثير الجهاز نفسه بدلًا عن عاطفة الحب الرومانسي.
حينما بدا أنَّ كلَّ شيء جاهز، حدَّدنا المواعيد للتصوير الإشعاعي، وكم كنت مرحة، وقلقة، وفضولية بتحديدنا ذلك الميعاد.
الإجراءات كانت بسيطة، ولكنها ليست سهلة، في البداية قمنا أنا و«ديب» بالتأكد من شعورِ كلِّ مشارك بالراحة في الجهاز، الجهاز عبارة عن أنبوب بلاستيكي كبير أسطواني الشكل، أفقي الوضع ولونه أصفر كريمي، ومفتوح من كلا الطرفين وممتدٌّ من أعلى منطقة الرأس وحتى منطقة الوسط تقريبًا. ينام المفحوص على محفة المرضى في هذا الجهاز الأنبوبي شبه المظلم ومن أعلاه ومن حوله مساحة فراغ حوالي قدم أو قدمين، حسب حجم كلٍّ منهم. وضعنا وِسادات تحت الركبتين كي نعمل على راحة الظهر، وتم تدفئتهم ببطانية، أرقدنا رءوسهم على وسادة جافة لضمان عدم الحركة أثناء التجربة، كما علَّقنا أمام أعينهم مرآة مائلة بحيث يستطيع كلُّ مفحوص أن ينظر للخارج كي يشاهدَ تلك الشاشة التي نودُّ أن نعرض عليها كلَّ صورة، وكذلك الأرقام الكبيرة التي صممت باعتبارها مهمة تشتيت (كما سبق الشرح). بعد أخذ تصوير تمهيدي كي نؤسسَ تشريحًا أساسيًّا للمخ، بدأت تجربةُ الاثنتي عشرة دقيقة. في البداية ينظر المفحوص إلى صورة المحبوب التي تظهر على الشاشة لثلاثين ثانية في حين يسجل الجهازُ تدفُّقَ الدم في مختلف مناطق المخ. بعد ذلك يشاهد المفحوص رقمًا كبيرًا، مثل ٤٦٧٣. وهذا الرقم يتغير مع كل مشاهده جديدة وكل هذه الأرقام هي عبارة عن مهمة تشتيت. لأربعين ثانية يطلب منه طرح ٧ أرقام من الرقم المذكور آنفًا وهكذا. ثم يشاهد المشارك صورة لشخص محايد لمدة ثلاثين ثانية أخرى ويتم تصويره مجددًا بجهاز الرنين.
(١٠) مقياس عاطفة الحب
ومقياس عاطفة الحب عبارة عن خمسة عشر سؤالًا عن الحب الرومانسي معظمها متشابهٌ تمامًا مع الأسئلة الموجودة بالمقياس الذي صممته. من بين ذلك أسئلة، مثل: «سوف أشعر بالإحباط الشديد إذا تركني … (يذكر اسم حبيبته)»، و«أحيانا، أشعر بأنني لا أستطيع التحكم بأفكاري، إنها تأتي بشكل قهري عن … (يذكر اسم حبيبته)».
العينة المختارة للتجربة كانت تسأل للاستجابة لكل جملة، ودوَّنَّا ردَّ فعلهم على مقياس من تسعة، بداية من ردٍّ (غير حقيقي بالمرة) إلى (بالتأكيد حقيقي)، كنَّا ننتظر مقارنة نشاط المخ لكل مشارك بما سجَّله في هذا الاستبيان، لكي نرى هل هؤلاء الذين سجَّلوا نِسَبًا مرتفعة في هذه الاستبيانات كان لديهم أيضًا نشاط متزايد بالمخ، كنَّا نأمل بهذه الطريقة أن نُجيبَ على السؤال الذي حيَّر صانعي هذا المسح العام طويلًا: هل ما يقرِّره الشخص في استبيان يعكس بدقة ما الذي يجري بداخل مخه؟ نحن لا نعرف في هذا الوقت، ولكن قياس الحب من شأنه أن يُثبتَ بشكل ملحوظ ومقنن المخَ في حالة الحب.
(١١) في الحب بسعادة
أتذكَّر بشكل واضح كلَّ الرجال والنساء الذين فُحصوا بالرنين المغناطيسي، منهم بجورين؛ شابٌّ صغير من إحدى الدول الاسكندنافية والذي كان يدرس في نيويورك، وكان في حالة غرام مع إيزابيل، وهي سيدة من أصول برازيلية وتعمل حاليًّا في لندن. وهما يتحادثان يوميًّا عبر الهاتف كما أخبرني، ويريان بعضهما في الإجازات، ويتقابلان منذ ما يقرب من عام ويُخطِّطان كذلك للزواج.
وأنا أذكر «بجورين»؛ لأنني تعلمتُ منه شيئًا مهمًّا، كان رجلًا أشقر، كثيفَ الشعر، مستقلَّ الشخصية، ذا ابتسامة دافئة، ذا حضور ساحر، حادَّ الذكاء، ويُومض بالحسِّ الفكاهي. لقد أعجبني في الحال، لكن حين سألتُه بدايةً كيف يَصِف محبوبتَه، لاذ بالصمت ولم ينبس بشفة. لوهلة أحسستُ بأنني فقدتُ الاتصال الهاتفي معه، وأعدتُ كلامي بشكل واضح «حسنًا، بالتأكيد أنت معجبٌ بشيء ما في إيزابيل»، وأجاب بشدة … نعم.
داهنت «بجورين» كي ينطقَ بأي شيء عن محبوبته، فأفصح بخجل عن أنه يحلم بها باستمرار، يحبُّها بشغف، ويفكر فيها أكثر من ٩٥٪ من الليل والنهار، لكن «بجورين» لم يصرِّح أبدًا بالولع العاجل المميز لوسواس الحب، لهذا كنت بعد ذلك مذهولة عندما رأيتُ صور الأشعة لمخِّه. فهذا الشاب المحافظ حينما شاهد صورةَ محبوبته، تأجَّج مخُّه كعرض الألعاب النارية.
لقد هزَّني «بجورين» بعمق، محيَّاه الصارم أخفى وغطَّى على عواطفه الداخلية. لم أعتقد أنه كان يحاول خداعي، لكنه عبَّر بطريقة تعكس تركيبته البيولوجية، وطريقة تربيته، وثقافة مجتمعه؛ فتعبيراته الخارجية لا تعكس عالمه الداخلي. وهو ما جعلني أتساءل في عقلي: كيف نختار المرشحين المناسبين؟ فكرتُ في ذلك كثيرًا، وفي النهاية حصلتُ على لمحة ثاقبة للأمر: أنا ليس لديَّ خيارٌ في ذلك. عليَّ أن أسأل ببساطة مشاركين محتملين أسئلةً كثيرة بقدر الإمكان، أُنصِت بعناية لكلماتهم، أُلاحظ أيَّ أعراض جسمانية للنشوة، الطاقة، الانتباه المركز، الاستحواذية، والتفكير الوسواسي، وعليَّ أن أَصِلَ كي تكونَ مهاراتي الاجتماعية جيدة بشكلٍ كافٍ كي أنتقيَ هؤلاء البشر الواقعين فعلًا في الحب.
كانت أكثر الحالات مأساوية هي باربارا، وهي سيدة طويلة، شقراء، ذات وجه أحمر، جميلة المظهر، تتكلم بكثرة، وفي بداية العشرينيات من العمر. عرفنا أنها قد قابلت مايكل على الشاطئ بنيو جيرسي قبل حوالي خمسة أشهر من الآن. وقد كانت غارقة في الحب لدرجة أنها كانت تُعاني أثناء النوم، عقلها منطلق. شعرَت بالخجل بصحبته، وتشعر بقلبها يدقُّ حين يُحادثها هاتفيًّا. كانت تستعيدُ أوقاتهما معًا في مخيَّلتها مرارًا وتكرارًا. تحدَّثت عن شعورها برجفات كالكهرباء تسري بجسدها، وأقرَّت بأنها ستجنُّ إذا لم يُحادثها هاتفيًّا. وهي غيورة بشكل متوحش أيضًا، وعلى ما يبدو فإن لدى مايكل العديد من الصداقات مع النساء، بينما هي لا تحبِّذ حتى كلامه مع إحداهن عبر الهاتف. وحين سألتها ما إذا كانت تعتقد في وجود علاقة غرامية ثانية «على الجانب» صُعِقت من سؤالي. وكخاصية لكلِّ المحبين، فإن باربارا لا تتقبَّل أن تُمضيَ الوقت مع أي أحد خلاف مايكل. وعندما سألتها ما أكثر شيء تحبُّه فيه؟ أجابت «الكيمياء» إنها المرة الأولى التي تشعر فيها باربارا بالغرام، فتوهجَت.
بجورين، باربارا، وليم، وكلُّ مشاركينا أخبروني قدرًا كبيرًا من حياتهم الشخصية، وأنا في غاية الامتنان لهم جميعًا. لكن أمخاخهم أخبرَتنا أشياءَ أكثر عن عواطفهم الأصلية، الحب الرومانسي.
(١٢) المخ في حالة الحب
قبل أن نفهم نتائج الفحص الإشعاعي الذي قمنا به، يجب أن نقوم بتحليل عميق لهذه الصور، وقد قام زملائي هنا بعمل رائع؛ فهناك حرفيًّا مئات الخطوات المعقدة. ولأن تقنية المسح بالرنين المغناطيسي الوظيفي جديدة جدًّا ومعقدة، تُخرج لنا أشياء خاطئة ويعاد التحليل من جديد. لكن مع الوقت، التحق بفريقنا «جريج سترونج» طالبٌ موهوب بالدراسات العليا بقسم علم النفس بصني ستوني برووك، وقد كان قادرًا على وضع المعلومات في مسارها الصحيح. درسَت لوسي صِوَرَ أشعةِ المخ وحدَّدَت أيَّ المناطق التي نشطَت به، وقام «آرت» بعمل العديد من التحاليل الإحصائية. وقام آرت ولوسي بعمل مقارنات بين الأجزاء المتعددة لهذه المادة الفيلمية. وقد أخذ كلُّ هذا وقتًا، وجهدًا، وتكريسًا، ومعلومات، وإبداعًا، واستبصارًا ومهارة كبيرة لا حدودَ لها.
أخيرًا شاهدنا النتائج: صِوَر جميلة للمخ في حالة الحب. وحين نظرت للمرة الأولى لتلك الصوَر، ومناطق المخ النشطة مضاءة بالأصفر الفاتح والبرتقالي الداكن، شعرَت كما أشعر في ليالي الصيف أُحملق في الكون المتلألئ: رهبة غامرة. ولكن لكي تفهمَ ما أقول، يجب أن تعرف القليل عن الأثاث الموجود برأسك.
(١٣) نظام الإثابة لدى المخ
هذا ليس كل شيء كشفَت عنه تجربتُنا، لكن أيضًا كلما زادَت العواطف، نشطَت هذه النواة.
(١٤) الدوبامين
لا عجب إذن أن المحبين يتحدثون طوال الليل أو يمشون حتى الوقوع، يكتبون شعرًا متهورًا، ويُرسلون رسائل تكشف الأسرار عن أنفسهم، يَعبُرون قارات أو محيطات من أجل حضن في إجازة آخر الأسبوع، يغيِّرون أعمالهم أو أسلوب حياتهم، أو حتى يموتوا من أجل بعضهم. إنهم غارقون في كيمياء الدماغ التي تَهَبُ لهم تركيزَ الاهتمام، مضاء العزيمة، والحيوية، وعبر قيادة محرك الدوافع بالمخ، يخضع العشاق إلى رغبة المغازلة الجامحة لديهم.
هذه «المادة الملتهبة» التي وجدها الأب جورج واشنطن في كلامه، بشكل جزئي على الأقل، هي ذلك الدوبامين الذي يحرِّك النواة المذنبة وباقي أجزاء المخ في نظام الإثابة — شبكات المخ الأولية التي تقود المحبَّ ليهتمَّ ويركِّز على جائزة الحياة الأعظم — رفيق ربما يَعبُر بجيناته تجاه الخلود.
(١٥) كيف يُغَير الحب
كانت تجربة لندن لها غرض واضح. فقد وجد بارتليز وزكي مناطقَ عدةً بالمخ تنشط حين يحملق المفحوص في صورة محبوبه. والمهم أنهم قد وجدوا نشاطًا في مناطق النواة المذنبة نفسها. ما الدعابة؟ فريقَا بحثٍ بقارتَين مختلفتَين، وعينات من مجموعات عِرْقية مختلفة، ومن متوسط أعمار مختلفة، وجد الفريقان نشاطًا في تركيب المخ نفسه. النواة المذنبة — وهي صاحبة الشحنات الأكبر بالدوبامين بالمخ — يجب أن تكون موقدَ الحب الرومانسي إذن.
لقد وجد فريقُنا في نيويورك أيضًا العديدَ من الاختلافات بين الجنسين، من حيث العواطف الرومانسية، لكن سوف أشرح هذه النتائج وماذا تعنيه في الفصل الخامس.
(١٦) دوافع الحب
نظرًا لتفرُّغ آرت لهذه الفكرة فكان ضروريًّا أن نبدأَ مشروعنا بالمسح بالرنين المغناطيسي بأطروحتَين: أطروحتي بأن الحب الرومانسي يصاحب الدوبامين و/أو الموصلات العصبية وثيقة الصلة به بالمخ، وأطروحة آرت بأن الحب الرومانسي هو بداية نظام دوافع، فضلًا عن كونه عواطف.
بعد أن فرغنا رجحَت نتائجُنا أن الأطروحتَين صحيحتان. فالغرام أو الحب الرومانسي يبدو أنه يترافق مع ارتفاع الدوبامين. ولأن العواطف تنبعث من النواة المذنبة فإن الدوافع والسلوك المتوجه لهدف تصبح متشاركة في الأمر كذلك.
نحن لدينا العديد من الدوافع، وهي تقع على سلسلة متصلة، البعض منها مثل العطش، والاحتياج للدفء لا يمكن لها أن تخمدَ إلا بالإشباع بينما دوافع الجنس، والجوع، وغريزة الأمومة في الجهة المقابلة يمكن لها أن يُعادَ توجيهها، أو حتى قمعها بالوقت والمجهود، أعتقد أن خبرة الوقوع في الحب تقع ضمن هذه المجموعة.
قبل أيِّ شيء يجب أن نعرف أن الانجذاب الرومانسي متشبثٌ ويصعب جدًّا إخماده، تمامًا مثل الدوافع بينما العواطف، على الجانب الآخر، تأتي وتذهب، فيمكنك أن تكون سعيدًا بالنهار وغاضبًا بعد الظهيرة مثلًا.
مثل باقي الدوافع، يركز الحب الرومانسي على إثابة محددة، وهو المحبوب، تمامًا مثل الجائع الذي يركز على الطعام. أما المشاعر، مثل الاشمئزاز على سبيل المثال، فتُثبت نفسها على كمٍّ هائل من الأشياء والأفكار المتعددة. إن الحب الرومانسي متصلٌ بمشاعر عديدة متنوعة؛ وذلك اعتمادًا على هل هذا الشيءُ الملحُّ مشبع أم محبط للشخص؟ ومثل كل الدوافع فإن الحب الرومانسي تُصاحبه العديدُ من تعبيرات الوجه؛ حيث إن كل المشاعر الأولية، مثل الغضب، الخوف، المرح، المفاجأة، الاشمئزاز لها تعبيرات نمطية معروفة. وكما الدوافع أيضًا فإن الحب الرومانسي يصعب التحكم فيه، إنه أصعب من كبح العطش على سبيل المثال أو كبح العواطف كالغضب.
(١٧) الكيمياء المعقدة للحب
من دون شك، فإن العديد من أجهزة المخ الأخرى تعزو إلى «تدفق الشوق النابض» كما قال هوميروس، كما تذكر، فأنا منذ البداية طرحتُ أن النوريبنفراين ربما يكون مساهمًا؛ لأنه متلازم جدًّا مع الدوبامين، ويُنتج العديد من المشاعر والسلوكيات المتشابهة، وما زلت أعتبر أنه مشارك في زخم الغرام، ولكننا لا نملك بعد ابتكار الجهاز الذي يمكِّننا من قراءة هذا الشيء.
على كلِّ حال فإن مناطق القشرة المخية ما قبل الجبهية سوف تُقيم الملاحقة، تضع الخطط التكتيكية، تحسب الربح والخسارة، تسجل التقدم نحو الهدف: عاطفيًّا، جسمانيًّا، وحتى الاتحاد الروحي مع المحبوب.