لماذا نحبُّ
«يبدو أنني أحببتكِ على أشكال لا حصر لها/مرَّات لا عدد لها/في حياة إثر حياة/طوال عمر بعد عمر …/اليومَ ها هو مكدَّس عند قدميك/وجد ضالته أخيرًا: فيكِ: الحبُّ/حبُّ الجنس البشري في كل أيامه/منذ الأزل وحتى الأبد.» الشاعر الهندي رابندرانت طاغور كان يشعر أن حبَّه لامرأة قد عبر الدهور داخل عقل خُلق منذ بداية الأزمان. بالفعل، نحن نحمل كل تاريخ فصيلنا البشري مطمورًا في عقولنا، كل المسارات والدوائر التي شيَّدها أسلافُنا فيما يغنُّون ويرقصون ويتشاركون حكمتهم وطعامهم ليتوددوا إلى أحبتهم وأصدقائهم، وحينئذٍ يقعون في الحب «معه» أو «معها».
كيف حدث أن صرنا نغازل ونحب بالطريقة التي نفعلها؟ الفيل الفحل لم يُمطر «تيا» بالقصائد لكي يثبتَ لها أنه ملك الأفيال. سكيبر الذي وجد حبيبته الصغيرة في أحد مساءات الربيع؛ لم يغنِّ أغاني روك آند رول لآلاف من إناث القنادس لكي يؤثر فيهن أولًا. ميشا وقع في غرام ماريا بمجرد أن هزَّت ماريا ذيلَها الكلبيَّ ودَعَته للعب معها. لكل الحيوانات تفضيلاتها التزاوجية. ومعظمها تُطور أساليب تزيُّنها وغزلها باختلاف أنواعها لكي تُبهر أولئك الذين سيصبحون عشاقًا. لكن ليس من مخلوقات سوى الإنسان، الذي يستعرض مواهبه على هذا النحو المبالغ فيه كما في سونتات القصائد والقفز من الطائرات.
كما لاحظ عالم النفس جيوفري ميللر، العديدَ من صفاتنا البشرية الاستثنائية، مثل مهاراتنا اللغوية المنمقة، انجذابنا لكل أنواع الرياضات، حميتنا الدينية، خفة ظلِّنا وقِيَمِنا الأخلاقية، جميعها مهارات شديدة التنميق، غالية الثمن، نؤديها من أجل عملية التزاوج، وعديمة الأهمية للغاية في رحلة الكفاح من أجل الوجود لكي نرتقيَ بالكاد من أجل أن نحيَا يومًا آخر. كان على الحيوانات أن تبرز، على الأقل جزئيًّا، لكي تساعدنا على الغزل والفوز في لعبة التزاوج.
والأكثر من هذا، فقد عرضت هذا على كل المغازلين الرائعين الذين تتبعناهم لكي نُقنعَهم بالرفقاء المقترحين، فوجدنا أن الرجال والنساء أيضًا قد طوروا شبكة معينة في أمخاخهم لكي يستجيبوا لتلك السمات: الدائرة الكهربية للحب الرومانسي. تلك العاطفة، الصورة المطورة من الانجذاب الحيواني، تنبثق للوجود لكي تدفعَ كلًّا منَّا لكي يختارَ من بين العديد من العروض الغزلية المتنوعة، فنفضل واحدًا بعينه، ثم نبدأ رقصة التزاوج الأولية حصريًّا «معه» أو «معها».
لكن «ميلر» أبدًا لم يُخبرنا متى، أين، أو لماذا بدأ الكائنُ البشريُّ في تطوير تلك المواهب. وأنا لم أقدِّم تفسيرًا حول كيف تحوَّل فصيلنا من مخلوقات كانت تشعر بانجذاب مؤقت لفرد «بعينه» إلى رجال ونساء مستعدين للموت من «أجلها» ومن «أجله».
شيء حدث في عمق الزمان، أنتج اندفاع الانسان المحموم ذاك، نحو الحب.
(١) الحب في الأشجار
أشجارُ النخيل، أشجار التين، أشجار الكمثرى البرية، أشجار الماهوجني، أشجار دائمة الخضرة، أشجار، أشجار، وأشجار أكثر وأكثر تنبسط على أراضي أفريقيا الشرقية منذ ثمانية ملايين سنة.
(٢) الخطوة البشرية
هذا التجديد الفردي كان له أن يغير كثيرًا في طبيعة الحياة فوق الأرض. عن طريق المشي على قدمين، أصبح بوسع أسلافنا أن يحملوا الصخور ويُلقوا بها على الفهود أو الأسود التي تهاجمهم في الظلام. عن طريق المشي، أصبح بوسعهم أن يحملوا العصيَّ ليحفروا الأرض ويزرعوا البذور والبراعم. عن طريق السير، صار بوسعهم أن يقذفوا الأحجار الصغيرة على الحيوانات الضئيلة التي تُعشش في الحشائش. السير على قدمين أيضًا حرَّر اليدين من أجل التلويح للتعبير، كما حرَّر الأفواه للنطق بالكلمات. عن طريق السير، والتجميع، وحمل الأشياء، بدأ أسلافنا خطوتهم غير المدوَّنة نحو الحداثة.
كل هذا حقائق. الآن من أجل النظرية. أعتقد أن الخطوة البشرية سبَّبَت مشاكل للإناث، أصبحن مضطرات إلى حمل أطفالهن على أذرعهن بدلًا من حملهم فوق ظهورهن. في الأشجار، كانت إناث أسلافهن من ذوي الأربع من أشباه التشيمبانزي يحملن صغارهن على ظهورهن. في تلك البيئة المكسوة بأوراق الشجر كانت الأيادي حرَّة لجمع الثمار والخضراوات. وكان بوسع الأنثى بسهولة أن تتسلق الأشجار وأن تهرب من المهاجمين إلى مكان آمن عالٍ عن الأرض. ولكن ما إن بدأ أسلافنا في المشي على الأرض أسفل الأشجار وفي الخارج في السهول المفتوحة، وكذا في حملِ العصيِّ والأحجار ليحصدوا الطعام، أظن أن الأنثى أصبحَت محمَّلة أكثر بالأعباء.
كيف يمكن لأمٍّ صغيرة أن تحفر الأرض لبذر الجذور، أو تصيد الحيوانات الصغيرة بيد واحدة بينما تحمل طفلًا متكورًا يزن عشرين رطلًا باليد الأخرى؟ كيف يكون بوسعها أن تهرب بسرعة من الأسود الجائعة التي يسيل لعابُها بينما تئنُّ تلك الأنثى بحمل ذراعَيها المحملتين؟ أظن أن تلك الإناث الأولى قد بدأت في الاحتياج إلى رفقاء لكي يساعدوا في الإطعام والحماية، على الأقل في فترة حملهن وتربيتهن الصغار.
(٣) تطور الطلاق
على أنني لا أرى أن ذلك الرباط الثنائي لا بد أن يكون أبديًّا في كل أنحاء العالم، حيث مسموحٌ للبشر بالطلاق (وبوسعهم الطلاق اقتصاديًّا)، يوجد الكثيرون ممن يختارون الطلاق. إذا ما سألتهم لماذا يفصمون وحدتهم، يعطيك كلٌّ منهم إجابة مختلفة. لكن ارتباط البشر له أنماط عدة، وبعض هذه المخططات أخذ في التطور في مهد النوع البشري.
في البدء كانت تلك النماذج بلا معنى بالنسبة إليَّ. ولكن بعدما قرأت حول عادات التزاوج والاقتران في الكائنات الأخرى، بدأت أرى بعض التوازيات الخارقة.
فقط ٣٪ من الثدييات تقترن كزوجين لتربية صغارهما؛ البشر من بينهم؛ ولكن تلك العادة تحدث فقط تحت ظروف خاصة. من بينها: إناث الثدييات تكوِّن رابطة ثنائية حينما لا يستطعنَ أن يربِّينَ صغارهن بمفردهن.
مثل الثعالب. الثعلب وأنثى الثعلب يكونان رباطًا ثنائيًّا في منتصف فبراير، يحفران جحورًا عديدة، ويربيان صغارهما معًا. يفعلان هذا لأن الأنثى تحمل أكثر من خمسة صغار ضعيفة لا حول لها ولا قوة، تولدُ عمياء وصماء. حليب الأنثى يكون خفيفًا للغاية حتى إنها تضطر للبقاء في الجحر بشكل مستمر تقريبًا لإرضاع صغارها. تكاد تموت من الجوع ما لم يطعمها أحد. لهذا تكوِّن هي و«صديق خاص» ما رابطة ثنائية ليربِّيا معًا صغارهما. وبينما يشرع الصغار في التجوال خارج الجحر في ذروة الصيف، ينفصل الرفيقان. انتهت مهمتهما معًا. في العام التالي ربما يعيد الزوجان رباطهما، ولكن في الأغلب سوف يتخذ كلٌّ منهما رفيقًا مختلفًا.
مسلسل أحادية التزاوج شائع لدى أصدقائنا من ذوي الريش. طائر أبو الحنَّاء المغرد الذي يُزيِّن بموسيقاه وحضوره حدائقنا كل ربيع، يترافق في ثنائيات مع كل موسم تزاوج. لا شك أن الرفيقَين يتقاسمان الواجبات كذلك. أحدٌ ما لا بد أن يرعى البيضة حتى تفقس، ثم يحمي الفراخ الوليدة؛ بينما يقوم الآخر بتوفير الطعام للأسرة. يُفرخ ذاك الثنائي الناجح مواليدَ عديدة ويُربِّيها. ولكن، ما إن تنمو الأجنحةُ الصغيرةُ وتطير بعيدًا، ينفصل الأبوان. في العام التالي، العديد منها سيتخذ شريكًا جديدًا.
وهكذا، في تلك الفصائل التي تترافق لتربِّي الصغار، يبقى الكثير منها فقط بما يكفي لكي تنموَ صغارها وتتجاوز مرحلة الطفولة.
وهكذا فإن فترة حضانة الإنسان متماثلة بشكل عام في أنحاء العالم كافة لفترة الزواج التي تنتهي بالطلاق.
«المشكلة ممكنة فقط في ملابس العمل.» هكذا كتب خبير الصناعة هنري ج كيزر. وما إن تطور مسلسل التزاوج الأحادي عبر أجيال لا تُحصى، أعتقد أن هذا المراس الفطري البشري مختار لدوائر مخية كهربية قصيرة المدى في اتصالها. بالتزامن مع هذا الابتداع الملحوظ جاءت الفكرة البشرية التي تُسمَّى «الأب»، «الزوج» والأسرة التي تتمركز حول النواة، والميل الإنساني لعدم الراحة من العلاقات الطويلة، وولع الإنسان بفصم العلاقة والتزاوج من جديد: مسلسل التزاوج الأحادي.
ولكن هل هذا الميل الفطري إلى تكوين شراكة قصيرة الأمد، تسبَّب في إشعال تطور الحب الرومانتيكي لدى الإنسان؟
ربما تسبب. ربما الانجذاب الذي يشعر به التشيمبانزي والمخلوقات الأخرى نحو رفيق «مخصوص» قد أصبح أكثر حدَّة واستمرارية، حتى إن الرجال والنساء البدائيين بدءوا في تكوين ثنائيات لتنشئة الصغار باعتبارهم فريقًا. وعندئذٍ ما إن يبدأ الانجذاب في الانحسار ببطء، حتى تنموَ مشاعر التلاصق الحادة. حينما يبدأ صغيرهما في الحبو خارج مرحلة الطفولة، أظن أن الزوجين يبدآن في البحث عن حب طازج. شركاء قليلون ربما يبقون معًا لكي يُنجبوا أطفالًا أكثر؛ والعديد غيرهم يبحثون عن رومانس جديد — وبلا وعي يُدفعون لإنتاج أطفال جدد.
لكن عملية التزاوج بالتأكيد كانت أسهلَ على نحو ما منذ ٣٫٥ مليون سنة. أقول هذا لأن أولئك الجنوبيِّين كان لديهم فراغٌ جمجمي حوالي ٤٢٠سم مكعب، أكبر على نحو طفيف من متوسط حجم جمجمة التشيمبانزي. وأشارت الانطباعات التي تكوَّنت حول الغشاء المخي الموجود داخل جماجم تلك الحفريات إلى أن نطاق اللغة البشرية لم يكن قد اتسع. لم يكونوا يتحدثون بالطرائق الإنسانية المعتادة. علاوة على هذا، لم يترك الأجداد رسومًا على جدران الصخور، وليس من مزامير أو طبال من صنع أياديهم. إنهم حتى لم يصنعوا سكاكين أو أقداحًا صخرية أو أي أدوات صخرية للصيد، وهي العلامة الدماغية للنوع البشري. أسلافنا لم يكونوا قد طوروا الموهبة اللغوية أو أي أدوات غزلية مما تتفاخر بها الإنسانية. تطور اللغة ترادف مع تطور تلك المواهب الإنسانية المميزة في الغزل، تلك التي أعتقد أن الحب الرومانسي لا بد أن يُزهرها.
لكي يغازلوا، كان على الجنوبيِّين الأوائل أن يعتمدوا على حالتهم في المجموعة، على حكمتهم وسحرهم الشبيهَين بما لدى التشيمبانزي. ربما كانوا يشعرون بعمق بالانجذاب نحو رفيق ما، وربما بقوا ملتصقين برفيق التزاوج لعدة سنوات. لكن العديد منهم ذهب ليغازل ويحب رفيقًا جديدًا.
(٤) «أيها العالم الجديد الجسور»
أسلافنا هابيليس كانوا أيضا يتجمعون حيثما يبدو أنها أمكنة لتوليد اللحوم. هناك كانوا يجرُّون كتلًا ضخمة من نتاج لعبة القنص، ثم يجلسون ويقطِّعون شرائح اللحم بالعظام، يزيلون النخاع والدهون، ثم يتقاسمون الطعام. وُجد حوالي ٢٥٠٠ قطعة من عظام الحيوانات في تلك الأكوام من النفايات. ثمة دلائل على أن أسلافنا كانوا يقنصون تشكيلة ضخمة من الحيوانات الكبيرة، أيضًا. الحمار الوحشي البدائي، الخيول، الخنازير، القرود، الغزلان، وعدة أنواع أخرى من الظباء كانت من ضمن طرائدهم. ولأن تلك الحيوانات كانت كبيرة الحجم جدًّا لأن تُستهلك على نحو فردي، فإن أقرباءَنا كانوا يتقاسمون غنائمهم تبعًا للقواعد الاجتماعية المُتَّبعة.
وتركوا أيضًا ما يمكن اعتباره دليلًا على الحب الرومانتيكي.
بعض أولئك القنَّاصة تركوا عشرات الأدوات الحجرية حول فيل ساقط. عظامه كافة بقيَت ما عدا نابه وحوافر أصابع قدميه. هل أزالوا تلك الزوائد كتمائم لجلب الحظ في القنص، أم في الحب؟ هل كان أولئك القناصة يمنحون تلك التذكارات لكي يلسبوا قلوب فتيات «لهن خصوصية ما»؟
أقترحُ تلك الاحتمالات جميعها؛ لأن تلك الأقوام كانت آخذة في نمو العقل واكتساب الذكاء. أحد أولئك اﻟ هومو هابيليس، ممن عاش قبل حوالي ١٫٨ مليون سنة فيما يعرف الآن بالمناطق الوعرة «كوبي فورا» بكينيا، بلغ حجم الفراغ الذي شغله المخ لديه حوالي ٧٧٥سم مكعب. أصدقاؤه وجيرانه كان حجم الجمجمة لديهم في متوسط ٦٣٠سم مكعب. وجدير بالملاحظة أن إحدى الجماجم التي عمرها ١٫٨ مليون سنة كان بها فراغ في الجانب الداخلي وهي تعادل المنطقة المخية التي نعرفها اليوم باسم منطقة بروكا. يستخدم الإنسان تلك المنطقة المخية لتكوين الكلمات وإنتاج الأصوات التي تشكِّل اللغة البشرية.
إنه الكلام. ثمة نظريات مختلفة عدة حول تطور اللغة البشرية حتى أعلن مجمع اللغويات في باريس عام ١٨٦٦م أنه لن يقبل مقالات جديدة حول هذا الموضوع. هذا الإعلان تقريبًا لم يردع أحدًا. وأنا لن أقدم نظرية تفصيلة أخرى. ومع هذا، فحينما بدأت منطقة بروكا المخيَّة في اتخاذ شكلها الآدمي منذ ١٫٨ مليون سنة، أصبح منطقيًّا الاعتقادُ بأن بعض أسلافنا قد بدءوا في الكلام بنوع ما من اللغة البشرية البدائية.
بوسع المرء بالتأكيد أن يرى أهدافًا عديدة للغة، عن طريق الصخب الذي يحمل أو لا يحمل المعنى، تشكَّلت ثم أُعيد تشكيل الكلمات، وبالكلمات المتواترة نحويًّا تكونت الجملة. رجال ونساء اﻟ هومو هابيليس استطاعوا تكوين الجدل، صفقات الهجوم، مؤازرة القادة، الاحتيال على العدو، تعليم المهارات، توبيخ الغشاشين، نشر الأخبار، وضع القواعد، تسكين الحزن والدموع، الدفاع عن الأقرباء، استرضاء الآلهة، واستدعاء الأحداث التي حدثَت منذ سنوات.
الأحاديث الآدمية الأولى كانت غالبًا حول الطقس. أقول هذا لأنني ألاحظ أهمية حديث الناس حول هذا الأمر وتكراريته. لا شك أن أسلافنا أيضًا كانوا يتناقشون حول: أي طريق سلكه الحمار الوحشي، عند أي جرف تحتشد القرود الأفريقية وقت الغسق، البطيخ الناضج بالقرب من الوادي الضيق، ولماذا كان طفل «مارا» يبكي في الليل. من المحتمل أنهم قد عبَّروا عن مئات الأفكار الأخرى والمشاعر التي كانت تمرُّ في يومهم، أو البارحة، أو الغد.
لكنهم عن طريق الكلمات أيضًا استطاعوا أن يمارسوا الغزل. كان بوسع الرجال والنساء قص الحكايات الذكية، وإنشاد النغمات الجنسية، وإغواء العشاق المحتملين بأفكار مثيرة. عن طريق الكلمات، كان بوسع أسلافنا أن يجاملوا، يُغووا، أو يشاكسوا. كان بوسعهم أن يُثرثروا، يسردوا الحكايا، وأن يتهامسوا مع الأحبة أيضًا. وفيما أخذت اللغة البشرية الأولى في الظهور بالتدريج، لا بد وقد بدأ أسلافنا هذه الدردشة البشرية التي لا نهاية لها حول «هو»، و«هي». في هذا التوقيت من رحلة تطور الإنسان، أظن أن الدوائر الكهربية للمخ في جاذبية الحيوان قد بدأت تتطور إلى الصيغة البشرية: الحب الرومانتيكي. أضع هذه الفرضية بسبب سلسلة من الأسباب ذات الصلة.
(٥) فتى ناريوكوتوم
على أنه، هو وأقرباؤه من ذوي القوائم المنتصبة، كانوا قد تطوروا في نواحٍ عدة. أولئك الناس صنعوا أدوات مدهشة، تُعرف باسم الفئوس اليدوية. بعضها كان على شكل حبَّة اللوز، والبعض مثل الكمثرى أو دمعة العين؛ والعديد منها بلغ طوله ١٧ بوصة من القمة المدببة وحتى القاع المستدير، وجميعها كانت متوزانة النسب ومتناسقة. هذا الفن الشعبي كان له أحاديثه من أجل صناعة الأدوات والأسلحة البدائية. وتركوا خلفهم آلافًا من الفئوس اليدوية انسيابية الشكل، وكذا ما لا حصر له من تشكيلة السواطير، والمعاول، والسكاكين، على طول المستنقعات والبحيرات والشلالات والأنهار في أفريقيا الشرقية. كانوا قنَّاصة.
كانوا يصرعون المخلوقات الضخمة أيضًا. فقد خلَّفوا وراءهم مئات الأدوات حول هياكل خراتيت، أفيال، أبقار، وحمير وحشية. لكي يتتبعوا، يحاصروا، ثم يقتلوا تلك الضواري، كانوا بحاجة إلى مهارات مكانية ذات حساسية. لكي يُكوِّموا غنيمتهم، كانوا بحاجة إلى ذاكرة لروابطهم الاجتماعية والتزاماتهم ومهارات لغوية متقدمة. لكي يُشبعوا، يمنحوا، ينسقوا، يتعاونوا كجماعة، لا بد أنهم احتاجوا إلى روح الدعابة، والحنوِّ، والعديد من المهارات الاجتماعية التنفيذية الأخرى كذلك. الرجال والنساء من السلالة المنتصبة القامة التي تسير على قدمين في طريقها لأن تغدوَ بشرًا.
صبي ناريوكوتوم وأقرباؤه أيضًا روَّضوا النار.
لا الكمبيوتر، ولا المطبعة، ولا الآلة البخارية، كانت السبب في تحول الإنسانية مثلما فعل ذلك التطور التكنولوجي الأوَّلي: التحكم في اللهب.
عن طريق النار كان بوسعهم تصليد رءوس الرماح، طرد الثدييات الصغيرة من جحورها بالدخان، دفع الفيلة نحو المستنقع، سرقة عشاء الأسد، وإخافة كل أنواع الكائنات من كهوفها، ثم الاستيلاء على تلك الكهوف. المريض، الصغير، العجوز، كان بوسعه اللجوء إلى المعسكر. كانوا قادرين على صيانة المعسكر. وكان بوسعهم مواصلة النهار بالليل، يتحدثون حول لهب النار، وينامون في حماية بريقها. متحررين من إيقاعات الحيوانات الأخرى كافة، أسلافنا القدامى أولئك كان لديهم الوقت للغناء والرقص، يسترضون القوى المجهولة، يتأملون الأمس، يقررون الغد، ويستكشفون الأفق المترامي عند الشمال.
كانوا يستكشفون، حاملين الجمر الملتهب، نزح أسلافنا ذوو القامات المنتصبة خارج أفريقيا لكي يستكشفوا مناخات أكثر برودة، لأنهم قدروا على ذلك. منذ حوالي ١٫٨ مليون سنة بدأ طقس الأرض يتحول إلى الإغراق ليبدأ العصر الجليدي. دوريًّا، كانت جبال الجليد تسحب مياه المحيطات فينخفض مستوى سطح البحر في العالم أكثر من ثلاثمائة قدم، تاركًا طرق الأراضي الواسعة خارج أفريقيا. قطعان الحيوانات الضخمة كانت تتجه صوب الشمال لترعى في أراضٍ جديدة طازجة. وكانت عائلات الكائن المنتصب القادمة تَتْبعهم، تاركةً وراءها العظام والأدوات في أوروبا البعيدة، الصين، جزيرة جاوة بأندونيسيا منذ أكثر من مليون سنة.
(٦) قوة المخ
من بين كل النعم التي منحَتنا إياها النار، يظل الأهم ربما هو مقدرة الجنس البشري على طهو الطعام. وفي اعتقادي أن هذا الإبداع قد ساهم على نحو ملحوظ في تطور الحب الرومانتيكي لدى الإنسان.
هكذا بالضبط فعل الإنسان الأول المنتصب القامة. كان لدى صبي ناريوكوتوم حجمٌ جمجميٌّ يبلغ ٨٨٠سم مكعبًا. وبعض أقربائه كان يصل حجمُ جمجمته إلى ١٠٠٠سم مكعب؛ ليس أصغر كثيرًا من حجم الجمجمة لدى الإنسان المعاصر الذي يبلع ١٫٣٢٥سم مكعبًا.
الأمخاخ الأكبر حجمًا تُسبب مشاكل للنساء، مأزق لحظة الولادة هي الأمخاخ التي أعتقد أنها أسرعت من تطور الحب الرومانتيكي.
(٧) مأزق الولادة
كيف أمكن لنساء البشر منتصبي القامة أن يحملنَ أجنَّة برءوس كبيرة الحجم عبر قنواتهن الولادية الضيقة؟ حجم الحوض البشري لا بد أن يستعيدَ شكلَه الأساسي لكي يُمكِّن الإنسان من المشي منتصبَ القامة. وهكذا وبما أن رأس الجنين قد ازداد في الحجم، أصبحت النساء من أسلافنا مضطرة لأن يلدنَ أطفالهن في مرحلة «مبكرة» من التطور والنمو. يعتقد الأنثروبولوجيون أن «مأزق الولادة» هذا قد بدأ في الحدوث في الوقت الذي وصل فيه حجمُ الجمجمة للإنسان البالغ حوالي ٨٠٠سم مكعب، في عصر الإنسان الأول المنتصب القامة.
لا شك أن نساء كثيرات قد مُتْن وهنَّ يحاولنَ أن يلدنَ أطفالهن ذوي الرءوس الكبيرة. لكن الطبيعة تحب التنوع، وبعض النساء المحظوظات كنَّ قادرات على ولادة أطفالهن في مرحلة مبكرة من النمو. أولئك الأطفال عاشوا. وسرعان ما تطورَت في أسلافنا سماتٌ خاصة بفصيلنا البشري: أطفال غير مكتملي التطور يحتاجون الحضانة.
مع هذا التطور في النشوء أصبح على النساء من أسلافنا المنتصبي القامة أحمال أكبر في مهمة الأمومة.
يا لَه من عبء وأحمال — الأطفال الصغار، الضعاف، المحتاجون الرعاية يظلون مزعجين، عنيدين، دون مهارات، وجوعى لمدة تصل إلى عشرين سنة.
في أصل لعبة القنص الكبرى، الأدوات والأسلحة المدهشة، ترويض النار، أمخاخنا الآخذة في النمو، أطفالنا المحتاجون للرعاية، فترات مراهقتنا الممتدة، ومشوارنا من أفريقيا داخل تشيلي، العالم الشمالي الخَطِر، لابد أن أسلافنا قد شعروا بضغوط هائلة ليجدوا رفقاءهم الذين يعيشون معهم لمدة أطول من الزمن. حيث إن الأمومة وتنشئة الطفل قد أصبحت أصعب كثيرًا من أن يتحملها شخص بمفرده.
مع هذا الاحتياج الهائل للبحث عن واختيار شريك علاقة طويلة المدى، انبثقت، كما أظن، دوائر المخ الكهربية لدى الإنسان، تلك المسئولة عن الحب الرومانتيكي.
(٨) تطور الحب الرومانسي لدى البشر
أعتقد أن الرجال الأوائل من ذوي القامة المنتصبة (والنساء) كانوا يبحثون عن التأثير في رفقائهم المحتملين بفضائلهم وتمايزهم قبل أكثر من مليون عام.
الأكثر أهميةً لحكايتنا، بينما كان المُغازلون يُظهرون مواهبهم الخاصة المختلفة، فإن أولئك الذين «يشاهدون» تلك المناورات والحِيَل الغزلية بدءوا (وبدأْنَ) يحتاجون إلى قدرات متقدمة من الإدراك، الحكم، البصيرة، الذاكرة، الوعي، التيقظ والانتباه، الوعي بالذات، والعديد من ميكانيزمات المخ الحاذقة لكي يمايزوا ما بين المغازلين.
يحتاجون كذلك غريزة بيولوجية هائلة تدفعهم لأن يركزوا طاقتهم الغزلية على شريك عشقي بعينه، وغريزة متينة لكي يكونوا راغبين في إقامة التزام طويل الأمد نحو هذا الفرد المخصوص، حتى إنه قد يموت من «أجله» أو من «أجلها».
«الذي لا يقتلني، يجعلني أقوى.» كما كتب فريدريك نيتشه. من بين البشر المنتصبي القامة، كان اختلافُ الميلاد وتأخُّر سنِّ النضوج عاملَين لإسراع الحاجة إلى رابط طويل المدى ومن ثَم الحاجة إلى المهارة الغزلية. وهذا الضغط الغزلي أعلى من قيمة المواهب البشرية الاستثنائية المدهشة، وكذا الآلية الذهنية البشرية لكي تُقدَّر تلك المواهب، وأيضًا تطورت الدوائر المخية الكهربية من أجل الحب الرومانتيكي، العشق الذي يدفع «المغازِل» و«المغازَل» لكي يصنعَا التزامًا عميقًا يربِّيان به صغارهما معًا لسنوات وسنوات.
«أوَّه، بكل رغبتي، سوف أقتفي أثرك بكُليَّتي.» أعلن والت ويتمان. لطالما احتاج الرجالُ والنساء إلى قول تلك الكلمات منذ مليون عام.
(٩) العقل يتطور مع النهار
بالطبع، كان لأسلافنا أسبابٌ حيوية أخرى لكي يُطوروا القدرات الإنسانية الفريدة. احتاج فتى ناريوكوتوم وأقرباؤه أن يشعروا بالتعاطف مع الرفقاء المجروحين، وبالصبر مع الأطفال العُنَّد أو غريبي الأطوار، وبالتفهُّم مع المراهقين المتبرمين الساخطين، وأن يطوِّروا التعاطف الاجتماعي مع أعضاء المجموعة من ذوي الصخب والغرور. كانوا فريقًا. وكان عليهم التحرك معًا فوق الحشائش، حقل القتال للكائنات الحية. حتى إن أولئك الذين كان بوسعهم أن يُدركوا المخاطر، يتذكَّرون فواجعَ الماضي، يضعون التوصيات، يطرحون البدائل والخيارات، ثم يُقرُّون القرارات، يحكمون المسافات، يستشرفون العوائق، ويُقنعون الرفاق بالتصرفات المنطقية وأساليب المخاطبة التي تحيَا على اختلافاتها. كان العقل البشري يتطور مع ضوء النهار.
ولكن بعد الظلام، كان عليهم التجمُّع حول وهج النار لكي يَشْووا لحومهم، ويشحذوا رماحهم، ويُهدهدوا أطفالهم، يقلدوا النعام، الخنزير البري، أو النمر الأسود، لن يناموا كما كانت تنام أقوامهم القدامى. لا بد أنهم كانوا يغنون أغنيات عن الشجاعة، الثبات والجَلَد، الإخضاع والغزو، يَثِبون ويتبارَون ليستعرضوا الجسارة والمثابرة، يبكون ليُظهروا التعاطفَ والوُدَّ، يتمازحون ليستعرضوا ذكاءَهم وفطنتهم. الكثير منهم أيضًا كانوا يتعانقون. مع ضوء القمر، بدأت مواهبنا المدهشة تأخذ شكلها البشري.
(١٠) الخطو نحو الحداثة
مع مرور الزمن، ظل أسلافنا يتركون أدلة متزايدة حول حياتهم الغزلية. منذ حوالي ٥٠٠٠٠٠ عام، كان لأحد الأشخاص، فيما يُعرف اليوم بأثيوبيا، مخٌّ يَصِل حجمُه إلى ١٫٣٠٠سم مكعب، حول متوسط حجم المخ البشري الحديث. كان له، أو لها، بكل تأكيد مخٌّ مركب – وعقلٌ قادر على العاطفة الرومانتيكية.
منذ ستين ألف سنة كان سكان جبال زاجروس بشمال شرق العراق قد دفنوا جثمانًا في قبر غير عميق في أحد نهارات شهر يونيو، ثم غطوا الجثمان بنبات الخبار البري، وزهور الزنبق ونبات الكرمة، وأشواك الدردار، وأزهار الشيح. ربما كان أحدهم يتوق لرؤية محبوبته في الحياة الأخرى بعد الموت. في هذا الوقت نفسه، كان أحد الأشخاص في فرنسا يسحق كتلَ الهيماتيت والمنجنيز ليصنع بودرة من التربة الحمراء والرمادية والبيضاء. بكل هذا، كانت المرأة تُزيِّن ردفَيها وثديَيها من أجل رقصة الصيف.
منذ حوالي ثلاثين ألف سنة، كانت شعوب كرو-ماجنين يتباهون بجماجم تُشبه الجماجم البشرية الحديثة على نحو كامل، وأمخاخ تُماثل ما لديك وما لديَّ. الآن أصبحوا يزينون كلَّ شيء يلمسونه تقريبًا. الفنانون المميزون هبطوا إلى كهوف تحت فرنسا وإسبانيا ليرسموا الثور والغزال، والوعل، ووحيد القرن، والأسود، والدببة، والوحوش السحرية على جدران الكهف الرطبة. تلك المخلوقات الحمراء والسوداء والصفراء كانت تصطفُّ في تلك الكهوف الصغيرة بتلك الطاقة التي بثُّوها فيها. في هذا الصمت المطبق التام لتلك الكهوف، راح الموسيقيون يعزفون الناي ويقرعون الطبول. وكان المئات يرسمون فنونهم على الصخور الجدارية. وترك النحاتون وراءهم نماذجَ لتماثيل صغيرة لثيران بالطمي المحروق. ولا تزال بعض آثار الأقدام في بعض الكهوف تُنبئنا عن أولئك الراقصين على النور الخافت لمصابيح الزيت.
من أوروبا إلى سيبريا، كان الناس يحفرون تماثيلَ لإناث ممتلئات القوام باعتبارهن نماذج للخصوبة، إلى جوار تماثيل صغيرة لنساء حقيقيات كانوا يعرفونهن بالتأكيد. كان القناصة ينحتون مقابض الأدوات من العاج على هيئة خيول رشيقة. كما زيَّن الرجال والنساء أنفسهم بحبات الخرز، والقلائد، والوشم، كذلك بالقبعات، ربطات الشعر، والأثواب الفضفاضة. تُنبئنا الرسومات الجدارية حتى إن النساء كُنَّ يُصففنَ شعرهن.
حينئذٍ منذ حوالي ٤٠٠٠ سنة، كتب أحدُ قاطني سومر القديمة أولَ رسالةِ حبٍّ وُجدت في التاريخ، منقوشة باللغة المسمارية على أول قطعة من الطمي شُكِّلت على شكل منتظم. ترقد تلك الرسالة الآن في المتحف الشرقي القديم بإسطنبول بتركيا، بوصفها كارت معايدة من الماضي. هذا الشخص كان يحب. هو، أو هي، غمرَته مشاعر النشوة والفرح ذاتها، التي يشعر بها العشاق منذ مليون عام.
(١١) سعةُ الإنسان على الحب
كنت قد اقتنعتُ أن سكيبر، ماريا، تيا، وبقية الحيوانات التي أصبحَت مفتونة برفقائها التزاوجيين، تشعر بذات المشاعر التي تشعر بها أنت، وأشعر بها أنا، حينما نقع في الحب. كنت أفسر ذلك بأن أسلافنا بينما بدءوا يصبحون أكثر ذكاء، أخذَت النزعة الإنسانية لديهم في تطعيم تلك المغناطيسية الحيوانية بزخارف من العادات الثقافية والمعتقدات. لكنني غيَّرتُ رأيي. ما أقنعني بأن تلك التجربة الإنسانية في الحب الرومانتيكي أكثر تعقيدًا بما لا يُقاس — وأكثر عنفًا — هو معمار المخ المدهش الذي يُفعِّل إداركنا ومشاعرنا.
«المخ هو ثاني ما أفضله من أعضاء»، هكذا كان يمزح «وودي آلين» كما يُشاع. لو فكر وودي بعمق في قدرات العقل البشري، لجعله رقم واحد. فنحن أكثر ذكاء، أكثر مرحًا، أكثر حذقًا، وفنًّا، وروحانية، ومقدرةً على الابتكار، أكثر إيثارًا — وإثارةً جنسية — من أي حيوان آخر، لدرجة أنك لو استطعت بطريقة ما أن تُجمِّع كلَّ القدرات الذهنية لكل الكائنات غير البشرية، فإنها لن تتساوى مع قدرات طفل صغير في السابعة من عمره.
أظن أن العدَّة الذهنية التي تُنتج تلك المواهب الإنسانية تخلق أيضًا في النزعة الإنسانية «سعةً أضخم» من الحب الرومانسي.
ليس وحسب أن المخ البشري فقط أكبر حجمًا وأكثر تعقيدًا، بل تقريبًا كل مناطقه المتخصصة قد تمدَّدَت.
بهذه المنطقة المخية المهمة، القشرة الدماغية الأمامية، كان بوسع البشر امتلاك سعة هائلة للتفكير «فيه» أو «فيها».
انطلقَت الإنسانية من بوتقتها الدغلية. يومًا ما ربما ننطلق من الأرض ونُحلِّق صوبَ النجوم. أولئك الرحَّالة سوف يحملون في رءوسهم تلك الآلة الذهنية الأنيقة المدهشة التي ولدت على عشب أفريقيا القديمة قبل مليون سنة. بين تلك المواهب الخاصة سوف تكون الفطنةُ والذكاء، موهبة الشعر، الفنون، الدراما، روح الخير والمحبة، والعديد من خصال الغزل الأخرى، متضمنة قدرة الإنسان المدهشة لأن يغرق حتى أُذُنَيه في العشق.
(١٢) الحبُّ النزويُّ
كما تعلمون، الحب الرومانسي ليس بالضرورة يمشي يدًا بيد مع الرغبة في التواصل من أجل رفيق تزاوجي لمدى طويل. بوسعك أن تقع في الحب مع شخص له مشوار آخر في الحياة قد لا ترغب أبدًا في الزواج منه. وبوسعك أن تشعرَ بالعاطفة الشديدة تجاه شخص أثناء شعورك العميق بالالتصاق بآخر، هو عادة الزوج. أكثر من هذا، ربما تمارس الجنس مع شخص قد لا تشعر نحوه بأيِّ حب رومانسي، وحتى قد تشعر بمشاعر رومانسية مع شخص بينما تتزوج بآخر. يا لَلجنون، أن تكون مشتبكًا اجتماعيًّا أو جنسيًّا مع شخص ما، وغارقًا بعنف في غرام شخص آخر.
لماذا تصبح دوائر المخ الكهربية الخاصة بالحب الرومانسي متحررة من أحاسيس الشهوة والتواصل الطويل الأمد؟
أظن أن الحبَّ النزوي جزءٌ من خطة الطبيعة. لو كان للإنسان الأول المنتصب القامة زوجة واحدة وطفلان ثم وقع في غرام امرأة أخرى من زمرة مختلفة ومنحها في السر طفلين آخرين، فإنه سوف يُضاعف نسله. وبالمثل، فإن المرأة من أسلافنا ممن تزوجَت من رجل واحد وافتُتِنت بآخر لربما حملَت جنينَ حبيبها و/أو احتاجت طعامًا أكثر أو حماية لأطفالها التي أنجبتهم بالفعل. باختصار، فإن دوائر المخ النزوية حيال الحب الرومانتيكي متقلبة بفعل تصميم الطبيعة. فهي مكَّنت أسلافنا من أن يتبعوا اثنتين من الاستراتيجيات التناسلية المتعاقبة المترادفة. صبي ناريوكوتوم وكل أقربائه كان بوسعهم إنشاء علاقة تزاوجية مستحسنة اجتماعيًّا مع رفيق واحد، مع عشيقٍ سريٍّ، كان بوسعهم إنجاب أطفال إضافيِّين و/أو يتطلبون مصادر إضافية من ثم أيضًا.
قد بُنينا لكي نحب، ثم نحب مرة أخرى. أيُّ بهجة تجلبها تلك العاطفة حينما تكون أعزب وتبدأ الخروج للحياة، أو تكون مطلقًا في منتصف العمر، أو كنتَ وحيدًا في عمرك المتقدم! أيُّ ارتباك، أي حسرة يمكن أن تجلبها تلك الكيمياء حينما تتزوج شخصًا أُعجبت به، ثم تقع في غرام شخص آخر!
استقلالية هذا النظام المشاعري — الشبق، الانجذاب الرومانسي — كانت قد تطور لدى أسلافنا لكي يُمكِّن الرجال والنساء من الاحتفاظ بعدة علاقات في وقت واحد. ولكن تلك الدائرة الكهربية المخيَّة قد أحدثَت انزعاجًا هائلًا اليوم، متعلقة بمنظومتنا الاجتماعية العالمية وإطار الزنا والطلاق، الغيرة الجنسية الهائلة، المطاردة، والإحباط المرَضي المصاحب لرفض العاطفة.
الحب الضائع. تقريبًا كل إنسان على ظهر الأرض يعرف وجع الرفض. لماذا تسقط في اليأس حينما تفقد شخصًا تهيم به عشقًا وولعًا؟