قضية جسر ثُور
في مكانٍ ما في أحدِ أقبية بنك كوكس آند كومباني الحديدية، عند تقاطُع تشارينج كروس، ثَمَّةَ صندوقٌ معدِنيٌّ عتيقٌ أبلَتْهُ كثرةٌ الأسفار، مكتوبٌ اسمي على غطائه: جون إتش واطسون، طبيب، الجيش الهندي سابقًا. إنه متخمٌ بالأوراق، وأغلبها عبارة عن توثيقٍ لأمثلةٍ تُوضِّح القضايا الغريبة التي حقق فيها السيد شيرلوك هولمز في مختلف الأوقات. بعض هذه القضايا — وليستْ أقلَّها إثارةً للاهتمام — فشِلتْ فشلًا ذريعًا؛ لذا فهي تقريبًا لا تستحق أن تُروى؛ لأنه ليس في المُتناوَل حلٌّ نهائي لها. إن قضيةً من دونِ حلٍّ قد تُثير اهتمام الباحثِين، لكنها سوف تُزعج القارئ العادي. من بين هذه القصص غير المكتملة قصة السيد جيمس فيليمور، الذي رجع إلى منزله ليأخذ مظلَّته، ومن يومها لمْ يُرَ قَط في هذه الدنيا. ولا تقلُّ غرابةً عنها قصةُ السفينة «أليشيا»، التي أبحَرتْ في صباحِ يومٍ من أيامِ فصل الربيع عبْرَ رُقعةٍ صغيرة من الضباب الرقيق ثُم لمْ تخرج منها بعد ذلك قَط، ولا عُرف عنها ولا عن طاقمها أيُّ شيء غير ذلك. وثَمَّةَ قصةٌ ثالثة تستحق أن أُشير إليها، وهي قصة إيزادورا بيرسانو، الصحفي والمُعارض المعروف، الذي عُثر عليه وهو في حالةٍ من الجنون التام وأمامه علبةُ أعوادِ ثقابٍ بها دودةٌ غريبة قيل إنها غيرُ معروفة للعلماء. بعيدًا عن هذه القضايا الغامضة، فإن هناك بعض القضايا التي تتضمَّن أَسرارَ عائلاتٍ يبلغُ من خصوصيتها أنه لو ظُنَّ فقط أنها قد تعرف طريقها إلى النشر لأدَّى هذا إلى انتشار الذعر في كثيرٍ من الأوساط العليا. لكنني لستُ في حاجةٍ للقول إنه من غير الوارد أن يحدُث مثلُ هذا الانتهاكِ للأسرار، وإن هذه المعلومات سوف تُفصَل جانبًا ويجري التخلُّص منها الآن؛ حيث إن صديقي لديه من الوقت ما يَسمحُ له بتوجيه طاقته لهذا الأمر. ولكن ستبقى بقيةٌ لا بأس بها من القضايا التي قد تزيد أهميتُها عن هذه أو تقل، والتي ربما كنتُ سأنشرها من قبلُ لولا أنني خشيتُ أن أُتخم الجمهور بما قد يُؤثِّر سلبًا على سمعة الرجل الذي أُجِلُّه قبل كل شيءٍ آخر. لقد كنتُ أنا نفسي مشتركًا في بعضها وأستطيع أن أرويَه روايةَ شاهدِ عِيان، في حين أنني لمْ أشْهَد بعضَها الآخرَ أو لمْ أُؤدِّ فيه سوى دورٍ صغيرٍ جدًّا بحيث لا يمكنُ روايتُه إلا بصيغة الغائب. أمَّا القصة التالية فإنني أقُصُّها من واقعِ تجربتي الشخصية.
كان صباحًا عاصفًا من أيامِ شهر أكتوبر، وقد لاحظتُ وأنا أرتدي ملابسي كيف كانت الرياح تنتزع آخرَ ما تبقَّى من أوراقِ شجرة الدُّلب الوحيدة التي تُزيِّن الفِناء خلف منزلنا، وكيف كانت تدور بها حولها. نزلتُ لتناول الإفطار في الطابق السفلي وأنا أتوقع أن أرى رفيقي في حالةٍ مزاجية كئيبة؛ لأنه — ككُل الفنانين العظماء — كان يتأثر بسهولةٍ بالبيئة المحيطة به. لكنني — وعلى عكسِ ما توقعتُ — وجدتُه وقد قارَبَ على الانتهاء من تناوُلِ وجبته، ووجدتُه مسرورًا مبتهجَ المزاج بصورةٍ واضحة، لكنه كان في حالةٍ من المرح المشوب بشيءٍ من الترقُّب، وهي الحالة التي تُميِّز أوقات خُلوِّه من الهموم.
عند ذلك بادرتُه قائلًا: «لديك قضيةٌ يا هولمز، أليس كذلك؟»
فأجابني قائلًا: «لا بُد أنَّ القدرة على الاستنتاج تنتقل بالعَدْوى يا واطسون؛ فلقد مكَّنَتْك من سبْرِ سرِّي. بلى، إن لديَّ قضية. بعد شهرٍ من الخوض في التفاهات والتعرُّض للبلادة عادتْ عجلاتُ عقلي للدوران مرةً أُخرى.»
«هل لكَ أن تُطلعني عليها؟»
«ليس هناك الكثير لأُطلعك عليه، لكن بإمكاننا أن نتدارسها بعدما تلتهم البيضتَين المسلوقتَين اللتَين تفضَّلَ بهما علينا طاهينا الجديد. ربما تكون حالتُهما غير ذاتِ صلةٍ بنسخةِ مجلة «فاميلي هيرالد» التي رأيتُها أمسِ فوقَ منضدة الرَّدهة؛ فحتى أشد الأمور تفاهةً؛ مثل سلق بيضة، يستلزم انتباهًا ويقظة لمرور الوقت، بخلاف قصص الحب التي في هذه المجلة الرائعة.»
بعد مرور ربع ساعةٍ كانت المنضدة قد نُظِّفت وأصبحتُ أنا وهو وجهًا لوجه. وهنا أخرجَ هولمز رسالةً من جيبه.
قال: «هل سمعتَ عن نيل جيبسون، المُلقَّب بملك الذهب؟»
«أتقصد عضو مجلس الشيوخ الأمريكي؟»
«في الواقع، لقد كان عضوًا سابقًا في المجلس عن إحدى الولايات الغربية في أمريكا، ولكنه صار الآن مشهورًا أكثر بكونه أعظمَ قطبٍ من أقطاب التنقيب عن الذهب في العالم.»
«نعم، أعرف من يكون. لا شكَّ أنه يعيش في إنجلترا منذ مدةٍ من الوقت. إن اسمه مألوفٌ جدًّا.»
«نعم، لقد اشترى ضيعةً كبيرةً في مقاطعةِ هامبشير منذ ما يُقارب خمسَ سنوات. لعلك قد سمعتَ عن النهاية المأساوية لزوجته، أليس كذلك؟»
«بلى. لقد تذكَّرتُها الآن. هذا هو السبب وراء كون الاسم مألوفًا لديَّ. لكنني في الواقع لا أعرف شيئًا عن التفاصيل.»
أشار هولمز بيده إلى بعضٍ من الأوراق فوق كرسيٍّ وقال: «لم تكن لديَّ فكرة أن القضية ستُتاح لي، وإلَّا لكنتُ جهَّزتُ معلوماتٍ عنها. والحقيقة أنه برغم الحساسية الكبيرة لهذه القضية، فلا يبدو أن بها شيئًا من الصعوبة. إن شخصيةَ المتهمةِ المثيرة للاهتمام لا تُنقص من وضوح الدليل. كان هذا هو الرأي الذي تبنَّاه مُحَلَّفو مُحققِ الوَفَيات، وهو ما أقره كذلك مَحضرُ محكمة الجنح. ولقد أُحيلتِ القضيةُ الآن إلى المحكمة الجنائية في مقاطعة وينشستر. أخشى أنها ستكون مهمةً شاقة. إن بإمكاني أن أكتشف الحقائق يا واطسون، لكنني لا أستطيع تغييرها. وإذا لم يتكشَّف منها ما هو جديدٌ وغير مُتوقَّع تمامًا فلستُ أدري ما الذي يرجوه موكِّلي.»
«موكلك؟»
«آه، لقد نسيتُ أنني لم أُخبرك. إنني أمارس طريقتكَ المعقَّدة يا واطسون في سرد القصة من نهايتها. كان يجدُر بك أن تقرأ هذه أولًا.»
فندق كلاريدج
الثالث من شهر أكتوبر
عزيزي السيد شيرلوك هولمز
ليس بإمكاني أن أرى أفضلَ امرأةٍ خلقها الربُّ تلقى حتفها دون أن أفعل كلَّ ما يُمكن لإنقاذها. أنا لا أستطيع تفسيرَ ما جرى، ولا أستطيعُ حتى أن أُحاول تفسيره، ولكنني موقِنٌ يقينًا لا يتطرق إليه شك أن الآنسة دنبار بريئة. إنك تعرف بما جرى، ومن الذي لا يعرفه؟ إنه موضوع ثرثرةِ البلاد كلِّها. لكن لمْ يرتفع أيُّ صوتٍ قَط للدفاع عنها! إن ما يُفقدني صوابي هو ذلك الظلم اللعين الذي يكتنف القضية برمتها. إن لهذه المرأة قلبًا لا يسمح لها بقتل ذبابة. حسنٌ، سوف آتي لزيارتكَ غدًا في الساعة الحادية عشرة لأرى إن كنتَ تستطيع إلقاءَ بصيصٍ من الضوء على عتمةِ هذه القضية. وربما يكون معي مِفتاحٌ لحلها وأنا لا أدري به. وعلى كلِّ حال، فإنَّ كلَّ ما أعرفه وكل ما أملكه، بل أنا شخصيًّا، تحتَ تصرُّفك إذا كنتَ فقط تستطيع إنقاذها. وإذا كنتَ يومًا ما ستُظهر أقصى ما لديكَ من قدراتٍ في حل إحدى القضايا، فاجعل ذلك الآن في هذه القضية.
قال شيرلوك هولمز وهو ينفض رماد التبغ من غليونه — الذي يُدخِّنه بعد الإفطار — ويعيد ملأه ببطء: «ها أنتَ ذا قد اطَّلعتَ على الرسالة. وهذا هو الرجل الذي أنتظره. أمَّا بالنسبة لتفاصيل القصة، فإنك لا تكاد تملك الوقتَ للإحاطة بكلِّ ما في هذه الأوراق من معلومات؛ لذا عليَّ أن أُلخِّصها لك إذا كنتَ تنوي أداءَ دورٍ مميزٍ في الأحداث. إن هذا الرجل يُمثل أعظمَ قوةٍ مالية في العالم، وهو رجلٌ — في حدودِ ما أعلم — ذو شخصيةٍ عنيفة ومرعبة للغاية. لقد كان متزوجًا من امرأةٍ — وهي ضحيةُ هذه المأساة — لا أعلمُ عنها شيئًا سوى أنها كانت في خريف العمر؛ الأمرُ الذي أراه من أشدِّ علاماتِ سوء حظها؛ حيث كانتْ تُشرف على تعليم طفلَيهما الصغيرَين مربيةٌ جذابةٌ للغاية؛ هؤلاء هم أطراف القضية الثلاثة. أمَّا عن مسرح الأحداث فهو قصرٌ كبير عتيق في ضَيعة الرجل، في قلبِ إحدى المقاطعات الإنجليزية التاريخية. أمَّا بخصوص الفاجعة التي حدثتْ؛ فلقد عُثر على الزوجة داخلَ المساحةِ المحيطةِ بالقصر والتابعةِ له على بُعدِ حوالي نصف ميل منه. كان ذلك في وقتٍ متأخر من الليل، وكانت ترتدي فستانًا رسميًّا، ويُغطِّي كتفَيها شالٌ وقد اخترقتْ رأسَها رصاصةُ مسدس. لمْ يُعثر على سلاحٍ بالقرب منها، ولمْ يكن ثَمَّةَ ما يُستدلُّ به على كيفيةِ وقوع الجريمة. لا سلاح بجوارها يا واطسون؛ انتبه لهذا! يبدو أن الجريمة ارتُكبتْ في وقت متأخرٍ من الليل، وقد وجدَ الجثة أحدُ حُراس الطرائدِ في حوالي الساعة الحادية عشرة؛ عندئذ عاينتْها الشرطةُ وفحصَها طبيبٌ ثم حُملتْ إلى القصر. هل هذا مُختصَرٌ أكثر مما ينبغي، أم إنك تستطيع فهمه بوضوح؟»
«الأمر كله شديد الوضوح. لكن لماذا الاشتباه في المربية؟»
«حسنٌ، أولًا، يُوجد دليلٌ مباشرٌ جدًّا؛ فلقد عُثر في خِزانة ملابسها على مسدسٍ أُطلقَت رصاصةٌ واحدةٌ من حجرة الذخيرة فيه، ويتماثل قُطر ماسورته الداخلي مع قُطر الرصاصة التي وُجدَت في رأس المجني عليها.» كانت عينا هولمز مثبَّتتَين وأعاد هذه العبارة بكلماتٍ متقطعة: «في … خزانة … ملابسها.» ثم غرق بعد ذلك في حالةٍ من الصمت، ورأيتُ في عينَيه سلسلةً من الأفكار قد أَخذَتْ في التحرك، ورأيتُ أنني كنتُ سأُصبح مغفلًا لو أنني قاطعتُها. وفجأةً وثبَ من مكانه وَثبةً عاد بها إلى نشاطه مرةً أخرى، وقال: «نعم يا واطسون، لقد عُثر عليه. إنه دليلٌ قوي على الإدانة، أليس كذلك؟ هكذا اعتَقدَت هيئتا المحلَّفِين. أمَّا ثانيًا، فلقد عُثر على رسالةٍ فوق جسد القتيلة تُحدِّد موعدًا للقاء في ذلك المكان نفسه، وكانت تحمل توقيع المُربية. ما رأيك في هذه الأسباب؟ وأخيرًا، فلنتكلم عن الدافع. إن السيناتور جيبسون رجلٌ جذاب. وفي حالِ ماتت زوجته، فمن التي يُتوقع لها أن تحُل محلَّها أكثر من السيدة الشابة التي — بحسبِ ما يقال — قد حظِيَت بالفعل بملاطفاتٍ مُلحَّة من ربِّ عملها. الحب، والثروة، والقوة؛ كل هذا مرهونٌ بالتخلُّص من شخصٍ في منتصف العمر. شيءٌ بشع يا واطسون! شيءٌ في غاية البشاعة!»
«نعم، بالفعل يا هولمز.»
«ولم تستطع كذلك أن تُثبِت غيابَها عن مسرح الجريمة لحظةَ وقوعِها. لكن على العكس من ذلك؛ فلقد كان عليها أن تعترف بأنها كانت قريبةً من جسر ثُور — الذي كان موضعَ وقوع المأساة — في تلك الساعة تقريبًا. لم تكن تستطيع إنكار ذلك؛ فلقد رآها أحد سكان القرية أثناء مروره من هناك.»
«يبدو الأمر محسومًا بالفعل.»
«وأكثر يا واطسون، وأكثر! إن هذا الجسر — وهو عبارة عن جسرٍ حجري واسع قائم على دِعامتَين اثنتَين، وعلى جانبَيه حاجزان مُزخرفان بأعمدةٍ صغيرة — يُستخدم لمرور السيارات فوق الجزء الأضيق من مسطحٍ مائي طويل وعميق يُطوِّقه القصب. يُدعى هذا المسطح بحيرة ثُور. ولقد وُجِدت القتيلةُ مُمددةً عند مدخل الجسر. هذه هي الأحداث الرئيسية. لكن — إذا لم أكن مخطئًا — ها هو ذا عميلنا، لقد جاء مبكرًا جدًّا عن موعده.»
فتح بيلي الباب، لكن الاسم الذي أعلن حضورَه لم يكن مُتوقَّعًا. كان السيد مارلو بيتس غريبًا على كلٍّ منا. كان رجلًا نحيلًا واهنًا مضطربًا، وكانت عيناه مذعورتَين وحركاتُه متشنجةً مترددة؛ وما كانت عين الطبيب داخلي لِتُشخصه إلا بأنه رجلٌ على حافةِ انهيارٍ عصبيٍّ كامل.
قال هولمز: «تبدو قلِقًا يا سيد بيتس. تفضَّل بالجلوس أرجوك. أخشى أنني لا أستطيع أن أمنحك سوى القليل من وقتي؛ فأنا مرتبطٌ بموعدٍ في الحادية عشرة.»
قال ضيفُنا لاهثًا مُطلِقًا جُملًا قصيرةً كمَن نَفِدَتْ منه أنفاسُه: «أعلم أن عندك موعدًا. السيد جيبسون في طريقه إليك. أنا أعمل لدى السيد جيبسون. أنا مدير ضَيْعته. إنه نذلٌ يا سيد هولمز، نذلٌ لعين.»
«هذا كلامٌ قاسٍ يا سيد بيتس.»
«يجب أن أكون حاسمًا يا سيد هولمز؛ فالوقت ضيق جدًّا، وأنا لا أريد أن يجدني هنا لأي سببٍ من الأسباب. إنه على وشك الوصول الآن. لكنني كنتُ في وضعٍ حرجٍ جدًّا فلم أستطع المجيء قبل ذلك. ولم يُخبرني سكرتيرُه، السيد فيرجسون، عن موعده معك إلا هذا الصباح.»
«وهل أنت مدير ضَيْعته؟»
«لقد أعلمتُه بما سأفعل؛ فبعد أسبوعَين من الآن سوف أكون قد تخلَّصتُ من استعباده البغيض. إنه رجلٌ قاسٍ يا سيد هولمز، قاسٍ في كل شيء. وما تلك الأعمال الخيرية المُعلَنة إلا ستارٌ يسترُ به خطاياه الخفية. لقد كان مُتحجِّرَ الفؤاد معها … نعم يا سيدي، كان مُتحجِّرَ الفؤاد! أمَّا عن كيفية وفاتها فلا أدري، ولكنني على يقين أنه كان قد أحال حياتها إلى جحيم. لقد كانت من سكان المنطقة الاستوائية؛ حيث وُلدت في البرازيل، كما تعلم بالتأكيد.»
«لا، لقد فاتتني هذه المعلومة.»
«كانت زوجته استوائية المولد والطِّباع؛ من أبناء الشمس والعاطفة. لقد أحبَّتْه تمامًا بقدْرِ ما تستطيع امرأةٌ أن تُحِب، لكن عندما ذبلتْ مفاتنُها الحسية — وقد سمعتُ أنها كانت مفاتنَ نادرةً فيما سبق — لم يَعُد لديها شيءٌ يأسِرُه. لقد كنَّا جميعًا نُحبها ونُشفق عليها كما كُنَّا نكرهه للطريقة التي كان يُعامِلها بها. لا تُسلِّم له بما يدَّعيه؛ فإن ما يُخفيه أعظم مما يُظهره. سوف أذهب الآن. لا لا، لا تؤخِّرني! لقد أوشك على المجيء.»
نظر ضيفُنا الغريب إلى ساعة الحائط نظرةً مذعورةً ثم جرى حرفيًّا ناحيةَ الباب واختفى عن أعيُننا.
قال هولمز بعد فاصلٍ من الصمت: «حسنٌ! حسنٌ! يبدو أن خدم السيد جيبسون مُهذَّبون أوفياء. لكنه تحذيرٌ مفيد، والآن لا يمكننا إلا أن ننتظر ريثما يظهر الرجل نفسه.»
في تمام الحادية عشرة سمعنا وقْعَ أقدامٍ ثقيلة على درجات السلم، وبعدها أدخلَ بيلي المليونيرَ الشهيرَ إلى الغرفة. عندما نظرتُ إليه لم أدرك فقط سببَ الخوف والبغض اللذَين يُبديهما مديرُ ضَيْعته، وإنما فطنتُ كذلك إلى كمِّ اللعنات التي انهالتْ على رأسه من مُنافِسيه الكثيرين جدًّا في مجالِ عمله. ولو أنني كنتُ نحَّاتًا وأردتُ تجسيدَ صورةٍ مثالية لرجلِ الأعمال الناجح ذي الأعصاب الحديدية والضمير المُتبلِّد لكان يجدر بي أن أختار السيد نيل جيبسون موديلًا لتمثالي. كانت قامتُه الطويلةُ الضامرةُ الحادةُ الملامحِ تنمُّ عن شيءٍ من التطلُّع والجشع. إنَّ تخيُّلَ نسخةٍ من أبراهام لنكولن مشغولةٍ بالدنيء من الأهداف بدلًا من الشريف منها ربما يُقرِّب صورة الرجل قليلًا إلى الذهن. أمَّا عن وجهه فكأنما نُحِتَ من الجرانيت؛ فلقد كان صارمًا خشِنَ الملامح منزوعَ الرحمة، ذا خطوطٍ غائرةٍ حفرَتْها فيه آثارُ جراحِ الكثيرِ من الأزمات. كانت له عينان رماديَّتان فاترتان، تنظران بدهاءٍ من تحت حاجبَين خَشِنَي الشعر منتصبَيْه، فراحتا تتفحصانِنا واحدًا تلو الآخر. انحنى الرجلُ في فتورٍ عندما قدَّمني له هولمز، ثم سحب كرسيًّا بطريقةٍ تنمُّ عن الثقة ورباطة الجأش ووضَعه قُرْب رفيقي ثم جلس عليه ورُكبتاه الناتئتا العظام تكادان تلمسانه.
ابتدأ كلامه قائلًا: «اسمح لي يا سيد هولمز أن أقول أولًا إن المال ليس مشكلةً بالنسبة إليَّ في هذه القضية. يمكنك أن تُشعِل به النار إذا كان لها أيُّ فائدةٍ في إضاءةِ طريق الحقيقة بين يدَيك. هذه المرأة لم تُذنب ويجب أن تُبرَّأَ من هذه التهمة، وعليكَ أنت أن تفعل هذا. حدِّد المبلغ الذي تريده!»
قال هولمز بفتور: «إن قيمة أتعابي ثابتة؛ وأنا لا أُغيِّرها إلا عندما أُعفي العميل منها كليًّا.»
«حسنٌ، إذا كان لا يعنيك شأن الدولارات ففكِّر في الشهرة. إذا نجحتَ في إنجاز هذه المهمة فسيَذيع صِيتُك في كل صحيفةٍ في بريطانيا وأمريكا. سوف تُصبِح حديث الناس في قارتَين.»
«أشكرك يا سيد جيبسون، لا أظن أنني محتاجٌ إلى الشهرة. وربما ستتفاجأ إذا علمتَ أنني أُفضِّل العمل دون أن يعرف أحد هُويَّتي، وأن نوع القضية نفسه هو الذي يستهويني. لكننا نُضيِّع الوقت الآن. فلْنلتفِتْ إلى مناقشةِ حقائق القضية.»
«أعتقد أنك ستجد جميع حقائقها الرئيسية في تقارير الصحف. ولا أظن أن بإمكاني إضافةَ ما من شأنه أن يساعدك. لكن إذا كان ثَمَّةَ ما تُريد إلقاء مزيدٍ من الضوء عليه، فلا بأس، أنا هنا من أجل ذلك.»
«حسنٌ، ثَمَّةَ مسألةٌ واحدة فقَط.»
«ما هي؟»
«ما نوعُ العلاقة التي كانت بينك وبينك الآنسة دنبار على وجه التحديد؟»
انتفض ملك الذهب في مكانه انتفاضةً عنيفة، ونهض واقفًا عن كرسيه نصفَ وقفة، ثُم عاد إليه هدوءُه الكبير ثانيةً.
وقال: «أفترِض أنك تستخدم حقَّك — بل ربما تقوم بواجبك — بتوجيه مثل هذا السؤال يا سيد هولمز.»
قال هولمز: «نتفق على افتراضِ هذا.»
«إذَن فإنني أؤكد لك أن علاقتنا ظلَّتْ في مُجمَلها وطيلةَ الوقت علاقةَ صاحبِ عملٍ بامرأةٍ شابة؛ لم يتحدث معها قَط ولم يَرَها قط إلا وهي في رفقة أبنائه.»
وهنا نهَض هولمز عن كرسيه وقال: «أنا رجل مشغولٌ نوعًا ما يا سيد جيبسون، وليس لديَّ وقتٌ للمحادثات التي لا طائل من ورائها، كما أنني لا أميل إليها كذلك. طابَ صباحُك.»
قام ضيفنا من مكانه هو الآخر، فعلَتْ قامتُه الطويلةُ قامةَ هولمز. كان ثَمَّةَ توهُّجٌ مُغضَبٌ ينبعثُ من تحت ذَينِكَ الحاجبَين الثائرَي الشعر، ومَسحةٌ خفيفةٌ من التورُّد تسري في وجنتَيه الشاحبتَين.
وقال: «ما الذي تعنيه بهذا يا سيد هولمز؟ أترفض التحقيق في قضيَّتي؟»
«حسنٌ يا سيد جيبسون، على الأقل أنا أرفض وجودك أنت. أظن أن كلامي كان واضحًا.»
«كان واضحًا بما يكفي، لكن ما الذي تعنيه من ورائه؟ أتريد رفعَ قيمةِ أتعابك عليَّ، أم إنكَ خائفٌ من تولِّي القضية، أم ماذا؟ من حقي أن أحصُل على إجابةٍ مباشرة.»
قال هولمز: «حسنٌ، ربما يكون هذا من حقك، سوف أُعطيك إجابةً صريحة. بدايةً، هذه القضية معقدةٌ بما فيه الكفاية بحيث لا تحتاج إلى إضافةِ عقبةٍ جديدةٍ من المعلومات الخاطئة كي تزيدها تعقيدًا.»
«وهذا يعني أنني أكذب.»
«في الواقع، لقد كنتُ أُحاول تلطيف كلامي بقَدْر ما أستطيع، لكن إذا كنتَ تصرُّ على هذه الصياغة فلن أُعارضك.»
هنا انتفضتُ واقفًا على قدمَيَّ؛ فلقد بلغتْ حدَّةُ تعابيرِ وجه المليونير مَبلغًا شديدَ الفظاعة، حتى إنه رفع قبضته الضخمة عاليًا. لكن هولمز ابتسمَ ابتسامةً غيرَ مباليةٍ ومدَّ يده ليتناول بها غليونه.
وقال: «لا تُحدِث ضجةً يا سيد جيبسون. إنني أنزعج بعد تناوُل الإفطار حتى من أيسرِ النقاشات. أرى أن نزهةً في هواءِ الصباح وشيئًا من التفكير الهادئ سينفعانك جدًّا.»
كبَح ملكُ الذهب حَنَقَه بجهدٍ كبير. لم أملك إلا الإعجابَ به؛ فلقد استطاع أن يتحول في لحظةٍ — وبقدْرٍ فائقٍ من ضبط النفس — من شُعلةٍ متَّقدةٍ من الغضبِ إلى حالةٍ مُغرِقةٍ في اللامبالاة وبرود الأعصاب.
وقال: «حسنٌ، كما تشاء. أظن أنك تعرفُ كيف تُدير عملك. وأنا لا أستطيع دفعك إلى تولِّي القضية رغمًا عنك. لكنك لم تُسدِ إلى نفسِكَ معروفًا هذا الصباح يا سيد هولمز؛ لأنني قد هزمتُ من هم أقوى منك من قبلُ. وما من رجلٍ تحدَّاني قَط وتفوَّق عليَّ.»
قال هولمز مبتسمًا: «كثيرون جدًّا قالوا مثل هذا الكلام، ورغم ذلك فها أنا ذا. حسنٌ، طاب يومُك يا سيد جيبسون. لا يزال أمامك الكثير لتتعلَّمه.»
خرج ضيفُنا مُحدِثًا جلبةً، لكنَّ هولمز ركَّز عينَيه الحالمتَين إلى السقف وراح يُدخِّن غليونه في سكونٍ وثبات.
ثم سأل في النهاية: «هل عندك أيُّ أفكارٍ يا واطسون؟»
«في الواقع يا هولمز، عليَّ الاعترافُ أنني عندما آخذُ في الاعتبار أن هذا رجلٌ من النوع الذي لن يتردَّد لحظةً في الإطاحة بأي عقبةٍ تقف في طريقه، وعندما أتذكَّر أن زوجتَه ربما كانت تُشكِّل عقبةً وربما كان يبغضها كذلك، كما صرَّح لنا هذا الرجل بيتس، عندما أُفكر في هذا فإنه يبدو لي أن …»
«بالضبط. هكذا يبدو لي أنا الآخر.»
«لكنْ ما نوع العلاقة التي كانت بينه وبين المربية، وكيف اكتشفتَها أنت؟»
«عن طريق الحيلة يا واطسون، عن طريق الحيلة! لأنني عندما تأملتُ أُسلوبَ رسالتِه العاطفيَّ البعيدَ عن الطريقة الرسمية العملية وقارنتُه بطريقة الرجل ومظهره المُتحفظَيْن اتضح لي جليًّا أن ثَمَّةَ عاطفةً عميقة تنبعث ناحيةَ المتهمة لا الضحية. وإذا كنا ننشُد الوصول إلى حقيقة الأَمر فإنه يجدُر بنا أن نفهم حقيقةَ العلاقة بين أولئك الثلاثة. لقد رأيتَ الهجومَ المباشر الذي شننتُه عليه، وكيف تلقَّاه بهدوء. ثم خدعتُه عندما أوهمتُه بأنني كنتُ واثقًا تمامًا من كلامي، في حين لمْ يكن عندي في الحقيقة إلا شبهةٌ قوية جدًّا.»
«ربما سيعود مرةً أخرى، أليس كذلك؟»
«لا شك أنه سيعود مرةً أخرى. لا بد أن يعود؛ فهو لا يستطيع ترك الأمر على حالته هذه. ها! أليس هذا جرس الباب؟ بلى، وها هو ذا وقْعُ أقدامه. حسنٌ يا سيد جيبسون، لقد كنتُ لتوِّي أُخبر الدكتور واطسون أنك تأخرتَ بعض الشيء عن وقتِ عودتك.»
عاد ملكُ الذهب إلى الغرفة بمزاجٍ أقل حدَّةً من ذاك الذي غادرها به. ورغم أن كرامته الجريحة كانت لا تزال تتبدَّى في عينَيه المُمتعضتَين، فقد هداه حُسنُ تمييزه إلى أنه لا بد له من الإذعان إذا كان يُريد تحقيق غايته.
قال السيد جيبسون: «لقد فكرتُ في الأمر يا سيد هولمز، وأرى أنني قد تسرَّعتُ عندما أبديتُ استيائي من كلامك. إنك مُحقٌّ في مناقشةِ حقائق القضية، كائنةً ما تكون، وإنني لأراك من أكفأ الناس للقيام بها. لكنني برغم هذا أؤكِّد لك أن علاقتي بالآنسة دنبار لا تأثير لها في الحقيقة على هذه القضية.»
«أنا من يُقرِّر هذا، أليس كذلك؟»
«بلى، أعتقد أنه كذلك؛ فأنت مثل الطبيب الذي يريد معرفةَ كل أعراض المرض قبل أن يتسنَّى له النطق بتشخيصه.»
«بالضبط. هكذا هو الأمر. وما من مريضٍ يسعى لإخفاء حقيقة حالته إلا إذا كانتْ له غايةٌ من وراءِ خداعِ طبيبه.»
«ربما يكون ذلك صحيحًا، لكنك ستُوافقني القول — يا سيد هولمز — بأن معظم الرجال سيشعرون بشيءٍ من الخجل عندما يُسألون بطريقةٍ مباشرةٍ عن طبيعة علاقتهم بامرأةٍ ما؛ لا سيما إذا كانت الحالة تشتمل على عاطفةٍ حقيقية بالفعل. أعتقد أن لدى معظم الرجال سرًّا شخصيًّا صغيرًا يحتفظون به في رُكنٍ ما من أرواحهم ولا يسمحون لأحد بالتطفُّل عليه. وأنتَ اقتحمتَه فجأةً. لكنَّ غايتَك تشفع لك؛ حيث كنتَ تحاول إنقاذها. حسنٌ، ها هي ذي الحواجز قد سقطتْ وها هو مستودع الأسرار قد فُتح، وتستطيع أن تستكشف منه ما تشاء. ما الذي تريده؟»
«الحقيقة.»
توقَّف ملكُ الذهب عن الكلام قليلًا وكأنما كان يُنظِّم أفكارَه. وأصبح وجهه المتجهم ذو الخطوط الغائرة أكثرَ إغراقًا في الحزن وأشدَّ رزانة.
وقال أخيرًا: «أستطيع أن أُخبرك بها في كلماتٍ قليلة جدًّا يا سيد هولمز. لكن بعض الأشياء ذِكرُها مؤلم وشاقٌّ على النفس؛ لذلك لن أُوغِلَ في الكلام أكثر من القدْر الضروري. لقد قابلتُ زوجتي عندما كنتُ أُنقِّب عن الذهب في البرازيل. كانت ماريا بينتو ابنةَ أحد المسئولِين الحكوميِّين في مدينة ماناوس، وكانتْ فائقة الجمال. كنتُ أنا في تلك الأيام شابًّا مُلتهبَ العاطفة، لكنني في هذه اللحظة حتى، عندما أنظر خلفي بعاطفةٍ أقلَّ تأججًا وعينٍ أكثر ميلًا إلى النقد، فإنني لا أزال أرى أنها كانت تتمتع بجمالٍ نادرٍ مدهش. لقد كانت شخصيتُها علاوةً على ذلك شخصيةً فياضةً شديدةَ الإخلاص، وكانت تتمتع بعاطفةٍ متَّقدةٍ ومشاعر صادقةٍ كأبناء المناطق الاستوائية الذين تتحكم فيهم عواطفهم. لقد كانت مختلفة تمامًا عن النساء الأمريكيات اللواتي عرفتُهن من قبل. حسنٌ، باختصار، لقد أحببتُها وتزوجتُها. لكنني لم أُدرك أنَّ أحدَنا لم يكن يُشبه الآخر في شيء؛ في أي شيءٍ البتة إلا عندما انتهى ذلك التعلُّقُ المؤقت، الذي ظل يُقاوِم الموت لسنوات. لقد خَبَتْ حرارةُ حبي، ولو أن حُبها قد فقدَ حرارته هو الآخر لكان الأمر صار هيِّنًا أكثر. لكنك تعرف طبيعة النساء العجيبة! ومهما كان ما فعلتُه، فإن شيئًا لم يستطع أن يصرفها عني. ولو أنني كنتُ قاسيًا معها، أو حتى متحجر الفؤاد كما قال بعضهم، فلم يكن هذا إلا لأنني ظننتُ أني لو تمكنتُ من قتل حبها، أو لو أنه كان استحال بُغضًا، لأراح هذا كلَينا، لكنَّ شيئًا لم يُغيِّرها. لقد ظلتْ مُولعةً بي ونحن في تلك الغابة الإنجليزية الصغيرة ولَعَهَا نفسَه الذي ابتدأ منذ عشرينَ سنةً على ضفاف نهر الأمازون. ومهما كان الذي فعلتُه، فقد بقِيَتْ على إخلاصها الذي لا يتغير.
ثم أتت الآنسة جريس دنبار. لقد ردَّت على الإعلان الذي نشرناه؛ ومن ثَمَّ أَصبحَت مربيةً لطفلَينا. ولعلك رأيتَ صورتَها في الصُّحف. لقد صرَّح الجميعُ أنها هي الأخرى بارعةُ الجمال. حسنٌ، أنا لن أزعم أنني أتحلى بالأخلاق أكثرَ من الناس، وأعترف لك أنني لمْ أكن أستطيع العيشَ تحت سقفٍ واحدٍ مع امرأةٍ مثل هذه وأن يكون بيني وبينها تواصلٌ يومي دون أن أشعر بعاطفةٍ نحوها. أتلومني على هذا يا سيد هولمز؟»
«أنا لا ألومُكَ على مشاعرك. لكنني سألومك إذا كنتَ صرحتَ بها؛ حيث إن هذه الفتاة كانت بطريقةٍ ما تحت رعايتك.»
«حسنٌ، ربما تكونُ مُحِقًّا.» هكذا قال المليونير، رغم أن التوبيخ قد أعاد إلى عينَيه ذلك التوهجَ المُغضبَ للحظات. وأردف قائلًا: «أنا لن أدَّعي لنفسي أيَّ فضيلةٍ لا أملكها. أظن أنني ظللتُ طوال حياتي رجُلًا تبلغُ يدُه حيث يريد، وأنا لم أرغبْ في شيءٍ قَط رغبتي في حب هذه المرأة والظفر بها. ولقد أخبرتُها بهذا.»
«أوه، فَعلتَها إذن، أليس كذلك؟»
كان هولمز يبدو مُفزَعًا جدًّا عندما تُستثار مشاعرُه.
«قلتُ لها إنني لو كنتُ أستطيع أن أَتزوَّجها لفعلت، ولكنَّ الأمرَ لم يكن بيدي. وأخبرتُها أن المال لم يكن ليُشكِّل عائقًا أمامي، وأنني كنتُ سأفعل كلَّ ما أستطيع فعله لأجعلها سعيدةً هانئة.»
قال هولمز هازئًا: «كان عرضًا شديد السخاء، بلا شك.»
«اسمع يا سيد هولمز. لقد أتيتُ إليك لتُحقِّق في القضية، لا لتُعلِّمني الأخلاق. أنا لا أريد الاستماع إلى انتقاداتك.»
قال هولمز بصرامة: «وأنا لن أتعامل مع قضيتك البتة إلا من أجل هذه الفتاة؛ فأنا لا أرى أنَّ تُهمتها — مهما كانت — أسوأ مما اعترفتَ أنت به. إنك كنتَ تسعى إلى إفساد فتاةٍ عاجزةٍ عن حمايةِ نفسها وقد كانت في بيتك. بعضكم أيها الأغنياء محتاجٌ لأنْ يتعلَّم أنه ليس كلُّ أحدٍ يُمكن رشوته ليتغاضى عن خطاياكم.»
دُهِشتُ للاتزان الذي استمع به ملكُ الذهب إلى هذا التوبيخ.
قال: «هذا هو ما أشعُر به الآن حيال الأمر. وإنني لأحمد الرب أن خُطَطِي لم تَسِر كما أردتُ لها. لقد رفضَتْها وأرادَتْ أن تغادر المنزل على الفور.»
«ولماذا لم تغادر؟»
«حسنٌ، لأنه — في المقام الأول — كان ثَمَّةَ مَن يعتمدون عليها، ولم يكن من اليسير عليها أن تخذلهم جميعًا بتَخلِّيها عن مصدرِ رزقها. ثُم إنها وافقتْ على البقاء عندما أقسمتُ لها — وهذا هو ما فعلتُ — أنني لن أتحرَّش بها ثانيةً أبدًا. لكنْ كان ثَمَّةَ سبب آخر؛ لقد كانتْ تُدرِك ما تملكه من تأثيرٍ عليَّ، وأنه كان أقوى من أي تأثيرٍ آخر؛ لذا أرادتْ أن تُسخِّره للخير.»
«كيف؟»
«في الواقع، لقد عرفَتْ بعضَ الشيء عن أعمالي التجارية. إنها أعمالٌ ضخمةٌ يا سيد هولمز؛ أضخم مما يتخيَّله الرجل العادي. إنني قادرٌ على البناء والهدم؛ لكنني دائمًا ما كنتُ أهدم. لم يكن الأمر مقتصرًا على الأفراد وحسب، لكنها كانت مجتمعاتٍ، ومدنًا، بل حتى دُولًا. إن التجارةَ لُعبة قاسية، والضعيف فيها مُجبَرٌ على تجرُّع الهزيمة. ولقد ذهبتُ في ممارسة اللعبة إلى أقصى حدودها. لكنني لم أشِ بأحدٍ قط، كما لم أعبأ قَط بما إذا كان منافسي سَيَشي بي. لكنها كانت ترى الأمر بطريقةٍ مختلفة. وأظنُّها كانت على حق. كان ما تعتقده وما أخبرتْني به هو أنه لا ينبغي لرجلٍ أن يبني ثروةً تتجاوز ما يحتاج إليه على أنقاضِ آلافٍ من البشر الذين لا يملكون مُقوِّمات الحياة. هكذا كانت تنظُر إلى الأمر، وأظنها كانت تنظُر إلى ما هو أبعد من المال، كانت تنظر إلى شيءٍ أكثر بقاءً. لقد وجَدتْ أنني أُصغي لما تقول، وكانتْ تعتقد أنها تُقدِّم خدمةً للناس بتأثيرها في سلوكي؛ لهذا بقِيَتْ، ثم وقعَتْ هذه الحادثة.»
«أيمكنك إلقاءُ أيِّ قَدْر من الضوء على ذلك؟»
أمسكَ ملكُ الذهب عن الكلام مدةَ دقيقة أو أكثر، وقد غرق رأسُه بين كفَّيه، وتاه في تفكيرٍ عميق.
ثم قال: «إن الأمر لا يُبشِّر بأي خيرٍ بالنسبة لها. لا يمكنني إنكارُ هذا. وإن الواحدةَ من النساء لتعيش حياةً خاصةً بينها وبين نفسها، وربما تفعل أشياء يعجز الرجل عن تفسيرها. لقد فقدتُ أعصابي وبُهتُّ في بداية الأمر لدرجة أنني كنتُ مستعدًّا للاعتقاد أنها قد انحرفتْ عن الصواب بطريقةٍ غريبةٍ مُخالفةٍ تمامًا لطبيعتها. لكن ثَمَّةَ تفسيرًا خطر على ذهني. وسوف أخبرك به يا سيد هولمز رغم أنه قد لا يكون مُفيدًا بما يكفي. لا شك أن زوجتي كانت تشعر بغَيرةٍ مريرة. ثَمَّةَ نوعٌ من الغَيرة، هو الغَيرة من الأرواح، وهي لا تقلُّ حدةً عن الغيرة من الأجساد، وعلى الرغم من أنه لم يكن هناك ما يُلجئ زوجتي إلى هذا النوع الثاني من الغَيرة — وأظنها أيضًا كانت تعرف هذا — فقد كانت تُدرك أنه كان لتلك الفتاة الإنجليزية تأثيرٌ على عقلي وتصرُّفاتي لم يكن لها هي مثلُه قط. لقد كان تأثيرًا إيجابيًّا، إلا أن هذا لم يُحسِّن الوضع. لقد كانت الكراهية تحجُب عقلها، وحرارةُ الأمازون تسري طيلة الوقت في دمها؛ لذا فربما كانت تُخطِّط لقتل الآنسة دنبار؛ أو لنقُل إنها كانت تُخطِّط لتهديدها بسلاحٍ ناري حتى تُرعبَها وتَضطرَّها إلى الرحيل عنَّا. وربما حدث شجارٌ بعد هذا وانطلقَتْ رصاصةٌ من المسدس في رأس المرأة التي كانت تحمله.»
قال هولمز: «لقد خطر ببالي بالفعل احتمالُ أن يكون هذا قد وقع. في الواقع، إنه البديل الواضح الوحيد لوقوع جريمةِ قتلٍ مُتعمَّدة.»
«لكنها تنفي حدوثه بالكلية.»
«حسنٌ، لكنَّ الأمر ليس مقصورًا على هذا؛ أليس كذلك؟ إن بإمكان المرء أن يُخمِّن أنَّ امرأةً في مثل هذا الموقف الرهيب ربما تكون قد أَسرعَتْ إلى البيتِ وهي ما تزال في ارتباكها حاملةً المسدس في يدها. وربما حتى تكون قد ألقته بين ملابسها — وهي لا تكاد تعي ما الذي تفعله — لكنها حاولَت، عندما عُثر عليه، أن تخرج من الأمر عن طريق الكذب بأن تُنكر الأمر برمته؛ حيث إن جميع التفسيرات لمْ تكن ممكنة. ما الذي يُعارض مثل هذا الافتراض؟»
«تُعارضه الآنسةُ دنبار نفسُها.»
«حسنٌ، احتمال.»
نظر هولمز إلى ساعته وقال: «لا يساورني شكٌّ في أننا نستطيع الحصول على التصاريح اللازمة هذا الصباح، وأن نصل إلى وينشستر في قطار المساء. وبعدما أرى هذه الفتاةَ فمن المحتمل جدًّا أن أُصبح أكثرَ فائدةً لك في القضية، لكنني لا أستطيع أن أعِدكَ بأن ما سأصل إليه من نتائج سيكون بالضرورة كما تريد له أن يكون.»
وقع شيءٌ من التأخُّر في استخراج التصريح الرسمي، وبدلًا من الوصول إلى وينشستر في ذلك اليوم توجَّهنا إلى جسر ثُور، في ضيعة السيد نيل جيبسون بمقاطعة هامبشير. لمْ يأتِ معنا السيد جيبسون نفسه، لكننا حصلنا على عنوان الرقيب كوفنتري، أحد أفراد قوة الشرطة المحلية، وهو أول من حقَّق في القضية. كان رجلًا طويلًا ناحلًا شديدَ الشحوب، وكان أسلوبه مُتحفِّظًا غامضًا يوحي بأن ما يعرفه أو يشتبه فيه من الأمور أكثر بكثيرٍ مما يجرؤ على قوله. علاوةً على ذلك فقد كانت تلازمه عادةُ خفْضِ صوته فجأةً إلى حُدود الهمس كأنه وقَعَ على أمرٍ بالغ الأهمية، رغم أن المعلومات كانت في العادة عاديةً تمامًا. وبعيدًا عن لوازمه السلوكية هذه فسريعًا ما تبيَّنَ أنه كان رجلًا مُهذبًا أمينًا لا يجد في نفسه من الكِبر ما يمنعه من الاعتراف بأن القضية كانت تفوق قدراته وأنه يُرحِّب بأيِّ مساعدة.
قال: «على كلِّ حالٍ يا سيد هولمز، إنني أُفضل أن أستقبلك أنتَ بدلًا من استقبال أحدٍ من شرطة سكوتلانديارد. إنهم إذا استُدعوا لتولي قضيةٍ فإن قوة الشرطة المحلية هنا لا يُعزى إليها أيُّ نجاحٍ، وربما تُلام على الإخفاق. لكنك تعمل بنزاهةٍ؛ هكذا سمعتُ عنك.»
«أنا لا أريد أن أظهر في الأمر على الإطلاق.» هكذا قال هولمز، فبدا جليًّا أنَّ كلامه قد سَرَّى الهمَّ عن رفيقنا المُنقبضِ الصدر. وأضاف هولمز: «إذا تمكنتُ من حل هذا اللغز فإنني لا أُطالب بذكر اسمي فيه.»
«في الواقع، هذا كرمٌ بالغٌ منك، لا أشكُّ في هذا. كما أنني أعلم أنه يمكنني الوثوق في صديقك الدكتور واطسون. الآن يا سيد هولمز، وريثما نصل إلى موقع الحادث فإن ثمة سؤالًا أريد أن أطرحه عليك. ولن أهمس به لمخلوقٍ غيرك.» أخذ الرقيب كوفنتري يتلفَّت حوله كأنما لم يكن يجسُر على النطق بالكلمات. ثم قال: «ألا تظن أنه ربما كان السيد نيل جيبسون نفسه متورطًا في القضية؟»
«لقد كنتُ أُفكِّر في هذا.»
«إنك لم ترَ الآنسة دنبار. إنها امرأةٌ رائعةُ الجمال في كل شيء. ومن المحتمل جدًّا أنه كان يتمنَّى إزاحةَ زوجته من الطريق. ثم إن هؤلاء الأمريكيِّين أمهر في استخدام المسدسات من قومنا. لقد كان مُسدسه هو، أتعي ذلك؟»
«هل تثبَّتُّم من هذا جيدًا؟»
«نعم يا سيدي. لقد كان المسدس أحدَ زوجَين من مسدساته.»
«أحدُ زوجَين؟ وأين الآخر؟»
«في الواقع، إن الرجل يمتلك كثيرًا من الأسلحة النارية من أنواعٍ شتى. ولم نستطِع قط إيجادَ مسدسٍ متطابقٍ تمامًا مع هذا المسدس تحديدًا، لكن الصندوق كان مصنوعًا لمسدسَين.»
«إذا كان أحدَ زوجَين فلا بد أن تتمكن من مطابقته بآخر.»
«حسنٌ، لقد وضعناها جميعًا بعضها إلى جوار بعضٍ في المنزل إذا كنتَ تريد أن تتفحَّصها.»
«ربما أفعل ذلك فيما بعدُ. لكنني أقترح أن نذهب معًا لنلقي نظرةً على مكان الحادث.»
جَرتْ هذه المحادثة في الغرفة الأمامية الصغيرة من بيت الرقيب كوفنتري الصغير المتواضع الذي كان يُمثل مخْفرَ الشرطة المحلي. بعدها مشَينا مسافةَ نصفِ ميلٍ أو ما يقاربها عَبْر أرضٍ بَراحٍ تذرو الرياحُ حشائشَها — كان السرخسُ الآخذُ في الذبول يكسوها كلها باللونَين الذهبي والبرونزي — حتى وصلْنَا إلى بوابةٍ جانبيةٍ يُفتح مِصراعاها داخل المساحةِ المحيطة بضَيْعة ثُور. ثم سِرنا في مجازٍ يمتد عبرَ محميةِ طيور التُّدْرُج، ومنه وصلنا إلى قطعة أرضٍ مقطوعةِ الشجرِ، فرأينا المنزلَ نصفَ الخشبي الممتدَّ — الذي يجمعُ بين طرازَي العمارة التيودورية والجورجية — فوقَ قمَّة الرابية. كان إلى جوارنا بِركةُ مياه طويلةٌ كثيرةُ القصب، وكانت مساحتُها متقلصةً عند الوسط؛ حيث ينتصب جسرٌ حجريٌّ يُمثِّل الطريقَ الأساسي لمرور العربات، لكنَّ بِرَك المياه الصغيرة على كلا جانبَيها كانت تُضخِّم من مساحتها. تَوقَّف مرشدُنا عند مدخل هذا الجسر، ثم أشار إلى أرضيته.
وقال: «هذا هو المكان الذي كانت ترقد فيه جثةُ زوجة السيد جيبسون. لقد ميزتُه بتلك الصخرة.»
«أظن أنك كنتَ موجودًا قبل أن تُنقل من مكانها، أليس كذلك؟»
«بلى، لقد أرسلوا في طلبي من فورهم.»
«من فعل ذلك؟»
«السيد جيبسون نفسه؛ فعندما نبَّهه حارسُ الطرائدِ لوقوعِ الحادث وأَسرعَ بالمجيء من المنزل ومعه آخرون، أصرَّ على ألَّا ينقل أحدٌ أيَّ شيءٍ من مكانه حتى تصل الشرطة.»
«كان هذا تصرُّفًا حكيمًا. لقد عرفتُ من تقارير الجرائد أن الرصاصة أُطلقت من مسافةٍ قريبة.»
«نعم يا سيدي، مسافةٍ قريبة جدًّا.»
«قُرب صُدغها الأيمن؟»
«خلفَه مباشرةً يا سيدي.»
«كيف كانت وضعية الجثة؟»
«كانت منطرحةً على ظهرها يا سيدي. لم يكن ثَمَّةَ أثرٌ لمشاجرة؛ لا علامات، ولا أسلحة، لكنَّ يدها اليسرى كانت مُطبقةً على الرسالة المختصرة التي أرسلَتْها إليها الآنسة دنبار.»
«أتقول إنها كانت مطبقة؟»
«نعم يا سيدي، لقد تمكَّنَّا بالكاد من فتحِ أصابعها.»
سأكون عند جسر ثُور في الساعة التاسعة.
أليس كذلك؟»
«بلى يا سيدي.»
«وهل اعترفت الآنسةُ دنبار بكتابتها؟»
«نعم يا سيدي.»
«وبمَ فسَّرتْ هذا؟»
«لقد احتَفظَتْ بدفاعها لتُدلي به أمام المحكمة الجنائية. ولم ترغَب في الإفصاح عن أيِّ شيء.»
«لا شكَّ أنها قضيةٌ مثيرةُ للاهتمام جدًّا. كما أن مسألة الرسالة بالغةُ الغموض، أليس كذلك؟»
قال مرشدنا: «في الواقع يا سيدي — ولو أنني سأكون قد تجرَّأتُ كثيرًا بقولي هذا — إنها تبدو النقطة الواضحة الوحيدة في القضية برُمتها.»
وهنا هزَّ هولمز رأسه وقال: «إذا سلمنا أن الرسالةَ ليستْ مُزيَّفة، وأنَّ الآنسة دنبار هي التي كتبَتْها بالفعل، فلا بد أن تكون السيدة ماريا قد تلقَّتْها قبل مدةٍ ما من وقوع الحادث؛ ولنقُل قبله بساعةٍ أو ساعتَين. فلماذا إذن ظلَّتْ هذه السيدةُ مُطبقةً عليها في يدها اليسرى؟ ولماذا تحملها بعنايةٍ شديدةٍ هكذا؟ إنها لم تكن تحتاج إلى الحديث عنها في مقابلتهما. ألا يبدو هذا غريبًا؟»
«في الواقع يا سيدي، ربما يكون الأمر كما تقترح.»
«أعتقد أنني أحتاج إلى الجلوس بعض الوقت في هدوءٍ كي أتأمل الأمر.» جلس هولمز على الإفريز الحجري للجسر، فرأيتُ عينَيه الرماديتَين الذكيتَين تجولان بنظراتٍ متسائلة في كل اتجاه. وفجأةً قفز من مكانه ثانيةً وأسرع باتجاه الحاجز المقابل، وانتزع عدسته من جيبه، وراح يفحص الإفريز الحجري.
قال: «هذا غريب.»
«نعم يا سيدي، لقد لاحظنا الصدْعَ الصغير الذي في الإفريز. أتوقَّع أن يكون أحد المارة هو من تسبَّب فيه.»
كان الإفريز رماديًّا، لكنْ في هذه البقعة كان يظهر فيه لونٌ أبيض لا تزيد مساحتُه عن مساحةِ قطعةِ عملةٍ معدنية. وعند فحصِه جيدًا يستطيع المرءُ أن يُدرك أنَّ ضربةً حادةً أو ما شابه هي التي ثلمَتْ سطحه.
قال هولمز في هدوءٍ ينمُّ عن استغراقه في التفكير: «لقد تطلب الأمرُ بعضَ العنف لإحداث هذا الصدع.» ثم أخذ يضرب الإفريز بعصاه عدة مرات دون أن يترك عليه أثرًا. وقال: «نعم، لقد كانت ضربةً قوية، وفي مكانٍ غريبٍ أيضًا. ثم إنها لمْ تُضرب من الأعلى إنما كانت من الأسفل، لأنها — كما ترى — على الحافة السفلى من الحاجز.»
«لكنه على مسافةِ خمس عشرة قدمًا على الأقل من الجثة.»
«نعم، إنه يبعد خمس عشرة قدمًا عن الجثة. ربما لا يكون لهذا علاقة بالأمر، لكنها مسألةٌ تستحق الملاحظة. لكنني لا أعتقد أن أمامنا المزيد لنكتشفه هنا. أتقول إنه لم يكن ثَمَّةَ آثارُ أقدام؟»
«كانت الأرضيةُ صُلبةً كالحديد يا سيدي. لم يكن هناك آثارٌ على الإطلاق.»
«يمكننا الذهاب إذَن. سنتوجه إلى المنزل أولًا ونفحص هذه الأسلحة التي تحدَّثتَ عنها سريعًا. بعدها سنذهب إلى وينشستر؛ لأنني أرغب في رؤية الآنسة دنبار قبل أن نتقدمَ أكثرَ في بحثنا.»
لمْ يكن السيد نيل جيبسون قد عاد من المدينة، لكننا قابلنا في المنزل السيد بيتس؛ ذلك الرجل الشديد القلَق الذي زارنا في الصباح. وقد أرانا وهو في حالةٍ من التلذُّذِ الشريرِ مجموعةَ الأسلحة النارية الهائلة المختلفة الأشكال والأحجام التي تجمَّعتْ لدى سيده على مدى حياةٍ محفوفة بالمخاطر.
قال: «إن للسيد جيبسون أعداءه، كما يتوقع أيٌّ ممن يعرفونه ويعرفون أساليبه. إنه ينام وفي الدرج المجاور لسريره مسدسٌ محشو. إنه رجلٌ عنيفٌ يا سيدي، وثَمَّةَ أوقاتٌ يَتملَّكنا جميعًا فيها الخوفُ منه. أنا على يقينٍ أن السيدة المسكينة التي تُوفِّيتْ كانتْ كثيرًا ما تشعر بالذعر.»
«هل شهدتَ من قبلُ تعرُّضَها لأذًى جسدي؟»
«لا، لا يمكنني قولُ هذا. لكنني سمعتُ كلماتٍ كانتْ في المستوى نفسه من السوء تقريبًا؛ كلمات ازدراءٍ جافٍّ جارح، حتى أمام الخدم.»
قال هولمز معقبًا ونحن نتجه إلى محطة القطار: «يبدو أن صاحبنا المليونير لمْ يكنْ ناجحًا في حياته الخاصة. حسنٌ يا واطسون، لقد وقَعنا على قدْرٍ كبيرٍ من المعلومات، وبعضها جديدٌ علينا، لكنْ يبدو أنني لا أزال بعيدًا بعض الشيء عن نتيجتي النهائية. وعلى الرغم من الكراهية الشديدة الوضوح التي يُكنُّها السيد بيتس لرب عمله، فقد فهمتُ من كلامه أنه كان في مكتبته يقينًا عندما وصله خبر وفاة زوجته. لقد انتهَوا من تناوُل وجبة العَشاء في الثامنة والنصف، وكان كل شيء طبيعيًّا حتى ذلك الحين. صحيحٌ أن خبر وفاتها كان في وقتٍ متأخرٍ قليلًا من المساء، لكنْ لا شك أن الفاجعة وقعتْ في وقتٍ قريبٍ من التوقيت المذكور في الرسالة. وما من دليلٍ على الإطلاق يُثبت أن السيد جيبسون خرجَ من المنزل منذ عودته من المدينة في الساعة الخامسة. ومن جهةٍ أخرى، فإن الآنسة دنبار — كما علمتُ — تقرُّ بأنها حددتْ موعدًا لمقابلة زوجة السيد جيبسون عند الجسر. لكنها لمْ ترغب في قول شيءٍ غير هذا؛ لأن محاميها نصحها بتأجيل دفاعها. إن لدينا العديد من الأسئلة البالغة الأهمية التي نُريد طرحها على تلك الفتاة، وإن عقلي لن يرتاح قبل أن نُقابلها. ورغم هذا فإن عليَّ الاعتراف بأنها كانت ستبدو لي مُدانةً بقوةٍ في هذه القضية لولا وجودُ شيءٍ واحد.»
«وما هو هذا الشيء يا هولمز؟»
«العثور على المسدس في خزانة ملابسها.»
فصرختُ قائلًا: «يا للهول، يا هولمز! إن هذا يبدو لي أكثر الأحداث إدانةً لها.»
«ليس الأمر كذلك يا واطسون. لقد خطَر في بالي حتى عند قراءتي السريعة الأُولى أن هذا الحدث غريبٌ جدًّا، أمَّا الآن وقد أصبحتُ أقربَ إلى القضية من ذي قبل فإن هذا الأمر هو الأرضية الثابتة الوحيدة التي يستقرُّ عليها أملي. ينبغي لنا أن نبحث عن الاتساقِ في الأمور، وحيثما افتقدناه فإن علينا أن نشُكَّ في وجود خدعة.»
«لا أكاد أفهم ما تقول.»
«اسمع يا واطسون، افترض للحظةٍ أننا سنتخيلك امرأةً على وشك التخلُّص — عمدًا وبطريقةٍ خالية من التعاطف — من امرأةٍ أخرى تُزاحمها. لقد خطَّطتَ للأمر. لقد كتبتَ رسالة، ثم أتت الضحية، وسلاحُكَ معك، وها قد ارتُكبت الجريمة. لقد كان عملًا بارعًا كاملًا. هل تريد أن تخبرني أنك — بعدما ارتكبتَ جريمةً بهذه البراعة — كنتَ ستُدمر سُمعتك في عالم الجريمة بالغفلةِ عن إلقاءِ سلاحك في تلك البركة المجاورة التي ينمو فيها القصب والتي كانتْ ستمحو أثرَ جريمتك إلى الأبد، وأنك بدلًا من هذا وجدتَ أنه يتحتَّم عليكَ أن تحمله معك بعناية إلى المنزل وأن تضعه في خزانة ملابسك؛ وهي أول مكانٍ كانت الشرطة ستُفتشه على الإطلاق! لو أنك فعلتَ هذا لَمَا تسنَّى لأفضل أصدقائك أن يروك جديرًا بوصف مُدبر المكائد يا واطسون، لكنني برغم هذا لا أستطيع أن أتصور أنك قد تفعل أمرًا على هذه الدرجة الكبيرة من عدم الإتقان.»
«لكن في حالة الانفعال ساعةَ ارتكاب الجريمة …»
«لا لا يا واطسون، لن أُسلم بإمكانية حدوث هذا. إن منْ يُخطِّط لارتكاب جريمة فإنه يُخطِّط لإخفائها كذلك؛ لذا فإنني واثق أننا نتعامل مع سوءِ فهمٍ خطير.»
«لكنَّ هناك الكثير جدًّا مما يحتاج إلى تفسير.»
«حسنٌ، سوف نشرع في توضيحه. إنك حالما تُغيِّر وجهة نظرك، فإن الأمر عينَه الذي كان دليلَ إدانةٍ يصبح مفتاحًا إلى الحقيقة. انظر إلى هذا المسدس على سبيل المثال. إن الآنسة دنبار تُنكر أن يكون لها أيُّ معرفةٍ به. وفي تصوُّرنا الجديد عن الأمرِ فإنها تنطق بالحقيقة عندما تقول هذا؛ وبناءً عليه، لقد وُضع في خزانة ملابسها، ولكنْ من الذي وضعه هناك؟ إنه شخصٌ يريد لها أن تتورَّط في الجريمة. ألمْ يكن هذا الشخص هو المجرم الحقيقي؟ ها أنت تُلاحِظ كيف تقع أيدينا من فورها على خيطٍ قيِّمٍ من خيوط التحقيق.»
اضطُررنا لقضاء الليلة في وينشستر؛ حيث لمْ تكن الإجراءات الرسمية للزيارة قد اكتملتْ بعدُ، لكنْ في صباح اليوم التالي سُمح لنا بزيارة الفتاة في زنزانتها، نحن والسيد جويس كامينجز؛ المحامي الصاعد الذي أُسندت إليه مهمة الدفاع في القضية. كنتُ أتوقع — نتيجةً لكلِّ ما سمعناه — أن أرى امرأةً جميلة، لكنني لن أستطيع أبدًا أن أنسى الأثرَ الذي تركتْه الآنسةُ دنبار في نفسي. لم يكن من الغريب أن وجد فيها حتى هذا المليونير المستبد شيئًا أقوى منه شخصيًّا؛ شيئًا استطاع أن يتحكم فيه وأن يُرشده. لقد كان بإمكان المرء أن يشعر أيضًا — وهو ينظر إلى وجهِها القويِّ الواضحِ الملامح برغم رقَّتِه — أنها تستطيع علاوةً على ذلك أن تُقدم على الأفعال الطائشة، ومع ذلك فقد كان ثَمَّةَ نبلٌ متأصلٌ في شخصيتها مِن شأنه أن يُوجِّهها دائمًا لفعل الخير. كانت طويلة القامة، بيضاء البشرة، بنية الشعر، وكان لها سمتٌ نبيلٌ وطلعةٌ آسرة، لكنَّ عينَيها البُنِّيتَين كانتا تنظران تلك النظرات المتضرعة العاجزة التي تنظرها الطريدةُ عندما تُحس بشبكة الصياد تُطوِّقها وهي عاجزة عن التخلُّص من شَرَكها. والآن، وعندما أدركتْ وجود صديقي الشهير ومساعدته، أخذتْ مَسحةٌ من الدماء تسري في وجنتَيها الشاحبتَين وراحَ بريقٌ من الأمل يلتمع في نظراتها السريعة التي رمقَتنا بها.
سألَتِ الآنسة دنبار بصوتٍ خافتٍ مرتبك: «ربما أخبرك السيد نيل جيبسون بشيءٍ مما حدث بيني وبينه، أليس كذلك؟»
أجاب هولمز: «بلى، لستِ مضطرةً أن تُحمِّلي نفسك عبء المرور على هذا الجزء من القصة. لقد أصبحتُ — بعدما رأيتُك — مُهيَّأً لتصديق كلام السيد جيبسون بخصوص تأثيركِ عليه وبراءة علاقتكِ به كذلك. لكنْ لماذا لمْ تُوضِّحي الموقف كله في المحكمة؟»
«لقد بدا لي من غير المعقول أن يثبت اتهامٌ مثل هذا. وكنتُ أظن أننا لو انتظرنا فإن الأمر برُمَّته كان سيتضح من تلقاءِ نفسه حتمًا، ومن دون أن نُضطرَّ للخوض في تفاصيلَ جارحةٍ من حياة الأسرة الخاصة. لكنني أعتقد أنه قد أصبح أكثر خطورةً بإبقائه دونَ توضيح.»
هتف هولمز بنبرةٍ جادة: «آنستي العزيزة، أرجو أن تتأكدي جيدًا من حقيقة الوضع. إن باستطاعة السيد كامينجز أن يؤكِّد لكِ أن كل الأوراق ضدنا في الوقت الحالي، وأن علينا أن نبذل كلَّ ما بوسعنا إذا كنا نريد أن نحصل على البراءة. ولو أننا زعمنا أنك لستِ في خطرٍ بالغ الجسامة فسيكون هذا تضليلًا قاسيًا، فلتساعديني إذن بكلِّ ما تستطيعين من أجل اكتشاف الحقيقة.»
«لن أُخفي عنك شيئًا.»
«أخبرينا إذن عن حقيقةِ علاقتك بزوجة السيد جيبسون.»
«لقد كانت تكرهني يا سيد هولمز؛ كانت تكرهني بكل ما في طبيعةِ أبناء المناطق الاستوائية التي تنتمي إليها من حدَّة في عواطفهم. لم تكن امرأةً من النوع الذي يفعل الأشياء بفتور، ولقد كانت تكرهني بالقَدْر نفسه الذي كانت تُحب به زوجها. من المحتمل أنها أساءت فهمَ حقيقة العلاقة بيني وبينه. لا أُريد أن أظلمها، لكنَّ حبها كان ملتهبًا جدًّا كما أنه كان حسيًّا بحيث لمْ يكن من اليسير عليها أن تتفهم الرابطة العقلية أو حتى الروحية التي جَذبَت زوجها إليَّ، ولا أن تتصور أنه لم يُبقني في منزله سوى رغبتي في توجيه نفوذه إلى عمل الخير. لكن بإمكاني الآن أن أُدرِك أنني كنتُ على خطأ؛ لأنه لمْ يكن ثَمَّةَ ما يُسوِّغ لي البقاءَ في مكانٍ كنتُ أُسبِّب التعاسة فيه. ومع ذلك فمن المؤكد أن التعاسة كانت ستستمر حتى لو كنتُ غادرت المنزل.»
قال هولمز: «الآن يا آنسة دنبار أرجو أن تُخبرينا بما حدث تحديدًا في تلك الليلة.»
«يمكنني أن أُخبرك الحقيقة بقَدْرِ ما أعرفها يا سيد هولمز، لكنني لا أستطيع إثباتَ أي شيء، وثَمَّةَ نقاطٌ — هي النقاط الأكثر أهمية — لا أستطيع أن أُفسِّرها ولا أن أتخيل أي تفسيرٍ لها.»
«إذا كنتِ ستضعين يدكِ على الأحداث، فمن الجائز أن يتمكن آخرون من وضعِ أيديهم على تفسيرها.»
«إذن، بخصوص وجودي عند جسر ثُور في تلك الليلة، فإنني كنتُ قد تلقيتُ رسالةً من زوجة السيد جيبسون في الصباح. كانتْ موضوعةً على منضدة حجرة الدرس، وربما تكون هي التي وضعتها هناك بيدها. كانتْ تتوسل إليَّ فيها أن أُقابلها هناك بعد الغداء، وقالت إن ثَمَّةَ شيئًا مهمًّا تُريد أن تخبرني إياه، وطَلبتْ مني فيها كذلك أن أترُك ردًّا على رسالتها فوق الساعة الشمسية التي في الحديقة؛ لأنها لمْ تُرد أن يطَّلع على السر الذي بيني وبينها أحد. لمْ أرَ مبررًا لمثل هذه السرية، لكنني فَعلتُ ما طلبتْه، ووافقتُ أن أُقابلها. لقد طَلبتْ مني أن أتخلَّص من رسالتها لذلك أحرقتُها في موقدِ حجرة الدرس. كانتْ خائفةً جدًّا من زوجها الذي كان يقسو في التعامُل معها، وقد لُمْتُه في ذلك كثيرًا، ولمْ أَتصوَّر أنها تَصرفتْ بهذه الطريقةِ إلا لأنها لم تُرِد أن يعرف شيئًا عن لقائنا.»
«لكنها برغم هذا حَرصَت على الاحتفاظ بردِّكِ على رسالتها، أليس كذلك؟»
«بلى. لقد اندهشتُ عندما عرفتُ أنه كان في يدها عندما تُوفيت.»
«حسنٌ، وماذا حدث بعد ذلك؟»
«ذهبتُ إلى هناك كما وعدتُها. وعندما وصلتُ إلى الجسر كانتْ في انتظاري. لمْ أُدرك قبل تلك اللحظة قَط كم كانت هذه الإنسانة المسكينة تكرهني. لقد كانت كالمجنونة؛ في الواقع، أظن أنها كانت مجنونةً بالفعل، كان جنونها خفيًّا مدفوعًا بقوة الوهم الغامضة التي من المحتمل أنها تُسيطِر على المجانين. وإلا، فكيف كانت تستطيع أن تُقابلني كل يوم دونما اكتراثٍ في حين كانت تُضمِر لي في قلبها مثل هذه الكراهية الشديدة؟ لن أذكر ما قالتْه. لكنها صبَّتْ عليَّ غضبها المُستعِر كلَّه في كلماتٍ حادة مُروِّعة. ورغم هذا فلمْ أَردَّ عليها حتى؛ لمْ أستطع أن أرد. لقد كان منظرها لا يُطاق. لذا وضعتُ يديَّ على أُذنيَّ وأسرعتُ بالفرار. وعندما تركتُها كانت لا تزال واقفةً تصرُخ بشتمي عند مدخل الجسر.»
«وأين عُثر عليها بعد ذلك؟»
«على بُعد يارداتٍ قليلة من المكان الذي كانت فيه.»
«ورغم هذا، إذا افترضنا أنها لقِيَتْ حتفها بعد وقتٍ قليلٍ من رحيلكِ عنها، ألمْ تسمعي صوت إطلاق نار؟»
«لم أسمع شيئًا. لكنني في الواقع يا سيد هولمز كنتُ مرتبكةً ومذعورةً من ثورة غضبها المُروِّعة هذه، فأسرعتُ عائدةً إلى هُدوء غرفتي، ولمْ أكن قادرةً على ملاحظة أيٍّ مما حدث.»
«تقولين إنك عُدتِ إلى غرفتِك. فهل خرجتِ منها ثانيةً قبل صباح اليوم التالي؟»
«نعم، فلقد أسرعتُ بالخروج مع الآخرِين عندما وصل نبأُ وفاةِ تلك البائسة.»
«وهل رأيتِ السيد جيبسون؟»
«نعم، لقد كان عائدًا لِتوِّه من عندِ الجسر عندما رأيتُه. وقد أرسل في طلب الطبيب والشرطة.»
«هل بدا لكِ في حالةٍ شديدة من الاضطراب؟»
«إن لدى السيد جيبسون قدْرًا كبيرًا من القوة ورباطة الجأش، ولا أظنه يُظهر مشاعره أبدًا. لكنني، وأنا التي عرفَتْه جيدًا جدًّا، كنتُ أرى أنه كان قلقًا للغاية.»
«لنأتِ إذن إلى النقطة الأكثر أهمية. هذا المسدس الذي عُثر عليه في غرفتك. هل سبق لكِ أن رأيتِه من قبلُ قط؟»
«مطلقًا. أُقسم على هذا.»
«ومتى عُثر عليه؟»
«في صباح اليوم التالي، عندما فتَّشَت الشرطة المنزل.»
«وجدوه بين ملابسِك؟»
«نعم، في خِزانةِ ملابسي تحتَ فساتيني.»
«ألا يمكنكِ أن تُخمِّني منذ متى كان هناك؟»
«لم يكن موجودًا في صباح اليوم السابق لهذا.»
«كيف عرفتِ هذا؟»
«لأنني رتَّبتُ خِزانةَ الملابسِ في ذلك الوقت.»
«هذا أمرٌ حاسم. إذَن فإن شخصًا ما دخَل إلى حُجرتكِ ووضع المسدَّس هناك لكي يُورِّطكِ في الجريمة.»
«لا بُد أن يكون الأمرُ كذلك.»
«لكن متى؟»
«لا يمكن أن يكون هذا قد حدث إلا وقتَ تناوُل الطعام، أو أثناءَ المُدة التي أكون فيها في حجرة الدرس مع الأطفال.»
«في مثل ذلك الوقت الذي تلقيتِ فيه الرسالة؟»
«نعم، ابتداءً من ذلك الوقت وإلى آخرِ ساعةٍ من ساعات الصباح.»
«شكرًا لكِ يا آنسة دنبار. هل هناك أيُّ معلومةٍ أخرى من شأنها أن تساعدني في التحقيق؟»
«لا أذكر أيِّ معلومةٍ أخرى.»
«يُوجد في إفريز سور الجسر أثرٌ يدل على وقوعِ عنف؛ صَدعٌ جديدٌ تمامًا في مواجهة الجثة مباشرةً. هل يمكنك اقتراح أي تفسيرٍ مقبول لهذا؟»
«لا شكَّ أنها مجردُ مصادفة.»
«غريبٌ يا آنسة دنبار، غريبٌ جدًّا. لماذا يظهر في الوقت نفسه الذي وقعَت فيه الحادثة، ولماذا في مكانها تحديدًا؟»
«لكن تُرى ما الذي تسبَّب في هذا الصدع؟ ليس لشيءٍ أن يُحدث هذا الأثر إلَّا أن يكون عملًا عنيفًا جدًّا.»
لكنَّ هولمز لم يُحِر جوابًا. اكتسى وجهُه الحادُّ الشاحبُ فجأةً بتلك التعابيرِ المُتوتِّرة الحالمة التي تعوَّدتُ أن أربطها بأشدِّ تجلياتِ عبقريته وضوحًا. كان وصولُ تفكيره إلى ذروته شديدَ الوضوح بحيث لم يجرؤ أيٌّ منا على الحديث، وجلسنا أنا والمحامي والسجينة نُراقبه في حالةٍ من الاستغراق والتركيز في الصمت. لكنه وثبَ فجأةً من كرسيه وهو يرتجُّ من فرط الحماسة والحاجة المُلحة للعمل.
صاح قائلًا: «تعالَ يا واطسون، تعالَ!»
«ما الأمرُ يا سيد هولمز؟»
«لا تشغلي بالَكِ سيدتي العزيزة. سوف أتواصلُ معكَ يا سيد كامينجز. وبمعونةِ رب العدالة سوف أمنحكَ قضيةً تمتلئ إنجلترا كلها بالحديث عنها. سوف تصلكِ الأخبار في الغد يا آنسة دنبار، أمَّا الآن فإنني أؤكد لكِ أن السُّحُب سوف تنقشع وأنني ممتلئٌ رجاءً أنَّ ضوء الحقيقةِ سوف ينبلج.»
لم يكن الانتقال من وينشستر إلى ضَيْعة ثُور بالرحلة الطويلة، لكنه كان طويلًا عليَّ لنفادِ صبري، بينما كان من الواضح أنه بدا سفرًا أبديًّا بالنسبة إلى هولمز؛ لأنه كان في حالةٍ من التملمُل الشديد لا يستطيع معها أن يجلس هادئًا، إنما كان يذرع عربة القطار جيئةً وذهابًا أو ينقر بأصابعه الطويلة الدقيقة على الوسائد التي بجواره. لكنه برغم هذا، وعندما اقتربنا من وجهتنا، جلس أمامي فجأةً — وكنا قد اتخذنا لأنفسنا عربةً من عربات الدرجة الأولى — ووضع يدَيه على رُكبتيَّ وأخذ ينظر في عينيَّ تلك النظرة العابثة الغريبة التي كانت تُميِّز حالته النفسية عندما تكون أقرب إلى حالة الأطفال المشاغبِين.
قال: «واطسون، أذكر أنك تكون مسلحًا عندما نخرج في رحلاتنا القصيرة هذه.»
لقد كنتُ أفعل هذا من أجله أيضًا؛ لأنه لمْ يكن يهتم كثيرًا بتأمين نفسه عندما ينهمك عقلُه في التفكير في قضيةٍ ما؛ لذا فقد كان مسدسي صديقًا مخلصًا أكثر من مرة عندما كنا في حاجة إليه؛ ومن ثَم ذكَّرتُه بهذا.
فقال: «نعم نعم، إن عقلي يغفل قليلًا عن هذه الأمور. لكنْ، هل مسدسك معك؟»
وهنا أخرجتُه من جيبِ سروالي الخلفي، كان سلاحًا قصيرًا صغيرَ الحجم سهل الاستعمال، لكنه كان مفيدًا جدًّا. فكَّ هولمز سقاطةَ المسدس، وأخرج منه الرصاص، وأخذ يتفحَّصه بعناية.
ثم قال: «إنه ثقيل؛ ثقيلٌ بصورةٍ ملحوظة.»
«نعم، إنه قطعةُ سلاحٍ متينة.»
ظلَّ هولمز يتأمَّله مدةَ دقيقة.
ثم قال: «أتعرف يا واطسون، أعتقد أنه ستكون لمسدسك صلةٌ وثيقةٌ جدًّا باللغز الذي نُحقِّق فيه.»
«عزيزي هولمز، إنك تمزح.»
«لا يا واطسون، إنني جادٌّ جدًّا. هناك اختبارٌ أمامنا. وإذا نجح الاختبار فسيتضح كل شيء. وسيعتمد هذا الاختبار على ما سيكون من هذا السلاح الصغير. فلتَبقَ رصاصةٌ واحدةٌ خارجه. ولنُعِد الآن الرصاصات الخمس الأخرى إلى مكانها ونغلِق سُقَاطة الأمان. وهكذا! لقد زِدنا وزنه وجعلنا منه نسخةً مطابقةً أفضل.»
لمْ تكن لديَّ أدنى فكرةٍ عمَّا كان يدور في ذهنه، ولم يُطلعني على شيء، لكنه جلس غارقًا في التفكير حتى وصلنا إلى محطةِ هامبشير الصغيرة؛ ومن ثَم استأجرنا مركَبةً متداعيةً، وفي غضونِ ربع ساعةٍ كنا في منزل صديقنا الأمين؛ الرقيب كوفنتري.
«هل حصلتَ على دليلٍ يا سيد هولمز؟ ما هو؟»
قال صديقي: «إن الأمر برُمته يعتمد على ما سيفعله مسدس الدكتور واطسون. ها هو ذا. والآن أيها الضابط، هلَّا تعطيني حبلًا بطولِ عشرِ ياردات؟»
حصَلنا على كرةٍ من الحبل المتين المَجدُول من متجر القرية.
قال هولمز: «أظن أن هذا هو كل ما سنحتاج إليه. والآن، إذا سمحتَ لي، فسننطلق إلى ما أرجو أن يكون آخرَ مرحلةٍ من مراحلِ رحلتنا.»
كانت الشمس تميل إلى المغيب وتُحيل الأرض البراح المتمايلةَ النباتات في هامبشير إلى مشهدٍ خريفيٍّ رائع، وكان الرقيب يتهادى في سيره بجوارنا وفي عينَيه الكثيرُ من نظرات النقد والريبة التي تنمُّ عن شكوكه العميقة في عقل صاحبي. وعندما اقتربنا من مسرح الجريمة استطعتُ أن أرى أن صديقي في الحقيقة كان في قلقٍ عميقٍ برغمِ كلِّ ما يبدو من فتوره المعتاد.
أجاب هولمز على ملاحظتي قائلًا: «أجل، لقد رأيتَني وأنا أُخطئ هدفي من قبلُ يا واطسون. إنني موهوبٌ في مثل هذه الأشياء، ولكنها كانت تخدعني بين الحين والآخر. لقد بدتْ لي الفكرةُ أمرًا يقينيًّا عند مرورها لأول مرةٍ في ذهني ونحن في الزنزانة في وينشستر، لكنْ من العقبات التي تُواجِه العقل النشط أنَّ صاحبه دائمًا ما يستطيع تصوُّرَ تفسيراتٍ بديلة؛ وهي ما يُوقِع حِسَّنا الباطني في الخطأ. ليس هذا وحسب، لكن في الواقع يا واطسون، ليس بإمكاننا إلا أن نحاول.»
ربَط هولمز، في أثناء سيره، أحد طرفَي الحبل بإحكامٍ في يد المسدس، ثُم وصلنا في تلك اللحظة إلى مكانِ وقوعِ المأساة. أخذ هولمز يرسم — بعنايةٍ شديدة، وبإرشاد الرقيب — الحدودَ الدقيقةَ للمكان الذي كانت الجثة ممددةً فيه، ثم أخذ يُفتِّش بين سيقان نباتات الخلنج والسرخس حتى وجد حجَرًا كبيرًا. بعد ذلك ربطه بإحكامٍ في الطرف الآخر من الحبل، ثُم دلَّاه من فوقِ حاجز الجسر بحيث راح يتأرجح فوق المياه. بعد ذلك وقفَ في مكان الجثة — على مسافةٍ من حافة الجسر — ومُسدسي في يده، بحيث كان الحبل مشدودًا بين السلاح والحجر الثقيل في الجانب الأقصى.
صاح هولمز قائلًا: «والآن، لِنُجرِ تَجرِبتنا!»
رفع هولمز المسدسَ إلى رأسه وهو ينطق بهذه الكلمات، ثم فتح قبضته. وعلى الفور سحبه ثقلُ الحجر، فارتطمَ في الحاجز مُحدِثًا دويًّا حادًّا، واختفى داخل المياه. ولم يكدِ المسدس يختفي حتى جثا هولمز على ركبتَيه بجوار السور الحجري، وصاح صيحةً فرِحةً أَظهرَت أنه عثَر على ما كان يتوقَّعه.
من ثَم صاح قائلًا: «هل رأيتم شرحًا أكثر دقةً من هذا قبل ذلك قَط؟ أرأيتَ يا واطسون، لقد حلَّ مسدسُك القضية!» وبينما كان يتكلم أشار بيده إلى صدعٍ آخر في نفسِ حجم وشكل الصدع الأول الموجود في الحافة السفلى من الحاجز الحجري.
واصل هولمز كلامه وهو ينهض من فوق الأرض ويواجه الرقيب المشدوه قائلًا: «سوف نبيت في الفندق الليلة. وسوف تُحضر أنت بالطبع خُطافًا وتستعيدُ مسدس صديقي بسهولة. وسوف تجد بجواره كذلك المسدسَ والحبلَ والحجرَ التي استَخدمَتها تلك المرأةُ الحاقدة في مُحاولِتها إخفاءَ جريمتها وإلصاقَ تهمة قتلٍ بضحيةٍ بريئة. يُمكنك إخبار السيد جيبسون أنني سأراه في الصباح؛ حيث سيُمكِننا أن نتخذ خطواتٍ في سبيل تبرئة الآنسة دنبار.»
في وقتٍ متأخر من تلك الليلة، وبينما جلسنا نُدخِّن الغليون معًا في فندق القرية، قدَّم لي هولمز استعراضًا مختصرًا لما جرى.
فقال: «أخشى يا واطسون أن إضافتك قضيةَ لُغزِ جسرِ ثور إلى سجلاتك عني لن تُحسِّن مما قد أكون اكتسبتُه من حُسن الصِّيت على الإطلاق. لقد كنتُ بليدَ الذهن، كما أنني لم أكن على المستوى المطلوب في ذلك المزج بين الخيال والحقيقة، الذي هو أساسُ مهارتي. أعترف أن الصدع الذي في الحاجز الحجري كان دليلًا كافيًا للوصول إلى الحل الصحيح، وأنني ألوم نفسي لأني لم أتوصل إليه أسرعَ من ذلك.
لا بُد من الاعتراف أن طريقة تفكير هذه المرأة البائسة كانت خبيثة وغامضة؛ لذا لم يكن حل خيوط مؤامرتها بالأمر الهيِّن. لا أعتقد أننا التقينا قطُّ في مغامراتنا نموذجًا أشدَّ غرابةً من هذا لِما يمكن للحب المُشوَّه أن يتسبَّب فيه؛ لأنه سواءٌ عليها أكانت الآنسة دنبار تُضارعها في الجمال أو في العقل وحسب؛ فيبدو أن كلا الأمرَين كانا في نظرها جريمةً لا تُغتفر. لا شك أنها كانت تُحمِّل هذه الفتاة البريئة المسئوليةَ عن كل هذه المعاملة الصارمة والكلمات القاسية التي قاومَ بها زوجُها مبالغتَها في التعبير عن حُبها. وقد كان أول قرارٍ اتخذتْه أن تُنهي حياتَها. أمَّا قرارُها الثاني فكان أنْ تَفعلها بطريقةٍ تُوقعُ ضحيتَها في مصيرٍ أسوأ بكثيرٍ مما قد تكون عليه أيُّ طريقةٍ مفاجئةٍ للموت.
يمكننا تتبُّع خطواتِ جريمتها بوضوحٍ شديد، وإنها لتنمُّ عن حدةِ ذهنٍ ملحوظة. لقد انتَزعَتْ بذكاءٍ شديدٍ من الآنسة دنبار رسالةً من شأنها أن تجعل الأمر يبدو كأنها هي مَن اختار مكان الجريمة. لكنَّ حرصها على أن تُكتشف هذه الرسالةُ أوقعها في أن بالغَتْ في الأمر إلى حدٍّ ما عندما ظلَّتْ ممسكةً بها في يدها للنهاية. كان ينبغي لهذا وحده أن يُثير شكوكي في وقتٍ مبكرٍ عن الوقت الذي بدأتُ فيه أشك في الأمر.
بعد ذلك حصلَتْ على أحد مسدسات زوجها — وقد كان في المنزل ترسانةُ أسلحة كما رأيت — وأبقتْه معها. ثم أَخفتْ مسدسًا شبيهًا به في صباحِ ذلك اليوم في خزانة ملابس الآنسة دنبار بعد أن أفرغتْ حجرةً واحدة من حجرات الرصاص فيه، وهو ما كانت تستطيع أن تفعله بسهولةٍ في الغابة دون أن تلفت الانتباه. بعد ذلك اتَّجهَتْ إلى الجسر حيث كانت قد اختَرعتْ تلك الطريقة البالغة المهارة كي تتخلص من سلاحها. وعندما وصلت الآنسةُ دنبار استماتتْ في صبِّ غضبها عليها، ثم بعدما انصرفَت الآنسةُ دنبار وأصبحَتْ أبعدَ من أن تسمعها نفَّذتْ غايتَها المُروِّعة. لقد أضحتْ كلُّ حلقةٍ الآن في مكانها واكتملَت السلسلة. وربما تتساءل الصحف لماذا لم يُفتَّش قاعُ البُحيرة من البداية، لكنَّ من السهل عليهم التظاهُر بالذكاء بعدما انتهى الأمر! وعلى أي حالٍ فإن تفتيش بحيرةٍ مملوءة بالقصب ليس بالأمر السهل إلا إذا كُنتَ مدركًا تمامًا أين تبحث وعن أيِّ شيءٍ تبحث. حسنٌ يا واطسون، لقد ساعدْنا امرأةً مُميَّزة، ورجلًا مُرعبًا كذلك؛ فهل سيوحِّدان قُواهما في المستقبل؟ لا يبدو هذا مُستبعَدًا. وربما يكتشِف عالَمُ المال أن السيد جيبسون تعلَّم شيئًا في مدرسة الحُزن هذه التي نتعلم فيها دروس حياتنا.»