مقدمة

«إلياذة هوميروس» تراث خلَّده التاريخ، وتحدثت به البشريَّة وما زالت، ولسوف تفخر به إلى يوم القيامة … طالما هناك من يهوَى الأدبَ ويعشقه، ومن يفهمه ويتذوقه …

ولا شكَّ أنني لستُ أولَ من يُقدم الإلياذة بالعربية إلى القُرَّاء … فهناك غيري من تناولوها بالترجمة الرصينة، وحرصوا على أن يقدموها لعُشَّاق الأدب كما سطرها هوميروس، فطحل شعراء الإغريق بلا جدال، ورائد الشعراء في العالم أجمع بلا نزاع، وأول من حيَّر الألبابَ بسحر أسلوبه، وجمال موضوعه، ورصانة أشعاره، وأعظم من فرض نفسه على التاريخ، لا بأشعاره التي تزيد على مائة ألف بيت من الشعر، ولكن كأبرع من استطاع بقصتيه الإلياذة والأوديسة أن يُشبعَ نَهَمَ الشعوب في جميع الأمم والبلاد، وفي جميع العصور والأزمان، ويُرضيَ ذوقهم، ويحظى بإعجابهم، ويجبرهم على الإشادة به وبأشعاره، كأحسن ما يمكن للعقل البشري أن يكتب، وأرفع ما يستطيع الفكر الإنساني أن يصل إليه.

وما «هيلين طروادة»، موضوع هذا الكتاب، إلا ملخص شافٍ لإلياذة هوميروس، تلك الدُّرة الغالية، والجوهرة النادرة، والقصَّة التي لا ضريب لها منذ أن عرفت البشريَّة معنى الأدب، وذاقت حلاوته وطلاوته …

وما من شكٍّ في أن أعمال هوميروس الأدبيَّة هي التي رفعته إلى هذه الذروة الشامخة بين سائر الأدباء، كما أن منظومتيه — الإلياذة والأوديسة — هما اللتان أوحتا إلى غيره من الشعراء والأدباء بالكثير مما كتبوه لنا من أشعار لا إخال إلا أنها كانت مثارَ إعجابنا؛ فاستذقناها واستمرأناها، واشتهينا تلاوتها من حينٍ إلى حين.

وقارئ هذا الكتاب لن يعدم شيئًا من صلب ما كتبه هوميروس في إلياذته … ولن يفقد شيئًا من طلاوتها وسلاستها، وما يجري بين سطورها من لفظٍ رصينٍ وتعبيرٍ جميلٍ وتشبيهٍ فريدٍ …

بيد أن الحديث عن قصة «هيلين طروادة» يجرُّنا إلى الكلام عن أبطال هذه القصَّة التي خلدت أشخاصهم بخلود هذه القصَّة أو الذين لولاهم — وهذا هو الأصح — ما خُلدت القصَّة هذا الخلود السرمدي …

فهاك أشيل — بطل الإغريق الأكبر — الذي غطسته أمُّه وهو طفلٌ في مياه أحد الأنهار المقدسة ليكون غير قابل للجرح، ولكن المياه لم تصل إلى عقبيه إذ كانت تمسكه أمُّه منهما …

ولم يكُ أشيل هذا بطلًا مغوارًا، ومحاربًا جبَّارًا فحسب، بل كان متدربًا أيضًا على فنون الطب والشعر والموسيقى ومبادئ العدل والإنصاف …

شاعت حول أشيل هذا نبوءة تقول بأنه سيموت صغيرًا في طروادة … فلما وصل نبأ الحرب الطروادية إلى مسامع والديه، دثرا الصبي في ملابس الفتيات، وأرسلاه ليعيش بين بناتِ أحدِ الملوكِ، فلما أعلنت الكهنةُ أنه لا يمكن التغلب على طروادة بدون مساعدة أشيل، أُرسل الأبطال أوديسيوس وفوينكس ونسطور للبحث عنه … فلما وصلوا إلى حيث هو تنكَّر أوديسيوس في هيئة بائع جوال عرض بضائعه على بناتِ الملك، فاختار جميعُ الفتيات بعضَ المصوغات، وكشف أشيل عن نفسه باختياره الأسلحة.

وهاك هكتور، قائد الطرواديين في الحرب الطروادية، وأعظم قادتهم ومحاربيهم بلا جدال …

ولقد لعب هكتور هذا دوره في الإلياذة محاربًا شجاعًا، وبطلًا صنديدًا صبورًا، وابنًا عزيزًا لطيفًا، وزوجًا محبوبًا، ووالدًا يخشى لوم اللائم وانتقاد الأعداء … محبوب من شعبه وذويه … ومن ثمَّ فهو إحدى الشخصيات البارزة الجذَّابة في قصة «هيلين طروادة».

ولئن أثبت أشيل جدارته في طروادة كقائد، وبراعته كمحارب سريع الخُطى، ومصدر فزعٍ للأعداء … فكفى أن نسجل لهكتور موقفه الخالد حينما انبرى لأشيل في ثبات الليث الهصور، وعزَّ عليه أن يفرَّ أمامه كما فرَّت فلولُ الطرواديين والهلع يملأ قلوبهم …

وقارئ كتاب «هيلين طروادة» سيحظى بزبدة ما في إلياذة هوميروس من أحداث وأقوال ومطاحنات وبطولات … إنني أطمئنه من هذه الناحية وأكثر … وأريده أن يعلم تمام العلم أنني أهدف بهذا الكتاب الذي بين يديه ألا أجعل قراءة الإلياذة والإلمام بأحداثها مقصورة على الشباب الكبير، بل أريد أن أشجع الشباب الصغير والنشء اليافع، بأن أتيح له فرصة ذهبيَّة لقراءة هذه القصَّة الخالدة قراءة ممتعة، لا تُبعده عن النص الأصليِّ من حيث الجوهر والحبكة الفنيَّة، وفي الوقت نفسه تعوِّده على أسماء أبطال هذه القصَّة سواء أكانوا أغارقة أم طرواديين؛ نظرًا لما لهؤلاء الأبطال اللامعين من خلودٍ ليس بعده خلود في دنيا الأساطير الإغريقيَّة القديمة وآدابها الرائعة … الأمر الذي لا سبيل لأي مثقفٍ أن يغضَّ الطرْفَ عنه …

تتلو محاولتي هذه محاولة مشابهة مع «أوديسة هوميروس»، إذ سأنشرها قريبًا تحت اسم «مغامرات أوديسيوس» … والذي أرجوه صادقًا هو أن تحظى هاتان المحاولتان بالنجاح والتوفيق وأن تلقيا من القرَّاء الأعزَّاء التشجيع والإقبال … والله وليُّ التوفيق.

أمين سلامة
جاردن سيتي في ٦ / ٦ / ۱۹٥٦م

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤