الباب الأول

أسباب حصار طروادة

استلقى باريس Paris ابن الملك بريام Priam على الأرض المعشوشبة في أعماق الغابة المجاورة لجبل إيدا Mount Ida تُحيط به أشجارها المتشابكة الأغصان، وقد استرخى تحت تأثير النسيم العليل الذي كان يُداعب شعره الذهبي، وحفيف أوراق الأشجار، وكان يحرس عن كثب قطعان أبيه النائمة في دجى الليل البهيم …

وبينما هو على تلك الحال إذ رأى فجأةً ضوءًا ساطعًا يخترق لألاؤه الغابة الكثيفة، ويمرق وسط الأشجار الملتفة بعضها على بعض، فخُيِّل إليه أن الشمس الذهبيَّة والقمر الفضيَّ قد أشرقا معًا في آنٍ واحدٍ فاختلط سناؤهما ونثر البياض بين الأشجار …

حدث بعد ذلك ما يدعو إلى العجب ويُثير الدَّهشة … فقد أبصر باريس، وسط ذلك اللألاء الساطع، ثلاث رباتٍ واقفاتٍ تجاهه، لم تُشرق الشمس على أجمل منهن وجهًا، ولا أملد عودًا، ولا أعظم فتنة وجاذبية … ولم تكن هؤلاء الربات الثلاث، غير صاحبة الجلالة هيرا Hera، وأثينا ربة الحكمة، وأفروديت الفائقة الجمال …

بقي باريس فترة من الوقت، لا يعرف مداها، طالت أم قصُرت، حائرًا مبهوتًا مشدوهًا، لا يحير جوابًا، ولا يبدي حراكًا … حتى قطع عليه غشيته صوت هيرا الناعم، ينساب في نغمات عذبة حلوة، وهي تقول:

«أي باريس! يا أجمل من وُلد من البشر، لقد حضرنا إليك نحتكم … خبِّرنا بربك … من منَّا تفوق زميلتيها جمالًا وفتنة؟ … خُذ هذه التفاحة، وبعد أن تُمعن النظرَ فينا وتصل إلى قرار، أعطها لمن تحكم لها بالتفوق في الجمال والفتنة على سائر الربَّات والبشر» …

ما كادت هيرا الفاتنة تنتهي من قولها، حتى وضعت في يد باريس تفاحة من العسجد الخالص، ثم استطردت تقول:

«لو أنك يا باريس، أعطيت جائزة الحب هذه، لي أنا هيرا، ملكة سائر الربَّات، وزوجة زوس Zous الجبار، ملك الآلهة في عليين، لكافأتك بدوري مكافأة منقطعة النظير، ولمنحتك من القوة والسلطان ما لا يقف أمامهما شُمُّ الجبال، فتخر لك الجبابرة سُجدًا، ويخشى بطشَك أعظمُ الأبطال والفرسان … ولجعلتك ملكًا على تلك البقاع المترامية الأطراف، التي ينبلج منها الفجر بخنجره الفضي؛ بل وملكًا على هذه البلاد التي تغرب فيها الشمس الحمراء … فينادي بك سيدًا وملكًا، مئات الشعوب من مختلف الأجناس، وتُغمر مخازنك بالهدايا النفيسة من الجواهر النادرة والثمار اليانعة.»
fig1
هيرا.

قالت هيرا ذلك القول ثم لزمت الصمت التام … وما إن أتمَّت حديثها حتى انساب صوت أثينا في رقة ما بعدها رقة، وصفاء دونه صفاء البلور الثمين، كأنه شعاع فضي أرسله القمر من لدنه، فاخترق ذلك السكون، وقضى على هدوء الليل الرهيب … فقالت:

«حبَّذا لو أعطيتني الجائزة يا باريس، فأُعطيك حكمة الآلهة الخالدين، وأجعل كل شيء في هذه الدنيا طوع أمرك ورهن بنانِك، تُصدر اللفظ فيطيع الملايين، وترفع إصبعًا فتلبي الشعوب أجمعين … لأنني سأكون لك نعم الصديق المعين، والمخلص الأمين.»

fig2
زوس.

انتظرت أفروديت الحسناء حتى انتهت أثينا من حديثها، فتقدمت في حُلَّة من الضوء الورديِّ، كأنها أشعة الشمس تخترق مطلع الفجر في فصل الربيع، ثم قالت:

«أي باريس! الفاتن الجميل، يا من تتطلع إليك الغِيدُ الحسانُ، ويرقص لرؤيتك قلبُ كل إنسان … ما هو السلطان؟ بل وما هي الحكمة؟ وماذا يجديان المرء في هذه الحياة؟ ما كانت القوة أبدًا ولا الحكمة مصدرًا لنعمة أو مسرَّة، وما كانا سببًا لسعادة أو هناء، بل على العكس ما كانا دائمًا غير مبعث للشقاء والبلاء، والهموم والأحزان، والضغينة والأحقاد، أما أنا يا باريس، فسأُعطيك ما هو خيرٌ وأبقى، أعظم ما يتمناه المرء ويصبو إليه الإنسان، سأُعطيك ما أعتقد أنه غاية أمل الشاب في هذه الحياة، أُعطيك ما يجلب لك النعيم الدائم والهناء المقيم، أُعطيك ما يجعل حياتك حديقة غناء دانية القطوف … سأُعطيك الحب … ذلك الحب الرقيق، ذا الحلاوة الأبديَّة، واللذة السرمديَّة … وسأجعل لك زوجةً تَفنَّنَ الصانعُ الماهرُ في تشكيلها؛ حتى بدت غادة فينانة فائقة الحسن، كأنها فلقة القمر، كلها فتنة وإغراء، وجاذبية ورواء. فارعة الطول كغصن البان، تنثني في مشيتها كما لو كانت عظامها من الخيزران، نحيلة الخصر دقيقة الأطراف … جبينها ناصع كالصراحة، ونظراتها باترة كالعزيمة، وضحكتها مدوِّية كالحريَّة، ولمعة تفكيرها العبقري تجثم في عمق عينيها كما يجثم سر الحياة الكبرى في مقدس بدنها الفضي الجميل … ذات عينينِ نجلاوينِ وفمٍ كينبوع ماء حيٍّ يتلهف على أن يعب منه كل ظمآن … وأسنان بيض كياسمين منضَّد. صقيلة لمَّاعة كأندر الدُّرر وأغلى العاج … وعنق أتلع مستدير يشبه برجًا من اللُّجين الخالص. وخدود هي آنية من فضة قد انبثق منها ورد متفتح، امرأة في روحها عذوبة، وفي نفسها رِقةٌ، وفي دمها دفءٌ، وفي عيونها سحرٌ.»

أنصت باريس إلى حديث أفروديت، وكله إصغاء، فكان لكلماتها العذبة موقع السحر في نفس الشاب الجميل الذي أذهله جمالها الفتَّاك، وأسباه عودُها المياس، وأذهلته هالةُ جبينها الوضاء، وخدرته الفتنة المنبعثة من عينيها الدعجاوين … فملكت عليه لُبَّه وفؤادَه، واستولت على جوارحِه ومشاعرِه … فإذا به يخطو نحوها مسلوب الإرادة، فيقدم إليها التفاحة الذهبيَّة، بلا وعيٍ ولا شعورٍ.

هكذا جلب باريس بن بريام، على نفسه غضب الآلهة؛ فتألَّبوا ضده … ولقد بلغ الغضب بهيرا وأثينا مبلغًا عظيمًا، حتى أقسمتا أنْ لتنتقمنَّ من باريس أفظع انتقام، ولتنكلنَّ بشعبه أشنع تنكيل.

يا ليت الأمر وقف عند هذا الحد، ويا ليت الربتين اكتفتا بما أقسمتا. ولكنهما أخذتا الأيمان المغلظة من جميع الآلهة أن يساعدوهما على الإمعان في الانتقام من باريس المتهوِّر المتسرِّع، الذي — بعدم بصيرته — جلب على نفسه الشقاء حين كان يرجو النعيم، والبلاء حين كان يرجو السعادة والهناء.

أصبح الصباح نديًّا، وملأت الشمس الكون تبرًا منثورًا، فأعدَّ باريسُ عُدَّته للإبحار، فركب سفينة مكينة، ونأى عن بلاده وسط اللجج العاتية، والأمواج الصاخبة، والرياح المزمجرة، تقوده أفروديت، حتى وصلت بسفينته إلى إسبرطة Sparta، تلك البلاد التي يتبوأ عرشَها الملكُ مينيلاوس Menelaus.
fig3
أثينا.
وكان مينيلاوس ملكًا شجاعًا مقدامًا، وفارسًا جريئًا، دوَّخ الممالك وفتح البلدان. وعلاوة على ذلك، كان أيضًا ملكًا سعيدًا هنيَّ الفؤادِ مطمئنَّ النفس، يعيش في مملكته هادئ البال مع زوجته الفاتنة، وشريكة عرشه الحسناء هيلين، أجمل نساء الدنيا قاطبة، وأعظمهن إغراءً وجاذبيةً … وكانت تنعم بحب زوجها وقد رزقت منه فتاة في نضارة الشباب حلوة القسمات، بهية المحيا، اسمها هيرميوني Hermione.

وصل باريس إلى إسبرطة بعينيه الزرقاوين في زرقة مياه البحر، وبشعره العسجديِّ المتلألئِ كأنه جدائل من الذهب تتدلى على ثوبة القرمزي، فاستقبله الملك مينيلاوس أحسن استقبال، ورحب به أعظم ترحيب؛ إذ قد علم أنه بطل جسور وفارس مغوار، ورأى أن جماله يفوق جمال البشر أجمعين …

ما إن وقع بصر باريس على وجه هيلين، حتى أدرك من فوره أنه أمام جمالٍ فذٍّ لا مثيلَ له … من ذلك اللون الذي يندر أن يوجد له نظير في جميع أرجاء العالم كله … فآمن في قرارة نفسه أنه لا توجد على وجه البسيطة بأسرها امرأة واحدة قد بلغ جمالُها نصف ما حوبيت به هيلين زوجة مينيلاوس من جمالٍ رائعٍ وفتنةٍ أخاذة.

قامت أفروديت بدورها خير قيام، فأوقعت هيلين تحت وطأة سحرها الفتاك … فإذا بقلب هيلين يمتلئ بغضًا وكراهية لزوجها الذي أحبته وأحبها، وأنجبت منه هيرميوني الحسناء. وإذا بها تنسى ابنتها العزيزة، وتنسى بيتها وما هي فيه من سعادة وهناءة … وإذا بحبٍّ جديدٍ طافحٍ، يتسلل إلى قلبها فيعصره عصرًا، ويفتك بفؤادها، فتنقاد طيعة لكلمات باريس المعسولة، وغزله المغري، وحثه إياها بالهروب معه وقبول الزواج منه …

نسيت هيلين رسالتها السامية، ونسيت زوجها الملك العظيم الذي كان سبب سعادتها … نسيت ابنتها وقصرها وبلادها … واستسلمت لباريس في ضعفٍ لم يسبق لها أن أحست بمثله، ورحَّبت راضية بفكرة الذهاب معه؛ لترتمي في أحضانه وتصبح له وحده، فترشف كأس الحب السعيد مترعة بين ذراعيه، بعيدة عن عيون العواذل وعن رقابة زوجها …

وفي إحدى الليالي، عندما نشر زنجي الظلام أجنحته على الكون تسلَّلت هيلين من قصرها، وهُرعت تسعى نحو الشاطئ حيث كان باريس في انتظارها، فركبت معه سفينته الحمراء، التي انبرت تمخر عباب اليمِّ بأقصى سرعتها، وما زال بحَّارتها يَجِدُّون في نشر الأشرعة مقابل الريح حتى وصلوا إلى طروادة حيث يشمخ جبل إيدا الراسخ بذؤاباته الثلجيَّة وسط الأحراش …

fig4
هيلين وباريس.

ما هي إلا عشية وضحاها حتى اكتشف مينيلاوس هروبَ زوجته هيلين مع ضيفه الخائن باريس، فغضب غضبًا شديدًا، وصار يذرع أرض قصره جيئةً وذهابًا، ثم ارتمى على سريره خائر القوى منهار الأعصاب، وقد بخعه الحزن، واستولى على جوانحه وسرى بين أحنائه. فاستسلم لتفكير عميق كاد يقضي عليه. كيف لا، وكان يُحب هيلين حبًّا يوشك أن يكون عبادة، إذ كانت له بمثابة القلب من جسده … وظلَّ على هذه الحال فترة طويلة، وأخيرًا هب من غشيته، وقرر أن يلجأ إلى أخيه الأكبر أجاممنون سيد الإغريق عامة، ويقص على مسامعه تفاصيل محنته الكبرى التي أقضت مضجعه، ونفت النومَ عن جفنيه …

استشاط أجاممنون غضبًا، وأرغى وأزبد، وأقسم أنْ لينتقمنَّ لشرف أخيه المكلوم انتقامًا يتحدث بذكره الرُّكبان، ويروي فظائعه الغادي والرائح … فأمر بتعبئة الجيوش في سائر بلاد الأغارقة، وإذا بجحافل الإغريق تحتشد في عداد الحصى وحبَّات الرمال، آتية من كل حدبٍ وصوبٍ، حتى اجتمع لدى أجاممنون مائة ألف مقاتل من خيرة الأبطال المغاورة والفرسان الصناديد … ولم يمضِ طويلُ وقتٍ حتى انتظمت آلاف السفن في صفوف طويلة وسط المياه، ثم صدرت إليها الأوامر بالتحرك، فأعملت المجاذيف والأشرعة حتى عجَّ البحرُ بالزَّبَد يرتفع مع الأمواج، وشقَّت السفن العديدة طريقها نحو طروادة …

حقًّا، ما أكثر الأبطال الذين لبوا النداء فأبحروا من بلاد الإغريق ليعاقبوا باريس وأهله، وليعيدوا هيلين الفاتنة إلى قلب وطنها وعُقر دارها …

وحقًّا، ما أقل الذين عادوا إلى وطنهم من تلك الرحلة الشاقة التي كانت حديث الخاصة والعامة … لقد تسبب جمالُ هيلين الفتاك وأنوثتها الفذَّة، في اندلاع حرب شعواء دام أوارها عشر سنوات، تكبَّد فيها رجال بلاد الإغريق وشعب طروادة ألوانًا من العذاب، وقاست كل أسرة من الأحزان ما يعجِز عن وصفه اللسان. فسالت على أرض طروادة بحار من الدماء الزكيَّة، تقرحت من البكاء عليها عيون آلاف من الأمهات المنكوبات …

fig5
ولم يمض طويل وقت حتى انتظمت آلاف السفن وشقت طريقها نحو طروادة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤