الباب العاشر

جياد ريسوس البيضاء

في تلك الليلة اللَّيْلَاء استسلم القادة الإغريق إلى سباتٍ عميقٍ، وناموا ملءَ جفونِهم، ولكن هناك شخصًا واحدًا لم يغمض له جفن، ولم يطرق الكرى بابه، بل ظلَّ طوال ساعات الدجى مؤرقًا مسهدًا، كأنه موكلٌ بعَدِّ النجوم. ذلك هو أجاممنون الذي كانت تأتي إلى آذانه من معسكر الأعداء أصوات المزامير والناي، وضحكات الرجال الطرواديين وهم يتناولون طعامهم، ويمرحون على الأضواء الحمراء المنبعثة من النيران المتأججة في معسكرهم. فكان أجاممنون إذا شخص بناظره نحو البحر ورأى سفن الإغريق النيام، ثقل قلبه بين جنبيه، وأرسل أناته العميقة، وتأوهاته العالية، منبئة عما ينطوي عليه قلبه من حزنٍ ما بعده حزن، وكمدٍ منقطع النظير …

fig10
أجاممنون تأتي إلى آذانه من معسكر الأعداء أصوات المزامير والناي وضحكات الرجال الطرواديين وهم يتناولون طعامهم.

بقي أجاممنون على تلك الحال وقتًا حسبه دهرًا، ولسان حاله يقول:

ألا أيُّها الليل الطويل ألا انجلِي
بصبح وما الإصباح منك بأمثل
فيا لكَ من ليل كأن نجومه
بكل مغار الفَتْل شُدَّت بيذبل

فلما استبدَّ به الأرق، ثبَّت صندله في قدميه، وطوَّح فوق كتفيه عباءته المشهورة المصنوعة من جلدٍ أسدٍ ضخم، ثم أمسك برمحه، وراح يضرب في ديجور الظلام حتى وصل إلى نسطور الحكيم طالبًا استشارته.

لم يكن أجاممنون هو المؤرق وحده، بل إن أخاه مينيلاوس، لم يذق للنوم طعمًا كذلك، فقد كانت الوساوس والأفكار تنتابه وتسيطر على جنانه؛ خشية أن يحيق بالأغارقة الأذى ويُنْكَبوا بالضربة القاضية، وقد تجشموا المتاعب وركبوا الأخطار، وعبروا البحار الشاسعة؛ للقتال من أجله في بلاد طروادة.

وضع مينيلاوس على رأسه خوذته النحاسيَّة، وألقى على كتفيه العريضين جلد نمر أرقط، وحمل رمحه الثقيل اللامع في يده، وذهب يشقُّ طريقه وسط فحمة الدياجي باحثًا عن أخيه.

وهناك بالقرب من السفن وجده متدثرًا بعدته الحربيَّة، فابتدره بالسؤال قائلًا: «ما ألجأك إلى التسلح هكذا يا أخي العزيز؟ هل أزمعت إرسال أحدٍ من رفقائنا للتجسس على الطرواديين؟ أخشى ألا يكون بيننا من عنده الشجاعة الكافية للتسلل وحده تحت جنح الليل، للقيام بمثل هذا العمل الخطير الذي يتطلب جرأةً وجسارة.»

عندئذٍ أمر أجاممنون أخاه أن يذهب ويوقظ رؤساء جيشه، ويدعوهم إلى اجتماع عاجل للتشاور فيما يجب عمله، بينما ذهب هو بنفسه لإيقاظ نسطور، أكبر جميع المحاربين سنًّا وأوفرهم حكمة.

وبينما هما يجوسان خلال الجيش، وجدا الحراس جالسين في يقظة تامة، حاملين أسلحتهم كأنهم كلاب تحرس حظائر الماشية، وسط بقعة منعزلة بين التلال، وتصغي إلى زئير الأسود وعواء الذئاب من داخل الغابات.

ما إن أبصرهما نسطور العجوز حتى سُرَّ برؤيتهما أيما سرورٍ وقال: «حتى أنتما تحرسان وتراقبان يا ولدَيَّ العزيزين، خشية أن نسمح لأعدائنا بأخذنا على غرَّة والانتصار علينا!»

لبَّى القادةُ نداءَ مليكهم، فاجتمعوا في العراء خلف الخندق العميق الذي حفروه من قبل، وجلسوا يتبادلون الآراء ويتشاورون فيما بينهم، فتحدث إليهم حكيمهم نسطور قائلًا:

«أيُّها الرفاق الأعزَّاء، والمحاربون الأجلاء، هل يوجد بينكم من لا يعرف الخوفَ قلبُه، كي يتسلل بمفرده إلى معسكر الطرواديين هذه الليلة، ويستطلع أمرهم، ويعرف ماذا أعدوا من خطط للمعركة القادمة؟ ما أعظم الشهرة التي سيتمتع بها هذا البطل! وما أثمن المكافأة التي سيُمنحها!»

فأجاب ديوميديس، ذو صيحة الحرب العالية: «سأذهب عن طيب خاطرٍ وقلبٍ رضي، يا نسطور، ويا حبذا لو صحبني رجلٌ آخرُ حتى تحدونا طمأنينة أكثر، وشجاعة أعظم.»

تاق الكثيرون إلى مرافقة ديوميديس، ولكن أجاممنون تحدث قائلًا: «أيْ ديوميديس، يا محط غبطة قلبي، لا شكَّ في أنه من حقك أن تختار رفيقك في هذه المهمة الخطيرة.»

فأجاب ديوميديس: «لو كان لي أن أختار رفيقي حقًّا، لاخترت أوديسيوس؛ إذ برفقته نستطيع اختراق النيران المستعرة والعودة سالمين.»

فقال أوديسيوس: «لا تبالغ في الإطراء والمديح، يا ديوميديس فإنني لا أستحق كل ذلك الثناء، دعْ عنك هذا وهيَّا نذهب فإن الليل كاد ينصرم، وأوشكت النجوم تختفي، والفجر تلوح تباشيره في الأفق.»

ارتدي البطلان عدتيهما الحربيَّتين، وأقلعا كأسدين هصورين يبحثان عن فريستهما، وكانا يطئان جثثَ القتلى أثناء سيرهما، وفي ظلام الليل سمعا صياح البجعة، فعلما أنه بشرى من الآلهة وعلامة على وعدهم لهما بالتوفيق في مهمتهما والانتصار.

وفي نفس الوقت كان الطرواديون يعقدون اجتماعًا في معسكرهم، حيث وقف هكتور الشجاع يعد بالهدايا من يأنس في نفسه الشجاعة الكافية للتجسُّس على الأغارقة، ومعرفة مجرى الأمور عندهم، وما هي خطط أجاممنون ورجاله، وحالة سفنه وجياده ومحاربيه.

نهض دولون Dolon العدَّاء السريع، والرجل السيئ الحظ، صاحب الأموال الطائلة والثراء العريض من الذهب والبرنز، وقال: «سأذهب إلى السفن السريعة الإبحار كجاسوس، ولكنني أشترط أن تكون مكافأتي على هذا العمل، جياد أشيل السريعة وعربته البرنزية.»

فأقسم هكتور قائلًا: «لن يعتليَ ظَهْرَ هذه الجياد طروادي غيرك …»

عندئذٍ أخذ دولون قوسه، وألقى فوق كتفيه جلد ذئبٍ كبير، ووضع على رأسه خوذة من جلد ابن آوى، وأمسك رمحه بيده، وظعن ميممًا شطر شاطئ البحر إلى سفن الإغريق.

سمع أوديسيوس وسط الظلام الحالك، وقع أقدام دولون فقال: «حِذْرك يا ديوميديس، فهنا يأتي شخصٌ ما، ولست أدري على التحقيق أهو جاسوس طروادي، أو لص من لصوص الموتى … دعه يمر، ثم نهجم عليه بعد ذلك ونأسره.»

قال ذلك وانتحى مع ديوميديس إلى ناحية بعيدًا عن الطريق، ورقدا وسط جثث القتلى في قلب السهل، ولزما الصمتَ والثباتَ كمن يرقدون إلى جوارهم …

ما إن ابتعد دولون مسافةً غير طويلة، حتى نهض أوديسيوس وديوميديس وأسرعا خلفه، فلما سمعهما توقف عن السير؛ ظنًّا منه أنهما رسولان من هكتور قد جاءا ليأمراه بالعودة … فلما صارا على بعد رمحٍ أو أقل، عرف أنهما عدوان، فأطلق العنان لساقيه وأخذ يعدو أمامهما هاربًا.

ولكن البطلين طارداه كما تطارد كلاب الصيد أرنبًا بريًّا أو ظبيًا، فلما أوشكا على الوصول إلى الخندق الذي وُضع فيه الحراس، صاح فيه ديوميديس قائلًا: «مكانَك يا هذا، وإلا فإن رمحي سيرديك قتيلًا على الأرض!»

وفي هذه اللحظة قذفه ديوميديس برمحه دون أي رغبةٍ في إصابته، فمرق السهم من فوق كتفه الأيمن، ودُفنت قمته الحادَّة في الأرض أمامه. فتسمر دولون في مكانه وقد اخضَّر لونُ وجهه خوفًا وهلعًا، واصطكت أسنانُه رجفةً وذعرًا، فلحق به أوديسيوس وديوميديس وأمسكا به.

وجد دولون أنه قد وقع في كمين، فارتجف من قمة رأسه إلى أخْمص قدمه، وارتعدت فرائصه ارتعاد المقرور وسط الزمهرير، فأخذ يتوسل إلى آسريه أن يُبقيا على حياته، أو يطلقا سراحه نظير فدية كبيرة من الذهب والنحاس والحديد … وكان يتضرع إليهما والدموع تنهمر من عينيه، وهو يبكي كالطفل الصغير.

فقال له أوديسيوس: «لا تخف ما دمت تخبرنا صادقًا عن سبب مجيئك هكذا في دجى الليل البهيم إلى معسكر أعدائك.»

شرع دولون الجبان يقص أمره وهو ينتفض، ساردًا على مسامع أوديسيوس وديوميديس، جميع ما طلبه منه هكتور … ولما أمره البطلان أن يخبرهما عن الكيفية التي تكمن بها القوات الطروادية، وعن أنجع السبل للتسلل إلى داخل المعسكر، أجاب: «في أقصى بقعة من رجال طروادة يعسكر التراقيون Thracians الذين يحكمهم الملك ريسوس، ذلك الملك المزهو بنفسه، والذي عدته الحربيَّة الذهبيَّة، وعربته المصنوعة من العسجد الخالص واللجين الصافي، تليقان بإله … كما أنه يملك أجمل جياد رآها البشر، فهي عظيمة القوة، سامقة الارتفاع، أنصع بياضًا من الثلج، وتفوق الريح في سرعتها.»

كان أوديسيوس وديوميديس يصغيان في شوقٍ عظيمٍ إلى حديث ذلك الجبان الرعديد، وما كاد ينتهي من حديثه، ويتوسل إليهما أن يأخذاه أسيرًا إلى سفنهما أو يطلقا سراحه، حتى نظر إليه ديوميديس نظرةً صارمةً عابسةً وقال: «أخبارك طيبة يا دولون، ولكنك لن تلعب بعد الآن دور الجاسوس، كما أنك لن تقاتل مطلقًا ضدَّ رجالِ الإغريق.»

أتم ديوميديس تلك الكلمات ثم رفع سيفه البتار، وقبل أن يتمكن دولون من طلب الرحمة، كان قد أهوى به على رأس هذا الجبان، فأطاح رأسه عن جسده، فسقط يتدحرج في التراب حتى وصل إلى أقدام ديوميديس. أما خوذته المصنوعة من جلد ابن آوى وجلد الذئب القاتم، ورمحه وقوسه، فقد أخذها أوديسيوس وديوميديس، وحملاها بعيدًا ليقدماها قربانًا للربَّة أثينا، فوضعاها فوق أكمة من نبات الطرفاء، وأقاما فوقها علامة من القصبات الطويلة وأغصان الطرفاء، حتى لا يخطئا المكان عند عودتهما ثانية قبل الفجر.

أسرع البطلان عبر السهل حتى وصلا إلى معسكر التراقيين، فوجدا الرجال يغطون في نومٍ عميقٍ وقد علا شخيرُهم ووضع كلُّ واحدٍ منهم أسلحته إلى جواره، بينما كان يقف جواده قريبًا منه.

كان الملك ريسوس راقدًا وسط رجاله ينام ملء جفونه، بينما كانت جياده البيضاء مربوطة في عربته المصنوعة من الذهب والفضة.

همس أوديسيوس إلى صديقه قائلًا: «حذار من إحداث أي صوت، فها هو ذا الرجل، وها هي الجياد التي أخبرنا عنها دولون.»

وفي الحال أعمل ديوميديس التقتيل في المحاربين النائمين كأنه أسدٌ هائجٌ ينتقم من وحوش انتهكت حرمة عرينه، فكان يقتل التراقيين واحدًا تلو الآخر، يضرب بسيفه ذات اليمين وذات الشمال، حتى تخضبت الأرض بدماء القتلى وانبعث أنينُ الموتى فظيعًا مروعًا. فلما بلغ عدد قتلاه اثني عشر محاربًا، عمل أوديسيوس على تنحيتهم إلى جانب ليفسح طريقًا لجياد ريسوس البيضاء؛ لأنه خاف أن يستوليَ عليها الفزعُ وهي تطأ جثثَ القتلى بأرجلها في ظلمة الليل الحالكة.

كان الملك ريسوس هو الثالث عشر في عداد ضحايا ديوميديس في تلك الليلة، فمن جراء حلمٍ شريرٍ جذب نفَسًا عميقًا بسرعة، ولكنه قبل أن يستيقظ من النوم كان سيف ديوميديس قد أجهز عليه وأطاح برأسه، عندئذٍ قاد أوديسيوس الجياد خارج المعسكر، ضاربًا إيَّاها بقوسه حيث لم يكن معه وقتئذٍ سوط، وصار يقودها حتى خرج بها بعيدًا عن المعسكر.

صفَّر أوديسيوس لديوميديس؛ إشارة منه بالكف عن التقتيل ومتابعته بغنيمتهما الملكيَّة. ومع ذلك تلكَّأ ديوميديس لأنه كان منهمكًا في قتل التراقيين حتى نسي نفسه، ونسي أن الليل كاد يجرُّ طرف ذيله ويُفسح مجالًا للصباح، وكان ديوميديس يُفكِّر هل يسحب معه العربة أيضًا أو يقتل مزيدًا من التراقيين … وبينما هو في تفكيره أقبلت إليه الربَّة أثينا وقالت له: «عُدْ إلى السفن يا ديوميديس خشية أن يوقظ أحد الآلهة الطرواديين، وعندئذٍ تجد نفسك مضطرًّا إلى الفرار أمامهم.»

لقد كانت أثينا على حقٍّ فيما قالت؛ إذ في تلك اللحظة بالذات كان أبولو يوقظ أحد أقارب ريسوس، فرأى — وهو يصيح بشدة — الموتى ومن يعانون سكرات الموت، وعرف أن جياد الملك قد سرقت من المعسكر.

بيد أنه سرعان ما قفز ديوميديس وأوديسيوس فوق ظهور الجياد البيضاء السريعة العدو، وانطلقا في الظلام عائدين إلى السفن.

وصل البطلان إلى دغل الطرفاء حيث كانا قد تركا أسلابهما من دولون، فقفز ديوميديس في سرعة البرق الخاطف إلى الأرض، وأمسك بالأسلاب، ثم اعتلى على عَجل ظهر جواده، وانطلق يعدو كالمجنون في رفقة زميله أوديسيوس، يشقان طريقهما إلى معسكر الأغارقة، وهما يلهبان ظهور الجياد بلا رحمةٍ ولا هوادة.

كان نسطور العجوز أول من سمع وقع حوافر الخيل وهي تركض بسرعة، فهبَّ مع فئةٍ من قادة الإغريق لاستقبال ديوميديس وأوديسيوس.

ألجم الجاسوسان الجريئان جيادهما وترجلا في خفةٍ ونشاط، فاستقبلهما زملاؤهما الإغريق استقبال الفاتحين الظافرين، وأخذوا يُطرونهم بأعذب الألفاظ، ويخلعون عليهم أنبل الألقاب. وعلا الهتاف والتصفيق، وامتلأ الجوُّ بعبارات التحيات الحارة.

أخذ أوديسيوس يقصُّ على مسامع قادة الإغريق قصة مصرع رجال تراقيا على يد ديوميديس، وسرقة جياد ريسوس التي يتوق أعظم الأبطال وأقوى الملوك إلى اقتنائها، وكان يقهقه بصوت مرتفع أثناء حديثه لهم، ثم قاد الجياد البيضاء إلى داخل الخندق، وعقلها إلى جانب جياد ديوميديس الأخرى.

بعد ذلك خلع البطلان ملابسهما، وغطسا في البحر، وأخذا يزيلان ما علق بجسديهما أثناء تلك المخاطرة، من العرق والتراب. وكان قلباهما مفعمين بالغبطة والسرور لنجاحهما في تلك المهمة واستطلاع أسرار الطرواديين أعدائهم. وبعد ذلك جلسا يتناولان طعام العشاء، وسكبا كثيرًا من الخمر اللذيذ كالعسل عطية للربَّة أثينا.

أما في معسكر الطرواديين، فقد دبَّ الهرجُ والمرج، وسادت الفوضى واختلط الحابلُ بالنابل، وهبَّ المحاربون من نومهم مذعورين، بينما اعترى الخجل والعار من كان متيقظًا من أبطالهم، وكانت صيحاتُ البكاء والنحيب تتصاعد إلى أجواز الفضاء، فيتردد صداها في كل مكان. وعمَّ الحزنُ والأسى لما حدث في الثلث الأخير من فترة الحراسة الليليَّة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤