معركة السَّهل
تقهقرت جحافلُ الظلام مولِّية الأدبار، وأقبل الفجرُ الفضيُّ يهتك أستارَ الليل، ويُبدد جيوش الدجى ليشهد من جديد معركة طاحنة، أقبل فيها الفريقان وأدبرا، وتقدما وتقهقرا. كانت تحتدم تارة فتعرك الرجال عرك الرحى بثفالها، وتفتر طورًا فيخبو سعيرها. غير أنه تمت في ذلك اليوم أعمال كلها بطولة وإقدام.
قاتل أجاممنون في شجاعة فذة وبطولة ما بعدها بطولة، ولكن ماذا تجدي الشجاعة والبطولة وقد كانت الآلهة تقاتل ضده، فكان كمن يضرب في حديدٍ بارد، ولكنه رغم ذلك ظلَّ يُناضل بعنف ويحارب بشدةٍ حتى انتصف النهار، فاضطر هو وكثيرٌ من المحاربين الشجعان الأغارقة، ممن أثخنهم العدو — بمساعدة الآلهة — بجراح بالغة، أن يتركوا ساحة القتال …
حمل نسطور العجوز ماخاون ووضعه في عربته، وألهب ظهور جياده لتسرع بالعودة إلى حظائرها بالقرب من الساحل.
وفي تلك الأثناء كان أشيل واقفًا إلى جوار مؤخر سفينته يراقب سير المعركة من بعيد، وكان قد حثَّ صديقه الحميم، ورفيقه العزيز باتروكلوس بالإسراع إلى خيمة نسطور لمعرفة أنباء المعركة، وليسأل عن اسم المحارب الذي أصيب وحضر به نسطور إلى خيمته.
فأجاب نسطور بتهكمٍ قائلًا: «وماذا يهم أشيل إن عرف أي أبناء الإغريق يرقد جريحًا الآن؟ إن رؤساء كثيرين من قادة الإغريق قد سالت دماؤهم في هذا اليوم … ومع ذلك فلم يُحرك أشيل ساكنًا، ولم يهتم أدنى اهتمام. أنسيت يا بانروكلوس ذلك اليوم الذي تكلم فيه أبوك عنك وعن أشيل؟ لقد قال والدك: «إن منبت أشيل أفضل من منبتك، وهو من حيث القوة أعظم منك أيضًا … ولكنه أصغر منك سنًّا. ومن ثمَّ فاعمل على نصحه وإرشاده برفقٍ وحكمةٍ متى دعت الضرورة إلى ذلك، وستجده طيعًا لك، منتصحًا بوصاياك.»
إذن يا باتروكلوس العزيز، يمكنك الآن أن تحث أشيل على الذهاب إلى القتال، ويعفو عما سلف، وإننا جميعًا لنقدر له موقفه، وحتى أجاممنون نفسه قد اعترف بخطئه. فإن لبَّى نداءنا واستمع لمشورتك فنعم المواطن هو، وإلا فلا أقل من أن يقرضك عدته الحربيَّة حتى يظن رجال طروادة أنك أشيل قد عاد ثانية إلى القتال، فيطلقوا العنان لسيقانهم متقهقرين.»
هكذا أثار نسطور قلب باتروكلوس، الذي أسرع بالذهاب إلى سفينة أشيل.
دارت المعركة على أشُدِّها بين الطرواديين والأغارقة، وكانت تشتدُّ عنفًا كلما مرَّت الساعات. وكان الطرواديون يشقون طريقهم في جنون يحاولون ارتقاء الحوائط التي أقامها الإغريق. فكانوا يحتشدون وبأيديهم رماحهم قرب الشرفات غير عابئين بسيل الصخور الذي كان ينهمر عليهم من فوق الحوائط.
كانت أمام الباب صخرةٌ عاتيةٌ ضخمةٌ يتعذر على أي رجلين من أولي القوة، رفعها ووضعها فوق عربة، ولكن البطل هكتور رفعها بيد واحدة وقذف بها بقوة نحو الأبواب العظيمة المزدوجة، وقد أفسح ما بين ساقيه وهو يقذف بها، فتحطمت مفصلات الأبواب وتهشمت القضبان، وغاصت الأبواب إلى الداخل لتنفتح على مصاريعها …
قفز هكتور إلى الداخل وهو يهجم كالأسد الثائر، وعيونه تقدح بالشَّرر، فلم يستطع أحد مقاومته أو الوقوف أمامه؛ إذْ ما كان لأي فرد، كائنًا من كان، أن يصدِّر هكتور وهو على تلك الحال غير الآلهة، فاندفع داخل الحوائط، وفي أعقابه اندفع رجاله الطرواديون، يكتسحون أمامهم الأغارقة ويدفعونهم نحو سفنهم.
ورغم كل ذلك، ظلَّ أجاكس يحارب بالقرب من البحر، ومن حوله الأغارقة وقد صمدوا وثبتوا … ما كان أقوى ذلك الحائط من الرجال الأحياء الذين فضَّلوا أن يموتوا دفاعًا عن شرفهم ومن أجل وطنهم العزيز.
هجم هكتور كأنه صخرةٌ عاتيةٌ اقتطعتها أمواج الشتاء الجبارة من جبل على الشاطئ، فتدحرجت إلى الغابات المجاورة، محدثة دويًّا مفزعًا في الوديان، ومحطمة كل ما يعترض طريقها … فكانت جثث ضحاياه تتراكم خلفه في أكوام، وكان المحاربون الأقوياء يخرُّون صرعى أمامه، كما لو كانوا دُمًى لا حياة فيها. وامتزج أنين الموتى بضجيج القتال الصاخب، فخيَّل إلى الأغارقة أن الصواعق قد نزلت بهم من السماء فلم تُبقِ ولم تذر. وأعمت ظلمة الموت عيون كثيرين من القادة الأبطال، فلم يتبينوا ما أمامهم، واسودَّت الدنيا أمام ناظرهم.
عندئذٍ خاطب أجاكس هكتور بقوله: «رويدك يا هذا، ولا تظننَّ أنك تستطيع تخريب سفننا … وخفف من غلوائك، فليس مرد نكبتنا هذه إلى شجاعتك أو مقدرتك الحربيَّة، فما أنت بالبطل الذي يقف في وجه قادة الإغريق أو يُنازل أحدهم في صراعٍ حر … إننا لننسب ما حلَّ بنا إلى الآلهة وحدهم، وليس إلى رجال طروادة … وعما قريبٍ ستسقط طروادة في أيدينا، ولسوف تتضرع أنت نفسك إلى زوس كي يجعل جيادك تعدو هاربة بك في سرعة الأعاصير، لتعود بك القهقرى إلى المدينة عبر السهل، والسهام تلحق بك من كل مكان.»
فأجاب هكتور على أجاكس، وقد تملَّكه الغيظ من كلماته اللاذعة التي أثرت في نفسه تأثيرًا سيئًا فقال: «يا لك من متطاوس أرعن، ومختال أهوج! اليوم سينزل الدمار بالأغارقة، وتحيق بهم هزيمة نكراء، تكون مدار حديث العالم أجمع. وأما أنت يا أجاكس، فويلٌ لك إن اجترأت على لقاء رمحي، عندئذٍ تصبح طعامًا للطيور والكلاب …»
في تلك الأثناء، كان قلب أجاممنون قد غاص في أحشائه وهو داخل خيمته، يرتجف ذعرًا من هول فكرة الهزيمة، فأخذ ينصح من معه أن يسرعوا بإنزال سفنهم إلى البحر، والابتعاد بها بمنأى من الشاطئ. فقال لهم: «لا عار من الفرار من الدمار، ولكن العار أن ترى الهزيمة تحوطك، وأنت تكابر أمامها ولا تطلق العنان لساقيك …»
عندئذٍ ثارت ثائرة أوديسيوس وديوميديس، عندما سمعا ألفاظ الجبن التي تفوَّه بها ملكهم، فردَّا عليه في سخريةٍ وتهكمٍ دونهما ضرب السيوف وطعن الرماح، فقال ديوميديس: «هذا مذهبك يا أجاممنون، هذا مذهب الجبن الذي لم يتعوده أبطال الإغريق. إننا لسوف نهبط إلى ساحة الوغى بالجراح التي أثخنت بها جسومنا، فلسنا ممن يُطعنون من الخلف أو تُدمى جراحنا على الأعقاب، بل نستقبل الرماح بصدورنا شأن الفرسان الشجعان والأبطال المغاوير …»
خجل أجاممنون من نفسه، وندم على ما بدر منه، وتقدَّم إلى القتال مع فرسانه وأبطاله، حتى دام القتالُ المميتُ اليومَ بِطُوله … وظلَّت الحرب سجالًا مدة طويلة، وكان النصر مرة حليف الطرواديين، وتارة أخرى حليف الأغارقة.
وأخيرًا تناول أجاكس صخرة هائلة، وقذفها صوب هكتور، فهوى على الأرض كأنه شجرة بلوط عظيمة أصابتها صاعقة، فحمله الطرواديون إلى معسكرهم، والدم الأسود يتدفق غزيرًا من فمه.
ضيق الإغريق الخناق على الطرواديين، وضاعفوا شدة هجومهم، وأصلوا الطرواديين نارًا حاميةً من رماحهم وسيوفهم وسهامهم، فتقهقروا إلى الوراء بعيدًا عن السفن أمام ضغط سيل الأغارقة الجارف الذي ردَّهم على أعقابهم مدحورين.
بيد أن أبولو جاء إلى هكتور وهو يلفظ أنفاسه، ونفث في جثَّته الواهنة وقلبه الضعيف، قوة وشجاعة جديدتين فتيتين.
قام هكتور ليواجه العدو من جديدٍ وقد تضاعفت قوته الأولى عشر مرات، وأخذ الإغريق يتساقطون أمامه كما تتساقط أوراق الأشجار في الخريف.
لاحظ باتروكلوس وهو يضمد جراحَ أحدِ أصدقائه، اندحار الأغارقة وهزيمتهم الشنعاء، فأصدر آهةً عاليةً وصاح بصوتٍ جهوريٍّ قائلًا: «الآن يجب أن أسرع بالتوجه إلى أشيل الذي يعرف أن الوقت قد حان كي أحثَّه على الاشتراك في القتال.»