الباب الثاني عشر

كيف قاتل باتروكلوس حتى لقي حتفه

احتدمت المعركة متسعرة، واشتد وطيسها حول السفن، سفن الإغريق السوداء، وكان أشيل جالسًا أمام خيمته يرقب من بُعد تطور المعركة، ويصغي إلى ضوضائها، دون أن تثير ثائرته أو تحفزه إلى القتال في صفوف مواطنيه، بل ظلَّ ينظر إلى أبطال الإغريق بعينين متصلبتين، وهم يتجندلون واحدًا وراء الآخر، ويسقطون على الأرض المخضبة بالدماء حتى تكدست أكوام القتلى وغطت سطح الأرض.

وبينما هو غارقٌ في تأملاته أمام الشاطئ، حضر إليه صديقه باتروكلوس يبكي والدموع تنهمر على خديه كأنها قطرات الندى على أوراق الأشجار. فسأله أشيل: «لِمَ تبكي يا عزيزي باتروكلوس؟ إنك تبكي برقةٍ بالغةٍ كأنما أنت طفلة صغيرة مدللة، تجري إلى أمها وتتعلق بعباءتها، فتعرقل سيرها، وتنظر إلى أعلى بعيونٍ دامعةٍ لتحملها أمُّها بين ذراعيها.»

تأوَّه باتروكلوس بشدة ثم أجابه قائلًا: «بين السفن ترقد أجساد أشجع رجال الإغريق وخيرتهم، مثخنة بالجراح أو ميتة. ما أقسى قلبك يا أشيل! إنك لعديم الرحمة لا تصفح … وعلى أية حال، فإذا كنت مصممًا على أن تستمر في إحجامك عن القتال، أرجوك بربك، أن تعيرني عدتك الحربيَّة، وأرسلني بدلًا منك، عسى أن يظنني الطرواديون أشيل الصنديد، فيدبُّ الخوفُ في قلوبهم، ويستولي الذعرُ عليهم، فيصبح النصرُ من نصيبنا.»

فتأوَّه أشيل وقلبُه مثقلٌ بالهموم، مفعمٌ بالأحزان، ثم قال: «لقد سلبني هؤلاء الأغارقة جائزتي التي كسبتها عن جدارةٍ واستحقاق، يا باتروكلوس. ومع ذلك دعِ الماضي وأحداثه، فالإنسان لا يمكنه أن يستمرَّ في غضبه إلى الأبد … لقد قلت إنني سأمتنع عن القتال حتى قدوم الطرواديين لحرق سفني، وها هم أولاء حتى حضروا إلى سفن الإغريق، فلتأخذن عُدتي وعتادي، ولتقودن رجالي إلى القتال، ولتقصين رجال طروادة بعيدًا عن السفن، ثم لتتركنَّ للآخرين بعد ذلك مهمة مطاردتهم عبر السهل.»

في اللحظة التي تكلم فيها أشيل، كانت قوة البطل أجاكس قد بلغت ذروتها، والطرواديون يعتلون السفن في هجوم المستميت في القتال، وكانوا يحملون في أيديهم مشاعل ملتهبة تتراقص ألسنة لهيبها في الفضاء، ويصل دخانها إلى عنان السماء، كأنه سحب سوداء كثيرة العدد تحجب ضوء الشمس، وتسدل ستارًا قاتمًا على الأرض والبحر.

عندئذٍ صاح أشيل قائلًا: «أسرع يا باتروكلوس، أسرع … ها هُم يحرقون السفن! سلِّح نفسك بسرعةٍ بينما أنادي أنا رجالي كي يذهبوا تحت إمرتك إلى ميدان القتال.»

لبس باتروكلوس بسرعةٍ حلة أشيل المدرعة، ووضع درعه وخوذته في مكانيهما من جسمه، وتمنطق بالسيف المرصع بالفضة، كما حمل في يديه القويَّتين رمحين من البرنز الثقيل. ثم اعتلى ظهر عربة أشيل، وسلم أعنة الخيل إلى أوتوميدون Automedon أمهر السائقين وأشجعهم.
وفي سرعة ريح الغرب العاتية، انطلق بايارد وبيبالد Piebald، جوادا أشيل الأصيلان، وكان إلى جانبهما بيداسوس Pedasus، وهو جواد أقل منهما سرعة.

رحَّب رجال أشيل ترحيبًا طيبًا بنداء سيدهم إلى حمل السلاح؛ لأنهم كانوا يتوقون إلى القتال كما لو كانوا ذئابًا جائعة.

صاح أشيل في رجاله بقوله: «أي جنودي الشجعان، وفرساني الأبطال، كم كنتم تلومونني لأنني في سَوْرَةِ غضبي قد أحجمت عن القتال … فإليكم الآن معركة طاحنة من اللون الذي تحبونه وترغبون فيه، وإني لعلى يقين من أنكم ستبلون في قتالكم الطرواديين بلاءً حسنًا، يُخلِّد ذكركم، ويجعلكم مدار حديث الخاصة والعامة في كل مكان.»

ذهب رجالُ أشيل إلى سوق الوغى يقودهم البطل باتروكلوس إلى الأمام، وعند ذهابهم قدَّم أشيل في خيمته ذبيحة إلى زوس ملك الآلهة والبشر، وتضرع إليه أن يُكلل قتالهم بالنصر والنجاح، وينهي تلك الحرب التي أتت على الأخضر واليابس، وأطاحت بآلاف الفرسان وخيرة الأبطال.

خرج الأغارقة من سفنهم جماعات وفرادى، وانطلقوا يصلون الطرواديين وابلًا من السهام والرماح والصخور، كما لو كانوا زنابير قد انطلقت من خلاياها لتلدغ الصبيان الذين رجموها بالحجارة.

قاد باتروكلوس رجال أشيل وانقضَّ على الطرواديين فسقط بطلٌ من أقوى محاربيهم بضربةٍ من سيف باتروكلوس أطاحت رأسه عن جسده، فلما رأى الطرواديون ذلك تطلعوا ليروا مَن ذلك البطل الجديد الذي انضم إلى صفوف الإغريق يُحارب بهذه الشجاعة، فرأوا فارسًا يرتدي عدة أشيل ويركب نفس عربته، فغاصت قلوبهم في أحشائهم، وأدركوا أن خاتمتهم قد أقبلت؛ ظنًّا منهم أن أشيل قد عاد إلى صفوف قومه، فدبَّ الهرجُ والمرجُ بين رجال طروادة، هذا يفرُّ وذاك يكرُّ، وبعضهم يُدْبِر والبعض الآخر يُقْبِل، وانطلقوا خارجين من السفن مسرعين في النجاة بأرواحهم وقد انطفأت المشاعل في أيديهم. فانتقل ميزان الحرب إلى الخندق من جديد … وكانت جياد كثيرة ورجال عديدون، تتلوى داخل الخندق من شدة آلام الموت المبرحة. ولكن جياد أشيل كانت تقفز من فوق جثث القتلى في سهولة وخفة، وظلَّ باتروكلوس يدفع هكتور أمامه متجهًا به صوب حوائط طروادة.

بعد ذلك أدار باتروكلوس عربته وأخذ يتعقب الطرواديين الهاربين، ويسوقهم أمامه نحو السفن. وأمام ذلك الهجوم العنيف الذي شنته جياده السريعة، كانت الجياد الأخرى تجفل وتعدو كالمجنونة، والعربات تتحطم على الأرض تحطيمًا، والرجال يروحون صرعى تحت عجلاتها، فكان ما لاقاه الطرواديون من خيولهم أشد مما لاقوه من المحاربين الإغريق.

ظلَّ باتروكلوس يضرب بحسامه البتار، ذات اليمين وذات الشمال، فيتردى قادةُ الطرواديين واحدًا وراء الآخر، حتى كان في ذلك اليوم مخربًا عنيفًا، ومدمرًا مبيدًا يحمل الخراب والدمار والموت في سيفه وجياده وعربته.

لم يصمد من زعماء الطرواديين أمام باتروكلوس، ولم يحتفظ برباطة جأشه تجاه ذلك الذي ارتدى عدة أشيل الحربيَّة البراقة، غير واحد فقط هو ساربيدون Sarpedon البطل الطروادي الجريء.

صاح ساربيدون في رجاله وقال: «ويحكم أيُّها الجبناء الرعاديد! العار كل العار يلحق بكم! إلى أين تفرون؟ ألا ترونني أقاتل بمفردي ذلك المحارب الجديد الذي ينزل الموت والدمار بالجيش الطروادي؟»

قفز ساربيدون من عربته، وكذلك فعل باتروكلوس، وقذف الأخير رمحه فلم يصب خصمه، بل أصاب سائق عربته، فخرَّ صريعًا وسقط من العربة يتخبط في دمائه. بعدئذٍ قذف ساربيدون حربته فمرقت تَطنُّ بجوار باتروكلوس، لتصيب بيداسوس الجواد الأصيل، فسقط يتلوى في التراب من شدة الألم ولفظ نفسه الأخير.

ظلَّ الجوادان الآخران يتقدمان ويتقهقران، تارة هنا وطورًا هناك، وهما يجُرَّان بيداسوس مع العربة فيعرقل سيرهما، وأخيرًا ترجَّل السائق، وفصل بسيفه جرارة العربة عن بيداسوس، ومن ثمَّ اعتدل الجوادان في سيرهما كما كانا أولًا.

أطلق ساربيدون حربته للمرة الثانية، وظن أنه قد غيبها في صدر باتروكلوس، ولكن الأخير انتحى قليلًا فمرَّ طرفها المدبب من فوق كتفه اليسرى، وفي نفس الوقت انقضَّ باتروكلوس يقذف رمحه مسددًا إلى غريمه، فلم يُخطئ هدفه هذه المرة، فقد اخترق الرمح قلب ساربيدون فأرداه قتيلًا، وارتطم بالأرض متشبثًا بالتراب الدامي بيديه الميتتين، كما تسقط الشجرة الباسقة بفأس الحطَّاب.

fig11
مر طرف الحربة المدبب من فوق كتف باتروكلوس اليسرى.

ازداد القتال عنفًا حول جثة ساربيدون، وظلَّ باتروكلوس يُجندل المحاربين الشجعان من الطرواديين، واحدًا عقب الآخر.

غير أن رحى الحرب قد اشتدت وتلظى سعيرها أكثر من ذي قبل؛ لأنه كان يحارب في صفوف الطرواديين، الرب أبولو، في غضب فتَّاك.

قتل باتروكلوس تسعة رجال كلهم من خيرة المحاربين الشجعان والمقاتلين الفرسان. ولما أحس بشجاعته وعدم استطاعة أحد الوقوف أمامه، حاول في جُرأة تسلق حوائط طروادة نفسها.

ظلَّ الإله أبولو يصد باتروكلوس عن حوائط طروادة ثلاث مراتٍ متتاليات، وعندما حاول الهجوم للمرة الرابعة، صاح فيه الربُّ بحنقٍ وغيظٍ، محذرًا إياه من محاولة مثل ذلك العمل الجريء.

عندئذٍ قاد هكتور جياده الحربيَّة صوب باتروكلوس، فقفز الأخير إلى الأرض، وأمسك بصخرة مدببة، وقذف بها نحو هكتور، ولكن الأخير قفز في اللحظة المناسبة فلم تصبه، بل أصابت سائق عربته، وحطمت صدره ورأسه، فمات لتوه وسقط من العربة دون حراك.

صاح باتروكلوس في تهكم وسخرية: «ما أرشق هذا الرجل! وما أخف غطسته! لو كان هذا بحرًا، لكان صائدَ أصدافٍ بارعًا!»

عند ذلك قفز هكتور من عربته، والتقى بباتروكلوس في قتالٍ دوَّى صوتُه كصوت ريحٍ صرصرٍ في غابة تتساقط أشجارها الضخمة على الأرض.

مالت الشمس إلى المغيب، وانحدرت أشعتها الورديَّة في الأفق كأنها نارٌ متأججة، فكان النصر في جانب الأغارقة. وقد قام باتروكلوس بثلاث حملاتٍ عنيفة، وكان يقتل في كل هجمة منها تسعة أبطال من أشجع محاربي الطرواديين. بيد أنه في الهجمة الرابعة تصدى له أبولو في سحابةٍ كثيفة، فلم يدرك باتروكلوس أنه يحارب إلهًا. وبضربةٍ عنيفةٍ من الخلف هوى أبولو على كتفي باتروكلوس العريضتين، فطارت خوذة أشيل من فوق رأسه، مقعقعة مصلصلة تحت حوافر الجياد.

أحسَّ باتروكلوس بضربة أبولو كأنما قد هدم به بناء مشمخرًّا، أو كأنما انهار عليه طودٌ شامخ، فشُلَّ بدنُه وأصابته دهشةٌ عظيمة. وبينما هو في ذهوله لِأَخْذِهِ على غرةٍ من شخصٍ لا يراه، ولا يعلم مكانه، إذا بحربة أشيل تتحطم بين يديه، ودرعه العتيدة البراقة تقرقع فوق الأرض.

وقبل أن يعرف من الذي أنزل به تلك الضربة القاصمة، قذف أحدُ رجالِ طروادة رمحه بين كتفي باتروكلوس، فخرَّ على الأرض مثخنًا بالجراح.

رأى هكتور المحنة التي حاقت بخصمه باتروكلوس، والمصيبة التي حلت به من حيث لا يدري، فانبرى إليه وغيَّب رمحه البرنزي في جسده، فسقط باتروكلوس صريعًا.

وعندئذٍ صاح هكتور قائلًا: «هذه خاتمة مطافك يا من كنت تملأ شدقيك فخرًا، وتباهي بأنك سوف تجتاح مدينتي … حقًّا إنك سوف تدخل مدينتي لتنهش النسور لحمك وتشرب من دمك.»

فأجاب باتروكلوس في صوتٍ واهن: «إنني لا أنسب مصيري هذا إليك يا هكتور العظيم، فإنني أستطيع قتال عشرين من أمثالك وأنكل بهم، ولكن الآلهة هي التي قتلتني … ومع ذلك فإني أقول لك بحق، إنك أنت نفسك لن تعيش طويلًا، فالموت في هذه اللحظة يقف إلى جوارك.»

ما إن فاه باتروكلوس بهذه الكلمات حتى كان الموت قد سلبه آخرَ أنفاسه حيث رقد رقدته الأخيرة في صمت أبديِّ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤