نهوض أشيل
ألهب موت باتروكلوس حماس الفريقين، فاستعرت نيرانُ الحرب وزادت عنفًا وشدة.
خلع هكتور عدة أشيل من على جسد باتروكلوس الملقى على الأرض، وأمر رجاله بسحب جثته داخل المدينة، تحقيرًا لأمره، وإعلانًا لأهل طروادة بانتصار جيشهم على جيش الإغريق، ولكن الطرواديين عجزوا كل العجز عن سحب الجثة داخل المدينة لأن الأغارقة حاربوا من أجلها بعنف، ودافعوا عنها دفاع الأبطال، واستماتوا أمام جثة باتروكلوس حتى تخضبت الأرض بدماء الطرواديين الذين حاولوا الاقتراب من الجثة أو سحبها إلى داخل المدينة.
سمع أشيل نبأَ موت صديقه الحميم، ورفيقه العزيز، فنزل عليه الخبر كالصاعقة، فظلَّ مدةً طويلةً صامتًا لا يتحرك، وزاغت عيناه في محجريهما، ثم أفاق من غشيته فتأوَّه بصوتٍ مرتفعٍ وانكفأ على الأرض، وسكب التراب الأسود على شعره علامة على الحزن العميق والكمد المبرح.
وصلت تأوهات أشيل العالية إلى مسامع أمه الربَّة ثيتيس وهي جالسة في قصرها في أعماق البحر الأخضر، فصعدت بسرعة من تحت الأمواج، وتوجهت إلى حيث يرقد ابنها أشيل، فرثت لحاله وحزنت لحزنه، وأخذت تصغي إليه في حنانٍ وإشفاقٍ، وهو يقص عليها قصةَ موت صديقه الحميم.
عندئذٍ قالت ثيتيس: «هوِّن عليك يا أشيل، وجفف دمعك الغالي، فلا أظن أن هكتور سيتمتع بالمجد في حلة القتال المدرعة التي كانت يومًا ما لك، والتي تلقي الرعب في قلوب الأعداء ببريقها الذي يبهر الأبصار؛ لأن الموت يطارده بشدةٍ في كل مكان، أينما ذهب وحيثما أقام … لا تذهب الآن إلى القتال يا بني، وانتظر حتى أعود إليك بحلة مدرعة جديدة، أجمل وأمتن من التي استولى عليها هكتور.»
قالت ثيتيس هذا ثم رحلت، تاركة أشيل ينتظر رجوعها إليه بالحلة، ولكنها ما إن غادرت المكان واختفت، حتى قدمت إيريس رسولة الآلهة الفاتنة، وخاطبت أشيل الحزين، في لهجةٍ سريعةٍ فقالت: «إن الطرواديين سيسحبون جثَّة باتروكلوس داخل طروادة الكثيرة الأعاصير، إذا لم تذهب الآن … فما عليك إلا أن تُظهر نفسك فقط لرجال طروادة، دون حاجة إلى قتال؛ لأنهم سيرهبونك يا أشيل، وإن الحاجة ماسَّة إلى باتروكلوس صديقك.»
سمع أشيل كلام إيريس، وذهب إلى ميدان الوغى بلا عُدةٍ ولا عتاد، ووقف إلى جانب الخندق يصيح بصوته الجهوري، فألقى صوته الرعب في قلوب الأبطال والمحاربين، وجرى كل طروادي مرتاعًا ملتاعًا، يشقُّ لنفسه طريقَ الفرار، كأنهم حمُرٌ مستنفرة فرَّت من قسورة. فاستطاع الإغريق أن يسحبوا جثَّة باتروكلوس من بين جثثِ القتلى، وبكى أشيل بكاءً شديدًا، وسكب الدموع غزيرةً سخينةً على صديقه الذي كان أوفده ليقاتل بدلًا منه، فمات ميتة تقوم مقام النصر إذ فاته النصر.
ألقى هيفايستوس في أتونه كمياتٍ كبيرةً من البرنز والفضة والذهب، ليصنع منها درعًا وعُدَّة حربيَّة وأسلحة لأشيل، وكانت وصيفاته المذهبات يساعدن سيدهنَّ بإدارة الكير العظيم الذي يزود البواتق الضخمة بتيارٍ شديدٍ من الهواء، يجعل ألسنة النيران البرتقاليَّة اللون تتراقص في الفضاء متوهجة.
لم يملك أحد في الوجود قاطبة، درعًا جميلةً كالتي صنعها هيفايستوس لأشيل، وكذلك صنع له صدريَّة مدرعة أنصع من لهيب النار، وخوذة ذات قنبرة مذهبة تخطف ببريقها الأبصار.
انقضى الليل، وتبددت جحافل الدجى، ولاح الفجر يلمع بسيفه الفضي في السماء، وصاح الديك معلنًا قدوم الصباح وولادة يوم جديد، فهبطت ثيتيس من جبل أوليمبوس الجليدي حاملةً بين ذراعيها هدايا هيفايستوس الرائعة إلى ابنها أشيل …
ما كان أعظم سعادة أشيل وهو يرتدي حلته الحربيَّة الجديدة التي أحضرتها له والدته … وكم كانت صيحة الحرب التي انبعثت من حنجرته بالغة مروِّعة، وهو يحث المحاربين الإغريق على الإقدام والاستبسال في القتال … فلم يتخلف منهم رجلٌ واحد، مهما كانت جراحه شديدة، بمجرد سماع صوت أشيل وهو يناديهم للقتال من جديد …
كان أجاممنون ملك الأغارقة مصابًا بجرحٍ بالغ، ولكنه مع ذلك سار مع المحاربين، وهناك حيث أشرقت الشمس بأشعتها الذهبيَّة على كثيرٍ من المقاتلين العاجزين عن القتال، والذين زحفوا مع الجيش زحفًا، إكرامًا لخاطر أشيل. كان كل من أجاممنون وأشيل يحادث زميله في مودة ومحبة، كأن لم يحدث ما يعكر صفو صداقتهما متناسيين نزاعهما السابق.
واجه الأغارقة الطرواديين في نشاطٍ متجددٍ كأنهم يبدءون الحرب من جديد، متعطشين إلى القتال بشجاعةٍ فذةٍ وبسالةٍ لا نظير لها، في وسط السهل الفسيح … وكما تندلع ألسنة النيران وسط فضاء مملوء بالهشيم الجاف يوم ريحٍ صرصرٍ عاتية، كذلك توغل أشيل في سَوْرة غضبه وسط جموع الطرواديين، الذين ما كانوا ليتوقعوا اشتداد المعركة بتلك الدرجة، وما حسبوا حسابًا للأحداث التي حاقت بهم في ذلك اليوم.
ما كان أقسى أشيل في القتال ذلك اليوم، لقد قدَّ قلبه من الجلمود، فلم يعرف للرحمة معنًى، ولم يدرِ ماهية الشفقة، بل كان يتهلل بِشرًا وهو يرى أبطال طروادة يخرون صرعى أمامه، الواحد تلو الآخر، فتصبغ دماؤهم بحمرتها مياه سكاماندر السريعة الجريان حتى ليخاله الرائي نهرًا من الدماء الساخنة.
ضجَّ نهرُ سكاماندر من كثرة القتلى الذين سقطوا فيه من جراء قسوة أشيل، فصاح هذا النهر قائلًا: «لقد غُصَّ مجراي بجثث ضحاياك يا أشيل، وأنت لا تزال تذبح وتقتل! ألا تخفف من حدة بطشك رحمة بهؤلاء التعساء، ورفقًا بشبابهم الغض النضير؟»
لم يأبه أشيل لقول النهر، ولم يُعِرْه أي اهتمام، بل ظلَّ في قسوته يضرب ذات اليمين وذات الشمال، مجتاحًا السهل من أوله إلى آخره طولًا وعرضًا، تاركًا وراءه أكوامًا من الجثث التي تتساقط في كل مكان، كأنما هو موكل بحقل من الغلال يحصده.
لما رأى نهر سكاماندر أن البطل أشيل لا يلتفت إلى كلامه وتوسلاته، غضب غضبًا شديدًا، وفاض في سيل جارف ضده، كاسحًا أمامه جثث القتلى، محاولًا الفتك بأشيل بطوفانه الجارف، والقضاء عليه بأمواجه العاتية الصاخبة.
ما كادت أمواج النهر تصطدم بدرع أشيل الجديدة، حتى أمسك أشيل بجذع شجرة دردار باسقة، وانتزعها من جذورها، وألقى بها في وسط مجرى النهر السريع ليعوق تياره الجارف. فكفَّ النهر عن غضبه لحين من الزمان … بَيْد أنه ما كاد أشيل يفر خائفًا عبر البحر، حتى كان النهر العنيد قد شنَّ عليه هجومًا جديدًا، مقتفيًا أثره في هَزِيم شديد حتى لحق به.
لما رأى أشيل أنه لا قِبَلَ له بالنهر القوي، صاح إلى الآلهة طالبًا معونتهم، فهبَّت لمعونته الربَّة الفاتنة أثينا، ومن جديدٍ طفق أشيل يطارد رجال طروادة حتى بلغ بهم حوائط المدينة.
شاهد بريام العجوز — وهو داخل حوائط المدينة — جميع الأعمال الباهرة التي قام بها أشيل … وعندما اقترب أشيل بحلته البراقة التي تتلألأ كالنجوم الساطعة وسط السماء، وهمَّ هكتور للقائه، صاح بريام خوفًا على ابنه، يحذره فقال: «أتوسل إليك يا ولدي العزيز ألا تقاتل هذا الرجل، إنه أقوى منك بكثيرٍ يا هكتور، فلا تذهب إليه حتى لا تفجعني فيك وأنا حزين الفؤاد، وقد بلغت من الكبر عتيًّا.»
كان هكتور في شدة الشوق إلى القتال، ولا سيما إلى الانتصار على هذا البطل حتى يلهج بذكره الركبان، ويكون حديث العالم أجمع في كل مكان وزمان. فلم ينتصح بنصيحة أبيه، إذ كان هو الوحيد بين جميع الطرواديين الذي لم يتطرق الخوف إلى قلبه، ولا الذعر إلى فؤاده.
ولما رأت والدة هكتور الشمطاء ما يعتزم عليه ولدها، أخذت تبكي بدموعٍ حارةٍ، وتتوسل إليه أن يعود أدراجه، ولا يقدم إلى حتفه بنفسه، بعد أن رأى جميع مواطنيه يحجمون عن قتال أشيل. ولكن هكتور لم يلتفت إلى كلام أمه كذلك، واتكأ على درعه اللامعة بجوار إحدى القلاع في انتظار مجيء من يُسمونه «السفاك الأعظم».
قدِم أشيل فالتقى به هكتور وجهًا لوجه، وتراشقا رمحًا ضد رمح … وكما ينطلق الشهاب في الظلام، كذلك انطلقت حربة أشيل عندما قذف بها لتخترق عنق هكتور، فسقط بمفرده يتخبط في دمائه قتيلًا أمام حوائط مدينته طروادة.
وهكذا انتهى القتال …
أما عن الابتهاج والفرح اللذين عمَّا الجيش الإغريقي من أوله إلى آخره، فحدِّث عنهما ما شاء لك الحديث ولا حرج، فقد ظلَّ الجيش الإغريقي اثني عشر يومًا كاملة في سرورٍ وغبطة، وأقيمت الولائم العظيمة، ونُحرت الذبائح للآلهة شكرًا على هذا النصر المبين.
ظلَّت جثة هكتور طوال هذه المدة ملقاة على الأرض دون أن يدفنها قومه؛ لأن الأغارقة كانوا قد ربطوه إلى خيولهم السريعة، وسحبوه إلى السفن الراسية على الشاطئ، بينما وقفت أمه وزوجته أندروماخي تراقبانه من شُرفة قصره، وهما تبكيان حزنًا وأسًى.
وأخيرًا ذهب بريام المسن إلى المعسكر الإغريقي، وسجد أمام أشيل، وتوسل إليه أن يرقَّ قلبه لكبر سنه، فيعطيه جثة ابنه هكتور. فحنَّ عليه أشيل ورثى لحاله، وسمح له بأخذ جثة ابنه، والعودة بها إلى طروادة وسط عويل النساء.
ما أشد حزن أم هكتور على ولدها، فبكته بكاءً مرًّا حتى تقرَّحت مآقيها؛ لأنه كان أعز جميع أبنائها. كما بكت عليه زوجته أندروماخي بدموعٍ سخينةٍ، بللت ثيابها، وأضنت جسدها، وأذبلت نضارتها وشبابها.
وجاءت هيلين إلى جسد هكتور، وأخذت تبكي بقلبٍ كسيرٍ وفؤادٍ مكلوم، وسكبت عليه دموعًا غزارًا وهي تقول: «وا حر قلباه، وا فجعتي فيك يا أعزَّ إخوتي … لم أسمع منك قطُّ لومًا أو كلمة تسيئني … بل كنت نعم المؤازر بحلو الألفاظ ورقيق العبارات … ما كان أطيب قلبك … وا لِعظم الخسارة وفداحة المصاب، أيُّها الصديق الصدوق … لم يعُد لي ببلاد طروادة من يشفق عليَّ بعد وفاتك، فلْتَسقِ قبركَ الغوادي مَرْبعًا بعد مَرْبع.»
جمع الطرواديون كومة حطبٍ عالية، وضعوا عليها جثمان هكتور، ثم أشعلوا فيها النار التي ظلَّت تتأجج حتى أتت على جسده. فوضع أصدقاؤه عظامه البيضاء في وعاء من الذهب الخالص، وأقاموا فوقه كومة عظيمة من الأحجار الضخمة حتى يستطيع الجميع أن يروا مقرَّ عظامه.
لم تكن الحرب بين الأغارقة والطرواديين قد انتهت حتى تلك اللحظة، فقد جاء الموت إلى أشيل في هيئة رمح صوبه إليه باريس من قوسه.
أما باريس فقد قذفه مجذومٌ منبوذ — بمحض الصدفة في جنح الليل البهيم — بسهمٍ مسمومٍ أرداه قتيلًا … وبينما ترقط ثلوج الشتاء بيضاء فوق جبل إيدا، لفظ باريس آخر أنفاسه بين أحضان هيلين الجميلة، التي كانت أُسَّ العداء وأساس البلاء.
جاء يوم حرق فيه الأغارقة معسكرهم، وأبحروا إلى وطنهم عبر البحر الأشهب المتلاطم الأمواج، تاركين وراءهم حصانًا عظيمًا من الخشب … فجاء رجال طروادة وسحبوه إلى داخل المدينة كتذكارٍ لتلك الحرب الشعواء، ودليل انتصارهم على الأغارقة الذين صنعوه.
وكان الأغارقة قد أخفوا داخل الحصان بعض أبطالهم الشجعان. فلما أرخى الليل سدوله القاتمة، ولفَّ الكون في عباءة دكناء، وبينما يتناول الطرواديون طعامهم، خرج الإغريق من مكمنهم، وفتحوا أبواب المدينة على مصاريعها … فأقبل جيشُ الأغارقة من البحر ثانيةً، واقتحموا المدينة دون عناء. وهكذا سقطت طروادة بين لظى النيران وسفك الدماء، ومع ذلك لم تمت هيلين … بل عاد بها مينيلاوس ثانيةً إلى مملكته عن طريق البحر، لتحكم كملكة …
هكذا رجعت هيلين إلى وطنها … هيلين التي جلبت الأسى والموت لكثيرين، كما جلبت على مدينة طروادة ويلات وهمومًا لا طاقة إلى احتمالها …