الباب الثاني

كيف اصطدم أشيل مع أجاممنون

وصل الأغارقة إلى طروادة، فأقاموا معسكراتهم، وضربوا فساطيطهم بالقرب من أسوراها الشامخة الحصينة، وأحاطوا بها من كل جانب إحاطة السوار بالمِعصم … وظلَّ حصارهم لها قائمًا يومًا بعد يوم، وليلةً إثر ليلة …

كانت الحرب سجالًا بين الأغارقة والطرواديين، ينتصر الإغريق اليوم فيهزمون غدًا … ويكون النصر في المعركة من نصيب الطرواديين يومًا ليكون في اليوم التالي من نصيب الأغارقة …

هكذا دامت الحرب بين الفريقين تسع سنوات متواليات … حتى كان ذات يومٍ ذهب فيلقٌ من جيش الإغريق إلى مدينة خروسي Chryse وضربوا الحصار حولها، فدارت بينهم وبين الطرواديين معاركُ دامية عادوا بعدها إلى معسكرهم مثقلين بالغنائم الثمينة، ويجرُّون وراءهم كثيرًا من الأسرى …
وكان من بين الأسرى فتاة فارعة الطول ممشوقة القوام، غرَّاء هيفاء، فريدة المثال، تتمايل في رقةٍ وتيهٍ، وتتبختر في مشيتها عُجبًا واختيالًا؛ لأنها كانت تحسُّ بجمالها الفذِّ، وفتنتها الخارقة، وحديثها الذي يخلب الأفئدة كأنه السحر، أو دونه السحر … تلك الغادة الحسناء، هي خريسايس Chryseis ابنة الكاهن العجوز المقيم بمعبد الإله أبولو …

رأى أجاممنون هذه الفتاة، فبهره جمالها، وملكت عليه قلبه وتفكيره، فاختارها جزءًا من نصيبه في الغنائم لتكون أمَةً له، وعبدةً ترضخ لرغباته …

بيد أن الكاهن العجوز لم يكن لتُسلب منه ابنته بتلك السهولة، وكان يُحبها حبًّا جمًّا … فهجر خروسي وقدم إلى معسكر الأغارقة خارج أسوار طروادة، يبحث عن ابنته ومهجة قلبه، حاملًا معه فدية عظيمة علَّه يستطيع أن يشتريَ بها حرية فلذة كبده خريسايس … ولم يكتفِ الكاهن المسن بذلك، بل حمل في يديه صولجانًا من الذهب النضار، مكسوًّا بإكليل الغار الذي يلبسه أبولو … لكي يُثبت أن الرب الذي يخدمه ويعمل كاهنًا عنده، يؤيده في مسعاه، ويعضده في طلب تلك المنة من أجاممنون سيد جميع الأغارقة وإمامهم.

ذهب خريسيس Chryses إلى أجاممنون، والدموع تنهمر غزيرة من مآقيه، وتوسَّل إليه قائلًا: «أستحلفك بربك يا سيدي، خذ هذه الفدية وأطلق سراح ابنتي التي أعزها، ولا أستطيع صبرًا على فِراقها. ولسوف تحقق لك الآلهة رغبتك في تدمير مدينة طروادة، والفوز على شعبها، ثم العودة سالمًا آمنًا إلى وطنك العزيز.»

أنصت الأغارقة بآذانٍ مرهفةٍ إلى توسلات الكاهن العجوز، واغتبطوا من شدة الفرح، فوافقوا على عودة خريسايس إلى وطنها مع أبيها، وعلى تقسيم الفدية النفيسة فيما بينهم. بيد أن أجاممنون امتلأ غضبًا، ولم يأبه لموافقة مواطنيه وشعبه، بل نحَّى الكاهن المسن عن طريقه بقوة، وردَّه عنه خائبًا مدحورًا، دون أن يُجيبه إلى طِلبته أو يلبي رغبته، وصاح فيه قائلًا: «حذارِ أيها العجوز أن أراك هنا تحوم قريبًا من السفن، وحذارِ أن تحدثك نفسك بالبحث عن ابنتك أو التفكير في اصطحابها معك، وإلا فلن يجديك هذا الصولجان الذهبي فتيلًا، ولن يفيدك هذا الإكليل الذي للرب إلهك … إن ابنتك ستبقى في خدمتي حتى يشيب فوداها ويتقوس ظهرها، ولن تعود أبدًا إلى بلادك مهما حاولت، ومهما توسلت، ومهما استرحمت، فإليك عني أيها الشيخ!»

ابتعد خريسيس الكاهن من أمام أجاممنون، مكسور النفس محزون الفؤاد، لا يدري أهو قائم على الأرض أم مستلقٍ على سطحها … أيُصدق أذنيه؟ كلا! وألف مرة كلا! إن الدنيا لا تزال بخير، ولا يوجد فيها مَن غلظ كبده إلى هذا الحدِّ. وبعد أن أفاق قليلًا، واسترجع ما حدث في مخيلته، أخذ يسير بحذاء الشاطئ، وهو ينظر إلى الأمواج المتلاطمة، في صمتٍ دونه صمت القبور.

ظلَّ خريسيس يسير محاذيًا ساحل البحر حتى أنهكه التعب، ولما بلغ بقعة منعزلة، سجد على ركبتيه، وأخذ يُصلي للرب أبولو الذي يرعاه … قائلًا: «أيها الإله المبجل، أيْ رب القوس الفضية، فلتصغين إليَّ … لو أن المعبد الذي شيدته من أجلك قد أعجبك وراق ناظرك، ولو أن ذبائح الثيران والماعز التي نحرتها هناك في داخله قد حظيت بقبولك … إذن فلتسمعنَّ دعائي! لقد أهانوا كاهنك واحتقروا إكليلك وصولجانك، بل واحتقروا اسمك … لكم أشتهي أن تتولى سهامك الانتقام من الإغريق، وتنكل بجيوشهم وجحافلهم جزاء ما اقترفوا من إثمٍ في حقك وحقي، ولقاء دموعي الساخنة التي أذرفها كمدًا على ابنتي المغتصبة، وحزنًا على فلذة كبدي المسلوبة.»

وصلت صلوات خريسيس إلى أعلى ذؤابات أوليمبوس، فما إن سمعها أبولو حتى غلى مرجل غضبه، وملأ الغيظُ قلبَه، وسرى بين أحنائه سريان النارِ في الهشيم، يوم ريحٍ صرصرٍ عاتية … فصمَّم على الانتقام من الأغارقة شرَّ انتقامٍ حتى يجعلهم عبرةً لأهل الأرض قاطبةً.

هبط الرب أبولو إلى حيث يعسكر أجاممنون وجيوشه، كما يهبط الليل إلى حيث تكمن المعمورة … ثم جلس في مكان غيرِ بعيدٍ عن السفن، وأخذ قوسه الفضيَّة، وجذب وترها إلى الخلف؛ فانطلق منها سهمٌ في الفضاء، محدثًا جلبة مخيفة.

fig6
أشيل، أسرع عدَّاء في بلاد الإغريق كلها.

في بادئ الأمر صوَّب الربُّ سهامه إلى البغال والكلاب فكانت تخرُّ صريعة في الحال … ثم لم يلبث أن حوَّل سهامه نحو البشر.

أخذت سهام أبولو تحصد الإغريق حصدًا، كأنما الحصاد يحش بمنجله عيدان القمح الناضج، والأبطال يتساقطون واحدًا تلو الآخر، حتى تكدست جثثهم على الساحل، وظلوا على هذه الحال تسعة أيامٍ كاملةٍ، والموت يعمل فيهم بشراهة، والدخان المتصاعد من أكوام الحطب الجنائزيَّة التي أشعلت فيها النيران لحرق الجثث، يتصاعد إلى عنان السماء فيحجب الضوءَ عن الأرض حتى يُخيل إلى المرء أن قد نشرت ملاءة سوداء قاتمة على الأرض، منعت عنها ضوء الشمس في رائعة النهار.

كان بين جيوش المحاربين الإغريق، بطلٌ صنديدٌ مغوارٌ هو ابن أحد أبطال البشر وإحدى الربَّات، وكان يدعى أشيل، وكان أسرع عداءٍ في بلاد الإغريق كلها.

رأى أشيل زملاءه يتردون الواحد عقب الآخر، فأيقن أن ذلك لغضب الآلهة، فقام في اليوم العاشر وجمع الإغريق حوله وخاطبهم بقوله:

«ترون أيها الزملاء الأعزاء، والمواطنون الأمجاد، كيف تجتاحنا الحربُ فتعركنا عرك الرحى بثفالها، وكيف ينتشر بيننا الطاعون شرًّا من الحرب ووبالًا … لا شكَّ أن الوقت قد حان لنتحرى من أيِّ كاهنٍ أو عرافٍ عن سبب غضب أبولو علينا حتى أعمل فينا سهامه كما تشاهدون، وصبَّ علينا جامَ غضبه وانتقامه.»

عندئذٍ نهض خالكاس أحكم العرافين وقال: «لماذا تتساءل يا أشيل عن سبب هذا البلاء؟ وأنت أدرى الناس بما تتجاهله … لقد حلَّت علينا هذه النكبات واجتاحتنا هذه الآلام من جراء الخطأ الذي ارتكبه أجاممنون مع خريسيس كاهن أبولو … لن يكفَّ أبولو عن سفك دماء رجالنا بسهامه المبيدة التي تحمل معها الموت والفناء، إلا إذا أعدنا خريسايس ذات العينين الزرقاوين إلى أبيها، دون فديةٍ أو أي مقابلٍ من مالٍ أو متاعٍ … وذبحنا مائة حيوانٍ في خروسي حيث يقوم معبد الرب، وقدمناها ذبيحةً وترضية للرب الغاضب.»

هكذا تكلم خالكاس ثم جلس …

fig7
أشيل.

وعندئذٍ نهض أجاممنون العظيم من مقعده، وقد امتلأ قلبُه حقدًا وغضبًا لا مزيد عليهما، ثم صاح والشررُ يتطاير من عينيه قائلًا: «أي خالكاس! يا لك من منجمٍ عاثرٍ، وكذابٍ أَشِر. هكذا أنت دائمًا لا تتنبأ إلا بالشرور، فما سبق أن تنبأتَ لي إلا بما فيه الضررُ والأذى … ولكن فلْتعلم يا منجِّم النحس أنني لن أقبلَ فديةً عن خريسايس، مهما عظُمت قيمةُ تلك الفدية، ومهما كانت نفيسة؛ لأنني أحب الفتاة حبًّا جنونيًّا، لقد ملكتْ علي شغاف قلبي، واستولت على لبي وجناني، إنني أحبها أكثر مما أحب زوجتي الشرعيَّة … بيد أنني لو اضْطُرِرت إلى ردِّها لأبيها خشية أن يهلكَ بنو وطني وعشيرتي، فلا أقل من أن أعوَّضَ عنها بجائزةٍ أخرى … هل من الإنصاف أن أجرَّدَ أنا وحدي، دون سائرِ الأغارقة، من جائزتي التي هي نصيبي الوحيد من الغنائم؟ أيُّ عدالةٍ في هذا … بل وأية حكمةٍ أو منطقٍ؟»

فردَّ عليه أشيل بقوله: «مهلًا مهلًا يا أجاممنون، يا أنبلَ النبلاءِ وأعظمَ العظماء، ما أجشعك! وما أفظع طمعك! وما أبشع شراهتك إلى كل مغنم! … خفِفْ من غلوائك أيها السيِّد المجيد … ليس لدينا خزانة عامة مليئة بالأموال والكنوز، حتى نستطيع أن نعوضك عمَّا فقدت … فجميع الغنائمِ التي استولينا عليها من المدن التي وقعت في قبضتنا، قد قسمناها فيما بيننا، فأخذ كل واحدٍ منا نصيبه منها وتصرف فيه … هذا شيء، ورد الفتاة إلى أبيها شيء آخر، فلا بُدَّ من أن تعود خريسايس إلى بلدها معززة مكرمة مهما كان الأمر … ولك علينا إذا فتحنا مدينة جديدة، أن تأخذ من غنائمها ما يطيب لك، وما يعوضك عن خريسايس وأكثر، وكلنا بالإجماع موافقون على ذلك.»

أرغى أجاممنون وأزبد، وهدَّد وتوعَّد، وأجاب وعيناه تقدحان بالشرر: «أتظن يا أشيل أنك تستطيع أن تخدعني بما تقول؟ أتريد أن تسلبني جائزتي ولا تعوضني عنها شيئًا … هذا خداعٌ سافرٌ، وظلمٌ ظاهرٌ، وإني أقسم بالله قسمًا لا حنث فيه، إن لم آخذ المكافأة التي تتناسب ومقامي، وتليق بعظمتي وسلطاني، لأسعينَّ إليها بنفسي وأنزعها ممن أريد، سواء أكانت جائزتك أو جائزة أوديسيوس، أو غنيمة رجل آخر … ولسوف يحلُّ غضبي بمن يقف في طريقي، أو تخوله نفسه أن يحول بيني وبين ما أريد …

أما حزني على فراق خريسايس، فسيظل ملازمني ما حييت … والآن هيَّا ندفع بسفينة سوداء إلى عرض البحر ونضع فيها خريسايس الجميلة الخدَّين مع ذبيحةٍ من البهائم، حتى نوفيَ أبولو، الرمَّاح الداهية، حقَّه من النحائر.»

اغتاظ أشيل وثارت ثائرته عندما سمع ذلك الكلام، فنظر إلى أجاممنون بازدراء، وصاح فيه قائلًا: «يا لصفاقتك! … ويا لنذالتك ودهائك! … فمن أجلك ومن أجل شقيقك مينيلاوس، تركت وطني وعبرت البحار؛ لأحارب في بلاد طروادة … من أجلك ومن أجل شقيقك، خضت هذه الحرب الشعواء التي لا ناقة لي فيها ولا جمل … من أجلكما تكبدت المتاعبَ وتجشمت الأخطارَ، وجئت لأقاتل وأُقتل … وإذا بك الآن يا وجه الكلب تُهددني باغتصاب غنيمتي التي نلتها بكدِّي، وبالقتالِ المريرِ … إنني سأعود أدراجي إلى وطني، فلا أستطيع أن أملك صوابي حتى أُقاتل من أجل شخصٍ طامعٍ في الغنائم والثرواتِ، ولا يعنيه أن أطعن في شرفي وكرامتي!»

فأجاب أجاممنون على الفور: «لك أن تفرَّ إذن، إن راق لك ذلك … إن عندي أبطالًا مثلك مستعدين لتقديم فروضِ الولاءِ لي … ما أبغضك إلى نفسي يا أشيل. هكذا أنت دائمًا … تُحب النزاعَ وتميل إلى الشجار والعراك … ولكن اعلم جيِّدًا أنه لن يهمني أمرك ولا أمر غضبك. وإليك أقول الآن إنني سأتوجه من فوري إلى خيمتك لآخذ منها بريسايس Briseis أجمل أسيراتك، حتى تعلم جيدًا، أن أجاممنون الواقف أمامك، هو سيدك وحاكمك.»

ما إن سمع أشيل هذه الكلمات، حتى طار صوابُه وجُنَّ جنونُه، وغلت مراجل دمائه حتى فارت … وإذا به يضع يده على مقبض سيفه؛ يريد أن يستلَّه ويهجم على أجاممنون، فيطيح برأسه عن جسده، لولا أن الربَّة أثينا أمسكت بيد أشيل وحالت بينه وبين تنفيذ رغبته …

استدار أشيل فرأى الربَّة واقفة إلى جواره، فقال لها غاضبًا: «ماذا أتى بكِ إلى هنا؟ ولماذا تمنعينني من أن أُعطيَ هذا الوقح درسًا في الأدب؟ هل جئتِ لتشاهدي وقاحة أجاممنون؟ بلى، إنني أقول لك إن كبرياء أجاممنون ستكون سببًا في أن يفقد حياته.»

فقالت له أثينا في نغمٍ رقيقٍ: «ما جئت من أوليمبوس النائي إلا لأحدَّ من غضبك … ستنهال عليك الجوائز الطيبة فيما بعد، أي أشيل! عليك الآن أن ترفع يدك عن سيفك وتُصغي إليَّ.»

عندئذٍ قال أشيل: «أيتها الربَّة الجليلة، على المرء أن يُصغيَ إليك وينفِّذَ أوامرك؛ لأن من يسمع كلام الآلهة الخالدين ويطيع أوامرهم، يَلقَ منهم أذنًا صاغية وعطفًا زائدًا …»

لم يسع أشيل إزاء كلمات الربَّة أثينا إلا أن يعيد سيفه إلى غمده في أدب، بيد أنه إذ كان لا يزال في سورة غضبه، فقد انبرى إلى أجاممنون ثانية وخاطبه بقوله: «أنت يا من له وجه الكلب وقلب الغزال، إنك لم تقاتل مطلقًا كما يجب على الرجال أن يقاتلوا من أجل الغنائم! إن جل همك وما تصبو إليه هو أن تستوليَ على الغنيمة التي من أجلها عرَّض رجالك أرواحهم للخطر، وخاطروا بأعز ما يملكه الإنسان … لا شكَّ أنهم مستضعفون في نظرك، وإلا لكان هذا الذي تفعله آخر أخطائك، ولكنني أقسم الآن بهذا الصولجان الذي في يدي، والذي كان شجرة في يوم من الأيام، ولكنها لن تنبت فيما بعد أي أوراق أو أغصان … أقسم أنه كما أن هذا الصولجان لن يخضرَّ له عود بعد اليوم، كذلك لن تقوم للأغارقة قائمة بعد الآن، ولسوف يأتي ذلك اليوم الذي تحتاجون فيه إلى أشيل، عندما يتساقط الفرنسان في حومة الوغى زرافات وفرادى، أمام هكتور السفَّاك … عندئذٍ ستمزق يا أجاممنون قلبك غضبًا وكمدًا، ولسوف تندم على ما فات وتعض بنان الندم، ولات ساعة مندم؛ لأنك لم تحترم أشجع محاربيك، وفضَّلت عليه أطماعك في الاستئثار بأطايب الغنائم … فهنيئًا لك بما اخترت لنفسك، وبئس الاختيار.»

ولما انتهى أشيل من كلامه، قذفه إلى الأرض بصولجانه المرصع بالذهب، بينما جلس إلى جواره أجاممنون تغلي مراجله من شدة الغضب ويتقد غيظًا وحنقًا.

رأى نستور، ذلك المحارب المسن الذي بلغ من العمر مائة حِجَّة أو يزيد، فنهض وألقى خطابًا يهدئ به التوتر بين المتخاصمين سعيًا وراء الصلح والسلام. وكانت ألفاظه رقيقة فعَّالة تأخذ بمجامع القلوب، تخرج من اللسان فتتغلغل في القلب وتسري في النفس … ولكن لم يكن أجاممنون المتعجرف، ولا أشيل الثائر لكرامته، براغبَيْنِ في الصلح أو يريدان السلام …

وقبل أن يُغادر أشيل المكان قال: «تستطيع يا أجاممنون، أن تأخذ أسيرتي بريسايس الحسناء … لقد أعطانيها الإغريق كنصيبي من الغنائم، وكان يجب أن يكون الإغريق هم الذين يستردونها مني ثانية … ولكن فلتعلم أنه في اللحظة التي تتجاسر فيها أن تضع يدك على أيِّ شيءٍ من ممتلكاتي، سيتدفق دمُك الأسود غزيرًا حول رمحي، ولسوف تلفظه الأرض وتأبى أن تلعقه الطيور …»

ولما انتهى المجلس وانفضَّ المجتمعون، أتوا بخريسايس الجميلة وأنزلوها إلى سفينة سريعة، وأنزلوا معها مائة حيوان لتنحر ذبيحة للإله أبولو … وكان في صحبة خريسايس البطل العظيم أوديسيوس وبعض من خيرة الأبطال. ثم أبحرت السفينة بمن فيها وما فيها تمخر عُباب اليم قاصدة خروسي؛ كي يعيدوا إلى خريسيس الكاهن العجوز، ابنته الفاتنة، وليقدموا للربِّ الغاضبِ ذبيحةً تليق بمقامه السامي، عسى أن يكفَّ عن إبادتهم بسهامه الفتَّاكة.

وبعد أن ابتعدت السفينة إلى عُرض البحر وغابت عن الأنظار، استدعى أجاممنون رسله وقال لهم: «اذهبوا الآن إلى خيمة أشيل، ذلك المحارب الذي تجاسر على شقِّ عصا الطاعةِ، وجيئوني بأمته الجذَّابة بريسايس.»

كانت الرسل تُحب أشيل حبًّا جمًّا، ولكنهم لم يجدوا بُدًّا من الإذعان لأمر أجاممنون، فساروا بطول الشاطئ إلى حيث ضرب أشيل فسطاطه، فوجدوه جالسًا بجانبه، فلما رآهم أدرك في الحال الغرض من مجيئهم، فخاطبهم بقوله: «مرحبًا بكم أيُّها الرفاق الأعزاء، والرسل الأجلاء، إنني أُقدِّر تمامًا موقفكم، وأعلم جيدًا ما تنطوي عليه نفوسكم وما تُكنه أفئدتكم، ولا ألومكم على إطاعتكم لأوامر الوغد أجاممنون، كما لا أعتبركم آثمين في نظري؛ لأن الآثم هو أجاممنون وحده، الذي بعث بكم لتسلبوني بريسايس الجميلة. خذوها كما أمركم، ولكني أرجوكم أن تكونوا شاهدين على ما أقول؛ لأنه في اليوم الذي يُصبح فيه أجاممنون في مسيس الحاجة إليَّ لإنقاذ جيشه من الهلاك، لن يتلقى مني أيَّة مساعدة أو معونة جزاء ما اقترفت يداه …»

سيقت بريسايس رغم أنفها كما تُساق السائمة، وظلَّ أشيل يرقبها وهي تنأى عنه شيئًا فشيئًا، ويشيعها بنظراته المملوءة كمدًا وأسًى، حتى اختفت عن بصره.

جلس أشيل بعد ذلك منفردًا على شاطئ البحر السنجابي، ثم طفق يبكي كالطفل بدموع حارة منهمرة، وقلبه الكسير يكاد ينفجر من شدة الكمد.

بقي أشيل مدة على هذه الحال، والحزن يسري بين جوانحه فيعصره عصرًا، ويُفتت كبده، وأخيرًا اتجهت عيونُه عبرَ البحر الواسع، وبنظرة كلها لوعة واشتياق، رفع يديه نحو السماء متضرعًا يستغيث بأمه ثيتيس الفضيَّة القدمين، ابنة ملك البحر؛ لتلبي نداءه وتحضر إلى معونته.

سمعت ثيتيس تضرعات ابنها، وحزَّ في قلبها ما يلاقيه من الآلام المبرحة، والأحزان الممضَّة، فاندفعت من بين أعماق أمواج البحر الخضراء، كأنها سحابة من الضباب، حتى وصلت إلى حيث يجلس ابنها الحزين، فاستقرت بجانبه.

ربتت ثيتيس على يدي ابنها أشيل بلطفٍ ولينٍ، وتحدثت إليه بحديثٍ رقيقٍ قائلةً: «لِمَ تحزن يا بنيَّ؟ وماذا يبكيك؟ إن قلبي ليتقطع حزنًا على حالتك وما أنت فيه من آلام، لابُدَّ أن الأمرَ جِد خطير حتى طلبتني في ذلك الوقت … أفِضْ إليَّ بمكنون قلبك، وما تقاسيه من هموم وأحزان، ولسوف تجدني نعم الأم الرءوم التي تبذل النفْس والنفيس في سبيل مساعدتك وإعادتك إلى حال الطمأنينة والهدوء، وتدخل السرور والمرح ثانية إلى قلبك … هيَّا أخبرني ولا تُخف عني شيئًا.»

قصَّ أشيل على مسامع أمه المقدسة قصة الإهانة البالغة التي لحقته من أجاممنون، وما دار بينهما من حديث، وكيف اغتصب غنيمته الفاتنة التي تمزَّق قلبُه لفراقها … وكيف انتزعها منه انتزاعًا، وتركه نهبًا للأسى والآلام.

عندما سمعت ثيتيس قصة ابنها وفلذة كبدها، انخرطت في البكاء معه من شدة الحنقِ والغمِّ … ثم قالت له: «قصيرة هي حياتك يا بني! ليتني لم أنجبك، وليتك لم تأتِ إلى هذه الدنيا، فذلك خير من أن يملأك الهمُّ والحزنُ هكذا.»

قبَّلت ثيتيس ابنها، ثم اختفت وسط اللجج كما أقبلت، وعندما التمع الفجر ومزَّق ستارَ الظلام، خرجت من البحر وصعدت السماء إلى أوليمبوس …

هناك قالت ثيتيس لملك الأرباب: «أبي زوس، لو كنتُ قدمت لك معونتي بين الآلهة أو البشر، فلتحقق الآن أمنيتي! … اخلع مجدًا على ابني الذي كُتب لحياته أن تكون قصيرةً على الأرض، ولتجعلن النصر حليف الطرواديين طوال إحجام أشيل عن حمل سيفه، لتكن مشيئتك أن يخلع الإغريق في آخر الأمر أكاليل المجد والفخار على ذلك الذي أنزل به أجاممنون بالغ إهانته.»

أحنى زوس رأسه علامةً على الرضا، ومنحها ما طلبت، فاندفعت كالطائر السابح في الجوِّ، هابطة من أليمبوس، واخترقت الأمواج الخضراء، عائدة إلى أبيها في مملكته تحت أعماق البحر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤