الباب الخامس

كيف أصيب مينيلاوس، وأعمال ديوميديس الرائعة

بينما كان مينيلاوس يبحث عن باريس، كانت هيرا وأثينا تدبران الخطط معًا، والحنق يملأ قلبيهما، وتحيكان أحسن طريقة لإلحاق الضرر بباريس ورجال طروادة.

لم تكن للربتين أي رغبة في إنهاء الحرب الطاحنة بين الأغارقة والطرواديين … ومن ثمَّ سمحتا لباريس الذي تمقتانه بحق، أن يفلت من العقاب …

أسرعت أثينا من فوق ذؤابات جبل أوليمبوس، وهبطت إلى الأرض كأنها شهاب يومض في كبد السماء …

تشكلت أثينا في صورة رجل، وذهبت تبحث عن بانداروس Pandarus، المحارب الشجاع المغوار، والنبَّال الشديد المراس، فلما عثرت عليه قالت له: «اصغ إليَّ يا بانداروس الحكيم، صوِّب الآن سهمًا سريعًا إلى صدر مينيلاوس واقتله؛ فبذلك ستكتسب شهرة فائقة، ويلهج بذكرك الركبان، ويُثني عليك الطرواديون أجمعين، كما يكافئك باريس بأنفس الهدايا وأروع الجوائز الملكيَّة.»

بلغ ذلك الكلام من بانداروس، وأخذ من نفسه كل مأخذ، فأخرج قوسه اللامعة من غمده المصنوع من قرن وعل مفترس، كان قد اقتنصه بنفسه من بين الجبال … وكان طول قرنيه ست عشرة قبضة، استطاع بمهارته أن يضمها إلى بعضها ويكسوها بالذهب.

انتقى بانداروس سهمًا من كنانته بعد أن عَجم عوده، ووضعه في القوس، ثم جذب وتر القوس إلى الوراء بقوة فائقة، حتى انحنت القوس في شكل دائرة، ثم ترك الوتر، فانطلق السهمُ الحادُّ يشقُّ طريقَه في الهواء بسرعةٍ خارقة، وكاد يخترق قلب مينيلاوس، ولكن أثينا نحت به جانبًا ليصطدم بإبزيم حزامه الذهبي … ومع ذلك فقد أصاب جسمه، فتدفق الدم الأسود من جرحه.

لما رأى أجاممنون الدماء تسيل من جرح مينيلاوس، حزن حزنًا بالغًا، ولكن مينيلاوس طمأنه قائلًا: «كُنْ شجاعًا، فليس الجرح عميقًا كما؛ لأن إبزيم حزامي اللامع من الأمام، ودرعي المصفحة من تحته، قد شلَّا حركة السهم المميت، فأصبح تأثيره طفيفًا.»

أرسل أجاممنون في طلب طبيبٍ ماهرٍ لإسعاف مينيلاوس، فلما حضر، أخرج السهم، ومص الدم، وسكب على الجرح عقارًا يحدث جلطة دموية فيوقف النزيف، ثم ربط الجرح بضمادات من الكتان.

بينما كان الطبيب يعالج مينيلاوس، أخذ أجاممنون يجوس خلال صفوف الجيش الإغريقي قائلًا: «هيَّا إلى حمل السلاح، فقد نقض رجال طروادة الهدنة التي أقسموا عليها، وحنثوا بعهد السلام الذي بيننا، وعلينا إذن أن نعاقبهم على ذلك … إن زوس العظيم، لا يساعد الحانثين ولا الكذابين؛ ولذا فإنهم سيخرُّون صرعى أمامنا، وسيقدم لحمهم طعامًا للنسور والطيور الجارحة!»

كان أجاممنون يثني على كل مقاتلٍ يبدي استعداده للقتال، ويعنف كل من يجده متقاعسًا محجمًا، لا فرق في ذلك بين جندي عادي، أو قائد عظيم.

وأخيرًا وصل إلى ديوميدس وصاح فيه قائلًا: «أتتقاعس أنت يا ديوميديس عن القتال؟ ما كان هذا مسلك أبيك قط … لقد كان دائمًا في طليعة الجيش، ولم يحدث أن تقهقر عن خط القتال الأول مطلقًا … ولكن ابنه ليس مقاتلًا مثله، وإن كان يبُذُّه في القول والحديث.»

سمع ديوميديس كلمات أجاممنون، ولكنه لم ينبس ببِنْت شفة، بل ظلَّ صامتًا؛ لأنه كان يحترم الملك أجاممنون احترامًا زائدًا … بيد أن أحد زملائه الواقفين بجواره، والذين كانوا يسمعون الألفاظ التي قيلت له، صاح غاضبًا: «هذا كذب وافتراء يا أجاممنون، فإننا نبذُّ آباءنا جُرأةً وإقدامًا، ونتفوق عليهم شجاعةً وبسالة … ألم نستولِ نحن، بعدد أقل من الرجال ضد حائط أقوى، على مدينة طيبة العظيمة التي كافح آباؤنا ولم يستطيعوا اقتحامها؟»

عندئذٍ عنف ديوميديس الشجاع، رفيقه وقال له: «صه يا أخي، فإنه من الحكمة والصواب، أن يحث أجاممنون محاربيه على القتال، فالمجد سيكون له إن تغلبنا على رجال طروادة واستولينا على مدينتهم … كما أن الخزي سيكون من نصيبه إن هزَمنا الطرواديون … نحن أبناء الأغارقة الشجعان والأبطال الفرسان … هيَّا إذن! دعْ عنك هذا الكلام وأسرعْ إلى حمل السلاح، فإنه محق فيما يقول.»

قفز ديوميديس من عربته إلى الأرض، فأحدثت عدته الحربيَّة قعقعةً ورنينًا … وكذلك تقدم جميع الأغارقة واندفعوا نحو جموع الطرواديين كالسيل الجارف، فكما ترفع أمواج البحر العاتية ذؤاباتها أمام مجرى العواصف والأنواء، ثم تتلاطم على الشاطئ صاخبة هائجة، فتقذف برشاشها إلى مسافاتٍ نائية، كذلك تقدم الإغريق إلى القتال بين صفوف رجال طروادة.

وكما تقبل الموجة عقب الموجة، كذلك سارت الجياد عقب الجياد، والرجال واحدًا وراء الآخر. وما كان أشبههم بقطعان الغنم وهم يصيحون عند الكر على أعدائهم.

حارب وسط رجال طروادة، مارس إله الحرب، كما حاربت أثينا من أجل الإغريق، ومعها الفزع والشغب والكفاح الذي لا يعرف التعب أبدًا.

هكذا التقى الجيشان من جديد، فتقاتلا كالذئاب الجائعة. وكان الرجال يجندلون بعضهم بعضًا، فاحمرت الأرض من كثرة الدماء … أما ضجيج قتالهم فكان أشبه ما يكون بصوت التقاء مجاري الأنهار عندما تنساب إلى الوديان إبان فصل الشتاء والأمطار، في طوفانٍ جنوني.

وكما تهوي الأشجار التي يقطعها الحطابون، محطمة إلى الأرض، كذلك كان الأبطال يتساقطون في حومة الوغى، الواحد تلو الآخر … فسقط أولًا رجلٌ من طروادة، ثم رجلٌ إغريقيٌّ … وهكذا … فرقد في ذلك اليوم طرواديون كثيرون، وأغارقة عديدون … الواحد بجانب الآخر، أمواتًا فوق التراب … وما كان هناك متسعٌ من الوقت لإحصاء القتلى أو حتى التعرف على شخصيتهم.

جاءت أثينا في هذه اللحظة إلى ديوميديس، ونفثت فيه قوةً وشجاعة، وأخرجت من خوذته ضوءًا براقًا، يتلألأ لامعًا كأنه نجم يضيء في فصل الصيف.

كان بين الطرواديين شقيقان من النبلاء الأثرياء، وكانا من أمهر المحاربين وأحنكهم في أساليب القتال، فقذف أحدهما رمحًا من عربته صوب ديوميديس الواقف على قدميه، ولكنه أخطأ الهدف وراح رمحه يحفر في الأرض … عندئذٍ قذف ديوميديس رمحه فأصاب عدوه في صدره، فسقط لتوه يتخبط في دمائه صريعًا، وهوى من عربته إلى الأرض مضرجًا بالدم … فلما رأى أخوه ما حدث، أطلق العنان لقدميه، وجرى مسرعًا رجليه؛ خشية أن يُقتل هو أيضًا … فخلَّف وراءه عربته الجميلة، التي أسرع إليها ديوميديس وقاد جيادها، وسلمها لرجاله ليحفظوها له.

وإذ كانت أثينا ترقب العراك عن كثب، فقد أخذت الربَّ مارس من يده، وانتحت به جانبًا، وقالت له: «لقد لعبنا أدوارنا في هذا القتال، فكفى وهيَّا بنا نترك الأغارقة والطرواديين يتقاتلون قتالًا حرًّا، ولندع زوس يعطي النصر لمن يهوى ويختار.»

بعد ذلك انسحب مارس وجلس على حافة نهر سكاماندر، كما انسحبت أثينا أيضًا، واستمر الطرواديون والإغريق يتحاربون حربًا مشروعة، دون مساعدة أحد من الآلهة …

كانوا يقاتلون كالأبطال، وكالأبطال كانوا يقتلون بعضهم بعضًا، ويموتون … ولكن ما من أحدٍ قاتل مثل ديوميديس، الذي كان يكرُّ على العدو بطول السهل، فيكتسح ما أمامه، يضرب ذات اليمين وذات الشمال فيحصد الرءوس حصدًا، وتتجندل الجثث حواليه … وكان كلما تقدم إلى الأمام يعدو الرجال أمامه مدبرين، خشية بطشه، وخوف بأسه.

فلما أبصره بانداروس القوَّاس مقبلًا نحوه كالأسد الهصور، جذب قوسه وصوب سهمًا بسرعة للقائه … وما هي إلا طرفة عين، حتى انطلق السهم نحو ديوميديس، فتلطخ درعه بالدماء …

ما كان أعظم فرح بانداروس عندما رأى سهمه يصيب خصمه، فأنشأ يصيح بصوتٍ عالٍ قائلًا: «أيها الطرواديون الأبطال، تحركوا وهبوا للقتال ولا تخافوا الآن من الأغارقة، فقد جرحت خير رجالهم، وسرعان ما سوف يموت من السهم الذي أصبته به فاستقر في كتفه.»

هكذا كان بانداروس يملأ شدقيه فخرًا، ويتغنى بإصابته ديوميديس، ولكن هذا الأخير قفز من فوق عربته، وقال لسائقها: «أسرعْ يا هذا وانزعْ هذا السهم اللعين من كتفي.»

لبَّى السائق أمر سيده، وفي لمح البصر نزع السهم فتدفق الدمُ غزيرًا من جرح ديوميديس الذي صاح عندئذٍ يخاطب الربَّة أثينا: «أصغِ إليَّ يا أثينا! لو أنكِ حقًّا وقفتِ بجانب أبي تعضدينه على القتال حتى خرج ظافرًا، فلتقفي الآن إلى جانبي، لتحمليني من مرمى رمحٍ من هذا الرجل الذي جرحني، واجعلي في استطاعتي أن أنال منه مقتلًا.»

هكذا صلَّى ديوميديس، فاستمعت إليه الربَّة أثينا وأجابته بقولها: «تشجع يا ديوميديس، فقد استجبت لطلبك، ولكن لو التقيت بأحد من الآلهة في القتال، فلا تضربنَّ أحدًا غير أفروديت الذهبيَّة.»

استدار ديوميديس على عقبيه، واتجه صوب القتال، وقد أحسَّ أنْ أصبحت قوته ثلاثة أضعاف ما كانت عليه من قبل، وسرَت في دمه شجاعة وجرأة نادرتان لم يعهدهما قبل ذلك، فاندفع يقاتل كالأسد الثائر يهجم على من اعتدى على أشباله.

سقط أمام ديوميديس عشرات من المحاربين الشجعان، فاستولى على جيادهم وأعطاها لرجاله ليقودوها إلى السفن.

نهض أينياس قائد الجيش الطروادي، وكان أبوه محاربًا مقدامًا من البشر وأمه الربَّة أفروديت، وصاح في بانداروس النبَّال قائلًا: «أين قوسك وسهامك يا بانداروس؟ ألا تستطيع أن تقتلَ هذا الرجل الذي يضرب ذات اليمين وذات الشمال، فيُنزل الدمار بجيشنا ورجالنا؟»

فأجاب بانداروس: «أعتقد أن هذا الرجل هو ديوميديس، فقد سبق أن سددتُ إليه سهمًا اخترق كتفه، ولكن بدون جدوى فلم يُصبه بأدنى ضرر، لا شكَّ أنه ليس إنسانًا، بل إلهًا حانقًا. لقد خلَّفت ورائي في وطني العزيز إحدى عشرة عربة متينة الصنع، لكل عربة زوج من الجياد … ولما خشيت ألا تجد خيولي علفًا لها في المعسكر، فقد تركتها هناك؛ ولذلك فليس لي عربة الآن، بل قوسي فحسب، وحتى قوسي لا تنفعني الآن، إذ ضربت بها مينيلاوس وديوميديس، وقد أصابت كل ضربة هدفها، ومع ذلك فإنهما لم يموتا.»

فنهره أينياس قائلًا: «صه، لا تهذِ هكذا، ولا تكن ثرثارًا، اصعد إلى عربتي، واقبض على أعنة الخيل، وأمسك السوط، وسأقف أنا فوق العربة، وأقاتل بنفسي ديوميديس.»

فقال بانداروس: «كلا، ما هذا بالرأي الصائب، كيف لجيادك أن يقودها شخص لا تعرفه، أو أن تسمع صوتًا غريبًا؟ إنها لو سمعت صوتًا غير صوت سائقها، لا بُدَّ أن تصاب بالجنون والخوف فتجفل … إذن، خُذْ أنت الأعنة وقُد جيادك واتركني أتقدم برمحي ضد ديوميديس.»

اعتلى أينياس ظهر عربته، وتبعه بانداروس، وحثَّا الجياد على الإسراع صوب ديوميديس، فلما رآهما سائق ديوميديس، مقبلين نحوه، خاطب ديوميديس قائلًا: «أيْ ديوميديس، إن أينياس وبانداروس آتيان لمهاجمتك، وكلاهما محارب قوي كما تعلم، هيَّا بسرعة نصعد إلى عربتنا قبل أن يفاجئانا.»

فأجاب ديوميديس: «لا تفكر في الفرار، فلست ممن يقعقع لهم بالشنان، أو ممن يتوارَوْن في مثل هذا الموقف … أما عنهما فلن ينجوَ مني أحدٌ منهما … أما إذا شاءت الربَّة أثينا أن أقتل كليهما معًا، فأوقف عربتي إذن حيث هي، واربط الأعنة إلى حافة العربة، واقفز فوق جياد أينياس، وقُدها قدمًا إلى جيش الإغريق فإنه لا توجد خيول تحت الشمس تفضل جياد أينياس الشهيرة بسرعتها الفائقة وجرأتها الفذة.»

عندما اقترب بانداروس وأينياس، تناول بانداروس رمحه البرنزي، ورفعه مسددًا نحو ديوميديس، ثم قذف به في قوةٍ وعنف، فانطلق الرمح يدوي في الهواء، واخترق درع ديوميديس حتى وصل إلى صدريته …

اغتبط بانداروس وصاح: «لقد أصبت فخذك يا ديوميديس، ولسوف ما تتردى سريعًا على ما أعتقد، فقد نفذ الرمح في جسمك.»

بيد أن ديوميديس أجابه غير هيَّاب ولا وجِل: «كلا يا هذا، لقد أخطأتني ولم تصبني.»

قال هذا ثم قذف حربته فمرقت بسرعة فائقة في أنف وأسنان ولسان بانداروس … فسقط من العربة يتخبط في دمائه، وأحدث ارتطام عدته الحربيَّة بالأرض صوتًا مسموعًا، وانتحت جياد أينياس جانبًا لتنأى عن جثة بانداروس الهامدة.

قفز أينياس من عربته، ووقف منفرج الرجلين إلى جانب جثة بانداروس الباردة، كأنه أسد قد وقع في محظور، خشية أن يأخذ الأغارقة منه جثَّة صديقه.

أمسك ديوميديس صخرة، وقذف بها أينياس في فخذه، فهشم العظم ومزَّق الجلد … سقط أينياس العظيم على ركبتيه، يتلوى من الألم، وكاد يهلك لولا أن أفروديت، أبصرت الخطر المحدق بابنها فأسرعت إليه، ولفت ذراعيها البضتين حوله، وراحت تحمله بعيدًا آمنًا معافى.

رأى ديوميديس ذلك، فقفز من عربته، وجرى مسرعًا يقتفي أثر أفروديت، حتى قاب قوس، فقذفها برمحه الثقيل، فاستطاع أن يحدث جرحًا عميقًا في رسغها.

صاحت أفروديت صيحة بالغة من شدة الألم، تجاوبت أجواز الفضاء أصداءها، وأسقطت ابنها من قبضة ذراعيها، ولكن أحد الآلهة الآخرين، كان قريبًا منها، فحمله بعيدًا في دثار من السحاب.

عندئذٍ صاح ديوميديس قائلًا: «عليك اللعنة يا أفروديت! يكفي حقًّا أن تخدعني النساء الضعيفات، وتبتعدي عن القتال!»

ثم قفز على أينياس، دون أن يعرف أنه يمسك بإله … وحاول ثلاث مرات أن يفتك بأبنياس، ولكن الربَّ دفعه بعيدًا ثلاث مرات.

وصاح الربُّ بصوتٍ مجلجلٍ مخيف، ألقى الرعب في أوصال ديوميديس، وجعله يرتجف من قمة رأسه إلى أخمص قدمه، وقال: «خُذْ حذرك يا ديوميديس، فإنك تحارب الآلهة.»

أقبلت الآلهة إلى الحرب، واشتركت في القتال، ضد الأغارقة والطرواديين؛ ذلك لأن مارس وهيرا وأثينا، حاربوا حربًا جنونية وسط الجيوش.

صاحت أثينا قائلة: «عارٌ عليكم يا رجال الإغريق، ما لكم لا تقاتلون بشجاعة، أين فرسانكم؟ أين أبطالكم وقادتكم؟ عندما كان أشيل يقاتل في صفوفكم، لم يجسر الطرواديون قط أن يمروا خارج أسوارهم … ولكنهم الآن قد اقتربوا من سفنكم ويقاتلونكم عند الشاطئ، أهكذا تكون شجاعة الأغارقة؟ أين صيتكم الذي طبق الآفاق، وأين شهرتكم في القتال التي كانت مضرب الأمثال؟! لقد ضاعت الجرأة وانعدم الإقدام بين صفوفكم.»

وهكذا أشعلت أثينا الحمية والحماس في الإغريقيين.

بعد ذلك توجهت أثينا صوب ديوميديس، فوجدته واقفًا بجانب عربته يجفف الدم الذي كان ينزف من الجرح الذي أنزله به بانداروس. فقالت له: «ما هذا يا ديوميديس؟ إنك لست بالابن الجدير بأبيك الشجاع. لقد انتصر أبوك على عدة أبطال مغاوير وقاتل عمالقة وصناديد بمفرده، وأنت تقاتل وأنا بجانبك لحمايتك، ومع ذلك فإن الوهن يعتورك، والخوف يملأ قلبك.»

فأجاب ديوميديس: «ما أنا بخائفٍ ولا واهنٍ، ولكنك أخبرتني ألا أضرب أحدًا من الآلهة غير أفروديت … وهأنذا الآن أرى الرب مارس يشترك في القتال، فيقود رجال طروادة؛ ولذا أحجمت يدي عن مقاتلته، كما منعت رجالي من القتال إذعانًا لأمرك.»

فأردفت أثينا البراقة العينين قائلةً: «أي ديوميديس! يا بهجة قلبي وبهجة فؤادي، لا تخشَ مارس أو أي إله آخر … لأنني سأكون مُعينتك في سوق الوغى، اذهب الآن بعربتك، وقُدْها ضد مارس، وتَقاتَلْ معه يدًا بيد، فقد وعدني اليوم أن يقاتل دفاعًا عن الأغارقة، وها هو الآن يُحارب ضدهم؛ إذن فقد حنث بوعده وخالف الميثاق.»

قالت ذلك ثم أمرت سائق ديوميديس أن يخليَ لها مكانه، فقادت بنفسها الجياد الثائرة ممسكة الأعِنَّة والسوط بيديها الرَّخْصتين.

أبصر مارس عربة ديوميديس تقترب منه، تاركةً وراءها كثيرًا من القتلى، وكان مشتاقًا إلى لقاء ديوميديس، فرفع رُمحه وقذفه بقوةٍ نحو ديوميديس، ولكن الربَّة أثينا، أمسكت الحربة بيدها، وأبعدتها جانبًا، فلم تُصب هدفها … عندئذٍ قذف ديوميديس رمحه البرنزي صوب مارس، فوجهته أثينا إلى أن اخترق فخذ ربِّ الحرب، وجعلته يتلوى من عظم الألم.

وكما يصرخ في القتال تسعةُ أو عشرةُ آلافِ مقاتلٍ، فيصل صراخهم إلى عنان السماء، كذلك زأر مارس زئيرًا مدوِّيًا، من شدة الغضب والألم.

وكسحابة راعدة، صعد الربُّ مارس في الجو، مكتسحًا الفضاء ومخترقًا السموات، حتى بلغ أوليمبوس.

ومع ذلك فقد استمر القتال على أشده، وحَلَّ الحزن بكثيرين كمدًا على من قتلوا في الحرب إبان ذلك اليوم العبوس القمطرير.

fig9
وكسحابة راعدة، صعد الربُّ مارس في الجو … حتى بلغ أوليمبوس.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤