هكتور وأندروماخي
ترك هكتور بن بريام، المكان الذي تدور فيه رحى الحرب طاحنة، وظل سائرًا حتى بلغ شجرة البلوط القريبة من أبواب طروادة، فأسرعت إليه زوجاتُ وبناتُ المحاربين الذين يقاتلون، وتهافتن لِلِقائه؛ لأنه قد برَّح بهنَّ الشوقُ إلى معرفة أنباء ذويهنَّ الذين يرقدون وقتئذٍ أمواتًا في ساحة القتال، وكل واحدة منهنَّ تدفع الأخرى لتسأله عن زوجها أو أبيها، وهل هو لا يزال حيًّا يُرزق أم قد تردى في حومة الوغى … وهكذا حتى ضاق بهنَّ ذَرْعًا.
ظلَّ هكتور يناضل ويشقُّ طريقه وسط جموع السيدات والفتيات حتى بلغ قصرَ أبيه الجميل، الكثير الأعمدة المصنوعة من المرمر الناصع … فجاءت أمه للقائه.
أمسكت أمه بيده في حنان ورفق، وتحدثت إليه في لين قائلة: «أراك مغتمًّا مهمومًا يا ولدي العزيز؛ لأنك تركت القتال يا هكتور! فلأحضرنَّ لك إذن شيئًا من الخمر المعتقة؛ كي تنتعش وتستعيد قوتك من جديد.»
فأجاب هكتور: «أماه! والدتي العزيزة! لا تحضري لي أية خمر؛ خشية أن تسلبني قوتي وشجاعتي … فما جئت لهذا الغرض، وما بي شوقٌ إلى شيء منها … بل اذهبي مسرعة إلى معبد أثينا، وقدِّمي لها الذبائح، وتوسلي إليها أن ترحم طروادة، وزوجات الطرواديين وأطفالهم الصغار … فلعلها بذلك تحدُّ من بطش ديوميديس المخرب، وتكبح جماحه … فقد أعملَ في رجالنا وخيرة أبطالنا التقتيل والطعن، حتى خرَّ مئات الفرسان المغاوير صرعى أمام رمحه اللعين … أما أنا فسأذهب إلى باريس، ليته مات!»
قامت والدةُ هكتور في الحال، وحذا حذوها كثيرٌ من الأمهات المسنات الأخريات، من أمهات الأبطال والمقاتلين، وتوجهنَّ جميعًا إلى معبد الربَّة أثينا، وقد أخذن معهن كثيرًا من الذبائح، فقدمنها للربة، وتوسلن إليها، كما طلب منهن هكتور، ولكن أثينا كانت غير راضية عن الطرواديين، فلم تُصغِ إلى تضرعاتهنَّ أو صلواتهنَّ.
أما هكتور، فقد توجه إلى قصر باريس، حاملًا في يده رمحه البرنزي العتيد.
كان باريسُ، الذهبيُّ الشعر، يجلس وقتئذٍ في إحدى حجرات القصر، مع هيلين، وقد أمسك في كسلٍ وتراخٍ، درعه البراقة، وصدريته المدرعة، وقوسه المعقوفة، كأنما لا ناقة له في تلك الحرب ولا جمل.
أبصر هكتور أخاه على تلك الحال، فنظر إليه نظرة احتقار وازدراء، وصاح فيه صيحة كلها سخرية وامتعاض قائلًا: «يموت شعبنا في القتال من أجلك يا أخس الناس، بينما تجلس أنت هنا خاملًا لعوبًا! هيَّا أسرع إلى ساحة الروع، قبل أن يقدم من خلقت منهم أعداء لنا، فيحرقوا مدينتنا، ويتركوها لنا أنقاضًا.»
فأجاب باريس قائلًا: «صدقتَ يا أخي، وأنت محقٌّ في أن تُعنفني يا هكتور … ففي هذه اللحظة بالذات، كانت هيلين تحثني على أن أقوم بدوري كرجل، وأعود أدراجي إلى القتال، فرُوَيْدَك حتى أرتديَ حُلَّتي المدرعة، وسألحق بك سريعًا.»
لم يرد هكتور على أخيه، ولم يجبه ببِنْت شفة، بل نظر إليه شزرًا.
ثم قالت هيلين لهكتور: «أخي هكتور، إنني لأشعر بأني لست جديرة بأن أكون شقيقتك … ليتني متُّ يوم ولدتُ، أو ليت الآلهة جلبت عليَّ هذا الشر، قد أعطتني زوجًا يخجل من العار، أو يخشى الفضيحة. استرح هنا أيُّها الأخ، يا من تحملت كثيرًا من أجلي أنا التعسة، ومن أجل جريمة باريس. إنني أعلم حق العلم، أنه في انتظارنا عقوبة سيتحدث عنها جميع البشر في السنين البعيدة المقبلة.»
فأجابها هكتور: «لعمركِ، لا تطلبي مني البقاء، فمساعدة الرجال الطرواديين في محنتهم الحالية هو كل ما يشغل بالي ويُقلق فؤادي … إنهم الآن في مسيس الحاجة إلى وجودي بينهم … ولكن انهضي بهذا الرجل واجعليه يسرع في إثري. إنني ذاهب الآن لمشاهدة زوجتي العزيزة وطفلي؛ لأنني لا أعلم ما إذا كنت سأعود إليهما ثانية، أم ألحق بمن خضبوا الأرض بدمائهم.»
لم يجد هكتور زوجته الفاتنة أندروماخي، ولا طفله الصغير في منزله، فأخذ يبحث عنهما في كل حجرة، ولكن دون جدوى، ولما أعياه البحث، سأل الخادمات في لهفة زائدة، وعيناه زائغتان: «أين ذهبت سيدتكنَّ؟»
فأجابت إحداهنَّ وقالت: «لقد جاءتنا أنباء تؤكد أن الطرواديين قد هُزموا هزيمة شنعاء، وأن النصر كان حليف الأغارقة … فلم تجد سيدتي بُدًّا من أن تصحب طفلها ومرضعته، وتسرع كالمجنونة إلى الحوائط، لترى بعض ما حدث، وهي الآن واقفة هناك فوق القلعة باكية ناحبة.»
عندما سمع هكتور ذلك، عاد مسرعًا، مخترقًا الطرق التي جاء منها، فلما اقترب من الأبواب لمحته زوجته أندروماخي من بعيد، فجَرَتْ مسرعة للقائه.
فلما تشابكت أيديهما، وقف هكتور، كما وقفت أندروماخي، وأخذ هكتور ينظر في صمت إلى الطفل الجميل الذي تحمله المرضعة بين ذراعيها، وابتسم …
عندئذٍ قالت أندروماخي: «سيِّدي العزيز، لن تجرَّ عليك شجاعتُك سوى الموت الزؤام … ألا تُشفق على هذا الطفل، أو على زوجتك؟ سرعان ما ستصبح زوجتُك أرملتَك. خير لي أن أموت لو قُتلتَ في هذه الحرب؛ إذ لو فقدتك، فلسوف يكون الحزن والكمد حليفي إلى الأبد … إنني يتيمة الأبوين، وقد قُتل أشقائي السبعة في يوم واحد، فأنت لي الآن يا هكتور، أبي وأمي وإخوتي، فضلًا عن كونك زوجي العزيز المحبوب … فارحمني إذن، وارحم طفلك هذا، وامكُث مع زوجتك وابنك الصغير … ولا تذهب إلى ميدان القتال، فكفى من قُتلوا وخلَّفوا الفجيعة والأسى لعائلاتهم وأولادهم وأصدقائهم.»
فأجابها هكتور قائلًا: «زوجتي العزيزة، إنني أعرف هذه الأشياء كلها جيدًا، غير أن العارَ الدائمَ، والذلَّ الأبديَّ سيلحقانني إن أنا أحجمت عن القتال، وأُصبح في نظر الجميع جبانًا رعديدًا، خائنًا لوطنه وشعبه. إنني لم أتعود الفرار من القتال قط، إذ كانت عادتي دائمًا أن أذهب إلى حيث تدور أعنف المعارك، وأن أكسب المجد لنفسي ولأبي … بيد أن هذا المجد سرعان ما سيزول؛ لأن قلبي يحدثني أن طروادة يجب أن تسقط. ومع ذلك فإن حزني من أجل آلام الطرواديين، ومن أجل أبي وأمي وإخوتي، والأبطال الكثيرين الذين سيموتون حتمًا، لأقلُّ من حزني على ذلك الألم المبرح الذي يجب أن ينزل بك يوم أموت وتصبحين بلا زوج يدافع عنك … عندما يأخذك أحدُ الأغارقة سجينة أسيرة … ليت الثرى يُغطيني قبل أن أسمعك تصيحين يا أندروماخي.»
هكذا تحدث هيكتور إلى زوجته أندروماخي، ثم بسط ذراعيه ليأخذ طفله … ففزع الطفل من خوذة أبيه البرنزية، بريشتها العنيفة الحركات المصنوعة من ذيل الحصان، وأخفى وجهه في صدر مرضعته … عند ذلك ضحك أبوه كما ضحكت أمُّه عاليًا … وفي الحال خلع هكتور خوذته ووضعها على الأرض، ثم حمل ابنه الصغير في ذراعيه وقبَّله، وأخذ يداعبه في رفقٍ وحنانٍ … وما إن فعل ذلك حتى تضرع إلى زوس وجميع الآلهة قائلًا: «أي زوس! أي جميع الآلهة، لتكن مشيئتكم أن يصبح ابني هذا محاربًا شجاعًا مقدامًا، وملكًا عظيمًا في بلاد طروادة، فليكن بطلًا مُعَلَّمًا حتى يقول الناس عنه عندما يعود من حومة الوغى: إنه أعظم من أبيه كثيرًا جدًّا … هل له أن يُدخل السرور دائمًا على قلب والدته.»
بعدئذٍ وضع هكتور الطفل بين يدي أندروماخي، فأخذته في أحضانها، ودموعها تختلط بالابتسامة التي ارتسمت على وجهها.
امتلأ قلب هكتور بالحب والشفقة والحنان، فأخذ يربت عليها في حنان زائد وهو يقول: «عزيزتي، أرجو ألا تحملي في صدرك قلبًا حزينًا، فلن ينقص من أجلي ثانية واحدة، ولن يقتلني أحد، مهما كان شجاعًا، قبل الميعاد المحدد لموتي. اذهبي الآن إلى منزلك، واشغلي نفسك بالمنسج، وأشرفي على أعمال الخادمات في البيت، فهذا ما يخصك. أما الحرب فلنا نحن الرجال، ولجميع الذين يقطنون في بلاد طروادة، وهي بالأكثر، لي أنا وحدي …»
هكذا تكلم هكتور، ثم وضع خوذته ثانية على رأسه، تلك الخوذة المحلاة بقبرة من البرنز، وسار في طريقه إلى ساحة الوغى، بينما ذهبت أندروماخي إلى البيت، وهي تنظر خلفها مرارًا عديدة، لتراقب بعْلها، الذي تُحبه أكثر من أيِّ شخص في الدنيا، وهو في طريقه إلى القتال، والدموع المنهمرة تبلل عينيها.
سار هكتور إلى القتال، وكان يسير وراءه بمسافة قصيرة، باريس بعدته الحربيَّة تلمع كالشمس، وعلى وجهه ضحكة لا تعدلها ضحكة أي رجل آخر في الأرض كلها … وكان يسرع في خطاه قُدُمًا إلى الأمام، كأنه جواد أصيل قد حطم قيوده، وأخذ يعدو عبر السهل في خيلاء وتطاوس.
فلما لحق باريس بأخيه هكتور، خاطبه قائلًا: «أخشى أن أكون قد أخرتك.» فأجاب هكتور: «لا يمكن لأحد أن يستخفَّ بشجاعتك يا باريس، فإنك حقًّا بطلٌ مغوار، لك مواقع مشهودة في القتال، ويخشى بأسك كثير من المقاتلين العتاة، غير أن كل ما في الأمر، أنك قد جلبت العار على نفسك بإحجامك عن القتال. هيَّا بنا نذهب الآن بخطى سريعة إلى ميدان الحرب، وليت الآلهة توقع الإغريق في أيدينا.»
هكذا ذهب هكتور وباريس سويًّا إلى القتال، وفي ذلك اليوم قتلا كثيرًا من أبطال الإغريق.