حرق الموتى ومعركة السهل
وبينما كان قادةُ الإغريقِ يتشاورون فيما بينهم في فترة السلام، كان رجالُ طروادة يتجادلون عند باب مدينتهم، مجادلةً حادَّةً تدل على الحنق وشدة الغضب. فقال أحدهم: «كيف نأمل في أن نستطيع التوفيق في القتال، ما دمنا قد حنثنا في قَسَمنا؟ فلنرد إذن هيلين الفاتنة، وكل ثروتها إلى الأغارقة.»
ولكن باريس هبَّ غاضبًا وقال: «إنك لمجنون حقًّا يا هذا! كيف تقدر أنني سأخضع لرأيك وأفعل حسبما تُشير؟ إنني سأرد ثروة هيلين بنفسٍ راضية، وأضيف إليها ثروة أخرى من عندي، أما زوجتي هيلين فلن أردها مطلقًا، مهما حدث، ومهما ساءت المغبة.»
وفي فجر اليوم التالي، ذهب الرسل الطرواديون إلى معسكر أجاممنون، وسلموه رسالة، هذه فحواها: «يقول بريام طروادة وجميع نبلائه، إن الثروة التي جلبتها هيلين معها إلى طروادة، سيردها باريس ثانية، ومعها قدرٌ عظيمٌ من ثروته هو … أما زوجة مينيلاوس الحسناء، فيقول إنه لن يسلمها أبدًا … ونرجو أن تمنحونا هُدنة حتى ندفن موتانا، على أن نستأنف القتال من جديدٍ إلى أن تمنحنا الآلهة النصر.»
فقام ديوميديس وقال: «دعونا لا نأخذ شيئًا من ثروة هيلين أو من ثروة باريس … وحتى لا نأخذ هيلين نفسها؛ لأننا نعلم علم اليقين أن أيام طروادة قد صارت معدودة.»
عندئذٍ صاح جيشُ الإغريق بالموافقة على كلمات ديوميديس، وقال أجاممنون للرسل: «قد سمعتم بآذان رءوسكم، رد الأغارقة، ومع ذلك فإننا سنمنحكم ما طلبتم من هُدنةٍ كي تستطيعوا فيها أن تدفنوا موتاكم.»
كانت الشمس تبزغ من البحر تُطارد الظلام الحالك من حقول بلاد طروادة، عندما التقى الأغارقة والطرواديون في سلام، وحملوا جثث الموتى، وأخذوا يدفنونها في أكوام هائلة، والدموع تنهمر غزيرة من مآقيهم.
استغرقت وليمةُ الإغريقِ الليلَ كله، كما أولم الطرواديون كذلك في طروادة … أما في أوليمبوس فقد دبَّر زوس خطة لهزيمة من أظهروا عدم الاهتمام به والخوف منه، واستمر هزيم رعوده يُجلجل في الفضاء كجرس الرحى، فيملأ قلوب المحتفلين بولائمهم رعبًا وهولًا، وارتجفوا وجلًا مما تدخره لهم الأيام من أهوال يشيب لها الطفل في عهد الرضاع.
وفي اليوم التالي عندما شقَّ الفجرُ بخنجره الفضيِّ حُجُبَ الظلام، جمع زوس حشد الآلهة، وهدَّد كل إله أو إلهة يجسر على مساعدة أي فريق من الأغارقة أو الطرواديين، بالعقاب الرادع وبئس المصير.
عندئذٍ قامت أثينا تخاطب أباها وتقول له: «أي زوس! أيُّها الأبُ العظيم، إننا لنرضخ لمشيئتك، ونطيع رغباتك، ولكن دعنا بحياتك ننصح الأغارقة حتى لا يبادوا عن بكرة أبيهم أمام قوة غضبك …»
فقال زوس: «ليكن لكِ ما تقولين يا بنيتي العزيزة.» ثم ابتسم لها؛ لأن ابنته الجميلة أثينا، كانت غالية مكرمة عند ملك الآلهة.
بعد ذلك اعتلى زوس في عدته الذهبيَّة، ظهر عربته الفخمة، وكان لجياده السريعة الأقدام البرنزية الحوافر، ذيول طويلة من الذهب، وكان زوس يلهب ظهورها بسوطه الذهبي، فكانت تومض في الفضاء كأنها البرق اللامع بين الأرض والسماء الزاخرة بالنجوم.
قاد زوس جياده إلى أعلى ذؤابات جبل إيدا، حيث جلس تُخفيه سحابةٌ قاتمةٌ عن الأبصار، وأخذ يراقب الإغريق والطرواديين كأنهم ألعوبته المحببة، وهم يتقاتلون في ساحة الوغى وسط السهل، على مسافة نائية منه.
كان الجيشان في صبيحة ذلك اليوم قد بكرا بالالتحام، فتزاحمت السنابك، والتقى الأقدام، وعلا الصياح والصليل، والصراخ والعويل. هذا يصيح من الألم والغضب، وذلك يصرخ فرحًا وانتصارًا. وكانت الأرض الطيبة تفيض بدماء القتلى من الرجال الشجعان، والمغاورة الأبطال. من مات منهم ومن يموتون.
ما إن انتصف النهار وعلت الشمس إلى خط الهاجرة، حتى استوى زوس على عرشه فوق الجبل، وأخرج ميزانه ذا الكفتين الذهبيَّتين البراقتين، وفيهما صنجتا الموت، إحداهما للأغارقة والأخرى للطرواديين، فهبطت كفةُ الإغريق ورجحت الكفةُ الأخرى؛ عندئذٍ أرسل زوس برقًا لامعًا في الفضاء، فزاد النهار وضوحًا، واستطاع الجيشان المتقاتلان أن يريا الربَّ العظيمَ وكفتيْ ميزانه، وامتلأت قلوب الإغريق بالخوف والوجل لأنهم رأوا الموت في كفَّتهم يرجح كفَّة الطرواديين.
لم يستطع أقوى الأغارقة الاحتفاظ بشجاعته بعد تلك اللحظة، وبعد أن علموا مصيرهم المنتظر، وما يخبئه لهم القدر من هلاك وفناء، ما عدا نسطور أكبر المحاربين سنًّا، فقد ظلَّ محتفظًا برباطة جأشه متمالكًا نفسه.
صوَّب باريس أحد سهامه إلى جواد في عربة نسطور فأرْدَاه قتيلًا، عندئذٍ قفز الرجل العجوز من عربته، وأخذ يَبرُدُ بسيفه جرارات العربة. وبينما هو منهمكٌ في تلك العملية، إذ اندفع هكتور بعربته في عنفٍ وسط الحشد، وكاد في هذه اللحظة أن يُقضَى على نسطور قضاءً مبرمًا، لو لم يلاحظ ديوميديس ما سيعقب ذلك من حدثٍ أليم.
صرخ ديوميديس صرخةً مدويةً، ونادى أوديسيوس قائلًا: «إلى أين تفرُّ كالجبان يا أوديسيوس؟ قِفْ هناك حتى تنقذ هذا الرجل العجوز من عدوه القوي!»
قال هذا بصوتٍ جهوريٍّ، ولكن أوديسيوس لم يسمعه، وأسرع في طريقه …
فلم يقف بجانب نسطور غير ديوميديس وحده، فلما وجد نفسه هو الوحيد الذي يمكنه مساعدة نسطور، وأن أوديسيوس لم يسمع نداءه، قال: «إن محاربين كثيرين أصغر مني يحاصرونني بشدة، إنك ضعيفٌ وسائقُ عربتك جبان، وجيادك بطيئة، فهيَّا إلى عربتي، أسرِعْ ولا تُطِل التفكير، وتأمَّل كيف تعدو جيادي التي أخذتها من أينياس … إننا سنقودها فورًا ضد هكتور كي يعرف قوة رمح ديوميديس.»
أسرع نسطور العجوز واعتلى عربة ديوميديس، وأمسك الأعنة بيديه، ثم ألهب ظهور الجياد بالسوط، فإذا بها تعدو كالريح حتى وصلت إلى هكتور، فقذف ديوميديس رمحه … ولكن الرمح أخطأه، واستقر في صدرِ سائقِ عربته الشجاع، فخرَّ صريعًا يتخبط في دمائه على الأرض، وفزعت الجياد وكادت تجمح وتقلب العربة بمن فيها.
رأى زوس الهزيمة الشنعاء التي حاقت برجال طروادة، فحمل في يديه صاعقة، وقذف بها لتنفجر مشتعلة بشدة أمام جياد ديوميديس التي سرعان ما استولى عليها الذعر، واندفعت إلى الوراء في فوضى لا مثيل لها …
عندئذٍ صاح نسطور قائلًا: «إن زوس نفسه يقاتل ضدك يا ديوميديس! … هيَّا نلوذ بالفرار، فلا أحد قد أوتي من قوة الجسد، ما يبيح له الوقوف أمام زوس، أو مقاومة رغبته.»
فأجاب ديوميديس: «لقد نطقتَ بالصواب أيها الرجل العجوز، ولكنه يؤلمني ويحزُّ في قلبي أن أسمع يومًا ما أن هكتور يملأ شدقيه فخرًا ويقول: لقد فرَّ ديوميديس مدحورًا أمامي واعتصم بسفنه، وعندئذٍ يهون على نفسي أن تبتلعني الأرض قبل أن أسمع ذلك الكلام.»
فقال نسطور: «قد يصفك هكتور بالجبن والفرار، ولكن ما من أحدٍ من أبناء طروادة سيصدق قوله، ولا أحد من أرامل هؤلاء الرجال الذين قتلهم.»
في تلك اللحظة أدار نسطور خيوله على أعقابها، وأطلق لها العنانَ موليًا الأدبار، بينما كانت رماح وسهام الطرواديين تلاحقه كالمطر الغزير.
وكان صوت هكتور يدوي في الفضاء، فيعلو على جلبة القتال وهو يصيح قائلًا: «انظروا بطل الإغريق! ما عدتَ بطلًا بعد اليوم! لقد خبا ضوؤك وانكفأ سراجك! أيها البنت الضعيفة! أيها القزم المسكين!»
أصغى ديوميديس إلى تعبيرات هكتور، فنزلت في فؤاده نزول الصاعقة، وكاد الحزن يقضي عليه، ولكن لم تكن هناك جدوى من العودة ومحاولة قتله.
عندئذٍ أرسل زوس هزيم رعده ثلاث مرات من ذؤابات الجبل علامة على انتصار الطرواديين، ولتبث الخوف والهلع في قلوب الأغارقة.
سمعت الجياد كلام هكتور، فانطلقت بالعربة إلى الأمام، بينما تبعه الطرواديون يدفعون الأغارقة دفعًا، ويلجئونهم إلى الفرار ومسابقة الريح. وكادت سفن الإغريق تُحرق فتضع الحرب الطويلة الأمد أوزارها وتنتهي، لولا أن هيرا غرست في قلب أجاممنون أن يثير حفيظة الإغريق، ويجبرهم على القتال.
صاح أجاممنون في رجال الأغارقة صيحة ردَّدت أجواز الفضاء أصداءها فقال: «يا للعار ويا للشنار! ما بالكم أيها الإغريق الشجعان؟ ماذا دهاكم وما الذي حلَّ بكم؟ أذهب ريحكم وتعوَّضت القلوب من رعبها منكم الجرأة عليكم؟ ماذا حدث لمجدكم وفخركم؟ وماذا انتاب أبطالكم الهصورين وفرسانكم الغيورين وصناديدكم المبرزين؟ أتحيق بكم الهزيمة بهذه السهولة؟ كلا، وألف مرة كلا … إن الأغارقة الذين دوَّخوا العالم وفتحوا الأمصار، لا يزالون على عهد جميع الأمم بهم.»
ومن ثمَّ توسل إلى زوس العظيم أن يتنازل فيمنح الإغريق في هذه الآونة نصرًا من عنده.
استمع زوس إلى تضرعات أجاممنون، واستجاب لتوسلاته، فردَّ عليه بما يطمئن نفسه، ويدخل السرور على فؤاده، فرأوا في السماء نسرًا ضخمًا يحمل بين مخالبه غزالًا، حتى وصل إلى مذبح زوس، فأطلق الظبي من بين براثنه فسقط فوق المذبح.
طرب الأغارقة عند رؤيتهم هذا المشهد العظيم، وفسروه بأن زوس، أبا الآلهة والبشر، قد رضي عنهم، وأن الظفر سيكون حليفهم في القتال، فذهبوا إلى ميدان الحرب بنشاطٍ متجددٍ وروحٍ معنويةٍ قويَّة، وكلهم على يقينٍ من أنهم سيُنزلون بعدوِّهم هزيمةً نكراء.
أصاب واحدٌ من السهام صدرَ سائق عربة هكتور، فسقط ميتًا من فوق العربة؛ عندئذٍ امتلأ قلب هكتور غيظًا وحنقًا، فقفز من العربة محدثًا صوتًا، وأمسك في يديه صخرةً ذات نتوءات، وهجم على تيوكر ليهوي بها على أمِّ رأسه فتكون القاضية … وكان تيوكر في هذه اللحظة بالذات قد شدَّ وتر قوسه ليطلق منها سهمًا، فجاءت ضربة هكتور في عظمة الترقوة، فانصدعت القوس وسقطت من يد تيوكر التي فقدت الإحساس، فخر ساجدًا على ركبتيه، وكاد يلقى حتفه، لولا أن أجاكس أسرع إلى نجدته، فوقف بجانبه ووقاه بدرعه، إلى أن حمله اثنان من زملائه إلى السفن وهو يئِنُّ من شدة الألم.
عاد زوس فنفث الشجاعة في رجال طروادة، فإذا بهم يدفعون الإغريق أمامهم في فوضى واضطراب يتحدث عنهما الركبان.
رأت هيرا وأثينا محنة الإغريق فأشفقتا عليهم، وكادتا تهبطان من أوليمبوس لمعونتهم، لو لم يرسل زوس إليهما تحذيرًا صارمًا، عما ينتظرهما من مصيرٍ إن فكرتا في الذهاب إلى ساحة القتال غير مؤتمرتين بأمره … قائلًا: «ستريان غدًا بعيونكما شرورًا أعظم من هذه، ونكبات أشد هولًا من تلك، ولن يكف هكتور عن القتل إلا إذا عاد أشيل السريع القدمين إلى نجدة الأغارقة والدفاع عنهم، حيث يرقد باتروكلوس الشجاع ميتًا. هذا هو حكم السماء، ولن يقف أحد كائنًا من كان ضد تنفيذ هذا الحكم.»
هبط الليلُ البهيمُ بجحافله، وأسدلت على الكون قبة سوداء، فامتلأ قلب الطرواديين غيظًا، بينما عمَّ السرورُ أفئدةَ الإغريق لحصولهم على فترة السكون والراحة.
اتَّكأ هكتور على رمحه البرنزي، وخاطب الطرواديين قائلًا: «أيُّها الطرواديون، اسمعوا وعوا، لقد فكَّرتُ في يومنا هذا أن أُبيدَ الإغريقَ وجميعَ جيوشهم، وأن نعود أدراجنا إلى طروادتنا، ولكن الليل أسرع بالمجيء قبل الوقت الذي كنت أتوقعه، فيجب علينا إذن أن نأخذ قسطنا من الراحة أثناء الليل، فنتناول الطعام ونقدِّم العلف لجيادنا، ودعونا نوقد النيران طوال الليل حتى لا يحاول الإغريق أن يركبوا البحر تحت جنح الظلام ويهربوا … فليعلن الرسل أنه يجب على الصبية والعجائز أن يحرسوا شرفات طروادة، وعلى كل امرأةٍ أن تشعل نارًا عظيمةً في بيتها خشية أن يدبر الأغارقة شَرَكًا لدخول المدينة في أثناء وجودنا هنا … وعندما يلمع الفجر في السماء، سنقاتل بالقرب من السفن، وسنرى هل سيتقهقر ديوميديس من الشاطئ إلى حوائط طروادة، أم سأقتله برمحي؟!»
هكذا تكلم هكتور وسط جموع الطرواديين الذين فكوا قيود خيولهم، وقدموا لها العلف، وجلبوا وقودًا من المدينة لإيقاد النيران.
ظلَّ الطرواديون طوال الليل جالسين في ساحة الوغى تحدوهم الآمال الجسام، بينما كانت ألسنة نيرانهم المتأججة تتراقص في الفضاء فتصل إلى عنان السماء. وكما يسطع القمر بنوره الفضيِّ في الليلة الراكدة الهواء، وتمتدُّ السماء فسيحةً شاسعةً إلى ما لا نهاية، فترى جميع النجوم، هكذا كانت أضواء النيران المتلألئة في السهل الممتد أمام طروادة. فكانت آلافُ النيران تشتعل هنا وهناك، وكان يجلس حول كل كومة نارٍ خمسون رجلًا يُغذُّونها بالوقود، وإلى جوار العربات وقفت الخيول تلوك الشعير في انتظار مجيء الفجر.