الباب الثالث
فصل
نادى الشيخ خليل البكري على الخادم فياض.
دلَّى الخادم الدلو في البئر. عاد به إلى الشيخ لوضوء ما قبل صلاة الظهر. ثم قدِم بإبريق الماء والطست الصغير والمنشفة.
– زينب … متى عادت من الحمام أمس؟
قال فياض وهو يغالب ارتباكه: لم يكن أذان المغرب قد ارتفع في جامع الشيخونية.
– ألم تصحبك مع خدمها؟
قال الخادم في ارتباكه: نعم … كنت مع خدمها.
ارتدى الفراجية، جبة واسعة طويلة الأكمام، أكمامها غير مشقوقة. وضع على رأسه عمامة، فيها علامة خضراء بارزة للخاصة والعامة، دلالة على النسب الشريف لآل البيت. لأسرته مكانتها المتوارثة. تنحدر من فاطمة، ابنة النبي، وعلي وأبو بكر وعمر خلفاء رسول الله. البكري والسادات هما رئاسة الأسر الشريفة في مصر. في ١٧٩٣م مات السيد محمد البكري نقيب الأشراف، وشيخ السادة البكرية. لم يُخلف ذرية، فورثه في مشيخة البكرية خاله، السيد خليل البكري. نقابة الأشراف تولاها السيد عمر مكرم أفندي الأسيوطي.
أبلغه تلاميذه بما يتردد في الأسواق من أن الناس يلجئون إليه لبعض المقتضيات والشفاعات، فيخذلهم. وأنه استهوته لذائذ الدنيا، ففاق مستوى معيشته ما عليه أمراء المماليك. يضخم من حجم عمته، ويوسع كميه، ويحمل الكتب بين يديه ليبدو في هيئة المعلم. يعشق — في الوقت نفسه — ملمس الحرير، ويتجمل بالجواهر، ويضع على مائدته أطيب الطعام وأجود الخمر، ويضفي العز على آل بيته. ويضيف إلى حياة اللهو والبذخ الماء الفاتر، والستائر المسدلة، وضوء الشموع، وضحكات الصبايا، والبخور الزكي الرائحة، ويعرف الفرق بين الأدوار والألحان والبشارف من عزف الفرقة الموسيقية التي ترافق نغماتها تناوله للطعام في بيت الأزبكية، وقيل إنه يكثر من اقتناء المماليك والجواري البيض والسود والصفر والأحباش، ومن القوقاز والأهواز، واقتناء العبيد والخدم، وأنه هجر مجالس العلم، وانشغل بسماع الملاهي والأغاني والقيان والآلات المطربة، وشوهد — وقد استغرقته نشوة الطرب — يردد الألحان، ويتصايح، وينقر بأصابعه على نغماتها. ربما شقَّ جيوبه، وألقى بعمته. وكان يديم التنزه — مع أصدقائه — في قارب بالخليج، يصحبهم موسيقيون يعزفون ما يطرب.
استُبعد من خلافة أخيه في خلافة مشيخة البكرية، لاتهامٍ بالرعونة، وارتكاب أمور غير لائقة، وأنه ليس أهلًا لمشيخة السجادة. حصل ابن عمه محمد على المنصب، بينما حصل عمر مكرم على قيادة نقابة الأشراف. لم يحصل هو على قيادة المشيخة إلا عند موت ابن عمه.
من حقه أن يلحق زمنه.
لم يحقق ثروة كتلك التي حققها سلفه الشيخ محمد في أثناء توليه مشيخة البكرية، وحصل المشايخ الآخرون — قبل مجيء الفرنسيين — على مكاسب يحتاج إلى تدبير سنوات ليقترب منها. هو نفسه الأستاذ الإمام، صاحب الأسرار، وخاتمة سلسلة المختار، الشيخ خليل البكري شيخ سجادة السادة البكرية، ونقيب الأشراف. من حقه الإشراف على جميع الطرق والتكايا والجوامع والمساجد والزوايا ومقامات الأولياء.
استعاد بيت الأزبكية بأكمله. قسم الأمراء البيت إلى نصفَين، أحدهما له، والثاني لأحمد البكري. أعاد عمارته وزخرفته، وألحق به بستانًا فيه أشجار برتقال وزينة وورود ورياحين. اقتنى الجواري والخدم والخصيان والعبيد؛ لأن ذلك ما كان يفعله سراة العصر ووجهاؤه. لم يكتفِ البعض بما يقتني من جوار، لكنه انساق لرغبته في استجلاب نساء لم تضمهن، ولا مثلهن، قصور العلماء والوجهاء الآخرين. يوصي بالجواري البيض في وكالة كشك وخان جعفر. يرفض التردد على وكالة الجلابة بالصنادقية، أو وكالة الرقيق بالقرب من خان الخليلي. تقتصران على العبيد المجلوبين من إفريقية. يطيل التحديق إلى جسد الجارية. يدفعها إلى نزع ملابسها. يفتح فاها ليشاهد أسنانها، يتابع خطواتها متمهلة، ليتعرف على تماسك صدرها.
إذا كان قد كتم خوفه على التزاماته: خمس قرى في الشرقية والمنوفية والجيزة؛ فإن ذلك ما فعله شيخ السادات في خوفه على قراه العشرين، والشيخ عبد الله الشرقاوي في قراه الست، والشيخ محمد المهدي في قراه الإحدى عشر، ومشايخ آخرون، شغلتهم التزاماتهم في امتداد القرى المصرية، وحرصوا عليها، وخشوا أفعال الحرافيش وما قد تثيره من غضب الفرنسيين، فيمتد أذاهم إلى ما كان يصعب التصور أنه يصل إليه. إذا كان قد امتلك معملًا لتقطير صناعة الخل، ودكانًا للزبيب، وآخر لطحن البن، وبضعة مخابز ومقاهٍ، ومتاجر لبيع الغلال، وأجرى صفقاته المعلنة مع تجار الجملة والتجزئة … إذا كان ذلك كذلك؛ فإن الشيخ الشرقاوي ترك لزوجه أمواله، تستثمرها له، وتشتري عقارات وبيوتًا للتأجير، وللسكن، ودكاكين، ووكالات، وحمامات. اتسعت عليه الدنيا، وزاد طمعه فيها. واستثمر الشيخ المهدي أمواله في تجارة القطن والأرز والكتان، وورث الشيخ مصطفى الصاوي مهنة السقاء من أبيه في السويس، قبل أن يعمل بالتجارة. ثم تولَّى التدريس في المدرسة الصلاحية، وفي جامع الأزهر، وجرت عليه الدنيا بما لم يكن يتوقعه من أموال وعقارات وأراضٍ زراعية.
أهمل حتى ما نقل إليه من أن علماء الدين يأخذون الجعالات والهدايا من أصحابها، ومن فلاحيهم، تحت حمايتهم، ونظير صيانتها، واغتروا بذلك، واعتقدوا به، وأكثروا من شراء الحصص من أصحابها المحتاجين بدون القيمة، وافتتنوا بالدنيا، وهجروا مذاكرة المسائل، ومدارسة العلم، إلا بمقدار حفظ الناموس، مع ترك العمل بالكلية. وصار بيت أحدهم مثل بيت أحد أمراء المماليك، واتخذوا الخدم والمقدمين والأعوان، وأجروا الحبس والتعذيب والضرب. اعتاد الخدم رؤيتهم في الحمامات العامة أوقات منع الدخول، وفي دور الجواري وأجنحتهن. صار ديدنهم واجتماعهم ذكر الأمور الدنيوية، والحصص، والالتزام، وحساب الميري، والفائض، والمضاف، والرماية، والمرافعات، والمراسلات، زيادة عما هو بينهم من التنافر والتحاسد والتحاقد على الرياسة والتفاقم والتكالب على سفاسف الأمور، وحظوظ الأنفس على الأشياء الواهية.
حتى الشيخ محمد أبو الأنوار، شيخ السادات، قلد أمراء المماليك في أساليب حياتهم، وفي إقباله على شراء المماليك والرقيق، وقلدهم في لباسهم، وابتعد — بالتالي — عن زي المتعممين والفقهاء والقراء. يضج قصره المطل على بركة الفيل بالعز والأبهة. قاعة «أم الأفراح» الهائلة، المزدانة بالنقوش الذهبية والقيشاني والرخام الملون. المكتبة الهائلة تضم أرففها مئات المجلدات والمخطوطات في علوم الدين والأدب والتاريخ، وأنواع المآكل والمشارب والملابس والعطور والمقويات، والعشرات من الجواري والعبيد والمماليك والخدم والخصيان، والعديد من الإسطبلات الواسعة، تمتلئ جنباتها بالجياد العربية الأصيلة ذات السروج المزينة بالذهب والفضة، والحدائق الزاخرة بألوان الزهور والرياحين والثمار. وثمة مسجد ملحق بالقصر، يؤدي فيه الشيخ صلواته مع المقربين إليه، فلا يضطر إلى ترك أسوار القصر. يترفع على أقرانه من العلماء والوجهاء، ويميز نفسه عليهم بقاووق بعمامة خضراء، مشابهة للأمراء، ومخالفة للمعممين والفقهاء والمقرئين. يؤدي دور مسئول الشرطة من حيث العفو والإدانة والقضاء بالضرب والجلد. كان أتباع الطرق الصوفية: الأحمدية، السعدية، الشعيبية، يتقاطرون تحت نوافذه في أيام الأعياد والمناسبات الدينية. زاد، فحض خطباء الجمعة على مديحه، والثناء عليه. لم يبقَ إلا أن يقول الخطيب بعد كل صلاة: اركعوا، واسجدوا، واعبدوا شيخ السادات!
منحته دولة الخلافة إقطاعًا واسعًا في زفتى، وأعفته من كافة أنواع الضرائب. عهد إليه بإدارة المشهد الحسيني، وجامع السيدة نفيسة، وجامع الإمام الشافعي. جنى من صناديق النذور والصدقات والزكوات ثروات طائلة. حتى مولد الحسين — الذي تولى مسئوليته — جنى منه أضعاف ما أنفق عليه. لم يكن يجد حرجًا في ضرب كبار موظفي الدولة إن أهملوا تنفيذ مطلب له. وكان يستدعي إلى بيته من تتغير عليه نفسه، أو يريد عقابه لأمرٍ ما. يؤذيهم بالضرب والشتم والإهانة. ربما فرض عليهم الحبس والضرب بالكرابيج، أيامًا متواصلة.
لم يحاول الشيخ محمد المهدي مداراة علاقته بالفرنسيين. يجتمع بهم في العلن، ويواصلهم، ويصادقهم، ويساعدهم على أداء ما يطلبونه، ولو على حساب الناس. هو ابن قبطي، تحول إلى اعتناق الإسلام، بعد أن رباه الشيخ الحنفي الشهير — مع أولاده — وسهر على تعليمه. تأكدت شهرته منذ بدأ التدريس في الأزهر، وتحققت له فوائد كثيرة من رواتب الوظائف. زادت ثروته، ورغبته، وسعيه في أسباب تحصيل الدنيا، وعاين الشركات والمتاجر في كثير من الأشياء، مثل الكتان والأرز وغير ذلك. صرفه هذا الانهماك في أطماع الدنيا عن التفرغ للعلم. ولم يكن يصبر على دروسه بالجامع الأزهر. وكان يهمل فيها، مع أنه لم يكن يدرَّس إلا يومين كل أسبوع.
مسح المكان بعينَين متأملتَين: الفرش الفاخرة، والوسائد، والطنافس، وأنواع الأحمال، والقناديل، والزينة، والأرضية ذات الرخام الملون، والشمعدانات، والنجف المطلي بالذهب والفضة، والشموع، والفوانيس، ومجامر البخور، ورائحة المسك. والجدران المكسوة بالبلاط القيشاني والمعلقات: السيوف، والخناجر المذهبة، والآيات القرآنية، والمرايا الهائلة.
أهمل كل شائعات الأسواق والجوامع والحمامات والحجرات المغلقة، وإن داخله توجس من مؤاخذة الناس على تداخله في الفرنسيين، واستقباله لهم في بيته. حتى أولاد الناس والعوام من أهل البلد لا يقابلون زوارهم في البيوت. مقابلات أرباب الطرق في الحضرة، أو في حلقة الذكر، أو عند مقام الولي. ثمة لقاءات في الأعياد والموالد، هي المضي إلى ضواحي المدينة، في الخلاء والصحراء والقرى القريبة.
الاتهام بأنه يعمل في خدمة الفرنسيين، يشحب في ممالأة الشيخ الشرقاوي لهم. نقم في نفسه تفضيل الشرقاوي عليه لتولي مشيخة الأزهر، لكنه ظل على علاقة طيبة مع أمراء المماليك. رضي عنه الفرنسيون، فجعلوه رئيسًا للديوان، وخصصوا له المعلوم المرتب، وقبلوا شفاعته — التي تقاضى عنها أجرًا — لأفراد من المماليك، وسكتوا عن استيلائه على تركات وودائع تركها أصحابها وفروا من الفرنسيين. نشأ في بيئة فقيرة، أقرب إلى الوضاعة. كان نادرًا ما يطبخ في بيته. تدنت نفسه، فقبل الهدايا والصلات والزكوات. ثم ارتقى حاله حتى أصبح شيخًا للجامع الأزهر. انقلبت حياته من يومها. أفاد من حق النظارة على الأوقاف المخصصة لأروقة الأزهر وجامعه، وتعددت رواتبه من موارد مختلفة، مثل أوقاف مكة والمدينة، والتزم ببعض القرى في مديرية الشرقية، حيث وُلد ونشأ.
تواصلت رئاسته في الديوان العمومي، والديوان الخصوصي. أصبح — بفضل الفرنسيين — متمولًا كبيرًا. تخصصت زوجته في إدارة أمواله واستثمارها. اشترت عقارات وبيوت وحمامات للتأجير، وبنايات للسكنى، تُدر عليه إيجاراتها دخولًا مهمة كل شهر. أقبلت عليه الدنيا بما لم يكن يتصور هو نفسه. اشترى العقار والأملاك والحمامات والحوانيت. غلت عليه إيرادات شهرية، أتاحت له العيش في رغد. صار يلبس أفخر الثياب، ويأكل الطعام الساخن مما يُعِده الخدم في بيته، وينام على سرير وثير ذي أعمدة، ويمتلك من الأموال ما يفرض عليه الدِّين أن يدفع الزكاة عليها. داره على بركة الأزبكية. مملوءة بالتحف النفيسة، والكتب النادرة المجلدة. تحدد عالمه في القصور ومجالس القائد العام والجواري والعبيد والأغوات والقماقم والمباخر والعز والأبهة. خصَّ نفسه بأعوان وأتباع وخدم من خواص الناس، تمييزًا لمكانته بين الآخرين. يسيرون من أمامه وحوله، بأيديهم العصي يوسعون له الطريق. إذا كان الناس يوقرونه لمواقفه ضد مظالم المماليك؛ فإن صوته هو أيضًا قد ارتفع برفض ما وجد فيه أذًى للناس.
أفاد الشيخ المهدي من أيام الفرنسيين بما لم يتحقق لأحد سواه. برر للفرنسيين احتلالهم بأنهم لم يأتوا إلا لطرد المماليك، بعد أن نهبوا الأموال. لا يتعرضون للرعايا في شيء. تركوا له أمر الكثير من البلاد والعباد والأرزاق. يسروا حصوله على هدايا الفلاحين من الأغنام والماعز والجمال والخيول والعسل، لقاء قبول الفرنسيين شفاعاتهم، ورفع العقاب عنهم، وتخفيف ما يفرض عليهم من الغرامات. حتى ممتلكات النازحين والموتى ضمها إلى ممتلكاته.
رفض القائد العام أن يسمي الجودرية باسم البكرية. هو الأولى بأن يطلق اسمه على الحارة بدلًا من جوذر خادم المهدي. جعل هذه الدار في الجودرية للزوجة والأبناء. داره بناحية الأزبكية موضع الاحتفالات التي يستضيف فيها القائد العام، والاحتفالات المهمة. تطل على الخليج. القاعات الفسيحة، كسيت جدرانها. أرضيتها من الرخام الملون والقيشاني. تطل على حديقة واسعة. ضاقت الدار والأماكن الملحقة، بالهدايا والتقادم. بنى من المخازن والإسطبلات ما يسع المزيد.
ابتسم — بينه وبين نفسه — لتذكر تجربة، كأنها المعجزة، أجراها أمامه العالم بيرتوليه.
قال للعالم الفرنسي: هل يتيح لك علمك أن تكون في مصر وفي المغرب في الوقت نفسه؟
هز الكيميائي الفرنسي كتفيه دلالة النفي.
قال البكري: أنت لست ساحرًا حقيقيًّا!
فصل
لاح النور في أسفل السلم. رأت من موضعها على السرير الجارية زمردة تمد يدها بالقنديل في يد، وبمجمرة البخور في اليد الثانية، وتصعد بخطوات واهنة، وترنو بجانب عينها إلى الحجرة. ظلت زينب في موضعها، حتى دخلت زمردة. علقت القنديل على الجدار، ودارت في الحجرة بالمبخرة وهي تردد آيات قرآنية وأدعية.
لصق الجدار سحارة هائلة للثياب من خشب الصندل، ذات أدراج، وتحيط بإطارها نقوش صغيرة.
رفعت زينب كتفيها على مسند السرير ذي القوائم المرتفعة، أزاحت الناموسية الشفافة، ونزلت على درجتين من الخشب.
راحت زمردة تمرر المبخرة فوق رأسها، في حركة دائرية، وهي تتلو بعض الأدعية. كانت الأجراس الذهبية الصغيرة التي تدلت من الخلخال الذهبي في ساقها، تصدر وسوسة في أثناء حركاتها، وكانت زينب ترنو إلى ما لم تتبينه المرأة، ولا زينب نفسها.
كانت زمردة على صلة بأهل العوالم السفلية. تراهم رؤية العين، وإن اختفوا عن أعين الناس، وتتحدث عما كان، وتتوقع ما سيكون. كانت تفسر الرؤى المقبضة، والأحلام المخيفة، والكوابيس. وكانت تصادق الجان. تراهم، وتحادثهم، وتدخل معهم في أسئلة وأجوبة. لا ترى الأعين في الهمسات ولا ارتفاع الصوت ما يقلق. يدركون أنها قد استغرقت في أحاديثها مع الجان. ربما صرخت، وشوحت بيدها. يطمئن أهل البيت إلى أنها طردت الجان من البيت. يعودون بعد غياب، أو يأتي جان آخرون.
لم تكن الجارية تعرف غير أسرة البكري، منذ اشتراها الجد الكبير. أجادت — في صباها — الغناء، وضرب الدف، والنفخ في الناي، وعزف العود، والتأود، وهز الخصر. حفظت ما لا نهاية له من أحاديث الخوارق والحكايات، وحكايات البشر والحيوان والطير والزواحف وعرائس البحر. أعطاها خليل البكري حريتها، لكن إحساس الجارية لم يزايلها، أو أنها لم تعرف ماذا تفعل بحريتها. لم تَعُد مجرد جارية. أصبحت واحدة من الأسرة.
لجأت إليها زينب. علمتها أصول الرقص. تغني وترقص على ما تصدره الجواري من إيقاعات بآلات الطرب.
فصل
قالت زينب: لماذا تقتصر التقاليد علينا؟ معظم النسوة لم يَعُدن مجبرات على التقيد بالحجاب.
زوجات الفرنسيين وصديقاتهم — عرفت أن الزواج ليس شرطًا للعلاقة في حياتهم — يسرن في الشوارع سافرات، يركبن الخيل والحمير، يطرحن الحشمة والوقار والمبالاة. يمِلن إلى التبرج والخلاعة، ينزعن نقاب الحياء بالكلية. يقضين الأوقات في بركة الأزبكية، تصحبهن آلات الطرب. وشردت في الفراغ: أنا لا أفعل هذا … أخرج منقبة، ولا أترك العربة إلا أمام المكان الذي أقصده.
لماذا بيوت العلماء والأشراف من طبقته مغلقة على النساء، لا يحاولن تركها، بينما ابنته تترك البيت في أي وقت، وتعود متى تشاء؟
تغيظه تصرفاتها، تفتقر إلى الحشمة والأدب. تفعل ما يحلو لها، تهمل الملاحظات والتحذيرات.
قال خليل البكري: لكنك تكثرين من الخروج بلا داع.
اتجهت إليه بملامح منفعلة: أذهب إلى الحمام أو لزيارة صديقاتي.
الحمام هو الحجة التي لن يردها أبوها إذا أرادت الخروج من البيت.
– قللي من هذا التصرف فتُسكتي الألسنة.
كتمت رؤيتها له — كل ليلة — وهو يتناوب شرب الخمر حتى يثمل، وقوله لأحد أصدقائه: بوسع المرء أن يشرب الخمر ويضمن الجنة، إن كفَّر عن فعلته بخُمس دخله بدلًا من العُشر المألوف! رأته — في ليال كثيرة — من زيق باب حجرته، يخلط زجاجات الخمر، يظل يعب منها حتى يغلبه النوم.
قالت الأم: أنا على ثقة من أخلاق ابنتي، وإن كنت أوافقك على أنها إما أن تصحبني أو تؤنسني في البيت.
هدد البكري بأن يأذن للخصي، فيؤدبها بالضرب. هو يدرك أن المرأة من جهة العقل أحط درجة من الرجل.
اعترضت الأم على الفكرة: هل ترضى لابنتك أن يؤدبها خصي؟
اختلج صوته بنبرة غضب: هل ترضين لمكانتي أن تؤذيها ابنتك؟!
قالت الأم وهي تعدل على رأسها عمامة من الحرير، مطعمة بخيوط من الذهب: لا ترهق البنت. إنها تعيش في حجرة لا تطل على الجودرية.
كانت الأم أميل إلى الانزواء، وإن أشاعت في البيت حضورها القوي. لعينيها بريق يشي بقوة شخصيتها. لم تكن تشكو علة أبدًا. تظهر إحساسها بالمرض، حين تخلط الأعشاب بالماء العادي، أو ماء الورد، وتدهن مواضع في جسدها.
لاحظت الأم — في طفولة زينب — أنها تميل إلى الأفعال الغريبة التي ربما لا تتفق مع جنسها ولا سنها، ومحاكاة الأولاد في ألعابهم مثل المصارعة واللكم، وتميل إلى العراك مع الأولاد والبنات، تحتمي بخوفهم من مكانة أبيها. تضربهم بما تصل إليه يدها، وتصرخ إن حاولوا الدفاع عن أنفسهم. تحرص على أن تلفت الأنظار إليها. تركب الخيل، وتتسلق الأشجار، ربما أخذت ما بداخل الأعشاش من البيض، أو فراخ الطير. حتى النخلة العالية في بيت الأزبكية، كانت تصعد إليها مثل الأولاد، وتنط، وتقفز. تهمل نداءات أمها والأغا بأن تنزل من النخلة. تواصل التسلق حتى تبلغ أعلى النخلة، ثم تبدأ في الهبوط. تظل الأم تحت النخلة حتى تهبط زينب، فتربطها في النخلة نفسها كيلا تعود إلى ما فعلت. وكانت البنت تصر على أن تصحب أباها أو أمها أو أحد إخوتها، لا تطيق البقاء في البيت. وتلعب مع الخدم والعبيد نط الحبل والقفز والاستغماية، والحجلة. أهملت تخويف زمردة من سكان الأقبية ومخلوقات الليل والأعين الملتمعة بالشر والمتاهات وأفعال السحر.
رفض الشيخ البكري أن تذهب إلى الكُتَّاب، حتى لو اقتصر تلاميذه على أبناء العلماء والأعيان والسراة. جعل تعليمها على أيدي مدرسات خصوصيات، شيخات.
اطمأنت الأم إلى أن ما تفعله البنت من أفعال الشقاوة يصدر عن طفولتها، وأنها ستهجر ما تفعله في سن البلوغ.
نصحت زمردة بأن تذبح ضحية على عتبة باب البيت الخارجي، حماية لأهله من العكوسات.
فصل
استقبلت الكاتب — للمرة الأولى — في حجرة الطواشي. وقف في الغرفة المجاورة، لا يطالعه إلا صوتها. يتاح للطواشي ما لا يتاح له من التردد على غرف الحريم. أصاخ سمعه من انفراجة الباب بين الغرفتين.
أمرت له بقهوة، لم يكن من المأذون له أن يدخل حجرتها. يصعد من حجرته أسفل مسكن الحريم. يقف في الحجرة المجاورة. يتكلمان من خلال الحاجز الخشبي الفاصل بين بابَي الحجرتين. تُملي أوامرها، ويسجل ما تطلبه. التقاليد ترفض أن يحدق في المرأة رجل إلا إذا كان طبيبًا.
دفعت الحاجز، وواجهته بعينَين محدقتَين: أنت تنزل إلى الأسواق، وتخالط الناس … لماذا يرفضون عضوية أبي في الديوان؟
وشى صوته الأخن بالارتباك. أشفقت من ارتعاشة أنفه، وتهدل وجنتيه المتهدلتَين، وشحوب وجهه، وفمه المفتوح، وعينَيه المشروطتَين، الخاليتَين من الرموش، يعلوهما حاجبان رفيعان. سرت الرعشة حتى في سرواله الأبيض الفضفاض، الضيق عند الكاحلين، وتلفيعة الصوف الملتفة حول رقبته.
قالت: لا تخف شيئًا. صارحني بكل شيء.
نكس وجهه إلى الأرض فلا يواجه نظراتها: لبعض الناس اعتراضاتهم على الديوان.
وهي تسند يدها إلى ردفها: من وافقوا عليه لم يعترضوا إلا على عضوية أبي.
وداخل صوتها استياء: لماذا؟
– هذا ليس صحيحًا.
– إما أنك تخشى أبي، أو أنك نائم على روحك!
وثقبته بعينَين مشتعلتَين: حتى النسوة في الحمام يتحدثن عن استثناء الفرنسيين لأبي بالاحتفاظ بجواده!
ومضت إلى حجرتها.
أهملت ملاحظة أمها أنها تحرص على الخروج سافرة، وتتعرض للرجال، وتتحدث إليهم دون حرج. ذلك فعل بعض الفتيات اللائي يردن تقليد نساء الفرنسيين في ارتداء الملابس السافرة، ومبالغتهن في الخروج إلى الطرقات، بمناسبة وبلا مناسبة. للفرنسيين حياتهم، معتقداتهم، ولهم عاداتهم وتقاليدهم، وهم يخالفون — في ذلك كله — ما يجري عليه أهل مصر.
ترامى وقع حوافر الجياد، وصيحة الحوذي: هس!
ارتدت الثوب الفضفاض، السماوي اللون، والنقاب من الحرير الموصلي الكثيف، يحجب الوجه، ما عدا العينَين وأعلى الأنف، وتهيأت للخروج.
ما كادت تستقر داخل العربة، حتى نزعت نقابها. أصرت على الخروج — سافرة — في عز النهار. تطل — بعينَين مكحولتَين — من شقٍّ في الستائر المسدلة على نافذة العربة المواربة. لا تُعنى بآراء الناس ولا ملاحظاتهم.
فصل
ارتدت ثيابها، وتأهبت لمغادرة البيت. قميص واسع طويل، تصل أطرافه إلى الأرض. له أكمام واسعة. فوق القميص سبلة، إزار، يغطي الجسد. على الوجه حبرة بيضاء، وتضع على الرأس غطاءً خاصًّا من الشاش. وزينت جيدها وساعديها بالمجوهرات والحلي. رفضت نصيحة زمردة بعدم التردد على الحمام. صاحبه يأذن بدخوله للبرصاء والمجذومين. الحمام هو المكان الأنسب لتبادل الزيارات. يتبادل النسوة القهوة والشربات والفطائر. يستمعن إلى الألحان من فرقة العميان. تبلغ الحمامية بموعد قدومها. تخلي الحمام إلا لمن أبلغتهن بموعدها. تهمل إلحاح أبيها بأن يقتصر استحمامها على حمام البيت. وتهمل ملاحظته بميلها إلى البذخ والإسراف، فهي تزين جسدها وثيابها بكل ما تقتنيه من اللؤلؤ والماس والمرجان والمصنوعات الذهبية والقلائد والتيجان والأقراط والأساور والخلاخيل والنقود الذهبية والفضية.
تدخل الحمام من الباب الخلفي في درب المبيضة. ضيق، مغلق، تسبقها الخادمة إلى طرقه، فينفتح بتوقع الانتظار. تستقبلها الحمَّاميَّة في مدخل الحمام. الرسوم النباتية تحيط بالباب، والأرض مبلطة بالرخام المضلع، والجدران مغطاة برخام متداخل الألوان والتشكيلات، والأسقف — إلى القاعات والردهات والمقاصير — مزينة بزخارف، وعبارات ترحب بالزائرين، وتتدلى من منتصفها سلاسل المشكاوات والقناديل. زجاج النوافذ تتداخل فيه ألوان زاهية، والزجاج المعشق يأذن بدخول الشمس، في تكوينات، تضوي بألق، وتتراقص على السقف والجدران. تتوسط المكان نافورات على هيئة أسود، ينبثق الماء من أفواهها، والمصاطب مفروشة بالرياش والأرائك والمساند الوثيرة، والخزائن مجللة بالمناشف المزركشة والمقصبة.
تُسقط الحجاب فور دخولها.
قالت الحمامية: تأتين إلى الحمام، فتنزعين كل ما عليك … لا تضعين على الجسد الجميل سوى الماء الساخن.
وأومأت برأسها: تُتعبين نفسك بلا ضرورة.
كانت تحرص أن تضع على جيدها، وفي ساعديها، قلائد العنبر والأساور المرصعة بالأحجار الكريمة، وتلف خلخالًا من الذهب حول ساقيها.
أطلقت ضحكة ملونة: هل أظل عارية بعد حمامك؟
تنسى الوقت في تبادل الحكايات مع فتيات في مثل سنها، ونساء من بنات طبقتها. تتسلم منها ملابسها، وتغطِّي جسدها بفوطة، فلا يبين إلا الرأس والوجه والرقبة وأعلى الكتفين والأطراف. دسَّت قدميها في قبقاب رصِّع بالأحجار الكريمة.
حكت لصديقاتها ما رُوي عن نساء رشيد. رفعن عريضة إلى السلطان، يطلبن المساواة بزبيدة، بنت السيد محمد البواب، التاجر وصاحب الحمامات في رشيد. تزوجت ضابطًا فرنسيًّا كبيرًا، اسمه مينو. قدمها على نفسه في الطعام والسير والجلوس. لماذا لا يكون ذلك هو حال كل النساء؟!
دلفت إلى المغطس. بخار المياه الساخنة يغلِّف المكان بضبابية خافتة.
مضت إلى طرقة تسري فيها الحرارة. الحجرات على الجانبَين تعلو فيها السخونة بدرجات متباينة. بدا الجو ساخنًا عند الاقتراب من الحجرة الثانية. لطمها البخار الساخن المعطر، اخترق مسام البشرة. أنامتها الحمَّامية على مصطبة من الرخام. من حولها أربعة مغاطس ذات أحواض مطلية بالملاط، ينبثق من داخلها الماء.
بدأت المرأة في تدليك جسدها بقطعة صوف، مبللة بالصابون والماء، وطرقعة الأطراف، وحك كعبَي الرجلَين بالحجر الخفاف. تسرف في استعمال المسك والعطور وماء الورد وزيت الزيتون. دخلت حجرة مجاورة، فاغتسلت بمياه عين ماء ساخنة وباردة. ارتدت بشكيرًا. مضت إلى الحجرة الأولى. تقدم لها الخادمة — وهي ممددة على الأريكة — مشروبًا ساخنًا، أو فنجانًا من القهوة. أغمضت عينَيها، وهي تنصت — في نشوة — إلى عزف فرقة العميان — في الطرف الآخر من الحجرة — تعزف بشارف عثمانية وتقاسيم.
نادت «الحمَّامية» على «البلَّانة» نعناعة. تتنقل بين القاعة الخارجية والمغطس. تحمل العسل المعقود والصابون والمنشفة.
أزالت نعناعة الشعر الزائد من جسد زينب، وصففت شعرها، وزججت حاجبيها. أسلمت ساقيها للمرأة. أزالت الشعر منهما، ودلكت القدمين بالحجر الخفاف، ثم بقشر الخيار، ينظف وينعِّم.
تختار لها البلانة من سوق العطارين أفضل أنواع الحناء لصبغ شعرها، وطلاء أظافر يديها وقدميها.
تنبهت — في جلستها — على أصابع تربت كتفها …
استدارت …
– السيدة بولين.
في حوالي الخامسة والعشرين. أميل إلى السمنة. شعر كستنائي. عينان زرقاوان، تومضان بلمعة المكر، وترمقان ما حولهما بنظرات متوجسة. أنفها أقنى صغير. تتدلى من عنقها سلسلة ذهبية، تنتهي بصليب ذهبي صغير. ترتدي فستانًا أبيض، طرزت حواشيه بالدانتيلا البيضاء، وأحاطت وسطه بحزام عريض، أخضر، وغطت كتفيها وصدرها بشال من القطيفة الزرقاء. فوق شفتيها شعرات صفراء، خفيفة، وفي صوتها لدغة واضحة. تثق في نفسها إلى حد الجرأة، وربما التعالي على الآخرين.
قالت بولين نوريس: لك عندي رسالة.
– رسالة؟
– ليست رسالة مكتوبة … القائد العام يريد أن يلتقي بك.
– نابليون؟ أنا؟ هل يعرفني؟
وداخل همسها خوف واضح: هل رآني في الحمام؟
ضربت المرأة صدرها: حمام تدخله بنت البكري لا يؤذن لرجل — حتى لو كان القائد العام — بالتطلع إلى ما بداخله.
ومالت على أذنها: لمحك عند زيارتك وأمك لي.
ولكزتها بأصابع مترفقة: سحرته عيناك من وراء النقاب، أذهلته عن مكانته، وما يجب أن يتخذ نفسه به من وقار.
– لكنني لم أرَه عندكِ.
– ربما أنت … لكنه قائد عسكري يلمح كل شيء.
– ولماذا يزورك؟
– إني صديقته، وأجيد خياطة ثيابه كما أجيد خياطة ثياب أسرة البكري.
نسي هيبة مركزه. ظل يتردد على مشغل بولين. يحدثها فيما لا شأن لها به. يفتح — فجأة — الباب الواصل بالحجرة المجاورة. يسترد نظراته المتفحصة بملامح خاب توقعها.
لم تكن تملك إلا أن تنصت، وتبدي رأيها — أحيانًا — لمجرد توصيل الإحساس بالمشاركة.
حدثها عن زينب في لحظة غير متوقعة. عن ظروف رؤيتها له، وعن رغبته في أن يلتقي بها.
أسكت التساؤل في عينيها بهزة من يده.
القائد العام؟ قائد كل الفرنسيين والمصريين — يتحدث عنه أبوها بإعجاب وخوف — يريد أن يلتقي بها.
وهي تخطو إلى العربة الواقفة أمام باب الحمام، منحت الحمامية نقودًا من الذهب، بدلًا من البارات الفضية.
فصل
قدمت بولين نوريس في الموعد. ألفت المكان لكثرة ترددها عليه: موعدنا الليلة.
في خوف: أين؟
– في بيت القائد العام.
– أخشى أن يراني أحد.
– حين تُسدلين النقاب على وجهك … لن يفطن أحد إذا كنت فتاة أم رجلًا.
– إذا عرف أبي … قتلني.
– أبوك صديقنا.
– ليس إلى حد السكوت عن تصرفات ابنته.
ترامى صوت جرس من الطريق. أدركت أن القائد العام أرسل العربة التي ستُقلها. لم تَعُد الأم تستطيع منعها من مغادرة البيت. ولم تكن تستطيع إبلاغ البكري بخروج زينب عن حدود المسموح في حياتها. لا تضمن رد الفعل من الرجل، أو من البنت نفسها.
ركبت العربة المسدلة الستائر، يجرها جوادان. اطمأن الحوذي إلى انسدال ستائر نوافذ العربة، قبل أن يصعد إلى كرسيه، ويفرقع بسوطه في الهواء؛ ليبدأ الجوادان في التحرك. يتبعهما عبدان في يد كل منهما شومة، بخطوات مهرولة.
حاولت أن تطرد الخوف من نفسها. لو أن أبويها أدركا ما هي مقبلة عليه. تترك البيت إلى الحمام، لا تعود إلى البيت مباشرة، لكنها تسرق وقتًا لا يعلم به إلا الفرنسية والقائد العام. أزمعت أن تظل تصرفاتها في حدود الحذر. أهملت العباءة التي ألفت ارتدائها. أسدلت على جسدها — بدلًا منها — ثوب خادمة. وضعت البرقع والقصبة في هيئة بنات البلد. اطمأنت إلى أن التعرف عليها — من النظرات المتسللة — لن يكون متاحًا. تخرج إلى الحمام، وإلى حيث تشاء، دون أن يلحظها، أو يتابعها، أحد.
قصر الألفي يتميز عن دار أبيها في الجودرية والأزبكية بفخامة تفوقه؛ فهو يتضمن ما لم يعنَ المشايخ بأن تحتويه قصورهم. أضاف إليه الفرنسيون ما يبهر من النقوش والزينات والطنافس والمرايا، والشمعدانات الفضية، والثريات الهائلة، ومعلقات الجدران.
الصحن تتوسطه نافورة من تداخل الرخام والحجر، تنبثق منها المياه. تعلوه «شخشيخة» هائلة يتسرب منها الضوء والهواء.
الواجهة مزينة بالمقرنصات والتيجان والقبب. الأرض مبلطة بالرخام المتداخل البياض والسواد. الشرفات بارزة من الخشب المخروط. الأسقف والزوايا مجفتة بالنقوش المذهبة. الجدران من الخشب المنقوش برسوم الزيت والزخارف الهندسية والنباتية. قطع الأثاث مطعمة بالذهب والفضة.
سبقها الحارس الشخصي إلى داخل القاعة الواسعة. استبدلت النقاب بالبرقع والقصبة على وجهها، وبقميص التافتاز الذي غطى كل ملابسها إلى أسفل القدمين، وإن تضوع منها عطر شرقي غامض لم يتبينه.
قال بونابرت وهو يمد ذراعيه: أهلا يا زينب.
أهمل ما أشارت به بولين نوريس. لا يذكر اسم زينب. من العيب أن ينطق اسم سيدة في بلد يلزم النساء بالحياة في الحريم.
فاجأها بأن ضمَّ خاصرتها بذراعه، وهو يشير باليد الأخرى إلى المقعد في ركن القاعة.
لم تكن تعرف القائد العام إلا من حكايات أبيها. تصورت القامة العملاقة، والصوت الأجش، والنظرة الآمرة، والشخصية التي تطول حكايات أبيها عنه بالإعجاب والخوف. ما تصورته يختلف عن الرجل الجالس إلى جانبها: القامة الضئيلة، والبشرة الطفولية، والصوت الهامس. هذا هو نابليون بونابرت!
اقتحمها شعور بأنها في بيت القائد العام للفرنسيين. هذا القصير بعينَيه الحادتَين، وبشرته البيضاء الشاحبة، والأنف الأقنى. يظل أبوها والمشايخ واقفين أمامه حتى يدعوهم إلى الجلوس. يتحدث أبوها عن التفصيلات المهمة، والتي لا لزوم لها، في لقاءات القائد العام والمشايخ. يسأل ويجيبون. يسألون ويجيب. يتبادلون نظرات الحيرة من ملاحظاته، أو يشفقون على أنفسهم من سخطه وغضبه. ملامح الرجل أمامها تفيض بالود والانبساط، والحرص على كسب ودها.
حين لمحها في بيت البكري، أثارته العباءة الملتفة حول القامة الطويلة الممشوقة، والعينان الصافيتان، الواسعتان، المكحولتان، من وراء النقاب، والرقة البادية في ظاهر يدها. شرد في الخيال والسحر، وتجسيد ما يقصر عنه التصور.
قال وهو يتأمل ارتباك ملامحها: لم أكن أظن أن هذا الجمال تخفيه خيمة سوداء.
واحتوى وجهها بين راحتيه: كنت أظن أن الجمال وطنه فرنسا.
ووشى صوته بملق: عرفت هنا أن الجمال وطنه مصر.
وهي تعاني ارتباكها: لست أجمل المصريات، لكننا لا نظهر إلا لرجالنا.
فاجأها بالسؤال: لك صديق؟
– لا أعرف هذا الأمر.
– هل تقبلين أن تكوني صديقتي؟
– هذه أول مرة أجلس فيها إلى رجل ليس أبي.
لاحظ صعوبة نطقها بالفرنسية: لغتك لا بأس بها.
نكست رأسها لتخفي خجلها من كلمات الإطراء: تعلمتها من فرنسي صديق لأبي.
– أثق أنك ستحسنين النطق بها في الأيام القادمة.
ماذا لو رآها أبوها في هذه اللحظة؟ لو أنه عرف بمجيئها إلى بيت الألفي، يستقبلها القائد العام. يعرض عليها صداقته، يستميلها بلغته وبالإشارة. ترد بما تعلمته من الفرنسية، وتلجأ — مثله — إلى التعبير باليدين والرأس وملامح الوجه؟
لو أن العلاقة بينهما انتهت إلى أفق تصورها: هل يوافق أبوها على زواجها من القائد العام، مثلما تزوجت المرأة من رشيد بالجنرال مينو؟ وهل يدخل دين الإسلام، أو يظل على دينه؟ وهل يأخذها إلى بلاده لو أنه لم يترك ملته؟ وإذا أظهر أبوها التردد أو الرفض: هل يجبره القائد العام على ابتلاع ما يعجز عن مضغه؟
مدَّ يده، وجذبها. أدار صدرها ناحيته، وضمها إليه.
لم تُبدِ ممانعة حين أحاط خصرها بساعديه.
أغمض عينيه. استغرق في ملمس البشرة الناعمة، وانطلاقات التصور، وارتعاشة الرغبة. يكره البدينات، والرائحة المنفرة. تذكر المثل التركي الذي قالته بولين: خذ المرأة البيضاء لعيونها، والمصرية للمتعة. عيون المصرية جميلة أيضًا. شرد في رؤى كونتها الشائعات والهمسات والرسائل الباريسية.
ماري روز جوزفين تخونه!
المجد الذي صنعه في القاهرة، داسته جوزفين في خيانتها لمن تزوجها بعد أعوام ترمل، عن زوج أعدم بالمقصلة. أضاف — في عقد الزواج — عامَين إلى عمره ليختصر السنوات الست التي تكبره بها. يقهره الغيظ والرغبة في الثأر. يدرك أن جوزفين تبادله الخيانة، سبقته إلى الخيانة. تمنت أن يسافر بعيدًا، ليحصل على ما تشتري به قصر «لاماليزون»، وتخلو فيه إلى عشيقها. لم يكن يعرف مدى خيانتها، حتى قدِم إلى مصر.
هي تخونه. لماذا؟ ومع من؟ وكيف؟
ذلك ما أبلغه به أرصاده عند قدومهم إلى مصر. اسمه شارل، لا قيمة له — مثله — في حياة الفرنسيين. هل تنتظر غنائم الحب؟ لو أنه في باريس، هل كان يسدد فواتير المتاجر التي تشتري منها ثيابها، وحليها، وما لا يتوقعه من طيشها وتقلباتها المزاجية؟ هل كان يقوى على السداد؟
كتب إلى أخيه جوزيف: أنا أعاني في بيتي الكثير من خيبة الأمل. انكشف لي ما كان مستورًا، ولم يبقَ لي في الدنيا من أخصه بما أعانيه سواك أيها العزيز. وكتب: أثق أنها ما أحبتني فقط. وكتب: لم تَعُد بيني وبينها رابطة من أي نوع! ما أستطيع أن أؤكده أنها لن تدخل بيتي! وكتب: من المؤكد أني سأطلق جوزفين، ولعلك تبحث لي عن بيت ريفي بالقرب من باريس، أو في بورجونيا، أعتكف فيه. أنا أريد قضاء الشتاء هناك، والخلو إلى نفسي. إنني متبرم من طبائع البشر، وفي حاجة إلى الوحدة والعزلة، والانتصارات تصيبني بالضجر، وينابيع الحماسة تجفُّ، والمجد بلا طعم في التاسعة والعشرين. لقد استنفدت كل شيء، ولم يَعُد أمامي إلا أن أصبح متوحدًا بالفعل.
قال للمملوك رستم وهو يشير إلى حجرة مغلقة: هذه حجرة نومي. أريدك أن تنام بالقرب من بابها. لا تترك أحدًا يدخلها.
فاجأ المملوك بتخليه — هذه الليلة — عن أمره. اقضِ وقتًا ممتعًا خارج البيت. حرص على أن تدخل زينب البيت، فلا يراها أحد. تغيب الأعين والآذان والأفواه التي قد تنقل ما تسمعه أو تراه. يدرك خطورة ما يحدث، عليه، وعلى الفتاة. لا صلة لمكانته برد الفعل القاسي، المتوقع.