الباب الخامس
فصل
شدد القائد العام على قادة جنده، فلا بد من تأديب العصاة، والأخذ على أيديهم. يقدمون على أفعال الشر، ثم يلوذون — كعادة الأشقياء — بالزوايا والأركان. من يعود، ويندم، ويرجع عن غيه فإنه يلقى العفو عما فعل.
تعددت المعارك، واتسعت، ضد الإنجليز والعثمانيين والمماليك وأهل القاهرة والفلاحين والبدو. ما خطه على الأوراق اختلف عما التقى به في الواقع. مبعوث الإدارة «دتوت» ذكر في تقريره أن احتلال مصر سيكون سلميًّا لبلد أعزل. أكد على مزايا الاحتلال، ونفى احتمالات الخطر. تحدث التقرير عن المحاصيل الجديدة التي يمكن زراعتها، تشجير المقطم لتصبح القاهرة مدينة نظيفة، شق قناة من السويس إلى البحر المتوسط، سهولة استيطان آلاف الفرنسيين للزراعة والتجارة. الشائعات عن الطاعون والرمد مبالغة، ولعلها كاذبة. لم يحتمل القرار المناقشة ولا التأجيل، حين كتب الكونت دشوازيل-جوفييه «إن مصر على عتبة البيت، ولم تَعُد ملكًا للعثمانيين. الباشا لا شيء، ومصر ليست ملكًا لأحد.»
أمر بونابرت بفرض النظام في كل الحارات، ولا يتجول أي شخص في شوارع القاهرة وهو يحمل السلاح. صادر الجنود ما وصل إلى أيديهم من الجياد. اقتحموا بيت رضوان كاشف بباب الشعرية، يصحبهم ترجمان ومهندس. أظهرت زوجة الكاشف انزعاجها. كانت — قبل أيام — قد صالحت على نفسها وبيتها بألف وثلاثمائة ريال. حصلت منهم على ورقة ألصقتها على باب البيت، وردت ما كانت وزعته من المال والمتاع عند معارفها، واطمأنت.
قال قائد الجنود: بلغ القائد العام أن عندك أسلحة وملابس للمماليك.
أهمل الضابط إنكار المرأة، وأمر جنوده بالتفتيش. طلعوا إلى مكان، وفتحوا مخبأة. وجدوا فيها ثيابًا داخلية وفرشًا وأمتعة ودراهم ودنانير وحجابًا من الذهب، نهبوها جميعًا. ووجدوا في أسفلها مخبأة أخرى، بها عدة كثيرة من الأسلحة والبنادق والطبنجات وصناديق البارود. أنزلوا المرأة ومعها جارية بيضاء وجماعة من الجواري السود. احتُجزن في قلعة الجبل، لم يرجعن إلى البيت إلا بعد أن دفع أهل المرأة عنها أربعة آلاف ريال أخرى.
التفت الضابط بالذهول إلى قول الجندي: أعرف أن ما فعلناه حيلة على نهب البيت.
أردف في لهجة هامسة: لماذا نفعل كل هذا؟
قال الضابط: نحن ننفذ الأوامر.
ودون أن يلتفت ناحيته: ليس من حق الجندي أن يناقش أوامر قادته.
فصل
فاجأ القائد العام الشيخ خليل البكري بالسؤال: لماذا يرفضنا المصريون؟
وارتسمت الحيرة على ملامحه: نحن لا نفعل إلا ما يفيدهم.
التفَّ الناس حول موكب القائد العام في أثناء عودته من بيت شيخ السادات. تعالت أصواتهم بكلمات لم يفهمها، وإن داخَله خوف حقيقي. لم يكن في كلمات الناس ما يخيف، ولا ما يحمل معنى الرفض. كانوا يقرءون الفاتحة، ثم يعيدون قراءتها بأصوات متآلفة، عالية.
بهرت الشيخ البكري شروح آلات علماء الفرنسيين وأدواتهم الفلكية وعلمهم الدنيوي وتنظيم الديوان. هز رأسه، وأهمل ما قرأه للشيخ عبد الرحمن الجبرتي، حين دخل الفرنسيون القاهرة: «وهي أول سني الملاحم العظيمة، والحوادث الجسيمة، والوقائع النازلة، وتضاعف الشرور، وترادف الأمور، وتوالي المحن، واختلال الزمن، وانعكاس المطبوع، وانقلاب الموضوع، وتتابع الأهوال، واختلاف الأحوال، وفساد التدبير، وحصول التدمير، وعموم الخراب، وتواتر الأسباب، وما كان ربك يهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون.» تداخل في الفرنسيين، بينما فر النقيب عمر مكرم إلى بلاد الشام. اقتنع القائد العام بأن النقابة كانت لأسرته، وأنها اغتُصبت منه. أمر القائد العام، فقُلدت له النقابة، وحصل على وقفها وإيرادها، وانفرد بسكن البيت. صار له قبول عند الفرنسيين، وجعلوه من أعاظم رؤساء الديوان الذي كانوا نظَّموه لإجراء الأحكام بين المسلمين. أمسى وافر الحرمة، مسموع الكلمة، مقبول الشفاعة عندهم.
فصل
اخترق الشوارع الضيقة الملتوية القصيرة. تتقارب فيها شرفات الدور المتقابلة، وتزدحم بالمارة والدواب.
المسافرخانة، لها ثلاثة أبواب: اثنان في درب المسمط؛ أحدهما الباب العام، والثالث في درب الطبلاوي. الباب العام يؤدي إلى ردهة تفضي إلى صحن كبير مكشوف. على اليمين قاعة تضم إيوانين ودرقاعة، صفت فيها النارجيلات والطسوت والأباريق. في الجهة الغربية باب يفضي إلى سلم، بجواره باب آخر يؤدي إلى فضاء تحتل الحديقة جزءًا منه، تحيط به أربعة أروقة، كل رواق يضم خمس حجرات، وفي الزاوية حجرة مستقلة، منزوعة الباب، ومفروشة بالحصير لأداء الصلاة جماعة.
تلفت المعلم شيحة وراءه، يطمئن إلى غياب المتابعة، ثم دخل من الباب الجانبي الصغير المفضي إلى الحديقة.
قال الشيخ فضل بعرور مبلِّغ جامع الحاكم بلهجة متشككة: هل هناك مهدي آخر غير شيخ السادات؟
قال نصر السباعي التاجر بالموسكي: لو أن أحدهما كما يزعم، عليه أن يطرد الفرنسيين من بلادنا.
قال الشيخ بعرور: لكن العلماء يرون أن شيخ السادات هو المهدي المنتظر!
تقابل الرجال في جلستهم على الأرض، بينما توسط الشيخ المهدي الغرفة الواسعة، المغلقة.
كان يرتدي أخضر في أخضر: العمامة والعباءة والخف. حتى الشال على كتفه أخضر اللون.
فتح الشيخ غطاء الحلة الكبيرة. تصاعد بخار يشي بماء مغلي، مليء بخليط من الأعشاب. طقطقت الأعشاب، وومضت ببروق صغيرة.
طلب الشيخ من المريدين أن يقفوا فوق البخار منفرجي الساقين، وهو يغمغم بأدعية، ومجموعة من الرقَى، تُجبر القوى الخفية على طاعة الإنسان.
كان المعلم شيحة يتردد على مسجد النقيب بالحسينية. بناه الشيخ بدر المقدسي. يقضي أطول الأوقات في حضرة شيخ الصوفية. يسأل، ويناقش، وينهل من علمه. أولاه الشيخ ثقته، ومنحه بركته، وقربه إلى نفسه، وأعطاه خاتمًا من الجشمت الأزرق يضعه في إصبعه، فيشفيه من إدمان السكر.
اعتقد الناس في الشيخ الولاية والسلوك والجذب. تنافسوا في الاتصال به، والظفر بمرضاته، والإفادة من بركاته ومدده.
عُرف عن الشيخ استغراق العبادة، والبعد عن الدنيا، وصدق التنبؤات، وقراءة الطالع، والرجم بالغيب، وتوقع أحوال الجو. بالنظر إلى الشمس، أو القمر، أو حتى ارتفاع ضوء المصباح العادي أو انخفاضه في داخل البيت. إذا ألحت البومة في نعيقها عند حلول المساء، تتغير نفسه إن اختفت النجوم وراء سحب في السماء الصافية. يجاوز — في تخوفه — معتقد الناس من اختناق القمر بأيدي بنات الحور. قد يمتد الخطر، ويتسع. يصبح كيوم القيامة. نسب إليه من الأمور العظيمة ما لا يقوى عليه إلا أقطاب الأقطاب من مشايخ الصوفية. وكان يخالف — بأفعاله — نواميس الكون، ويعلم الغيب، ويأتي بما لا يتصوره إدراك البشر من الكرامات والمعجزات والخوارق. يحرك الجمادات، ويخاطب الجن، ويظهرهم لمن يريد أن يراهم، ويتصرف في الكون بالحياة والموت. إذا لمس أي شيء، حلت عليه البركة. يجد الجائع طعامًا، والمريض شفاءً، فإذا تحسس ما بين فخذي امرأة عاقر، جاءها الحمل بإذن الله. أكدت الروايات على أن الشيخ يمتلك سر استخلاص الذهب من أي شيء تلمسه يده، ويقدر على إبطال الرصاصات عندما تنطلق من الغدارات والبنادق، وإبطال القنابل وهي في الهواء. لم يكن له عمل ولا إيراد ولا يمد يده لأحد. عرف الناس أنه ينفق مما تجود به السماء، ما تخصه به السماء وتقصره عليه، فهو ينفق في هيئة من لا يخشى الفقر. يرتب للفقراء والعميان أكسية الصوف عند دخول الشتاء في كل سنة، ويولم لهم أسمطة القصاع الكبار المملوءة بالثريد المسقي بمرق اللحم والسمن.
أكثر المعلم شيحة من التردد على الجوامع في أوقات الصلاة، وزيارة الأضرحة، والمقامات، والمشاركة في مجالس الحضرة وحلقات الذكر. مال إلى تضوع البخور، والابتهالات، والأدعية، والوجد، والأناشيد المفعمة بالحنين، والشوق للإبحار إلى مدن السحر، والإنصات لأصداء الأغنيات البعيدة.
المعرفة هي المنارة الهادية إلى طريق الله. فتح القلوب هو سبيل الاستضاءة بنور الله. يقضي المتصوفة — غالب أوقاتهم — في تلاوة القرآن الكريم، والأوراد المنيفة، والأذكار، والتسابيح، والأدعية. يتخلل تلاوتهم أدعية بنصرة المسلمين على قوات الكفار.
للصوفية تأثيرها الغلاب، من خلال الطوائف الحرفية. ساعد انخراطها في الطرق الصوفية على الاشتراك في الانتفاضة التي بدأت تسري في أحياء القاهرة. طائفة الجزارين في حي الحسينية ارتبطت بالطريقة البيومية، تجار الفاكهة والحبوب في باب الشعرية ارتبطوا بالطريقة الشعرانية، تجار الخضر من القلعة إلى الخليج ارتبطوا بالطريقة الرفاعية، وهكذا. يتخاطبون بالرموز والأحاجي وكلمات السر.
يشتري — ولو بالتظاهر — بعد صلاة العشاء — أنواع الفاكهة والتوابل، وألوان السكر والحلوى. تنتظر الزوجة صوت عصاه وهي تصطدم بدرجات السلم عند قدومه إلى البيت. ترنو إلى باب الحجرة، تتوقع قامته الطويلة، الممتلئة، ورأسه التي أطل شعرها الأبيض من تحت الطربوش الأحمر، المحاط بطيات القماش الأبيض، ووجهه الأسمر، وشاربه المتهدل على جانبي فمه، والسحجة في زاوية الجبهة اليمنى إلى ما وراء الأذن، والقفطان المتدلي إلى كاحل القدمين، ودائرة البياض حول الوجه، والعباءة الملقاة على الكتف بدلًا من وضعها على الرأس، والخف المغربي دس فيه قدميه.
كان مختار الرمادي يختلف مع المعلم شيحة في النظرة إلى الشيخ المهدي قطب الصوفية. يثق المعلم شيحة في الشيخ، ويؤمن ببركاته، بينما مختار الرمادي سيئ الاعتقاد بالشيخ، والمتصوفة، وأهل الحال والطريق. لم يصدق أن الشيخ عدل عن انشغاله بأمور لا تتصل بواقع الناس، ولا أمور حياتهم. اكتفى — لأعوام طويلة — بالتأليف في الطهارة والنجاسة والتفنن في الأوراد والأذكار التي تفقد الإنسان وعيه. كان رأي مختار الرمادي أن القوة وسيلة طرد الفرنسيين، وليس رفع الأعلام والبيارق والدعوات وحلقات الذكر.
أيقن أهل الحي — ذات يوم — أنه لا أحد يقف في وجه المعلم شيحة، وأنه يستطيع أن يفعل كل شيء.
اكتفى من التعلم بسنوات الكتَّاب. تردد — في صباه — على حرافيش الخلاء والمناطق البعيدة. أخضعوه — بإرادته — لدروس في خوض المعارك، واستخدام العصا والمطواة والشومة والبلطة، وتفادي الضربات، وإجادة التصويب دون أن يقتل خصمه. أجاد ركوب الجواد بدون لجام ولا سرج. عرف الطريق إلى البوظ والخمارات وبيوت الليل. تحدى فتوات الأحياء والسراة والرياح والصواعق والأمطار والشمس الحارقة والخلاء والآفاق الغامضة. أغار على أحياء القاهرة الثمانية. خاض معارك مع الفتوات والحرافيش والزعر دون أن يستطيع أحدهم هزيمته، أو الوقوف أمام ضرباته. يتحول إلى عفريت من الجن، يتقافز، يطير، تتوالى ضرباته بما لا يقوى على رده أحد. أخضع الجميع لسطوته. لم يَعُد يقدر على مُنازلته، أو التصدي له إنس ولا جان، ولا يستطيع مخلوق أن يجاهر بعداوته له. حتى جنود الوالي العثماني ترصَّد لهم، ونالهم بأذاه، وإن لم يغادر بيته القريب من جامع طولون. تفاخر به أبناء طولون وقلعة الكبش وحارة الروم وسوق السلاح وعطفة نافع وحارة الشماشرجي.
جعل مختار الرمادي أقرب معاونيه، وأنصت إلى ملاحظاته ونصائحه. علمه فنون القتال، والصبر على الأذى، وحيل اصطياد الخصوم. وإجادة استخدام الشومة، والمطواة، والسكين، وضرب الروسية: فاجِئ خصمك قبل أن يفاجئك. إذا شككت في نيته، فلا تدعه يشغلك بالكلام. هو يرخي الحبل قبل أن يلفه حول عنقك. اقذف بحبلك دون تردد. اضرب، واضرب. لا تترك له فرصة التفكير ولا التدبير، ولا حتى التقاط الأنفاس. من يُهزم فإنه يُقتل، أو يلزم بيته.
حين أعلن المعلم السبيلي فتوة بركة الفيل تحديه — في أيام رقاد المعلم شيحة بالمرض — مضى إليه مختار الرمادي. اشتبكا في معركة بالجنازير والمطاوي، حتى سقط السبيلي غارقًا في دمه. وعاد الرمادي إلى طولون دون أن يصيبه خدش.
أزعجت المعلم شيحة فكرة أنه سيموت يومًا. يفلح فتوة في قتله، ينام فلا يصحو، يعاني الحشرجات التي تسبق طلوع الروح.
انضمام المعلم شيحة إلى الطريقة الرفاعية بدَّل حياته: مال إلى الدعة والاطمئنان والركون. تخلى عن كل ما يؤذي الناس، واقتصرت حياته ما بين البيت والمساجد والزوايا ومقامات أولياء الله الصالحين. عالمه المآذن والقباب والمقامات والأضرحة وحلقات الذكر والأروقة والخانات والتكايا والزوايا، وقراءة الأوراد والتعاويذ والصلوات. يحرص على زيارة المشهد الحسيني، ومقام رئيسة الديوان، وأضرحة الإمام الشافعي وعمر بن الفارض ومحمد الحنفي والشعراني، وسائر المزارات المباركة. يقرأ الفاتحة، ويلامس المقصورة، ينشغل بالمدارات والمقامات والأحوال، وينشد روح الله، ويطلب النصفة والمدد. صارح زوجته بأنه — لولا حاجتها إليه — كان يحقق أمنية تشغله بالذهاب إلى الحجاز، والمجاورة قرب الكعبة، فلا يعود. بلغ إشفاقه على المرأة حد تمنيه أن تموت قبله، فلا تحزن على موته.
صار — منذ دخل الفرنسيون القاهرة — يُمضي جزءًا من يومه في سوق السلاح، ويقضي الفترة، من صلاة العصر إلى صلاة العشاء، في جامع السيدة فاطمة النبوية، ويشارك في حضرة الرفاعية بالسيدة نفيسة، حتى مطلع الفجر، وإن ظل على عشقه للتحطيب، ورقص الخيل، وسماع عازف الربابة.
هل يطيل الله في عمره ليشهد خروج الفرنسيين؟