الباب التاسع
فصل
قالت زينب للانزعاج في عيني أبيها: فورة وتنتهي.
صار لها علاقاتها المتشابكة بضباط فرنساوية. رفضت تلميحات الجنود. لا تهمل انتماءها إلى عائلة من الأشراف، ولا تهبط من القائد العام إلى جندي بلا شأن.
شاهدها حميدة أبو قطة في بركة الأزبكية؛ حيث أرباب الملاهي والمغنيات والغوازي والخواطي والراقصين والراقصات والبغايا والحشاشين وشاربي الخمر والحواة والسحرة ولاعبي القمار والقرود والفسَّاق والعياق وأهل الأهواء وطوائف الرميلاتية والخلابيص.
أحدث الفرنسيون بغيط النوبي المجاور للأزبكية أبنية على هيئة مخصوصة، تتعالى في جنباتها أصوات الطبول والزمور والكمنجة والقانون والعود والرباب والصاجات والرق والدفوف. يلتقي فيها النساء والرجال للهو والخلاعة في أوقات مخصوصة، كل من يدخل يدفع مقابلًا، أو يكون حاملًا لتذكرة تبيح له الدخول.
أذهل مختار الرمادي أن بنت البكري تعطي جسدها للكفار، بينما المعلمة ريحانة صاحبة فرقة العوالم بناحية باب الخلق ترفض أن يرقص نساؤها أمام جنود الفرنسيين، حتى لا تصيبهن أعين الكفار بالنجاسة.
•••
طوح مختار الرمادي شومته في الهواء. تلقفها وهو يدور حول نفسه. هوى بها على جسد غير مرئي. دار في وقفته، ثم عاود الضرب.
هتف الناس باسم عمر مكرم. بدا المنقذ والأمل المرتجى.
وضع مختار الرمادي والذين معه أسلحتهم تحت يدي السيد عمر مكرم، يأمر باستخدامها على النحو الذي يريده، وفي المكان — أو الزمان — الذي يحدده.
قال الرمادي: اغتصب البكري منصب نقيب الأشراف، والأولى به منصب نقيب الخونة!
خرج السيد من عزلته الاختيارية. لزم بيته منذ أن أعاده نابليون من يافا إلى القاهرة. غضب من تخاذل المماليك. لم يَعُد أمامه إلا أن ينادي المصريين ليدافعوا عن أنفسهم.
سار المنادون في المدينة، يذيعون في الناس ما ينبغي لكل واحد أن يقوم به، وما يجب على الجميع أن يتبعوه.
لبى الناس نداء عمر مكرم. خرج كل من كان في القاهرة من الرجال. لم يبقَ في داخل المدينة إلا العجائز والنساء والأطفال. تنازل الجميع عن معظم ما يملكون لشراء السلاح والذخيرة والخيام.
مضى عمر مكرم وشهبندر التجار أحمد المحروقي، وطائفة من البكوات، إلى التلال خارج باب النصر. انضم إليهم أتراك خان الخليلي والمغاربة المقيمون في مصر والحجازيون. تبعهم كثير من ذوي المهن والحرف والصناعات، ومن العامة والحرافيش، يحملون العصي والنبابيت والبنادق والسيوف والخناجر. يخترقون الدروب والعطوف، وأصواتهم تعلو بكلمات مغنَّاة من اختراعهم. قدِمت جماعات من الدرب الأحمر والتبانة وسوق السلاح وباب الوزير، وطوائف من العدوية والأسيوطية.
عمل التجار بنصيحة السيد عمر مكرم. جمعوا الأموال، ودبروا إنفاقها. تعهد المحروقي بتغطية نفقات حفر الخنادق، وإقامة المتاريس والاستحكامات، وغياب الرجال عن أسرهم، وإمدادهم بالطعام والشراب. تأثرت صلته بالفرنسيين — للمرة الأولى — منذ دخولهم مصر. ظلت له عندهم حظوة شبيهة بما كان له أيام المماليك. اختاره القائد العام عن التجار في الديوانَين العمومي والخصوصي. رافق نابليون في رحلته إلى السويس. تبدَّلت حساباته، وتصرفاته بالتالي، بتصوره — عند قيام الثورة — أن دولة الفرنسيين زالت. لم يقتصر إسهامه على التأييد المادي والمعنوي، لكنه شارك بنفسه في الإعداد والتنظيم والمواجهة.
بدأت الأحداث في حي بولاق. جمع أهل الطوائف، كل طائفة من أبنائها، ما يغطي تكاليف الخروج على الفرنسيين. نودي بالنفير العام. خرج الناس إلى المتاريس. وأغلق التجار دكاكينهم، وأغلقوا الأسواق.
خرج الجميع إلى بر بولاق. أولاد البلد وأولاد العرب ومساتير الناس والزعر والحرافيش والفلاحين والأعراب.
أجاد أهل القاهرة تنظيم أنفسهم. تسلحوا بكل ما بلغته أيديهم من البنادق والفئوس والخناجر والعصي والشوم والسكاكين. أنشئُوا معملًا للبارود في بيت قائد أغا بالخرنفش. صنعوا المدافع والذخائر. لجئوا إلى ما خلَّفه الفرنسيون من قطع المدفعية في ضواحي القاهرة. أنشئوا مصنعًا حربيًّا في بيت القاضي، وفي قاعة المحكمة، وفي الخان المجاور. صنعوا قنابل من حديد الجوامع والمطارق وآلات الحرفيين. أقاموا مصنعًا للبارود في بيت قائد أغا. توزعوا على أبواب البيوت، وفي الخلاء، وعلى نواصي الشوارع والميادين. أعدوا المتاريس والخنادق والحفر العميقة، وقفوا وراءها يحملون الأسلحة. عملت محال صهر المعادن في تشكيل أسلحة من الحديد والنحاس، بلط وسيوف وخناجر ومدى. وقف الرجال على متاريس أقاموها عند تقاطعات الطرق، وأخذوا على أنفسهم السهر في الدروب والعطوف لدرء أية محاولة للهجوم.
أشرف السيد عمر مكرم بنفسه على كل شيء. تنقل بين الرجال وراء المتاريس، وفي النواصي، وفوق الأسطح. صار جميع أهل مصر، والعساكر كلها، واقفة بأطراف البلد، عند الأبواب والمتاريس والأسوار. حملت النساء الطعام إلى الرجال وراء المصدات والمتاريس، وفي الخلاء.
تحزم الحاج مصطفى البشتيلي وزملاؤه من التجار. هيجوا العامة، وهيئوا عصيهم وأسلحتهم، وتقدموا الجميع إلى نطاق الفرنسيين في ساحل البحر. قتلوا من أدركوه منهم، واستولوا على جميع ما فيه من خيام ومتاع وغيرها. عادوا إلى القاهرة، ففتحوا المخازن التي أودع بها الفرنسيون أغراضهم. أخذوا كل ما استطاعوا الوصول إليه، ثم عملوا كرانك حول البلد، ومتاريس، وتصايحوا بدعوة الجهاد.
•••
في الثامن من إبريل عام ١٨٠٠م شن الفرنسيون هجومًا عنيفًا على أجزاء من بولاق. أحرق العديد من الدور. سقط المئات جرحى وقتلى، محتسَبين عند الله شهداء. تعالت الجثث برائحة تؤذي النفوس.
ما أزعج الفرنسيين أنهم يعتبرون بولاق مساوية للقاهرة تمامًا. هي — في تقديرهم — أشد أهمية من الجيزة. سكانها يزيدون عن أربعة وعشرين ألفًا، وبها أربعة وعشرون مسجدًا، وثلاثون وكالة أكثر اتساعًا وأبهة مما في القاهرة، وميناؤها يستقبل سفنًا محملة ببضائع الدلتا وواردات أوروبا. كان الفرنسيون قد أضافوا إلى أهميتها بشق طريق طويل يربطها بالقاهرة عند قنطرة المغاربة.
أُخلي حي بولاق من سكانه. تصور الفرنسيون ميلهم إلى الاستسلام. ما كادوا يمضون خطوات في داخل الحي، حتى عاجلتهم طلقات المدفعية. ألقيت النساء — من فوق أسطح الدور — بقطع الحجارة وقوالب الطوب والماء المغلي.
استمات المدافعون المتحصنون داخل البيوت، وخلف المتاريس. رفضوا أن يلقوا أسلحتهم. قالوا: إنه ما دامت الحرب مستمرة في القاهرة فإنهم لا يمكن أن يستسلموا.
أعلن مراد بك نفسه سلطانًا فرنسيًّا. قدم للفرنسيين ما كان ينقصهم من المؤن والذخائر. سلمهم من لجأ إليه من عساكر العثمانيين. أرسل ما احتاجوا إليه من المراكب المحملة بالأحطاب والمواد الملتهبة لإشعال الحرائق التي تقضي على الثورة. دارت المعارك من حارة إلى حارة، ومن بيت إلى بيت. لجأ جنود الفرنسيين إلى أبشع ألوان القتل والتدمير والنهب. ارتكبوا ما لا يمكن تصوره من الفظائع. لم يُبعِد الثوار عن مواقعهم إلا إضرام النار في كل شيء. احترقت بولاق بالكامل. لم يَعُد يوجد فيها إلا الدمار.
•••
امتدت الأحداث إلى كل أخطاط القاهرة وشوارعها وحواريها ودروبها وعطوفها وأزقتها. من باب الفتوح وباب النصر والعطوف إلى الحسينية وباب الشعرية. من بيت القاضي إلى الخرنفش. من بركة الرطل إلى درب الجماميز. من بركة الفيل إلى طولون. صعدت إلى المحجر والقلعة، وإلى زين العابدين. تناثرت أسماء علي الإسكافي وعلي السايس ومختار الرمادي وحسن الجداوي وإسماعيل القاضي ومحمد الجوهري وتاجر الكتان محمد أغا الطويل.
عاد المشايخ الشرقاوي والمهدي والفيومي والعمروسي من مفاوضات مع الفرنسيين في الأركان العامة. طالبوا بإيقاف الحرب، وأن تعود الأحوال إلى ما كانت عليه قبل الثورة، فلا جزاء ولا عقاب. كرر الشيخ الشرقاوي نصيحته بأن يتوقف الناس عما بدءُوه، ويظهروا الخضوع لقوات الفرنسيين. أدرك الناس أن الشيخ ألِف الترف والرفاهية، وأنه يستريح إلى الدعة أكثر من التهيؤ لرفض وجود الفرنسيين. رفضوا إيقاف المعارك. إذا أراد الفرنسيون الرحيل، فليرحلوا. وإذا أرادوا تنظيم إقامتهم، فالمعارك لا بد أن تستمر. رمى المتمردون عمائم المشايخ، وأسمعوهم قبيح الكلام. عابوا عليهم أنهم واصلوا الفرنسيين، وانضموا إليهم، وسايروهم، ولاطفوهم في أغراضهم. قالوا: هؤلاء المشايخ ارتدوا وعملوا فرنسيين، ومرادهم خذلان المسلمين، وقد أخذوا دراهم من الفرنسيين. ضرب المتردون المشايخ، ورموا عمائمهم في الأرض، وسبُّوهم بشتائم قاسية.
عاد المشايخ إلى بيوتهم حاسري الرءوس.
جمع الحرافيش ما أطلق على المدينة من القنابل والقذائف، ولم ينفجر. حاولوا إعادة رميها على الفرنسيين. ترك جنود الفرنسيين ثلاثة مدافع في ساحة المعركة بالمطرية. أتى بها الأوباش من موضعها، وأعادوا تجهيزها. أطلق نصوح باشا نيرانها على قصر الألفي، حيث يقيم القائد العام. وضع الزعر مدفعًا في حديقة بيت البكري بالأزبكية. قصفوا به مقر قيادة الفرنسيين في بيت الألفي.
تحول الفرنسيون إلى القاهرة. جرى القصف والتدمير، وإشعال الحرائق والتقتيل. رفض أهل القاهرة أن يتركوا مدينتهم. أقسموا بالله ورسوله أنهم يؤثرون أن يُدفنوا تحت الرماد والأنقاض على أن يرَوا المدينة وقد سقطت من جديد في أيدي الكفار. رفض الجنود الأتراك كذلك إطاعة الأوامر بالجلاء عن المدينة.
توالى إطلاق القنابل والرصاص من أعلى القلعة، ومن الشوارع المحيطة بميدان الرميلة، ومن أعلى الدور. امتد الخراب والتدمير والحرائق والفوضى والسلب بما لم يحدث من قبل. هدموا مسجد النقيب، وضربوا ما حوله. أزالوا البنايات من أحياء بأكملها. هدموا كل القصور المطلة على الأزبكية. تحول الحي إلى كثبان من الخرائب والرمال والأتربة. تساقط البمب في الصنادقية وبين القصرين والسكرية وقصر الشوق والغورية. أكد أهل المشهد الحسيني أن بركات ابن بنت الرسول منعت القذيفة التي سقطت أمام بيت القاضي من الانفجار.
دخل الفرنسيون القاهرة بقوة المدافع. نهبوا بيت السيد عمر مكرم، ونهبوا بيوت الأمراء الذين ناصروا أهل القاهرة في الدفاع عن مدينتهم. اعتقلوا الحاج مصطفى البشتيلي. وجدوا البارود في وكالته مخبئًا في القدور والزلع وتحت البلاطات.
تحصن الزعر في بيت أحمد أغا شويكار. يسميه الفرنسيون «بيت رينيه» على اسم جنرال فرنسي من قادة الفرنسيين.
سد الفرنسيون مداخل القاهرة تمامًا. صار من الصعب أن ينفذ أحد، سواء كان من الداخلين إليها، أو الخارجين منها.
عانى المصريون أيامًا قاسية. فرضت الضرائب الباهظة، وكثرت المصادرات، ومات الكثير من التجار والعلماء والعامة في السجون، وتحت قسوة التعذيب.
هجم الجنود الفرنسيون بالليل كأنهم خفافيش الكهوف والأماكن المظلمة. لكثرة عمليات اقتحامهم بيوت المصريين، سُموا عفاريت الليل. العفاريت تفاجئ الناس ليلًا، مثلما يفاجئهم جنود الفرنسيين في الوقت نفسه. هجر الكثيرون دورهم وأماكن رزقهم، وشهدت أطراف القاهرة مظاهر هجرة غير مسبوقة.
لم يَعُد بوسع الأهالي مقاومة العنف الفرنسي، ولا تحمُّل الحصار. دامت الثورة أربعة وثلاثين يومًا. أحدثت من التدمير والخراب ما لا يوصف، وأزالت من الوجود ما يصعب حصره.
قُتل في المعارك ما بين ثمانمائة وثلاثة آلاف من المصريين، وحوالي ألف وسبعمائة جريح. بالإضافة إلى ما بين سبعمائة وألفين من الأتراك والمماليك، وسقط الكثير من البيوت عند المفارق من جامع عثمان كتخدا إلى رصيف الخشاب، ومن خطة الرويعي إلى حارة النصارى. صارت كلها تلالًا وخرائب كأنها لم تكن مغنى صبابات، ولا مواطن أنس ونزاهات.
فصل
أمر القائد العام كليبر بتزيين القاهرة ثلاثة أيام. دخل القاهرة في ٢٧ أبريل. تقدَّم الموكب عساكر على الجياد، يأمرون المصريين بالوقوف عند اقترابه، يهينون بالضرب والشتم من يتباطأ في ذلك.
صدرت الأوامر بقتل كل من يحمل السلاح ضد الفرنسيين، لا مساءلة حتى لو قُتل كل الأهالي. البشتيلي هو الوحيد الذي استثناه كليبر من العفو العام. اعتبره المحرض الرئيسي على التمرد. عثر لديه على رسالة يقول فيها لعثمان كتخدا: الكلب دعانا للصلح، فأبينا. أمر القائد العام أعوان البشتيلي — إذلالًا له ولهم — أن يقتلوه بأنفسهم. طافوا به المدينة، ثم انهالوا عليه بالنبابيت، حتى مات.
فرض القائد العام على أهل طنطا غرامة خمسين ألف ريال، وخمسين ألفًا أخرى على علماء المدينة، واقتيد اثنان من العلماء إلى قلعة الجبل، فسُجنا فيها. وفرض الفرنسيون على الشيخ سليمان الفيومي غرامة خمسين ألف ريال، واعتقلوه حتى دفعها. هرب شهبندر التجار أحمد المحروقي إلى الشام، فلا يلحقه أذى الفرنسيين. عرفوا بمشاركته في الثورة، فأزمعوا عقابه.
دُهي الناس بهذه النزلة التي لم يصابوا بمثلها، ولا ما يقاربها. ومضى عيد الأضحى دون أن يلتفت إليه أحد، ولا يشعر به. نزل البلاء والذل بالجميع بما لا يوصف. لم يجد الدائن من يدينه، ولا من يشتري منه متاع بيته. ضاق الناس، وتمنوا الموت.
فصل
زار العلماء كليبر. ارتدوا أفخر ما لديهم من الثياب. تصوروا أنه سيشكرهم على الوساطة بين أهل مصر والفرنسيين.
فاجأهم القائد العام بالقول من خلال ملامح متجهمة: كنت أظنكم أعقل الناس لأنكم المثل والقدوة … لكن السرور الذي استقبلتم به العثمانيين جعل نفاقكم واضحًا.
غالب الشيخ العمروسي ارتباكه: قلتم لنا إنكم أصدقاء السلطان، وهو — كما تعرفون — سلطاننا القديم، وسلطان المسلمين.
قال كليبر: لماذا لم تمنعوا الرعية عن محاربتهم لنا؟
قال الشيخ الفيومي: لقد تقوَّوا علينا بغيرنا. وحين أشرنا عليهم بالصلح وترك القتال، لجئوا إلى حربنا وبهدلتنا!
قال كليبر: إذا كان الأمر كما ذكرتم فلا تستطيعون إسكات الفتنة … ما فائدة رئاستكم إذَن؟
ثم في نبرة مفعمة بالغضب: أنتم تستحقون المعاملة التي عومل بها أهل بولاق.
وغالب غضبه ببسمة سخرية: نحن لن نقتلكم، وإنما سنأخذ منكم الأموال.
فرض غرامة عشرة ملايين من الفرنكات على مائتي شخص، نصفها نقدًا، ونصفها عينًا. يستثنى منها أهل القاهرة لأنهم لم يعودوا يملكون شيئًا، ويُستثنى منها الشيخ البكري لما تعرض له من إيذاء المتمردين، والشيخ المهدي الذي أُحرق بيته.
شكا الشيخ الشرقاوي ما لحقه من أذى على أيدي المصريين، بسبب ما دعا إليه من الخنوع والتوقف عن المناوءة. عوضه الفرنسيون عما ادعى أنه نُهب منه. وعاد الرجل إلى اتفاقاته القديمة معهم.
لم يكن القائد العام ينوي قتل المشايخ. لعله وجد في قتلهم ما يُحدث ارتباكات، ويضيف أعباءً جديدة. وجد في فرض الغرامة ما يدفع به رواتب الجنود المتأخرة، ويصلح مالية الجيش، ويعصر مصر كما تُعصر الليمونة.
اعتقل الفرنسيون الشيخ محمد الأمير بجامع سارية. ادَّعوا أن ابنه كان أحد المحرضين على الثورة.
سأله الضابط الفرنسي بليار: أين ولدك؟
قال الشيخ: مقيم في بيتي بفوة.
– غير صحيح. إنه عند العثمانيين الذين يتهيئون لدخول البلاد.
– إن شئتم أرسلت إليه بالحضور.
– سأمهلك ثمانية أيام، مسافة الذهاب إلى فوة، والعودة منها. إذا لم يحضر الولد فستدفع الثمن!
انتهت الأيام الثمانية، دون أن يحضر ابن الشيخ. اعتقله الفرنسيون، وحبسوه في القلعة.
اتهم القائد العام شيخ السادات بأنه هو الذي كان وراء ثورتَي القاهرة الأولى، والثانية، وأنه دفع أموالًا للمتمردين في حي قناطر السباع … فرض على الشيخ غرامة باهظة. وكان يُضرب مرتين في اليوم الواحد لإجباره على دفع الضريبة الباهظة. أهمل كليبر ما سبق لنابليون من العفو عن الشيخ السادات بعد اتهامه بزعامة الثورة الأولى: أعرف أنه يجب قطع رأسه، لكن هذا القتل سيأتي بمساوئ أكثر مما يأتي بالفوائد. الرجل اسمه معروف في الشرق كله، وقتله يعني جعله شهيدًا.
أعاد كليبر القول: هذا الرجل هو زعيم التمرد.
قال نابليون: عليك إذَن أن تقتله رميًا بالرصاص!
أردف في لهجة مؤنبة: الأوفق أن يكون للمصريين زعماء من نوع هذا الرجل، لا يحسنون ركوب الجياد، ولا استخدام السيف، بدلًا من زعماء مثل مراد بك.
ثم وهو يهز رأسه: قتل هذا العجوز لن يفيد شيئًا، وربما حقق نتائج سلبية بأكثر مما نتصور!
عرف الشيخ بدر المقدسي من أعوانه أن ما يواجهه شيخ السادات هو نتيجة وشاية من مراد بك. ظل في نفسه توبيخ شيخ السادات له، عندما قدمت أنباء دخول الفرنسيين الإسكندرية، بأن ما حدث هو نتيجة أفعاله وتعديه هو وأمراؤه على متاجر المصريين، وأخذ بضائعهم. أغرى القائد العام بشيخ السادات. وكان كليبر ينقم عليه منذ الأيام الأولى لقدوم الفرنسيين.
اكتفى مراد بك بمتابعة الأحداث. لم يحاول المشاركة في الثورة على أي نحو. فضَّل أن ينتظر حتى تبين الكفة الراجحة، فيضع ثقله فيها.
بعث مراد إلى الفرنسيين يتودد إليهم، ويلتمس مصالحتهم، على أن يتولى أمر الصعيد، يطلقون فيه يده هو وجنده ومماليكه. أرهقته مناوشته للقوات الفرنسية في الصعيد. رحل بونابرت، وحل كليبر بدلًا منه، فلماذا لا يعرض المهادنة والتعاون؟
وقع كليبر مع مراد اتفاقية سلام وتحالف. يحكم مراد — بمقتضاها — الصعيد الأقصى جنوبي بلدة بلصفورة. يُمنح خراج إقليم جرجا. يؤدي «الميري» إلى السلطة الفرنسية، بدلًا من حكومة السلطان. يموِّن الحامية الفرنسية في ميناء القصير، يساعدها في حالة الاعتداء عليها.
أهمل مراد دعوة الجهاد، واستبدل بها المضي إلى الصعيد، يتصور فيه الاطمئنان إلى صداقة الفرنسيين. بلغت الأهالي نصيحة مراد بك للعثمانية والمماليك بمصالحة الفرنسيين، هاجت، ووضعت أيديها على خيول الأمراء والمماليك العثمانية. حبستها، وأهانت هؤلاء الأمراء والأغَوات، وأهانت من مال إلى الصلح من مشايخ الديوان.
فصل
نزل شيخ السادات، وركب إلى داره. لم يَعُد في غياب الأمن ما يساوي كل ما عُني به: الرخام الملون، والأعمدة الفاخرة. حولها مساكن ومخادع وقصر لجلوسه، ومكان لإقامة الحريم، ودار بها رواش ومساقٍ وبستان عامر بأنواع الشجر.
ذهب معه عشرة من العسكر، وجلسوا على باب داره. لما مضت حصة من الليل، حضر إليه عشرة من العسكر أيضًا. أركبوه، وطلعوا به إلى القلعة، وحبسوه في مكان. أرسل إلى عثمان بك وتداخل عليه، فشفع فيه.
قال له القائد العام: أما القتل فلا نقتله لشفاعتك، وأما المال فلا بد من دفعه، ولا بد من حبسه وعقوبته حتى يدفعه.
قال شيخ السادات: لم يحدث قط أن والدي ولا من ربوني قد ضربوني. على العكس، إن الكبراء والعلماء كرَّموني واحترموني دائمًا، وأبدى الأمراء الاحترام نفسه!
قبض الفرنسيون على فرَّاش الشيخ السادات ومقدمه، وحبسوهما. ثم أنزلوه إلى بيت قائمقام، فظل فيه يومين. ثم صعد به الجند إلى القلعة ثانية، وحبسوه في حاصل. ينام على التراب، ويتوسد حجرًا، وأسرفوا في إهانته، ووالوا عليه الضرب. لم يردعهم مقامه المستمد من نسبه ومولده، ولا منزلته بين مواطنيه.
ظل الشيخ في سجنه يومين آخرين، ثم طلب زين الفقار كتخدا. طلع إليه وهو وبرطملين.
قال لهما الشيخ: أنزلوني إلى داري حتى أسعى وأبيع متاعي.
استأذنا له، فنزل إلى داره. أحضر ما وجده من النقود، تسعة آلاف ريال، منها ستة آلاف فرانسة. وقوَّم الفرنسيون ما وجدوه من الذهب والفضيات والثياب الثمينة وغيرها بأثمان بخسة، مجموعها خمسة عشر ألف ريال فرانسة. بلغ مجموع النقدية والمقومات واحدًا وعشرين ألف ريال، والعسكر يحيطون به، حتى لا يصعد إلى أهله، وإن كان قد وزع أهل بيته وابنه إلى مكان آخر، ولاذ أكثر أتباعه بأماكن مجهولة.
واصل الجنود تفتيش الدار، والبحث في أرضها عن الخبايا. حين لما لم يجدوا شيئًا، اقتادوه ماشيًا إلى بيت قائمقام. وواصلوا ضربه خمس عشرة عصا في الصباح، ومثلها في المساء. وأحضروا تابعه محمد السندوبي ليدله على مكان زوجة الشيخ وابنه. أكرهوه على الإقرار حتى اعترف. أحضروا المرأة والولد. أودعوا الولد عند أغَوات الإنكشارية، بينما حبسوا الزوجة معه.
كانوا يضربونه أمام عينَيها، وهي تبكي، وتولول. وكان شاغلهم هو النكاية والتشفي.
تشفع الشيوخ الشرقاوي والفيومي والمهدي ومحمد الأمير وزين الفقار كتخدا. استعاد القائد العام قول نابليون: نحن إذا كسبنا تأييد كبار شيوخ القاهرة، كسبنا الرأي العام في مصر كلها. ليس بين زعماء مصر كلهم من هو أقل خطرًا علينا من الشيوخ، فهم عاجزون عن فعل شيء، ويوحون بالتعصب دون أن يكونوا هم أنفسهم متعصبين.
نقل الجنود زوجة الشيخ السادات إلى بيت الفيومي، وظل الشيخ في سجنه، ووضعوا معه مقدمه وفرَّاشه.
في الخامس من محرم ١٢١٥ﻫ أصعدوا الشيخ السادات إلى القلعة، ومنعوه من الاجتماع بالناس. ظل في اعتقاله، لم يفرجوا عنه إلا في قيادة الجنرال مينو. وكان قد سدد الغرامة المفروضة عليه. واستولى الفرنسيون على حصصه وإقطاعه، وقطعوا مرتباته، وكذلك جهات حريمه، والحصص الموقوفة على زاوية أسلافه، وشرطوا عليه ألا يترك قصره، ولا يجتمع بالناس، وألا يركب دون إذنٍ من القائد العام، ويقتصد في أموره ومعاشه وتقليل أتباعه.