تقديم
آثرت أن أُسمي هذا الكتاب باسم أشهر مقالة كتبتها في باب المفكِّرة التي أكتبها في الأهرام «أهمية أن نتثقف يا ناس» تلك التي كُتب لها أن يرد عليها وزير الثقافة ورئيس المجلس الأعلى للثقافة ذلك الرد الذي هبَّت الحركة الثقافية كلها وحتى القرَّاء العاديون يرفضونه ويشجبونه ويجعلون من مقالة «أهمية أن نتثقف يا ناس» وما دار بشأنها وحولها ربما أشهر مقالة واحدة في تاريخ الكتابة العربية. وهو في الواقع شيء لم أكن أبدًا أحلم به، ولكني أصلًا لم أكن أريده؛ فالمقالة نفسها قد تستحق أو لا تستحق هذه الضجة الكبرى، ولكنها في رأيي كانت فاتحة كتاب أودُّ أن — على مصراعيه — أفتحه؛ ذلك أني أعتقد أن الوجود المصري الحالي يمر بأعنف أزمة وجود من غزو سليم الأول لمصر في العصور القديمة، ذلك الغزو الذي كان بدايةً لعشرات ومئات السنين المتلاحقة من إضعاف إثر إضعاف للوجود المصري حتى تحولت مصر من قاهرة للصليبيين والتتار إلى مجرد ضيعة تركية شعبها امتُصَّ إلى آخر قطرة من دمه وقمحه وصناعته وتجارته، ومشايخها (مثقفو ذلك العصر وقياداته الفكرية) قد تحولوا إلى العقم الفكري، وبدأت تنتشر بين الشعب الخزعبلات وتؤدي إلى ردة فكرية إسلامية أبعدته تمامًا عن روح الإسلام إلى التمسك بشكلياته.
ومع اختلاف الزمن، واختلاف الغزو، فإن الحقبة السبعينية من هذا القرن قد أسقطتنا — في رأيي — إلى هوة من الصعب الآن أن نتخيَّل كُنه أبعادها. وإذا كان البعض — وهم كثيرون — لم يدركوا مدى الضربة التي حاقت بنا، وأبعاد التدهور الذي وصلنا إليه فما ذلك إلا لأن هناك مخدرات فكرية وثقافية — أو بالأصح تُشاع في الجو باسم الفكر والثقافة والسينما والتليفزيون والمسرح — تُغيِّب منا الأبصار وتكاد تُعمي العيون. نفس المخدرات التي أصبحت تشيع باسم الدين، والدين منها بريء، ولا يختلف الداعية للخزعبلات الدينية عن ممثل قطاع المسرح الخاص حين يخرج على النص، ويُحيل المسرح، ذلك المكان المقدس المقام لتقال فيه كلمة الحق، إلى مكان كالكباريه يخلخل القِيم ويُشكك في الوجود، بل ويفكك عُرى الشعب، بحيث يتحول الإنسان المصري إلى جزءٍ لا كُلَّ له، إلى فُتات مجتمع، إلى كافر بحماية أهله ووطنه له، بحيث تصبح مسألة ابتلاعه في تطلُّعات طبقية، ومغريات استهلاكية مسألة وقت محدود، تنتهي فيها مقاومته، ويضرب صفحًا عن قيمه، ويستسلم، ويبيع نفسه، سواء داخل مصر أو خارجها.
ومن العجيب أن هذا كله يحدث بينما الصحف الرسمية وأجهزة الإعلام تُردد كلامًا أجوف حول الانتماء، ومصريتنا التي لا بدَّ أن يحميها الله، وكأنهم ليسوا هم الذين يُفتِّتون هذا الانتماء، ويطمسون معالم المصرية الحقيقية لتغيب عن الشباب ويفقد الاتجاه والقدوة، ويئوب وعيه إلى ظلام. حتى إذا حاول الشاب أن يفلت بجلده ويولي وجهه الناحية الأخرى، ناحية الإسلام الحق وعبادة الرحمن، لم يجد إلا أناسًا آلوا على أنفسهم أن يمسخوا الإسلام ويحوِّلوه إلى «آداب دخول المرحاض» بدلًا من الحديث عن رسالة الإسلام الكبرى في إنهاض عزيمة المسلمين ودَحْر أعدائهم والجهاد في سبيل حقوق أمم الإسلام وشعوبه.
إذن هناك مؤامرة، متَّفق عليها أم غير متفق، ليس هذا هو المهم. المهم أن شيئًا خطيرًا جدًّا يحدث للعقل المصري والعربي بفعل فاعل، وتلك المؤامرة على العقل المصري والعربي ضاربة الأطناب في كل بلد عربي على حدة، آخذة هذا الشكل أو ذاك، بل آخذة أحيانًا ثوب ما يُسمى بحكم الشريعة نفسه.
لهذا فنحن حين نتحدث هنا عن الثقافة وأهميتها لا نتحدث كما يعتقد البعض عن الثقافة الرفيعة وعن المسرح الرفيع والكتاب الرفيع والتليفزيون والسينما الرفيعة، وإنما في حقيقة الأمر وواقعه نتحدث عن الوعي المثقف المزوَّد بالقدرة على التمييز والإدراك، نتحدث عن إنقاذ الوعي المصري والعربي، عن إزاحة الضباب عن عيون القراء والكُتَّاب والصحفيين، نتحدث عن التصدي للمُغيِّبات المكتوبة والمُقالة والمصوَّرة، نتحدث ونريد أن نقاوم تلك الغزوة الرامية لشلِّ عقولنا وإبادة حضارتنا، وتشجيع التسيُّب في سلوكنا، وإشاعة الفوضى في وجودنا، في بيوتنا، في شوارعنا، في تجمعاتنا، في جيوشنا، في مصانعنا، في ريفنا وحضرنا.
فالاستعمار هذه المرة لم يأتِ بجيوش ولا بأساطيل، ولم يحتل بلادنا بأجساد، وإنما مد أدواته وألسنته وكُتبه ودُعاته إلى مجتمعاتنا حتى أصبح يتحكم فيها بما يمكن أن نُسميه «الريموت كونترول» أو التحكم عن بعد، وإعاثة الفساد عن بعد، معتمدًا على طابور خامس من أهل البلاد، من سماسرته، ودُعاته، والمستفيدين من جهل شعبنا وجهالته، وعدم إدراكه لما يُراد به، ولما يتعرض له.
وأعتقد أن مهمة كل كاتب مخلص، حتى لو كان يدَّعي أنه لا يعمل بالسياسة أو يهتم بها أن يتصدَّى لهذا الغزو، ولذلك الوضع، فإنها لجريمة كبرى أن يترك كاتب شيئًا كهذا ويقول سأعكف على قلمي أكتب به رواية أو مسرحية، فالاحتياج أسرع من مفعول أية رواية أو مسرحية أو أُغنية أو حتى قصيدة شعر. إنها نار تُحرقنا، وتجتاح وجودنا، وفي حاجة لأن نهبَّ جميعًا كُتابًا وقُراءً لندفع ذلك الحريق، لننقذ أنفسنا وأولادنا وأهلنا، ونفعل هذا الآن وفورًا، وأبدًا ليس غدًا. ولهذا فإن ما سوف تقرءونه في تلك الصفحات إنما هي مقولات كُتبت في حينها ونبَّهت إلى الخطر حين لم يكن ظاهرًا، وأوغلت في التنبيه حين ظهر، كُلي أمل من القارئ حين يقرأ، أن يفكر بدوره ماذا يستطيع أن يفعل ويساهم به في إطفاء الحريق أو الذود عن النفس والعِرض فالكارثة أن المؤامرة تتم في جو كامل من التجهيل والتدهور الثقافي والفكري.
وربما لهذا كانت غضبة الوزير على مقالة «أهمية أن نتثقف يا ناس» فلو كان وزير ثقافة حقًّا أو مخلصًا لشعبه وتثقيفه لرحَّب تمامًا بضرورة أن نتثقف مهما كان الداعي لذلك. ولكنه، هو الوزير، لا بدَّ أن يكون جزءًا من المؤامرة، سواء أدرك أم لم يدرك، ولهذا سبَّ الكاتب وطعنه في أعز ما يمتلكه، مصريته، وولائه لشعبه ومصريته، وتحمله ما لا طاقة لبشر على تحمله من أجل الذود عن هذا الشعب وقيمه وحضارته وسلوكه وثقافته.
•••
هذه إذن مواضيع متصلة وإن كانت في نفس الوقت منفصلة لها شبه الاستقلال الذي يجعل منها وحدات قائمة بذاتها، في نفس الوقت الذي تضع فيه، كلَبِنات الحجر، بناءً للرؤيا الكاملة لما أردت قوله، وإذا كنت قد آثرت أن أنشرها كما هي فإنما ذلك راجع إلى أن كل موضوع على حدة يحمل الخصائص الذاتية والنفسية للظرف الذي كُتب فيه، فالرؤيا ممتدة عبر السنوات الماضية، وربما ستظل ممتدة إلى سنوات قادمات أُخر.
إني أعتبر هذه الرؤيا واحدة من أهم مكونات حياتي ككاتب، وإني لأرجو أن يجد القارئ فيها لقاءً مجزيًا عن الوقت الذي سوف يُنفقه في قراءتها.
القاهرة، سبتمبر ۱۹۸٤م