أسئلة حائرة
سؤال: إننا نريد الحقيقة.
كيف نحصل على الحقيقة؟ هل من الحكومة؟ أم من المعارضة؟ أم من إذاعات العالم؟ أم نبحث عنها نحن أنفسنا؟
أعتقد أن التساؤل الأخير في سؤالك، هو عين الحقيقة والصواب؛ فالوصول إلى الحقيقة ليس بالأمر السهل. وكل هذه الجهات التي ذكرتها — وبما فيها ما قد تقرؤه لي أو لغيري — هي في الواقع ما يسمونه حقائق ذاتية أي رؤية للحقيقة من منظور إنسان أو حزب أو دولة؛ ولهذا قبل أن تسمع لا بد أن تعرف من القائل، وما هي مصلحته الذاتية في قول ما يقول، وما هو تاريخه في القول والفعل، ومسلمًا بهذه التساؤلات ومجيبًا عليها بينك وبين نفسك، استمع للجميع واقرأ — على هذا الضوء — للجميع ثم اجلس، وحدك، وضع كل ما سمعت وقرأت أمامك، ثم «كوِّن» لنفسك رأيك الخاص الذي قد يتفق وقد لا يتفق مع أي من الآراء الأخرى وتمسَّك بهذا الرأي تمامًا إلى أن تبدأ تتجمع لديك شواهد كثيرة تجبرك على البداية في إعادة النظر، وبالطريقة التي ذكرتها آنفًا أعد النظر.
وأخيرًا أقول لك ليس أصعب من تكوين رأي خاص وإيمان خاص ولذلك يستسهل البعض كثيرًا أن يضيعوا كالقطيع، وينضم لهذا الرأي الجاهز أو ذاك، وتلك هي الكارثة التي أُنشئت الجامعات لدرئها؛ فليست الجامعات وسيلة للتعليم فقط ولكنها بالدرجة الأولى وسيلة لتعليم طالبها، وحتى أستاذها، كيف يَكون ويُكوِّن رأيًا وشخصية ولا أقول مدرسة فكرية؛ فهذا طموح أكبر من مرحلتنا بكثير.
- (١)
هل تتصور سيادتكم أننا في طريقنا لصحوة عربية بقيادة مصر العظيمة؟ وإلى أي مدًى يمكن تطورها وسيرها إلى الأمام؟
- (٢)
تعتبر الحركة الوطنية المصرية أغنى من كل الحركات الوطنية والديمقراطية في منطقتنا فهل تستطيع مساعدة مبارك بنفس القدر الذي ساعدتَ فيه عبد الناصر على صنع التاريخ العظيم بمصر والوطن العربي؟
- (٣)
قادة الفكر والحركة الوطنية يمتلكون حنكة وواقعية كبيرة لكن هناك بعض الهجوم على مبارك أو نظامه، ألا يُشكل هذا فرصة لخلق الوقيعة بين مبارك والحركة الوطنية والعربية عمومًا؟
سؤال ملحق آخر: الرجا تقييم الحقبة الناصرية والساداتية بإيجابياتها وسلبياتها، والرجا تقييم هذه الفترة القصيرة من حكم حسني مبارك مع رجاء إعطاء تصوركم الخاص عن أنسب الوسائل والطرق لوصول مصر للطريق المستقيم الذي يحقق آمال الشعب.
ملحق أخير: لماذا لا يُشتم الرئيس عندنا إلا بعد موته؟ أليس هذا جُبنًا؟ ولماذا لا يُمدح الرئيس عندنا إلا في حياته؟ أليس هذا أكثر جبنًا؟!
وأبدأ الإجابة — أو الشروع فيها على الأقل — بالإجابة على السؤال الأخير. نعم يا أخي السائل. إنه جبن ما في ذلك شك. ولكنه جبن أعتقد أن الرئيس الحاكم هو المسئول عنه؛ فلو كان قد سمح للناس أن ينقدوه حيًّا لربما استقام حيًّا ومنع الذم فيه ميتًا. وإذا كان سيدنا عمر بن الخطاب قد استن للحكم الإسلامي العظيم سنة: من رأى منكم فيَّ اعوجاجًا فليقوِّمه. فهذا هو السبب الأول في سيرة عمر العَطِرة بعد استشهاده فلم يجد نقَّاده وأعداؤه ما يقولونه عنه ذمًّا بعد موته فقد كانت لهم فرصة قوله في حياته.
أما تقييمي للمرحلة الناصرية أو الساداتية أو تلك الفترة القصيرة من حكم الرئيس مبارك فذلك في حاجة إلى كُتب. ولقد حاولت قدر طاقتي وقدر المسموح به أن أُقيِّم أعمال عبد الناصر العظيمة في حياته، وكذلك حاولت في الفرافير وغيرها من المسرحيات والمقالات والقصص (راجع العملية الكبرى والخدعة ورأس الجمل والرحلة التي نُشرت بالأهرام في أعوام ٦٨، ٦٩، ٧٠) أن أنقد كثيرًا من عيوب النظام الناصري وعلى رأسها انفراده الكامل بالرأي والحكم مما يمكن أن يكون قد أعطى نظامه بعض الحصانة والقوة الظاهرة ولكن على حساب إضعاف الشعب والتنظيمات الشعبية، بل أذكر أني قلت في حديث في التليفزيون وإبان مجد عبد الناصر وقوته، قلت: إن الزعيم القوي يُضعف شعبه، والشعب القوى ليس في حاجة إلى زعيم.
أما الرئيس السادات فلقد قلت رأيي في إبَّان حكمه أيضًا، وفي مقالات الأهرام أيضًا — تلك التي سُمح بنشرها — وأحيلك إلى مقالات مثل: تعالوا ننظف مصر (٧٥) وتعالوا ننظف مصر مرة أخرى (٧٥) وأحدد ذلك العام بالذات لأنه كان هامًّا في حكم السادات؛ ذلك الذي بدأ الانفتاح المتسيب تمامًا يسود فيه، والديمقراطية الممنوحة تنكمش، ونتائج حرب ٧٣ المجيدة يستفيد منها أعداؤنا أكثر بكثير مما استفدنا نحن بها، بل بدأنا ندفع نحن ثمنها حين ارتفعت أسعار البترول وأسعار السلع ارتفاعًا مجنونًا أدى إلى القرارات الاقتصادية التي أدت إلى مظاهرات ٧٧. وقد أعقب ذلك مبادرة القدس ومعاهدة كامب ديفيد والقصة معروفة وحديثة جدًّا، وكل منا قد قال فيها رأيه بطريقة أو بأخرى، ولن أنفرد باستعراض رأيي خاصة والساحة حافلة بتفنيد حكم السادات قطعة قطعة، وأنا لا أحب أن أقول رأيي وسط زحام هائل. أما تقييمي لفترة حكم الرئيس مبارك القصيرة فأبدأ بأن أدعو الله أن يُجنِّبه كل أخطاء الحكام السابقين عليه بما فيها الخطأ الأكبر خطأ منع نقد الحاكم وبالذات منع نقد رئيس الجمهورية؛ إذ هو العيب الذي يؤدي دائمًا إلى الانفراد الصارم بالرأي والانفصال عن الواقع وفي النهاية الصدام، وتقييمي لمرحلة مبارك سيكون إلى الآن — على الأقل — في صالحه؛ فهو قد أعاد جزءًا كبيرًا من الديمقراطية التي كانت قد أُلغيت تمامًا في أواخر عهد السادات، وأصبح للمعارضة صحفها التي تقول ما تشاء حتى في سياسة مبارك نفسها وتعارضها، ورفض الخضوع لإسرائيل وزيارة القدس وقال لهم بحسم مطلق: لا، لن أذهب. ولم يذهب. وفي أحداث لبنان قام بكل ما استطاع أن يقوم به، وبما لم يستطع أن يقوم به أي حاكم عربي آخر وبالذات هؤلاء الحكام الذين انتقدوا وقاطعوا مصر، حتى في عهد مبارك، لتساهلها مع إسرائيل، كان موقف مبارك أكثر إيجابيةً من كل هؤلاء ولا يزال.
أما فرصة الإيقاع بين مبارك والحركة الوطنية فهي — للآن على الأقل — معدومة؛ فإني أرى له كل يوم صورًا مع زعماء المعارضة وهو يقابل — دون صور — كثيرين من قادة الحركة الوطنية والفكرية التي ذكرتها، وأعتقد أنه لا يقابلهم ليقنعهم برأيه أو فقط ليُسمعهم رأيه، ولكني أعتقد أنه يستمع وأحيانًا يقتنع.
وليس معنى هذا أن حكمه مبرأ من الخطأ؛ فهناك أخطاء كثيرة وفي كل مجال، ولكنه لا يحمل وزرها، بل لن يستطيع هو وحده أن يُصلحها، والإصلاح يأتي فقط حين يشترك الشعب وممثلوه وأهل ثقته اشتراكًا فعليًّا وكاملًا في تحمل المسئولية مع مبارك. وهذا هو جوهر الخلاف الآن؛ فالذين يطالبون بالتغيير لا يطالبون بتغيير نظام أو أشخاص أو رؤساء تحرير، إنما هم في حقيقة الأمر يطالبون بأن «يشترك» الشعب أو ممثلوه المنتخَبون انتخابًا حرًّا في تحمُّل المسئولية؛ بحيث لا يعتمد نظام وطني كنظام مبارك على مسئولين «معينين» ومن حكم سابق ساد فيه ما ساد، بل لا تكفي ثقة الرئيس مبارك فيمن يختارهم ليُحملهم المسئولية، وإنما لا بد للمسئولين على كافة مستوياتهم أن يكون موثوقًا بهم من الشعب الذي سيحكمونه.
وأنا إن شئت رأيي مع الذين يطالبون بالتشعيب — إن صحَّ التعبير — وليس بتغيير مسئول غير شعبي بمسئول آخر غير شعبي، لا بد من إشراك الشعب؛ فهو المفروض أنه يُعين الحاكم وهو المسئول عن «اختيار» أو تعيين رئيس الجمهورية، ومن حقه — ما دام هو المسئول الأول — أنه يطالب بأناس يرضى عنهم ليستمع لآرائهم وينفذ أوامرهم. وليس هناك سبيل آخر لزيادة الإنتاج — قضية الرئيس مبارك الأولى — إلا بإطلاق حرية الاختيار الشعبي؛ فلا أحد ينتج وهو مرغم على السكوت عن شخص أو أخطاء أو تاريخ رئيسه.
والقضية لا يمكن الانتهاء منها في فقرة من مقال، القضية قضية وجودنا الحاضر بأكمله، قضية حياتنا أو موتنا والكلام فيها لن ينتهي.
سؤال: ونحن بصدد قضية الوجود المصري، جدير بنا أن ننظر بعين الاعتبار إلى دور الشباب في تلك المرحلة. نحن نعاني وليس هذا إجحافًا أو تنصلًا للواقع الذي نعيشه، إننا نعاني بالفعل من عدم وضوح الرؤية السياسية، والأمثلة على هذا كثيرة، وبحسِّ الأديب وعقلية المفكر نريد توضيح ذلك.
سؤال ملحق: ما تفسيرك لحالة اللامبالاة والإحباط التي يعيش فيها جيلنا؟
سؤال ملحق: لقد وصلت مصر إلى ما وصلت إليه الآن من انهيار بفضل جهودكم أنتم جيل الكبار، فما رأي سيادتكم لو تتركونها لنا فقد ننجح في إصلاحها نحن جيل الشباب وكفانا ما فعلتم بها وبنا.
وأبدأ بالاقتراح الأخير، ليس أحب على قلبي شخصيًّا يا أخي محمد وقد جاوزت الخمسين من أن أترك البلد، وحتى بيتي، ولى أولاد في مثل عمرك وأرحل، ولكن ماذا تقترح ليفعل الكبار؟ هل نضعهم في الصحراء الغربية أو الشرقية ونلقي فوقهم قنبلة ذرية؟ أم نُرحِّلهم كالخبراء السوفييت في ظرف ٢٤ ساعة، أو نفعل مثلما فعلوا بالمقاومة في بيروت ووزعوها على أنحاء الوطن العربي؟ ماذا تقترح؟
إنني آسف إذ أقول لك إنك ضحية شعار ساد — لأسباب سياسية محضة — ليبرئ المسئولين حقيقة عن كوارث مصر بإلصاقها بجيل بأكمله من الكبار، سواء في الأدب أو في السياسة أو حتى في الجامعة، وبذلك وبدلًا من تحديد المفسد أو المسئول عن الفساد في كل جيل وتحميله مسئولية ما أفسده وعقابه، تذوب التهمة والمسئولية وتوزع على الجيل كله سواء أكان جيل الكبار أم جيل الشباب، و«يتوه» المذنب ويروح البريء ضحية المجرم. لا يا أخي ليس جيل الكبار بأكمله هو الذي أدَّى لما نحن فيه من انهيار، إنه بعض الناس المعروفين جميعًا في جيل الكبار، وليس جيل الشباب هو المسئول عن اللامبالاة والهجرة وعدم الانتماء … إلى آخر هذه التهم التي تُلصق ظلمًا وعدوانًا بجيل الشباب، فما أشهده بنفسي من انتماء جيلك لشعبنا وبلادنا لشيء يفرح القلب ويسعده حقًّا، ولكن ليس معنى هذا أن هناك «أفرادًا» في جيل الشباب لا مبالين وغير منتمين، ولا تهمهم سوى مصالحهم الذاتية بطريقة سيئة تمامًا مثل سوء بعض الكبار. إن محاسبة الأجيال لذنب ارتكبه بعضها أحد الشعارات المغلوطة التي يحلو للبعض أن يتشدق بها، إن الرجل لا يبدأ يعطي وينضج بحيث تستفيد منه بلده وشعبه إلا بعد كفاح طويل وعنيف في بلد مثل بلادنا تنتمي مشاكله العويصة إلى مشاكل العالم الثالث، إلا بعد الأربعين وربما بكثير. ويقضى كلَّ ما قبل هذا يحاول أن يغرس جذوره في واقعه ويُعلِّم نفسه بنفسه ويؤهل ذاته للعطاء الأكبر، ورسالة الإسلام الكبرى لم تهبط على محمد ﷺ إلا وهو في الأربعين، وقد كنا في زماننا نعتبر الأربعين سن النضج الحقيقي ونحترم السن والخبرة والريادة، ولكن بعض أبناء جيلك يريدون أن يترك لهم الكبار — أي من هم فوق الأربعين — البلد ويرحلوا ليحتلوا هم المناصب والمسئوليات بل والمواهب أيضًا، وكأن مجرد اختفاء «كبير» سيجعلهم هم الكبار وكأن «الكبر» مسألة ملء فراغ. إن الكبير ليس من صنع جيله، ولا يميته اختفاء جيله نفسه؛ فشوقي وحافظ وطه حسين وعلي مصطفى مشرفة وعلي إبراهيم وأم كلثوم وعبد الحليم ومختار وسلامة موسى والنحاس وحسن البنا وأحمد حسين، لا يزالون أحياء إلى الآن وموجودين، ولم نطالب كبارًا أو شبابًا بترحيلهم وإفراغ مصر منهم لنوجد نحن الأحياء، بالعكس، نحن نطالب بأن تُثرى مصر أكثر وأن يكون فيها عشرات وعشرات، ومئات من أمثالهم لو أمكن، فلا يمكن أن «يكبر» شاب، باختفاء كبير، بالعكس سيصغر لأن شعبًا لا يملك كبارًا وتراثًا وحملة تراث هو شعب فقير متخلف لا يمكن أن ينتج شبابًا غنيًّا كبيرًا، ربما ينتج «أكِّيل» عيش أو مسترزقًا يرى في الآخرين مجرد مزاحمين له في أكل العيش، ولكنه أبدًا لا يمكن أن ينتج إنسانًا كبير القلب، يحتوي الشعب وتاريخه وكل أجياله في قلبه ويحيا قضية الشعب كله قضية خاصة يوليها كل حياته. ترى أهكذا كان يتساءل إنسان كطه حسين في مثل سنك ويطالب بإفراغ مصر من لطفي السيد والسلطان حسين (اللذين أنشآ الجامعة التي تتعلم أنت فيها) قطعًا ما كان يقول هذا، ولم يقله أبدًا، بالعكس هو الذي طالب أن يصبح التعليم كالماء والهواء، ليخلق «منافسين» له من المتعلمين الذين قد يزاحمونه في أكل عيشه ولكنهم سيملئون مصر ثراءً، وروح أبنائها غنًى. وهكذا أصبح هو طه حسين. أما أنت فعشمي أن تفكر، مجرد تفكر في موقفك؛ لتصبح أعظم وأغنى من كل الكبار الذين خرَّجهم قسم الجغرافيا.
أما عن السؤالين الأولين، فالإجابة عنهما، هي كل ما كتبته وأكتبه ويكتبه غيري؛ فالضياع وعدم وضوح الرؤيا مسألة فراغ فكري وثقافي، وقد كانت سياسة مصر الرسمية في حقبة طويلة هي خلق ذلك الفراغ كي لا تتسرب إلى عقول الشباب إلا الآراء الرسمية، ولأن الآراء الرسمية بقيت رسمية ولم يؤمن بها أحد فقد أصبح الشباب في حاجة ماسة إلى جرعة ثقافية وفكرية مكثفة تعوِّضهم عن المجاعة الفكرية التي عانوها. جرعة تدلهم دون تحريض على ما يمكنهم أن يؤمنوا به، وعلى ضوئه يهتدون، فإذا جاءهم الإيمان جاءتهم البصيرة وجاءهم النور والانتماء.
سؤال: دور الإعلام أخطر من أي قنبلة على الأمة؛ ففي الستينات والسبعينات خرج جيل لم يعد يستطيع أن يعي ماذا يُراد منا، وتضليل لكل قيمنا ونحن أصبحنا في دوامة فلم يعد لدينا «قدوة» نحتذي بها وكل الأبطال انهارت بعد موت شخصية أو زعيم ماذا نحن فاعلون في هذا الخضم؟
وسؤال ملحق: ما رأيك في القدوة؟
أعتقد أن سؤال طالب الهندسة، يجيب إلى ما على سؤال أستاذ الفلسفة؛ فالقدوة بمعنى أن يقتدي الناس بحاكميهم أو بأولياء أمورهم أو حتى بآبائهم مسألة كما نرى نسبية تمامًا؛ فالحاكم أو الأب أو حتى الأستاذ مهما كان بحرًا في علمه أو أداء وظيفته هو قدوة نسبية بمعنى أنه قدوة بقدر ما نعلم عنه من تصرفات علنية، أما ما يفعله حقيقة وما يُضمره فذلك علمه عند ربي، أما الإيمان الأعمى بالمسئول الديني أو الدنيوي أو حتى الأستاذ أو الكاتب أو الأب، فذلك هو الذي يقود الشباب إلى كثير من إحباطاته حين يكتشف أنه كان يعبد صنمًا أو أن لأستاذه أو لكاتبه مثالب كثيرة، حينذاك يتخبط الشاب حائرًا وقد ضاعت منه «القدوة» وقد تقوده حيرته تلك إلى الإيمان بقدوة أخرى يكفر بها بعد حين، وتكون النتيجة كارثة.
لقد قلت في الندوة، إننا في مجال السياسة والحكم لا يمكن أن نكتفي بنموذج «المواطن الصالح» كمسئول سياسي أو كحاكم؛ لأن المواطن الصالح قد لا يفهم في السياسة أو في طريقه الحكم وبالرغم من اكتمال شخصيته، أمامنا فقد تكون له عيوب خفية لا يعلمها سوى الله، وإن الطريقة الوحيدة للحكم على الشخصية السياسية هي في البرنامج السياسي الذي يتقدم به الحاكم أو المسئول والذي نستطيع أن نسائله عليه ونحكم له أو ضده، أما إقامة الأمم على أساس القدوة وحدها فذلك ما لا نجد له مثيلًا في التاريخ، وحتى في تاريخنا الإسلامي العظيم؛ فالخلفاء الراشدون اختيروا على أساس إيمانهم بالإسلام وعلاقاتهم الوثيقة برسول الله ﷺ أي على أساس برنامج ديني وسياسي أيضًا باعتبار الإسلام طريقة حكم، وأعود أكرر «اختيروا» بالبيعة ولم يفرضوا أنفسهم «قدوة» على الناس أن يؤمنوا بها سواء أرادوا أم لم يريدوا بل وحتى بعد اختيارهم هذا لم يسلموا من النقد، وما قاله الصحابي أبو ذر الغفاري في حكم أمير المؤمنين عثمان وعائلته ممكن الرجوع إليه لإدراك أن لا قدوة بشرية في الإسلام الذي جاء ليهدم عبادة الأصنام وأنه إذا كان الله سبحانه قد قال في كتابه العزيز: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ (الأحزاب: ٢١) صدق الله العظيم.
فإن الحكمة الربانية هنا أوجبت أن يؤكد الله سبحانه على كلمة «رسول الله» لم يقل محمدًا ﷺ وإنما قال رسول الله؛ لأنه يريد أن يقصر القدوة على رسول الله، أي النبي وليس على البشر حتى لو كان شخص النبي.
وإن يأتي بعد هذا من المسلمين من يدَّعون القدوة أمام الآخرين ويفرضون عليهم هذا الادِّعاء بالعنف أحيانًا أو بإطلاق الرصاصة في عين الشيخ الذهبي اليسرى فذلك هو ما يرفضه الإسلام وكافة الأديان وحتى منطق الأطفال البسيط، إن المشاكل التي خلقها هذا الزعم من أن مسائلنا كلها تحل «بالقدوة» بمجرد القدوة، قول مغلوط من أساسه «فنحن أعلم بأمور دنيانا» ونحن نستطيع بعقولنا أن نميِّز بين الطيب والخبيث، ونحن جميعًا بشر عرضة لأن نخطئ وأن نصيب، والطريق الوحيد لأن نحل مشاكلنا هو أن نلتزم جميعًا بقيم عليا سامية وببرنامج عمل، وعلى ضوء تنفيذنا لبرنامج العمل هذا والتزامنا به أو البعد عنه يتم تعيين المسئول أو إقصاؤه، وتكون «القدوة» هنا هي الالتزام سواء من المواطن أو من المسئول بهذا البرنامج والحماس في تطبيقه. أما أن يكون المسئول متراخيًا في عمله والمواطن متراخيًا في محاسبة المسئول، وكلاهما على خُلق، وأناس طيبون، أي كلاهما «قدوة» أخلاقية حسنة، فإنهم لا يُعتبرون في نظري قدوة أبدًا لأنهم حينذاك يكسرون قاعدة أخلاقية وضعها الإسلام العظيم وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ (التوبة: ١٠٥).
أما القدوة الجامعية فلا أعتقد أنها تمنح لأستاذ حين أراد فرض رأيه تصدى له الدكتور عاطف غيث عميد كلية الآداب ورئيس الندوة ورفض أن يعطيه الكلمة حتى لا تتحول إلى سوق عكاظ خطابية، فلا يكف الأستاذ عن محاولاته ولا يرتاح إلا حين تنشر له الأهرام ثم الأخبار مقالين يضع فيهما على لساني ما لم أقله، وينسب إليَّ أني حاولت إنكار الأبوة والأمومة أولًا ثم تمزيق الأسرة ثانيًا، ودعوى إلى التحلل من الأخلاق والقيم والآداب الرفيعة ثالثًا، ثم يزعم أني أنكرت الرسالة الخاتمة التي أبلغها رسولنا محمد ﷺ ولم يكن ناقصًا إلا أن «يأمر» سيادته بإقامة الحد على شخصي، وحسنًا أن هذا النوع من التفكير لا يحكمنا وإلا لكنت الآن في عداد الأموات ظلمًا كما ترون، إني أنصح مدرس الفلسفة الفاضل أن يكون له من وزارة الداخلية عندنا «قدوة» حسنة؛ فهي تحاور من يكفرون مثله ومن كانت لديهم الجرأة للقيام بأفعال لتطبيق أفكارهم تلك، تحاورهم ولا ترميهم بالردة أو تتهم الأبرياء منهم ظلمًا وتطالب بإقامة حد الردة عليهم. إن آفة البعض منا هي محاولة فرض آرائهم بالقوة، ومن هذه النقطة تنبع وتتشعب كل آفات التطرف وجرائمه.
فليكن لك رأيك يا أخي وليكن لي رأيي، أهذه جريمة؟