حرية التعبير في الظلام
الحوادث المؤسفة، فيِ رأيي، لم تبدأ كحوادث مُؤسفة، وكذلك لم تبدأ من فراغ. لعلنا لاحظنا جميعًا، وشيئًا فشيئًا، تسلل التعليقات الحادة والألفاظ العلنية البذيئة إلى أي تجمع جماهيري يحدث، وبالذاتِ التجمعات التي «يتوه» الفرد فيها ولا يمكن التعرف عليه جسديًّا، مثل حفلات المسرح والسينما ومدرجات الكرة … إلى آخره.
كتب كثيرون وتحدثوا عن هذا «السلوكِ المشين» في حينه، ولا يزالون يتحدثون عنه إلى الآن وأيضًا باعتبار أنه شيء «عيب» و«لا يصح».
وهذا في رأيي حكم «أخلاقي» ولأن الأحكام الأخلاقية باستمرار أحكام ناقصة؛ لأنها تعالج ظواهر الأشياء ولا تنفذ إلى أعماقها، فقد كان من الأفضل أن نقف لبعض الوقت متأمِّلين هذا الأمر باعتباره «ظاهرة» وليس باعتباره مجرد قلة أدب؛ فالشعوب كلها والتجمعات البشرية كلها، فما بالك بنا أقدم الشعوب وأعرقها حضارة، ليست بطبعها سيئة السلوك أو قليلة الأدب، بالعكس، إن لقاءاتنا العامة وتجمعاتنا وكل تلك الظواهر الاجتماعية كانت على الدوام تحفل بأدب زائد أكثر من اللازم، بل وبتأدب يصل إلى حدِّ ما كنا نسميه بالنفاق الاجتماعي، أي تظاهر الشخص في المحافل العامة أنه أكثر أدبًا من طبيعته، أو على الأقل من تصرفه حين يكون بمفرده أو مع خاصته: ماذا إذا حدث وأدى إلى عكس هذا تمامًا؛ أي أصبحت هذه الاجتماعات العامة تحفل بسلوك وآراء وتعليقات أسوأ بكثير مما تحفل به الجلسات الخاصة؟
السبب فيما أعتقد أننا كنا وما زلنا نمر بأزمة تعبير حقيقية، أو بمعنى أصح أزمة انفصام بين حياة الإنسان وما يحسه فعلًا وبين الانعكاسات العلمية لهذه الحياة سواء في وسائل الإعلام، أو في الاجتماعات السياسية أو ما تذكره الصحف والكتب والمجلات، بل حتى الأحاديث التي تدور داخل الجدران المغلقة. اتَّسمت كل هذه الوسائل العامة للتعبير بنوع غريب من التحفظ والمحافظة و«الأدب». دائمًا تجدها حافلة بما «يجب» أن يُقال، وبما «يجب» أن يفعل. لا مكان فيها لإبراز تفرد ما أو شذوذ ما عن المألوف، أو رغبة خاصة تفيض بها نفس الشخص ويجد صداها فيما يدور أمامه سواء على المسرح السياسي أو على المسرح الحقيقي، سواء في صالات الاجتماعات أو في صالات السينما. حياتنا مثلًا تحفل بالاختلاف في الرأي وبدرجات كبيرة من التنوع والتنافر حتى بين الألوان والتفكيرات والمِلل، وما نراه ماثلًا أمامنا، ومفروض أن يعبر عنا، مجرد رأي واحد وإجماع واحد وكلمات تكاد تكون في كل الأمور متشابهة متراصة لا تختلُّ فيها كلمة، وكأن ثمة رأيًا رسميًّا، حتى ولو لم يكن رأي السلطة، إنما هو الرأي «الشرعي» الواجب الإظهار والإبراز وحده يحتل المنصة ولا وجود لغيره من الآراء. ولعل الكارثة كانت تخف كثيرًا لو كان هذا الرأي مطاطًا أو واسعًا إلى الحد الذي يحتمل معه التلوين والتشكيل، أنه رأي في الغالب «محافظ» جدًّا، محافظ على «القيم» كما يقولون، ولكن أية «قيم» تلك التي يحافظ عليها هذا الرأي الشرعي؟
إن القصة طويلة ومتشعِّبة، ولكن حسبنا أن نلخصها في كلمة ونقول إن الثورة قامت لتصنع مصر وتنقلها من العصر الزراعي بكل تقاليده ومتوارثاته وقيمه إلى العصر الصناعي والآلي بما فيه من تطوير كبير لكثير من هذه القيم، و«تفرد» واختلاف، وصِدق أكثر مع الذات الفردية وعدم تركيز دائم على الذات الجماعية المفروضة، أو ما يُسمى بالناموس العام بكل قاموسه السلوكي والأخلاقي وحكمة الشعبية وقصص أفلامه ولك يوم يا ظالم، ذلك القاموس الحافل بكلمات: الصبر طيب والصبر جميل، والظالم له يوم وترك سنة الحياة تقتص من المخطئ وتثيب المصيب. في العصر الصناعي الوقت له ثمن، ولا مكان للصبر، والحق آخذه بيدي ولا أترك ظالمي لتقتص منه الحياة وتعاقبه أخطاؤه نفسها … إلى آخره.
كان مفروضًا أن يُصاحب هذا التغيير المادي الهائل من الزراعة اليدوية بعصورها الطويلة التي مضت إلى الصناعة الآلية، تغيير روحي وفكري يوائم هذا التغيير المادي بحيث يحدث التوازن لدى الإنسان الذي انتقل إلى هذا العصر فعلًا، وأصبح يزاوله حياة وإنتاجًا وعلاقات وتجارب يومية مستمرة، ولكن هذا للأسف لم يحدث، أو بالضبط لم يحدث بالشكل والحجم المطلوبَين، ولم تشمل «الثورة الثقافية» الواجبة كل نواحي الحياة في حين كان المفروض ليس فقط أن تحدث ولكنها تحدث مضاعفة بحيث لا تنقلنا روحيًّا وفكريًّا إلى العصر الصناعي فقط وإنما — وهذا هو الأهم — إلى العصر الصناعي الاشتراكي، تلك النقلة التي حدثت لإنتاجنا فعلًا ومصانعنا ومؤسساتنا وكثير جدًّا من أسباب وجودنا.
وهكذا عشنا هذا العصر الصناعي الاشتراكي بقيم زراعية ورثناها من قرون. قيم بالطبع ليست كلها سيئ؛ ففيها أشياء نبيلة وعظيمة ولكن كثيرًا منها كان من الممكن أن يتغير؛ فسُنة الحياة أن لكل عصر أبعاده الفكرية والنفسية، التي تلائمه والتي إذا لم تحدث، تحدث للإنسان حالة تمزق؛ إذ هو يحيا بطريقة ويجد حياته غير معبر عنها فيما يسمعه أو يقرؤه أو يراه، إنما هو يجد ذلك الرأي «الشرعي» «المحافظ» أي الذي ينزع إلى شده دائمًا إلى قيم مضت وأنماط سلوك سلفية وحتى إلى قصص حب قديمة، بما فيها من «خطيئة» قديمة، و«أخلاق» مُثْلى قديمة، لا يجد أبدًا في ذلك الطور الجديد الذي انتقل إليه هاديًا يهديه ونماذج وأبطالًا وتعبيرًا جديدًا عن واقع جديد أصبح يحياه.
ولعل من أهم السمات التي تفرق بين الناموس العام في المجتمع الزراعي والناموس العام في المجتمع الصناعي والمجتمع الصناعي الاشتراكي هو الموقف من الفرد، فبينما الزراعة لا تقترن بالفردية ولا مجال للتفرد أو التميز والتمايز بين العاملين بالزراعة؛ فالصناعة والتجارة والأعمال اليدوية والكتابية والذهنية قائمة أولًا وأساسًا على التفرد والتميز في نطاق الجماعة طبعًا.
وهكذا أحس الإنسان المصري أنه وإن كان موجودًا كوسيلة عمل وإنتاج وحامل مسئوليات ومنفذ واجبات إلا أنه ليس موجودًا مطلقًا ولا معترفًا برأيه أو حتى له حق الرأي سواء فيما يقال أو فيما يسمع، سواء في السياسية أو الأدب أو الفكر. كنا وما زلنا إلى حدٍّ ما نتفرج على ما نراه في أفلامنا — أو معظمها — ومسرحياتنا وكتبنا وجرائدنا وكأننا نقرأ عن شعب آخر أو نرى حياة أناس غيرنا.
والإنسان في هذه الحالة يلجأ إلى السلبية، ويتحول الرأي العام والمجتمع العام، والاجتماع العام إلى نفاق عام لا يمثل أبدًا حقيقة الإنسان أو رأيه أو وجهة نظره.
ورأي الإنسان ليس زينة ولا من قبيل الكماليات الديمقراطية، إن الإنسان هو رأيه، فإذا ألغيت رأيه ألغيت وجوده، وإذا اصطنعت له رأيًا عامًّا سائدًا فإنه لا بد أن يكون له رأي خاص سري؛ ذلك أنه لا يمكن أن يعيش دون رأي حتى لو شاء هو — تخلصًا من أعباء الرأي — أن يعيش بلا رأي، لكنه لا يستطيع أبدًا أن يفعل ذلك. فمفروض ما دام الإنسان منتجًا أن يكون له رأي فيما ينتجه وطريقة إنتاجه وإلا ما استطاع أن ينتج، بل لا يكفي أن يكون له رأي، لا بد أن يستتبع رأيه نفاذ هذا الرأي. فإذا بقي حقه في الرأي قائمًا ولم ينعكس هذا وفورًا على الواقع وبغيره ليتلاءم مع هذا الرأي؛ فالإنسان يُصاب حينذاك بقلق عظيم وبحالة إحباط قصوى.
وهكذا لم يستمر الرأي الخاص السلبي القابع في صدر صاحبه طويلًا، كان لا بد آجلًا أو عاجلًا أن يتحول إلى رأي «مُعلَن».
وهكذا أيضًا، متخفيًا في الجماعة الكبيرة أو في الظلام أو المدرجات، ضامنًا السلامة، بدأ الإنسان المصري يعلن رأيه المخبوء. وكانت أول آرائه بالطبع رفضًا قاطعًا. لكن هذا الذي حدث ومفروض أن يُعبر عنه وله. رفض بأقبح الهفوات والصفات. كلمة «لا» مكتوبة ومقالة بكل لون وطريقة وأسلوب، حتى أسلوب العنف أحيانًا.
ربما أخيرًا جدًّا بدأ الإنسان المصري يحس ببعض رأيه. يظهر في بعض الصحف وعلى ألسنة وأقلام بعض الناس، وربما المسافة بين الرأي والنفاذ لا تزال طويلة وغير محسوسة، ولكنها أزمة التعبير أولًا وأخيرًا. إن الإنسان المصري لن يستريح حتى يرى الكلمة التي يقرؤها والتي يسمعها والرأي المخبوء داخل نفسه، يرى هذا كله وقد أصبح السائد، بل وأصبح من حق كل فرد أن يقول رأيه بنفسه ودون وكالة، ويقول الرأي في كل شيء.
كنت في الأسبوع الماضي في إحدى دور السينما أتفرج مدهوشًا على فيلم «الإخوة الأعداء»، فلقد سمعت عن «النجاح الساحق» للفيلم فذهبت أتفرج على هذه الظاهرة، وعرفت حتى قبل أن ينتهي الفيلم، والصالة الكاملة قد ران عليها الصمت العميق الذي لا تتخلله كلمة نابية أو تعليق واحد لماذا نجح هذا الفيلم، ليس كعمل فني فقط وإنما نجح في إسكات هذه الجماهير التي كانت تتمرد دائمًا على معظم ما تراه من أفلام مصرية، فالقصة، قصة الفيلم، قصة عظيمة، تكاد تكون أعظم قصص العبقري الروسي دُستويفسكي، مليئة بالحياء والحيوية، كتبها دستويفسكي والمجتمع الروسي ينسلخ فعلًا من القيم العبيدية والإقطاعية ويدخل قيم القرن التاسع عشر، قرن الصناعة، قصة حافلة بالرجال الرجال، وليس الرجال المخنثين الذين أصبحوا العلامة التجارية لأفلامنا وقصصنا، وعنف التشابك بين النوازع والرغبات والصراع بين الطيبين والشريرين، قصة تأخذ المشاهد المصري فجأة من فراش الخيانة الزوجية حيث تلكأت قصص أفلامه طويلًا إلى أرض الواقع، فهو في غربته عنا يعبر عن إنسان أقرب ما يكون إلى الرجل، وامرأة أقرب ما تكون إلى المرأة، وليس عن أنصاف الرجال وأنصاف الزوجات وأنصاف القيم.
المشكلة إذن أن نجد — ولو عبر التغريب والتعريب — شيئًا يُعبر أقل تعبير عن البراكين المستقرة داخلنا.