من أجل نصف قدم
تسمَّرت في مكاني أتأمل الرجل وهو يجري، محطة أوتوبيس في شارع الجلاء يقف عليها مئات الرجال والنساء والأطفال، صفُّ أوتوبيسات يقف الواحد وراء الآخر، الأوتوبيس الأخير الذي وصل (وبالتالي وقف بعيدًا عن المحطة) اندفعتْ للركوب فيه مجموعة كبيرة من الناس، من بينها ذلك الرجل، أفندي عجوز في الخامسة والستين، تقريبًا نفس السن التي مات فيها أبي، وله تقريبًا نفس الملامح. في الخامسة والستين يصبح للرجل بطءُ سَيْر الأطفال، ليس عن قصر في الأرجل، وإنما عن قصر في الطاقة والمجهود، وكان أبي وهو يسير بجواري في سنواته الأخيرة، أحسُّ بكثير من الحرج وأنا أضطر للتمهل حتى يستطيع ملاحقتي والسير بجواري. هذا الرجل حين انطلق مع الآخرين تجاه الأتوبيس، كان يجرى، ليس مثل جريي أو جريك، ولكنه جري إنسان يريد أن يلحق بقارب النجاة في خضم محيط؛ فالجو حارٌّ قاتل، ومحطة الأوتوبيس وكأنها مجمَّع لجهنم موقدة من الشمس، والذباب والعرق ورائحة الصيف البَشِعة في شارع الجلاء. يجري الرجل بكل ما بقي فيه من طاقة وحياة، يجري، يلهث، يموت، بصعوبة يستنشق الهواء، ولكنه يجري ويجري، وأنا مُسمَّر مكاني أتصوَّر أبي وقد اضطر إلى جري كهذا، جريِ إفلاتٍ من الموت أو لحاقٍ بالحياة، بحر العرق كساه، وجهه أحمرَّ حتى يكاد الدم ينفجر من عينيه، شعر صدره الأبيض ناخر عرقان من قميصه. لم تكن المسافة طويلة، وأيضًا لم تكن بالقصيرة، دقائق قليلة من الجري، ولكن المهم ليس الجري، المهم نوعه، جري الشيخ الذي من الممكن أن يقتله جري كهذا. وقفت أتأمل الرجل، وفجأة وجدت نفسي تحتقن عيناي بالدموع وأكاد لولا الحياء أبكي؛ أحسستُ أني أريد أن أندفع كالصاروخ أحمل الرجل فوق أكتافي، أجفِّف عرقه، أقبِّل يده وجبينه وقدميه وأعتذر له، أعتذر له أننا مصر، وأننا بعدُ في سِنه نضطره أن يقتل نفسه جريًا ليركب، مجرد يركب، لا، بل حتى لم يركب، حين وصل الأوتوبيس كان الأقوياء قد سبقوه وملئوه، حتى بابه ملئوه، فتشبَّث بيد واحدة وبنصف قدم وبجسد بارز تمامًا معرَّض أن تصدمه وتبقره أية عربة مارَّة أو أي عمود. أُقبِّل قدميه ويديه ووجنتيه وأبكي وأعتذر، يا آباءنا الذين لا يزالون يحيون هذه الحياة، ويجرون هذا الجري، فقط من أجل قبضة يد ونصف قدم، ماذا يا إلهي نصنع من أجلهم ومن أجل غيرهم؟ يا إلهي، ماذا بحقك نصنع؟!