حين نطق الشعب١
مهما طال الزمان وكثرت أو قلَّت الانتصارات.
مهما خُضنا المعارك، والمعارك علينا قَدر مكتوب، بل على الفرد نفسه مكتوب؛ فالحياة كبرت أو صغرت سلسلة معارك.
مهما حدث. فسيظل ليوم ٦ أكتوبر عام ١٩٧٣م موضع خاص في التاريخ، لا يرقى إليه — مهما علا شأنه — حدث.
كثيرة هي الحروب التي تخوضها الدول، دفاعًا عن نفسها أو إحباطًا لمحاولات أعدائها أو مدًّا لنفوذها. فلم توجِد الدول الجيوش إلا لتحارب، عدلًا أو ظلمًا تحارب؛ فالجيش آلة حرب هائلة الضخامة. هذا صحيح ولكنها بأمر، مجرد أمر من القائد، تتحرك وتلتحم، وعظمة حرب ٦ أكتوبر أنها لم تكن مجرد معركة تخوضها قواتنا بأمر من القائد الأعلى، لا ولم تكن حتى حرب جيش.
خلال الأسابيع الماضية بلغ بي الضيق من التفاهات وجشع النفوس وانطلاقات غرائز التكويش والخنق والدفع بالأكتاف حتى أني فكرت أن أهاجر. ولكن الصُّدف الحسنة أوقعت في يدي كتابًا عن حرب ٦ أكتوبر أصدره عدد من محرري جريدة الصنداي تايمز البريطانية. ومن لحظتها قررت أن تكون هجرتي وملاذي إلى ٦ أكتوبر. كل ما أُلِّف عن الحرب قرأته وكنت ألتهم الصفحات — ومعظمها لكُتاب يتعاطفون تمامًا مع إسرائيل — وأنا مبهور تتقطع أنفاسي وهي تلهث وراء جنودنا وهم ينقضُّون ويصيبون ويلتحمون وينتصرون، ببساطة يستشهدون. بروعة مذهلة تختفي نوازع الفرد في المحافظة على الذات أو حب البقاء، ومن النفس المصرية المثقلة بمئات القيود والاختناقات تنتفض روح أخرى، عملاقة بطلة، روح لم نرها في حياتنا العادية ولا نراها كأنها داخلنا. وفي أعماقنا يحيا هذا الإنسان البطل القادر العظيم ونحن لا ندري، فقط تحين اللحظة، فقط يوجد القائد، معبِّرًا عن ضمير الشعب وبلسانه ينطق ويقول: اعبر، وإذا بالعملاق المصنوع من مئات الآلاف من العمالقة كالنمر يثب وينقضُّ. وفي ثانية يدكُّ قلاع كذبات كثيرة بناها الإسرائيليون وصدَّقها العالم، حتى نحن أنفسنا صدَّقناها. ما أروعهم وهم يدوسون بأقدامهم تفاهات حياتنا المسطحة، يسحقون الأنانية والأثرة والتباغض، ينهشون الظاهر المقيت، بقوًى خارقة لا يصبح للطعام قيمة ولا لياميش رمضان والمسلسلات والفوازير. تذوي من تلقاء نفسها الفقاقيع الكثيرة الكثيرة وينزاح التراب ومن الأعماق يتبدَّى الجوهر الأعظم.
في أرفع مكان من نفوسنا سيظل السادس من أكتوبر، وفي نفس المكانة سنظل نُحيي ونمجد ونعتز من أعماقنا بذلك الرجل الذي بإرادة من صلب أخذ القرار، وولدته مصر ليقودها وتبنَّاه الشعب ليجيء ذلك اليوم الذي يتبوأ فيه مكان القيادة. ومن أعماق تراثنا وأصالة إنساننا وجذور حضارتنا وصبرنا وإرادتنا يقول: اضرب.
وتفتح مصر الصامتة، ذلك الصمت المُحيِّر الطويل، فمها وتنطق، وكلمات الشعوب ليست أحرفًا أو أصوات، إنها براكين وحُمم.
في ٦ أكتوبر المجيد نطق شعبنا، فتح فاه ليصبَّ على أعدائه جهنم، وسيظل شعبنا ينطق، وليست كل كلماته جهنم. فحضارةً سوف يتكلم، وعلمًا سوف ينطق، وبمصر العظيمة القادمة بشعبها العظيم الآخذ زمام الأمور بيده لن ينتهي الحديث.
ومنذ أن نطق شعبنا في السادس من أكتوبر كلماته، تعوَّد العالم أن يُصغي. فلتمضِ أيها الشعب العظيم تتكلم فالسادس من أكتوبر لن تكون أول أو آخر كلماتك.
والحديث طويل.